قراءة في كتاب "معنى الدين وغايته" لكانتويل سميث

قراءة في كتاب كلاسيكي

مقدمة المترجم

ولفريد كانتويل سميث (1916-2000): واحد من أبرز المتخصِّصين في حقل الدراسات الدينية، وبالتحديد في فرعَي الأديان المقارنة والدراسات الإسلامية. نال شهادة الدكتوراه من جامعة برنيستون، وكان موضوع أطروحته هو: "مجلة الأزهر: تحليل ونقد". واشتغل أستاذًا بجامعاتٍ مرموقة عِدَّة أهمها جامعتا هارفارد وماكجيل. نُشرت له كتب عديدة من أهمها: "الإسلام في التاريخ الحديث: التوتر بين الإيمان والتاريخ في العالم الإسلامي" (1957)، و"نحو لاهوت عالمي: الإيمان وتاريخ الأديان المقارن" (1989)، و"ما هو النص المقدَّس: منظور مقارن" (1993).

لكن أهم كتبه على الإطلاق، الذى ارتقى لرتبة الكلاسيكيات، هو كتابه "معنى الدين وغايته: منظور جديد لتقاليد البشر الدينية" (1962). يقع هذا الكتاب في 340 صفحة تقريبًا، حوالي 150 صفحة منها عبارة عن هوامش شارحة (طويلة) في معظمها. ويتوزع على مقدمة وخاتمة وبينهما ستة فصول، تحمل العنوانين التالية على الترتيب: "الدين" في الغرب، ثقافات أخرى: "الأديان"، حالة الإسلام الخاصة، هل مفهوم "الدين" مفهوم كافٍ؟، التقليد المتراكم، الإيمان.

في هذه المقالة، يقدِّم الأنثروبولوجي الكبير طلال أسد قراءةً نقديةً لكتاب سميث "معنى الدين وغايته"، وإن كانت في واقع الأمر "نقدًا" أكثر منها "قراءةً". فلا يقدِّم أسد هنا عرضًا تقليديًّا لمحتويات الكتاب، ولا شرحًا لها، وإنما هو يقدِّم نقدًا لأطروحاته الأساسية، وبالطبع لا يقصد أسد بالنقد الهدم أو التقويض، وإنما إعادة صياغة الأسئلة التي ينبني عليها الكتاب، وبالتحديد الأسئلة التي تهمُّ الدراسة المقارنة للدين، فهو يعدُّ كتاب سميث هذا عملًا لا غنى لأي دارسٍ في الأديان المقارنة عن قراءته. وعليه، فإن هذه المقالة تعرفنا بأفكار أسد نفسه بقدر ما تعرفنا بأفكار سميث.

ويمكن تلخيص نقاط اشتباك أسد مع نص سميث في المفاهيم التالية: الجوهرانية، والتشييء، والإيمان، والتقليد، والممارسة، والأيديولوجيا العلمانية. تقريبًا، إن عمل سميث هذا هو أول عمل يحاجج عن أنه ليس ثمة "جوهر" ثابت للدين لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان أو المكان، وأول عمل يشكِّك في نجاعة مفهوم "الدين" الحديث وقيمته في دراسة الأديان. وأسد يقدِّر هذه النزعة المضادة للجوهرانية لدى سميث، لكنه يرى أنه لم يتخلَّص من الجوهرانية بالكلية، وإنما بقيت في فكره أثارةٌ منها، قد حرمته من توسيع دائرة بحثه في الأديان المقارنة.

يحاجج سميث عن أن مفهوم "الدين" من شأنه أن يوقعنا في فخ التشييء، وبالتالي علينا أن ننبذه ونتمسَّك عوضًا عنه بمصطلح "الإيمان"، الذي من شأنه أن ينجينا من هذا الفخ. ويرى أسد أن سميث "مهوَّس" بالتشييء، وأنه يبالغ في تقدير مخاطره. ويعدُّ هذا الانشغال المفرط بمسألة التشييء لدى سميث ولدى غيره انشغالًا غير مفيدٍ لدراسة الأديان المقارنة.

يقيم سميث تقابلًا بين "الإيمان" وما يسميه بـ"التقليد المتراكم". الأول شخصيٌّ وجوانيٌّ، والثاني هو التجلي الجماعي للأول في العالم (الممارسات الدينية، والأعراف، والقواعد الأخلاقية والقانونية، والأساطير، والنصوص المقدَّسة… إلخ). ويعطي الأولوية للأول على حساب الثاني في تشكيل التجربة الدينية. وهنا يرى أسد أن سميث يغفل عن العلاقة الديالكتيكية بين الإيمان والتقليد، حيث إن كليهما يشكِّل الآخر. ويرى أنه يزيل بذلك الفوارقَ الظاهرة بين المتدين وغير المتدين.

إعطاء سميث الأولوية للإيمان الشخصي والجواني واعتباره أن التقليد مجرَّد إطار ذهنيٍّ وليس نمط عيشٍ وممارسة، قد أدى به – وفقًا لأسد – إلى استبعاد مسألتين بالغتي الأهمية بالنسبة إلى الدراسة المقارنة للأديان: أهمية الممارسة والضبط الجسدي في التقاليد الدينية المختلفة، والاعتماد المتبادل بين مفهومَي "الدين" و"الأيديولوجيا العلمانية" والتوتر القائم بينهما باعتبارهما مفهومين حديثين.

ولبيان أهمية الممارسة في التجربة الدينية، يحيلنا أسد إلى أعمال تلميذيه تشارلز هيرشكايند وصبا محمود حول تقليد التقوى (الالتزام الديني) في مصر. حيث يتناول هيرشكايند في عمله تقليد أشرطة الخطب والدروس الدينية، إنتاجها وسماعها وتداولها. بينما تتناول صبا محمود تقليد دروس النساء في مساجد القاهرة. أما فيما يخصُّ المسألة الثانية، فيدعونا أسد إلى إدراج "الأيديولوجيا العلمانية" ضمن الدراسة المقارنة للأديان؛ وذلك لأنه يعدها التوأم السيامي لمفهوم "الدين" الحديث. ولا يمكن – وفقًا له – فهم أحدهما أحسن الفهم بمعزلٍ عن الآخر.

لم يُترجم كتاب سميث هذا – ولا غيره – إلى العربية، ومن هنا تأتي أهمية ترجمة مقالة أسد هذه، بالنسبة إلى كل مهتمٍّ بالدراسات الدينية، فهي تكشف عن الأطروحات الأساسية التي ينهض عليها عمل سميث، وتقدِّم نقدًا كاشفًا لها. وفوق ذلك، هي تعرفنا إلى بعض أهم أفكار واحدٍ من أهم أنثروبولوجيي الأديان، طلال أسد.