عرض موجز: ثلاثية نهوض لدراسة الظاهرة الدينية في إسرائيل

ثلاثية نهوض لدراسة الظاهرة الدينية في إسرائيل

استهل "مركز نهوض للدراسات والنشر" العامَ الجديد 2018 بسلسة كتابات متخصصة في تحليل الظاهرة الدينية في المجتمع الصهيوني للباحث المصري: د.محمد عمارة تقي الدين، الذي عكف على مشروع بحثي لدراسة المجتمع الإسرائيلي على مدار سنوات؛ في محاولة لفك شفرته الثقافية والدينية وفهم تركيبته الاجتماعية المعقدة الجامعة بين تناقضات لا حصر لها من ألوان البشر والثقافات والأديان، وذلك عبر ثلاثة كتب رئيسة تتناول الفواعل الدينية المختلفة داخل المجتمع الصهيوني (المؤسسات الدينية- الأحزاب الدينية- الحركات اليهودية المعادية للصهيونية) وتصوراتها الدينية ومواقفها السياسية، وآثار ذلك على الصراع العربي الإسرائيلي الممتد على مدار أكثر من سبعة عقود، ومازال مستمرًّا.

وقد توصلت الدراسات الثلاث المعنونة: "المؤسسات الدينية في إسرائيل: جدل الدين والسياسة"، "الأحزاب الدينية الإسرائيلية ودورها في صنع القرار السياسي"، "الحركات الدينية الرافضة للصهيونية داخل إسرائيل"، إلى عدد من النتائج المثيرة لانتباه واهتمام الباحثين العرب وصناع القرار؛ إزاء عملية فهم هذا الكيان وتفاعلاته الدينية وتحولاته السياسية وكيفية التعامل معها في ظل واقع متغير ومتطور وتحديات إقليمية وعالمية تزداد تعقيدًا بمرور الزمن.

أولاً: المؤسسات الدينية في إسرائيل

يتناول الكتاب الأول "المؤسسات الدينية في إسرائيل" إشكاليات العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسرائيلي عبر خمسة فصول موزعة على محاور مختلفة:

الفصل الأول؛ يستعرض موقع الدين من الحياة العامة والخاصة للإسرائيليين، وخريطة التيارات والقضايا الدينية المثارة في إسرائيل وأهمها عقيدة الماشيح المخلص والأطعمة الحلال وحرمات السبت وإشكالية تعريف اليهودي.

أما الفصل الثاني فيستعرض خريطة مؤسسات التعليم الديني اليهودي في إسرائيل وتصنيفات المؤسسات التعليمية ومراحلها الابتدائية والثانوية والجامعية،والتطورات الحاصلة في مؤسسات التعليم اليهودي منذ قيام إسرائيل مقارنة بما قبلها؛ حيث كانت توجد مدارس يهودية في فلسطين.

أما الفصل الثالث فيستعرض تاريخ نشأة الحاخامية الدينية الرئيسة، والجدل الدائر حول حدود سلطاتها في مجال الأمور الدينية والفتوى، وقضايا الأحوال الشخصية للأفراد مثل الزواج والطلاق والإرث والختان والدفن وإقامة شعائر السبت وغيرها، كما يستعرض الفصل السير الذاتية لزعماء الحاخامية الرئيسة منذ نشأتها وحتى الآن، إضافة إلى عرض أهم الفتاوى الجدلية التي أثارتها الحاخامية في مجالات مختلفة؛ مثل الزواج والطلاق والأطعمة والتحول الديني إلى اليهودية، وتجنيد المرأة في الجيش وزراعة ونقل الأعضاء البشرية.

الخدمات الدينية وأدوارها

ويتناول الفصل الرابع، تاريخ وزارة الخدمات الدينية والأدوار المنوطة والصلاحيات المخولة لها في إسرائيل، والهيكل الإداري والتنظيمي والهيئات التابعة لها،وطبيعة عملها، إضافة إلى توجهاتها الفكرية والعقائدية، والسير الذاتية للوزراء الذين تعاقبوا على رئاستها منذ تأسيسها. كما يستعرض مواقف تلك الوزارة من غير اليهود من المسلمين والمسيحيين وعلاقتها بالفاتيكان، ومواقفها من قضية المسجد الأقصى والأماكن المقدسة في القدس.

أما الفصل الخامس والأخير؛ فيتناول تاريخ نشأة الحاخامية العسكرية وهيكلها الإداري، والصلاحيات المنوطة بها والسير الذاتية للرؤساء المتعاقبين على رئاستها منذ النشأة وحتى الآن؛ إضافة إلى أبرز الإشكاليات التي تواجهها مثل تجنيد النساء في الجيش الإسرائيلي.

هناك فتوى باسم "حكم العملاق" تعتمد على شيطنة الفلسطينيين، باعتبارهم الأعداء التاريخيين أحفاد العماليق الذين دعت التوراة إلى إبادتهم حيثما كانوا في كل عصر.

كما يستعرض الفصل مواقف الحاخامية العسكرية من قضايا الصراع مع العرب توصيفًا وإفتاءً وتحريضًا؛ الأمر الذي يضفي على عملية تحليل الأبعاد الدينية لسلوك الجنود الإسرائيليين أهميةً نوعية، ضمن عوامل فهم وتفسير عمليات الإبادة التي تتم بحق الشعب الفلسطيني على مدار عقود؛ حيث تفيد دراسة فتاوى الحاخامات فيفهم هذهالممارسات والعقلية الإجرامية الممنهجة. فعلى سبيل المثال هناك فتوى باسم "حكم العملاق" تعتمد على شيطنة الفلسطينيين، باعتبارهم الأعداء التاريخيين أحفاد العماليق الذين دعت التوراة إلى إبادتهم حيثما كانوا في كل عصر؛ الأمر الذي يضفي على عمليات القتل الممنهجة ضد الفلسطينيين أبعادًا دينية متجاوزة للمقولات الأمنية التقليدية القائمة على الردع والدفاع.

ثانياً: الأحزاب الدينية الإسرائيلية ودورها في صنع القرار السياسي

يتناول الكتاب الثاني الأحزاب الدينية الإسرائيلية ودورها في صنع القرار السياسي،وذلك عبر ثلاثة فصول:

الأول يستعرض مقدمةً عامة؛ خريطة النظام السياسي الإسرائيلي ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية،إضافة إلى خريطة المؤسسات الأمنية والدفاعية وأدوارها داخل النظام السياسي والإطار التشريعي المنظم لعلاقات النظام السياسي.

أما الفصل الثاني فيرسم خريطة لأشهر الأحزاب الدينية الصهيونية، وهم:(حزب المزراحي)، (حزب هبوعيلهمزراحي)،(حزب المفدال)،(حزب ميماد)، والمنطلقات العقائدية لها وبرامجها السياسية.

أما الفصل الرابع فيرسم خريطة مغايرة للأحزاب الدينية المعادية للصهيونية؛ من حيثالنشأة والتكوين والمبادئ الأساسية الحاكمة لتصوراتهم السياسية وهم: (حزب أجودات إسرائيل)، (حزب بوعالي أجودات يسرائيل)،(حزب ديجل هتوراة)، (حزب ساش).

الخلفيات العقائدية للأحزاب الدينية الإسرائيلية

وتَلْفِتُ الدراسةُ انتباه الباحثين العرب إلى أهمية دراسات الخلفيات العقائدية للأحزاب الدينية الإسرائيلية؛ بالنسبة لعملية فهم وتحليل المواقف الحزبية الإسرائيلية، تجاه قضايا محورية في الصراع مثل العنف والاستيطان والموقف والأماكن المقدسة وعرب إسرائيل، وغيرها من القضايا.

فعلى سبيل المثال تشكل عقيدة "انتظار المخلص" أبرز العقائد المفسرة لقناعات أغلب الأحزاب الدينية الإسرائيلية تجاه تبرير إبادة الشعب الفلسطيني والاستيطانفي كامل أراضيه؛ باعتبارها شروطًا أساسية لقدوم المخلص وإقامة مملكته الأرضية التي ستعيش ألف عام. ومادام الأمر كذلك فالغاية تبرر الوسيلة، ولتتحمل البشرية بعض الإبادات والآلام، من أجل تحقيق تلك الأسطورة الكبرى، فالإبادات- وفقًا لرؤيتهم تمثل آلام المخاض الضرورية الممهدة لنشأة الفردوس الأرضي، هكذا تفسر الفكرة السلوك.

كما تَلفِتُ الدراسة الانتباه إلى خطورة الصعود المتسارع للتيارات الدينية الراديكالية المتشددة، لمفاصل الحكم والسياسة والأمن والدفاع في الكيان الصهويني خلال السنوات الأخيرة، فقد صارت أغلبية الوحدات القتالية في الجيش الإسرائيلي من أتباع هذا التيار المتشدد الذي يقوده حاخامات عنصريون يرون ضرورة إبادة العرب والمسلمين؛ استنادًا لتصورات يهودية حول المخلّص والفردوس الأرضي.

وتثير الدراسة تساؤلات مخيفة حول مآلات هذا الصعود بالنسبة للمستقبل القريب والبعيد للصراع العربي الإسرائيلي، فماذا لو تمكّن هذا التيار من التحكم الكامل في النظام السياسي والجيش الذي يمتلك بدورهأسلحةً نووية فتاكة يمكنها إبادة العرب. مثل هذا الاحتمال يجعل مصير الصراع العربي الإسرائيلي مفتوحًا على جميع الاحتمالات. وثمة مفارقات مثيرة في هذا الشأن-ساقتها الدراسة- تتعلق بأن هاجس صعود اليمين لا يقتصر على العرب فقط، بل يمتد إلى التيار العلماني داخل إسرائيل، والذي يخشى من نهاية المشروع الصهيوني على أيديهم، وهي مفارقة ربما تفيد دوائر صنع القرار في الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني.

ثالثا: الحركات الدينية الرافضة للصهيونية داخل وخارج إسرائيل

يتناول الكتاب الثالث بالتحليل "ظاهرةَ الحركات الدينية الرافضة للصهيونية داخل وخارج إسرائيل"، وذلك عبر ثمانية فصول موزعة على محاور متنوعة:

الفصل الأول يستعرض جدلية العلاقة بين اليهوديةوالصهيونية وجذورها التاريخية وإشكالياتها النظرية والدينية؛ من خلال استعراض تفصيلي لرؤية الحركة الصهيونية وقادتها للدين اليهودي وتحريفيهم للعقائد اليهودية، مثل الشعب المختار وظهور الماشيح والوعد التوراتي وفكرة الشعب اليهودي وأرض فلسطين.

أما الفصل الثاني فيتناول رصد مواقف يهود العالم الرافضة للفكرة الصهيونية في حينها، ومظاهر ذلك الرفض على المستوى الفردي والجماعي، والأسانيد الدينية التي يُرجعون إليها رفضَهم للصهيونية؛ إضافة إلى مواقف يهود العالم الإسلامي، لاسيما في مصر والعراق.

ويسهب الفصل الثالث في استعراض عقيدة الماشيح المنتظر وعلاقتها بالرفض اليهودي، وأبرز من ادعوا الماشيحانية في العصر الحديث.

أما الفصل الرابع فيرسم خريطة للحالة الدينية في إسرائيل بدءًا بتصنيفات تقسيم المجتمع الإسرائيلي على أساس الدين والعلاقات بين المتدينين والعلمانيين والصراع الديني-الديني، وتزايد أهمية التيار الحريدي،وخريطة المؤسسات والحركات الدينية في المجتمع الإسرائيلي وأبرز القضايا الدينية الخلافية المطروحة في الداخل الإسرائيلي.

ويسهب الكتاب من خلال الفصول الأربعة الأخيرة في استعراض تاريخ الحركات والطوائف الدينية الرافضة للصهيونية، وهم: "ناطوري كارتا"، و"ساطمر"، و"حبد"، إضافة إلى الطوائف"السامرية"، و"الحسيدية"، و"الحريدية".

تستعرض الفصول الأربعة هذه الحركات من حيث النشأة والتكوين والسير الذاتية لأهم قادتها، والمنطلقات الفكرية والعقائدية لكل حركة ومواقفها من الصهيونية، وكذلك العرب والمسلمين وغير اليهود؛ إذ ليس كل حركة معادية للصهيونية مؤدية للعرب نظرًا لاختلاف دوافع الرفض بينها، فهناك حركات تنطلق في معاداتها للصهيونية من قراءة توراتية أرثوذكسية؛ ترى الصهيونية مشروعًا معاديًا لليهود حوّلت اليهودية منديانة إلى حركة قومية عنصرية استعمارية، بينما هناك حركات أخرى علمانية تنتقد إسرائيل والأفكار الخاصة بالإبادة، لكنها لا تُبدي تعاطفًا مع العرب ولا تتبنى قضاياهم.

وتفتح هذه الدراسة الباب واسعًا أمام الباحثين وصناع القرار العرب للتفكير في كيفية الاستفادة من ظاهرة الحركات اليهودية المعادية للصهيونية، فرغم تضاؤل حجم هذه الحركات وضعف مساحات انتشارها إزاء المد الصاعد للتيارات الدينية المسيحية الداعمة لإسرائيل في أوربا وأمريكا؛ إلا إنه يمكن للعرب التفاعل مع هذه الحركات بأشكال مختلفة عبر برامج ومشروعات طويلة المدى؛ تستهدف تقوية هذه التيارات وإعاقة تحقيق الهدف الصهيوني بتجميع اليهود في فلسطين. إضافة إلى كشف وتعرية جرائم إسرائيل أمام الرأي العام العالمي؛ من خلال يهود العالم الرافضين للصهيونية، ومن المفارقات أن إسرائيل تطلق على هذا التيار من الرافضين "اليهود المتطرفين".

من المفارقات التي تسوقها الدراسة أن حجمَ التمويل الذي تحصل عليه إسرائيل من المنظمات المسيحية الصهيونية يفوق دعم الجماعات والمنظمات اليهودية حول العالم.

كما تلفت الدراسة انتباهَ الباحثين إلى ظاهرة أخرى على النقيض تمامًا من تلك الحركات، وتتمثل في صعود حركات مسيحية مؤيدة للصهيونية في أمريكا وأوروبا، يتعاظم نفوذها في عملية صنع القرار السياسي الإسرائيلي، بما توفره من دعم مالي ونفوذ سياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، ومن المفارقات التي تسوقها الدراسة أن حجمَ التمويل الذي تحصل عليه إسرائيل من المنظمات المسيحية الصهيونية يفوق دعم الجماعات والمنظمات اليهودية حول العالم . مثل هذه الظاهرة المتصاعدة تحتاج إلى دراسة معمقة حول أبعادها ومنابعها وحدود تأثيرها في مراكز صنع القرار العالمية وكيفية التعامل معها من منظور عربي مقاوم.

خلاصات

ثمة حقيقة مستفادة من عرض هذه السلاسة مفادها أن المجتمع الإسرائيلي يحوي في طياته مكامن ضعفٍ كثيرة، تعادل مكامن قوته أو تفوق، وليس أدل على ذلك من عبارتي الباحث الإسرائيلي لورانس ماير: "إن الخطر الأعظم الذي يهدد إسرائيل لا يكمن خارج حدودها،ولكن في داخل روحها ونفسها"، والشاعر حاييم جوري، صاحب العبارة المشهورة: "يولد الفرد الإسرائيلي وبداخله السكين الذي سيذبحه".

و تتجسد أبرز مظاهر هذا الضعف في تصاعد معدلات الصراع بين أطياف المجتمع الإسرائيلي على كافة المستويات الرأسية والأفقية، فهناك الصراع بين اليمين واليسار، والصراع بين الأشكناز والسفارديم، وهناك الصراع الديني- العلماني والصراع الديني- الديني بين المتدينين أنفسهم.

وتشير دراسات الصهاينة أنفسهم إلى هذا التشظي المتصاعد في بنية المجتمع الإسرائيلي ومخاطر تصاعده مع مرور الزمن، واحتمالية تسببه في انفجار سوسيولوجي يهدد الكيان برمته، في ظل أزمات ديموغرافية أخرى مرشحة للتصاعد، مثل تناقص نسبة اليهود مقابل العرب داخل الدولة نفسها، واحتمالية تزايدها وآثارها المستقبلية في الأمد البعيد.

وقد صك مؤلف السلسة مصطلح "السلاموفوبي" لوصف حالة ذلك المجتمع الممزق المعتمد في تماسكه على وجود خطر خارجي، وحرب دائمة تُغطي على تناقضاته الداخلية المدمرة، ويفسر المصطلح حالة التهرب الإسرائيلي من الدخول في عملية سلام حقيقية تستهدف تسويةَ الصراع. وتشير هذه السلسة إلى أهمية انتباه الباحثين العرب إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي بشكل مفصل، وعدم الاستسلام للمقولات الجاهزة التي يروجها العدو عن نفسه وتنطلي علينا دون تمحيص.