مراجعة لكتاب "الإجرام السياسي"

كتاب الإجرام السياسي لويس بروال

صدر الكتاب الإجرام السياسي في نسخته الأولى في عام 1895م باللغة الفرنسية، وتمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية في عام 1898م في الولايات المتحدة الأمريكية، وتُرجم للعربية في عام 1938م في القاهرة، كما ترجم للبولندية في عام 1906م. وقد تُرجم مؤخرًا إلى اللغة الصينية في عام 2014م.

ويعد كتاب "الإجرام السياسي La criminalité politique" واحدًا من المؤلفات التي اكتسبت أهميةً قصوى في الأوساط الفكرية الغربية، فهو بمثابة مرجعية هامة في مجال تطوير دراسات الأنظمة السياسية في القرن الماضي.

ومؤلف الكتاب هو لويس بروال، وهو قاضٍ فرنسي شهير، عمل قاضيًا بمحكمة الاستئناف بمقاطعة أكس أون بروفانس Aix-en Provence بفرنسا، وقد قام بالعديد من البحوث والدراسات العلمية الفكرية والقانونية رغبةً منه في تطوير نظريات وقواعد علم الجريمة والعقاب، كما اهتمَّ بالصور المختلفة للجريمة بالإضافة إلى اهتمامه بالدراسات البينية بين علم الإجرام والعقاب وبين علم النفس الجنائي.

نشر كتاب «الجريمة والعقاب» Le Crime et le Peine في باريس عام 1892م،وهو أحد أعماله القانونية، قدَّم من خلاله تفسيرًا منطقيًّا للزيادة المطَّردة في أعدادِ الجرائم المختلفة وسُبل تقنين التشريعات الخاصة بها.

وقد تُرجمت العديد من كتبه وأبحاثه إلى أكثر من لغة (الإنجليزية، العربية، الصينية، الإسبانية، اليابانية، البولندية، الروسية) إضافةً إلى الفرنسية اللغة الأصلية للمؤلف، وتصل مجموع أعماله في المكتبات العالمية باللغات المختلفة154كتابًا وبحثًا[1].

لكن ورغم الانتشار الواسع لأعمال المؤلف والإقبال الكبير عليها، إلا إنها لم تحْظَ باهتمامٍ يُذكر في العالم العربي؛ اللهم إلا ترجمة وحيدة وقديمة لكتابِه الذي نُقدمه للقراء (الإجرام السياسي)، والتي بدورها لم تأخذ حقَّهَا في الانتشار والذيوع وتداول أطروحاتها.

لقد قسم لويس بروال أطروحتَه إلى اثني عشر فصلًا، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة:

  • فقد خصص الفصل الأول لاستعراض «الميكيافيلية».
  • أما الفصل الثاني والثالث فقد تناول فيهما القتلَ كإحدى وسائل الإجرام السياسي بصورتين: القتل السياسي، وقتل الطغاة.
  • أما الفصل الرابع فجاء حولَ الفوضوية وأبعادها السياسية. والفصل الخامس لتناول الأحقاد السياسية.
  • أما الرياء السياسي فقد خصص له الكاتب الفصل السادس.
  • وفي الفصل السابع تعرض الكاتب إلى الاستغلال السياسي كإحدى صور الإجرام السياسي.
  • وخصص الفصلَ الثامن للتعرض إلى صور من الفساد السياسي في روما وأثينا وإنجلترا وفرنسا.
  • وجاء الفصل التاسع لمناقشة صور الفساد والجرائم السياسية التي قد تشوب العمليات الانتخابية في الدول الديمقراطية.
  • وجاء الفصل العاشر حولَ تأثير الفساد السياسي في التشريعات والقوانين.
  • ثم تمَّ تخصيص الفصل الحادي عشر للحديث حولَ إفساد السياسة للقضاء.
  • وكان الفصل الثاني عشر والأخير حولَ إفساد السياسة للأخلاق العامة.

تنبع أهمية هذا الكتاب في تأكيده في ذلك الوقت المبكِّر على ضرورة تنظيم وتأطير العلاقة بين الأخلاق والسياسة، فلقد رأى مؤلفُه لويس بروال أن ظاهرة الإجرام السياسي يتحتَّم سبرُ أغوارها بوصفها إحدى المعوقات الأساسية التي تحول دون كفاءةِ العمَلية السياسية، وبالتالي فمن المهم إكسابُ الممارسة السياسية مسحةً أخلاقيةً إنسانيةً عامَّةً، تجعلها أكثرَ انضباطًا بقيَمِ الصدق والتسامح والعدالة وغيرها من القيم.

وفي السياق العربي المعاصر فتتجلى أهميةُ الكتاب ومدى حاجة واقعنا العربي لمثل هذه الأطروحات، من خلال تزامُن إعادة طبعه ونشره في وطننا العربي، مع ثورات الربيع العربي، والتي كان لها دورٌ مهمٌّ في محاولات إعادةِ تشكيل الواقع المعاصر، وكذلك الفكرُ السياسي والقانوني والاجتماعي، خاصة وأن المجتمعات العربية تمرُّ بمراحل انتقالية؛ حيث تُزاد فيها فرصُ حدوث الجريمة السياسية في ظل الصراع السياسي بين كافة الأطراف للاستحواذ على السلطة، وهي أكثر المراحل التي تتطلب ضبطَ ممارستها السياسية أخلاقيًّا. وأيضًا بالنظر إلى أن المنطقةَ أصبحت أكثرَ قابلية لتقبُّل أفكار جديدة، بل وتجريبها على محكِّ الواقع؛ حيث قلَّت الثقة في النظم القديمة ومدى قدرتها على الخروج من حالةِ عدم الاستقرار فيما بعدَ الربيع العربي.

فرانكلين جيدنجز

فرانكلين جيدنجز

فإعادة نشر الكتاب–إذن- له أهمية تأسيسية على احتياجات الواقع، الذي انحرفت فيه الممارسة السياسية لدرجة الجريمة، وبالتالي حاجتها لمعالجات ذات نزعة أخلاقية بالأساس، يتمُّ ترجمتها لفعل سياسي ومواد قانونية ودستورية تؤطرها، وهذا مدخلٌ مركزي لبناء نهضة حقيقية للأمة، من شأنها أن تمثل انعتاقًا من واقعها الحالي بكل رهاناته. وقد اعتبر فرانكلين جيدنجز Franklin H. Giddings في مقدمة ترجمته للكتاب إلى اللغة الإنجليزية[2]: أن الكتاب استطاع التشكيك في المعتقد السياسي الراسخ لدى كثيرين في وقتها –الغاية تبرر الوسيلة- بل وراهن المترجم أنه في المستقبل القريب ستعِي الشعوب ضرورةَ التزام السياسيين بالمبادئ الأخلاقية دون الاهتمام بتفعيل الأجندات السياسية وحدها.

والسؤال الآن: ماذا أضاف الكتاب للفكر والواقع السياسي والقانوني؟

يمكن إجمالًا رصد أهم ما تركه هذا الكتاب من تأثيرٍ في الواقع السياسي الميداني؛ إضافةً إلى تأثيره الفكري السياسي والقانوني بشكلٍ رئيسٍ في ثلاثة مجالات رئيسة:

المجال الأول: أن هذا الكتاب مثل صيحة احتجاج فكرية وقيمية وثقافية قوية ضد المدرسة الميكيافيلية النفعية وسيطرتها على الواقع السياسي، والمتجردة من أي قيمٍ أخلاقية، مؤدية إلى حروب وصراعات سياسية لا تنتهي، ومنا هنا طرح بروال البديل وهو حتمية عودة علم السياسة مرةً أخرى لمربع الأخلاق، ومن ثم إعادة تموضعه حول تلك القيم الإنسانية والأخلاقية العامة ليكتسب مكانته المركزية اللائقة به. ويعده بروال ضرورةً ملحة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه من ضمير البشرية، إذا ما كنا نبحث عن حياة أكثر إنسانية وقيمية، يقول بروال في ذلك: "إذا كان العلم بدون ضمير خراب الروح فإن السياسةَ بلا أخلاق هي خراب الإنسانية".

المجال الثاني: ساهمت أطروحات "بروال" مع شركائه في دعم مسيرة وحركة قانونية وسياسية، ساهمت في إصدارِ تشريعات قانونية سياسية دولية تجرم وتعاقب جرائمَ الحروب وتغلِّظ العقوبات ضدَّها، بل وفي اعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم، وإنشاء مؤسسات حقوقية وقضائية متخصصة في هذا الشأن، والسعي نحو تقييد الأنظمة السياسية المحلية بما يحدُّ من ارتكابها جرائمَ ضد شعوبها.

المجال الثالث: ما أحدثه هذا الكتاب من تأثيرٍ كبير في العلوم السياسية، وتحديدًا تأثيره في علم الإدارة العامة، وأهمية استقلال وحياد السلطات والإدارات المختصة بإدارة الدولة وتحقيق مصالح المواطنين، بعيدًا عن التوجهات الحزبية، بشكل يحررها من سطوة نظرية الغنيمة spoils system عليها، والتي ظلت مسيطرةً لوقت طويل على الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. والتي كانت نظامًا سياسيًّا وإداريًّا يمثل حزمةً من الأفكار والممارسات اللاأخلاقية في الحكم تحت إطار شرعي وقانوني زائف، سقط تحت ضغط ثورة سياسية وأخلاقية قضَت عليه وحولت مفرداته إلى جرائم قانونية وسياسية، واستبدلت به نظرية استقلال وحياد الإدارة العامة في تجربة إيجابية وفريدة سياسيًّا وقانونيًّا وإداريًّا.

المسيرة القانونية لحقوق الإنسان وحرياته لايزال أمامها الكثير لتنجزه، وها هي الإدارة العامة للحكم في عالمنا العربي غيرُ مستقلة وغير محايدة، وتخضع للاستغلال والتوظيف السياسي الانتهازي والمصلحي.

إن الإشكاليات الرئيسة التي حاول الكتاب معالجتها في وقتها لاتزال حاضرة بقوة في المشهد العربي الراهن، فها هي الممارسة السياسية الحالية بعيدة كل البعد عن أي ضوابط أخلاقية، وتعتمد مبدأَ الغاية تبرِّر الوسيلة، وما يقود إليه من نفعية برجماتية، كما أن المسيرة القانونية لحقوق الإنسان وحرياته لايزال أمامها الكثير لتنجزه، وها هي الإدارة العامة للحكم في عالمنا العربي غيرُ مستقلة وغير محايدة، وتخضع للاستغلال والتوظيف السياسي الانتهازي والمصلحي.

أولاً: السياق التاريخي والسياسي للكتاب

ظهر هذا الكتاب في إصدارِه الأول بفرنسا منذ ما يقارب قرنًا وربعًا من الزمان، أي في نهايات القرن التاسع عشر، وهي فترة كانت تسيطر عليها بشكل كبير في المجال السياسي الأطروحاتُ الميكيافيلية للمفكر الإيطالي الشهير (Niccolo Machiavelli) نيكولو ميكيافيلي[3]، والتي بلورها في كتابه الأمير The prince؛ فأمير ميكيافيلي هو ذلك الحاكم المطلق، والذي يجد مصلحتَه في بَذر الشقاق بين رعاياه ليحكمهم.

قام المؤلف بتوجيه سهام نقده للأنظمة السياسية المتحررة من الأخلاق، والقائمة بالفعل في عالم الواقع، ثم دعا إلى إعادة السياسة لحظيرة الأخلاق.

لقد تمركزت أطروحات ميكيافيلي في معظمها حول سيادة المصلحة ومحاولة تحقيقها بأيَّة وسيلة؛ بغض النظر عن مدى أخلاقيتها، واستشراء النزعة النفعية البرجماتية، والتي فرضت نفسَها بشكلٍ كبير على أرض الواقع في ذلك الوقت. لقد تأثر الكاتب كثيرًا بأفكار الثورة الفرنسية، والتي نادت بترسيخ مبادئ الأخلاق والعدل والإنسانية، ومن ثمَّ سعى إلى تفعيلِ تلك الأسس في عالم السياسة، وذلك بدعوته لضرورة إحداث تقارب بين السياسة والأخلاق، في محاولة منه لإنقاذ البشرية من خطرٍ محدق ودمار محقق، إذا ما ظلَّت تسير بذات الاتجاه البراجماتي النفعي المتحلل من أي ضوابط أخلاقية. يمكن القولُ: إن الكتاب جاء كردِّ فعلٍ ضد أطروحات المدرسة الميكيافلية النفعية من ناحية، واستجابة لمبادئ وقيم الثورة الفرنسية من ناحية أخرى، ومن ثمَّ قام المؤلف بتوجيه سهام نقده للأنظمة السياسية المتحررة من الأخلاق، والقائمة بالفعل في عالم الواقع، ثم دعا إلى إعادة السياسة لحظيرة الأخلاق؛ وبخاصة المستمدة منها من الأديان باعتبارها أكثرَ شمولًا وعمقًا.

لكن المقترحات والحلول التي ساقها الكاتب ربما كانت مناسبةً لوقت صدور الكتاب وظروفه، أما فيما يتعلق بواقعنا الحالي فهي من دونِ شكٍّ بحاجة لتطويرها وتقنينها قانونيًّا ودستوريًّا بعد الاحتكام للشعب، الذي هو صاحب السيادة الحقيقية، ومن ثمَّ إنزالها على الواقع الذي تبدَّل كثيرًا مقارنة بالواقع الذي صدر فيه الكتاب أول مرة.

ثانياً: أهم الأطروحات المركزية للكتاب

تناول لويس بروال في كتابه عددًا من الأطروحات المركزية التي حاول سبر أغوارها، والتي تدورُ في مجملها حولَ حتمية إكساب الممارسة السياسية أبعادًا أخلاقية وإنسانية عامةً؛ هروبًا من المصير القائم للبشرية الذي جرتها إليه القيم المادية النفعية الغربية، القائمة على الأطروحات الميكيافيلية.

وإجمالًا يمكن إبرازُ أهم أطروحات الكتاب على النحو التالي:

– إن الحضارة الإنسانية وعلى الرغم مما حققته من تقدم تطور في العديد من النواحي العلمية والفكرية؛ إلا إنها في الجانب السياسي قد انتكست انتكاسًا كبيرًا بانفصالها عن الأخلاق، ومن ثمَّ انزلقت إلى ممارسات سلبية مثلَ الرياء والنفاق والخداع والنفعية، يقول بروال: «لقد تقدَّمت المدنيةُ بالإنسانية في كل ناحيةٍ من نواحيها إلا السياسة، فإنها لا تزال مرتعًا فسيحًا للغشِّ والدسِّ وخنق الحق والحرية، فالجماعة الإنسانية الفخورة بما وصلت إليه من تقدُّمٍ صناعي واختراعات علمية، لتُطَأطِئُ الرأسَ خجلًا كلما فكرت فيما آلت إليه أخلاقها السياسية والمالية، وكما يقول أحد المفكرين الفرنسيين: (كل شيء عندنا يتقدَّم إلا الأنظمة السياسية، فإنها بما تقع فيه من أخطاء تسلبنا دائمًا كل منفعة قد تعود علينا)».

– يرى بروال أن السياسية قد هوت إلى الدرك الأسفل؛ بانغماسها في ممارسات إجرامية ولاأخلاقية، ففي الأوساط السياسية أصبح "كل شيء مباحًا"، فإذا كان الكذب منبوذًا في الأمور العامة، إلا أن كذب السياسيين على شعوبهم هو أمرٌ مستساغ قد مُورس من جانب العديد من الحكومات تجاه المعارضين والعكس، وذلك اعتمادًا على أن الغايةَ تبرُّر الوسيلة.

– لعل الفكرةَ العبقرية التي حملها هذا الكتاب، والتي دفع بها لويس بروال إلى الحدِّ الأقصى هي أنه لا تعارضَ بين المصلحة وبين الأخلاق، فالتزام الممارسات الأخلاقية في السياسة سيقود إلى تحقيقِ مصالح الجميع، وأن المصالح التي تتحقق بوسائل لا أخلاقية سرعان ما تجرُّ الويلات على المجتمعات الإنسانية.

– ويؤكد بروال أن السياسة القائمة على الفساد وعدم احترام الأخلاق، هي سياسات بدائية ولا تليق بالمجتمعات المتحضرة، التي يتحتم أن تُدار اعتمادًا على مبادئ العدالة واحترام الحقوق؛ فيقول: «السياسة المبنية على الفساد سياسية عتيقة لا تليق بالجماعات العصرية، إنها تدلُّ على احتقار للإنسانية وعداء لا محلَّ له بين الحاكمين والمحكومين، ويجب أن تختلف سياسةُ الشعوب الحرة عن سياسة الملوك المطلقة، وأن يكون أساسُها احترامَ العدالة والحقوق».

– يؤكد بروال في معرض بحثه عن حلول جذرية لإشكالية انفصام العلاقة بين السياسة والأخلاق، على أنه في محاولة الإصلاح لا يكفي تغييرُ الأشخاص السياسيين الفاسدين إلا إذا أعقبه إصلاحَ أخلاق الساسة الجدد، وإلا فقد استبدلنا فاسدًا بفاسدٍ آخر، يقول: «لا يكفي تغييرُ الأشخاص السياسيين إلا إذا أعقبه إصلاحُ أخلاقهم، فإذا كان الساسة الجدد مجردين من المبادئ كمن سبقوهم تمامًا فكل ما يكون قد حصل هو أننا استبدلنا بقرةً سمينة بأُخرى هزيلةً تود بدورها أن تكدِّس الشحم».

– لفت بروال الاهتمام إلى المعنى غيرِ الشائع والمتداول للإجرام السياسي، والذي رأى أنه أكثرَ خطورة وضررًا، فالمتداول في ذلك الوقت بل والآن في كثير من الأحيان هو الجرائم ضد الحكومات – الجرائم التقليدية- مثل جرائم الخيانة العظمى ومحاولة قلب نظام الحكم، في حين أن المعنى الذي قصده بروال هو الجرائم التي يرتكبها السياسيون أو الحكومات أو الحكّام أو المعارضون نتيجةً لمبررات مزعومة بتحقيق مصلحة الدولة[4].

-أدرك لويس «بروال» في ذلك الوقت المبكر أهمية دور الدين في إضفاء أبعاد أخلاقية قيمية وإنسانية عامة على الممارسة السياسية، وهو ما أخذ ينتبه إليه كثير من المفكرين السياسيين في السنوات الأخيرة؛ إذ يقترح بروال أن العلاج الصحيح للأزمات السياسية التي تعصف بالدول هو بالعودة بالسياسة إلى الأخلاق المستمدة من الأديان؛ حيث يستحيل تطوير السياسة بعيدًا عن مبادئ الأخلاق وروح الدين.

فالتقدم الذي تمَّ إحرازه في ميدان السياسة ما هو إلا نتاج التأثر الفلسفي بالمبادئ الدينية، فالسياسة كالحياة الإنسانية بحاجة إلى المبادئ والقيم الروحية والعقائدية. وفي ذلك يقول بروال: «إن التقدم الكبير المشاهد في ميدان السياسة هو في الواقع وليدُ التأثير الفلسفي والمبادئ الدينية؛ فالسياسة المجردة عن المبادئ سياسة وثنية لا تؤدي إلى تقدم الهيئة الاجتماعية». ويضيف في موضع آخر: «معاداة الدين ليست من السياسة السليمة في شيء… إن العقائد الدينية تدعو إلى حُسن الخلق، وأنه كلما زاد عدد المتدينين في دولة قلَّ فيها القلقون والفوضويون والاشتراكيون». مؤكدًا أن «الدين يعلمنا التضحية بالنفس واحترام الفقير ومحبته، ويشعرنا بالمسؤولية نحو الله ونحو الضمير».

كانت الحضارة الغربية في ذروة انتصارها على الكنيسة وما تمثله دينيًّا، ومن ثمَّ ازدهرت الأطروحات العلمانية المعادية للدين والداعية للقطيعة معه.

ولعل تأكيد "بروال" على أهمية الاعتبارات الدينية هو من قبيلِ ردِّ الفعل على ما واجهه الدين من موجة كبيرة من التشكيك في عصره، نتيجةَ الانتهاكات المتعددة التي مارسها رجالُ الدين في ظلِّ هيمنة السلطة الثيوقراطية على أوروبا، مما أدى إلى انتشار أفكار تدعو إلى التشكيك في جدوى الأديان كرِدَّة فعل معاكسة ورافضة لتلك السلطة. فقد كانت الحضارة الغربية في ذروة انتصارها على الكنيسة وما تمثله دينيًّا، ومن ثمَّ ازدهرت الأطروحات العلمانية المعادية للدين والداعية للقطيعة معه، وهي الأطروحات التي دفع بها كثيرٌ من فلاسفة الثورة الفرنسية إلى حدها الأقصى؛ وعليه حاول العديدُ من المفكرين والمثقفين – وكان "لويس بروال" واحدًا منهم -حاولوا تأكيدَ أهمية الدين وما يحويه من قيم أخلاقية وإنسانية.

ثالثاً: إضافات الكتاب في الفكر العربي المعاصر

ما الذي يُمكن أن تُقدمه أطروحات لويس بروال للفكر السياسي والقانوني العربي مستَقبلًا، إذا ما وجدت حظها من الانتشار والذيوع ومن ثمَّ أجريت محاولات جادة من قِبَل الباحثين لتطويرها وإنزالها على الواقع الراهن؟

فيما يتعلق بإدارة الحكم، فهذا الكتاب يمثل صيحةً نحو ضرورة تجريم استخدام الإدارة العامة كأداة في يدِ الكتل أو الأحزاب السياسية، وهو ما يمكن البناء عليه مستقبلًا والإفادة منه وبخاصة في عالمنا العربي في مرحلته الانتقالية تلك، فالإدارة العامة ينبغي أن تبقى مستقلةً ومحايدةً عن أي توجهات حزبية أو تيارات سياسية، وأن تستمر في عملها بما يحقق مصالح الأمة دون أن تخضع لأي طرف سياسي ليوظفها بشكلٍ يحقق مصالحه الخاصة وأغراضه السياسية الضيقة.

خاصة وأن ما أعقب الربيع العربي من تحوُّلات تزايدت الآمال بضرورة إصلاح نظام الإدارة العامة وفصله عن السلطة الحاكمة، إلا إن هذه الآمال سرعان ما تبددت، ففي البلدان التي تولت فيها المعارضة الحكمَ بدأت تمارس السياسات ذاتها المتبعة من الأنظمة السابقة فيما يخص الوظائف العامة، حيث تمَّ إقصاءُ غالبية الموالين للأنظمة السابقة بدعوى الفساد وعدم قدرتهم على العمل في ظل المناخ الفكري والسياسي الجديد، وفي المقابل تم منح الموالين للأنظمة الجديدة الوظائف الحكومية وبخاصة الوظائف القيادية في المؤسسات المهمة لهذه الدول، وكأن الوطن العربي يُعيد إحياء نظام ما يُطلق عليه الغنيمة في الإدارة العامة، والذي ثبت فشله منذ فترة طويلة.

رابعاً: الجريمة السياسية في الثقافة والحضارة العربية والإسلامية:

الملاحظة المركزية هنا، أن هذا الفكر الأخلاقي الإنساني الذي طرحه لويس بروال وآخرون، بما يتضمنه من إدانات لممارسات الإجرام السياسي وتجريم لها- هو موجود بالفعل في التراث الفقهي السياسي الإسلامي، بل إنه نظَر للجريمة السياسية نظرةً شمولية قلَّما يقتصر على تلك الجرائم التي يرتكبها المعارضون وحسب بل والحكام أيضًا؛ إذ جعل إخلال الحاكم بوظيفته وواجباته تجاه مواطنيه جريمةً سياسيةً وشرعية[5].

لكن هذا التراث هو في حقيقة الأمر مطمورٌ تحت رُكام ضخم من الجدالات الفقهية والتاريخية، وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا من الباحثين على أن يسير هذا الجهد باتجاهين: الأول: في استخراج وتحرير هذا التراث الفقهي السياسي الأخلاقي والإنساني، والثاني: في تطويره في شكل مواد قانونية ودستورية يُمكن إنزالها على الواقع السياسي الراهن.

فلاشك أن المتفحص لتاريخ الحضارة العربية والإسلامية ستتجلى أمامَه حقيقةٌ أساسية مفادها أن الإسلامَ من أكثر الحضارات -على المستوى الشرعي والأخلاقي والقانوني- تجريمًا وتأثيمًا للانحراف والإجرام السياسي منذ بداية قيام دولته، داعيًا إلى أن تتسربل الممارسة السياسية – من قبل الحكام والمحكومين- لبوسًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا عامًّا.

لقد اقتصر مفهومُ الجريمة السياسية في الفكر الإسلامي في حِقبة ما بعد الخلافة الراشدة على المعنى التقليدي منه، وهو جريمةُ الأفراد ضدَّ الحكام وليس العكس، فلا يوجد تجريمٌ لأفعال الحكّام في مواجهة الشعوب، وذلك بعكس عهد الخلافة الراشدة التي تقلص فيها انتشارُ الجرائم السياسية، فقد كان الخلفاء الراشدون يجابهون من قبل المسلمين بالنقد المر والعبارات الشديدة، فكانوا لا يجدون غضاضةً في الاستماع إليها، وما لجأوا إلى تكميم الأفواه، أو اعتبار ذلك من قبيل الجرائم السياسية، وكانوا يقتدون بهديِ الشريعة. ويذكر أن الخليفة عثمان بن عفان رفض رفعَ السلاح ضدَّ معارضيه رغم قدرته على ذلك[6].

وكما أكَّد لويس بروال على أهمية الدين في إكساب الممارسة السياسية صبغةً أخلاقية، فإن الأخلاق تكتسب أهميةً قصوى ومركزية في التصور الإسلامي وبخاصة في شقه السياسي، ففي الإسلام: الغايةُ لا تبرر الوسيلة؛ إذ يستحيل التضحيةُ بنبل الوسائل على مذبح الغايات. لقد أدرك رواد عصر النهضة الإسلامية في العصر الحديث؛ كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وعبد الرزاق السنهوري وغيرهم- أدركوا أهمية الجانب الأخلاقي في التصور السياسي الإسلامي.

فمع اقتناعهم بأهميةِ الاستفادة من الفكر السياسي الغربي المتطور في إحداث النهضة الغربية الحديثة، إلا إنهم أدركوا أهمية إكسابِه نزعةً أخلاقية لتخفف من وطأة الفكر المادي النفعي الكامن داخله، وعليه طالبوا بأهمية بلورة رؤية سياسية إسلامية متكاملة مستفيدة من التطور الإنساني في هذا المجال من ناحية، ومنبثقة من قيم الإسلام السياسية ومقاصد الشريعة الإسلامية في شقها الأخلاقي من ناحية أخرى.

الدولة المستحيلة

الدولة المستحيلة

وتُعتبر أطروحة البروفسير «وائل حلاق» في كتابه "الدولة المستحيلة ..الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"[7]– إحدى الشهادات المتميزة حول إمكانية قيام فكر سياسي أخلاقي وإنساني عام، اعتمادًا على التصور الإسلامي، ليتم طرحه كنظرية مقابلة للنظرية المادية النفعية الميكيافيلية الحاكمة للوجود الإنساني، المتعين لحظته الراهنة وما أضفته من تبريرات على الكثير من الجرائم السياسية. وتؤكد أطروحة «وائل حلاق» على الأهمية المركزية التي يُمكن أن تلعبها القيمُ الأخلاقية الإسلامية في بلورة نظرية سياسية عالمية، من شأنها تجنُّب لاأخلاقية الممارسة السياسية الحالية، وهي شهادة جديرة بالتأمل لكونِها تأتي من أحد الباحثين في الغرب من ناحية ولتميز طرحها من ناحية أخرى.

وختامًا، وبعد استعراض الملامح العامة للأطروحة، التي اشتغل عليها لويس بروال وأهميتها والسياق التاريخي والفكري السياسي التي انبثقت منه، وكيفية تعظيم الإفادة من أطروحاتها مستقبلًا، وتحديدًا في عالمنا العربي والإسلامي بما تعصِف به من متغيرات جذرية في وقته الراهن، آملين من هذا التقديم أن يكون قد أخل القارئ الكريم في أجواء هذا العمل التراثي المهم قبل أن يخوض تجربةَ قراءته والإبحار بين دفتيه.

والذي مع كونه كتابًا تراثيًّا كُتب منذ قرن وربع من الزمان؛ إلا إنه وكأنه يخاطب الواقع الحالي بكل التباساته وارتهاناته وأمراضه وعلله السياسية بشكل يُثير الإعجاب والاستغراب معًا.


الهوامش

[1] راجع صفحة لويس بروال على موقع الفهرس العالميWorld Cat وهو مشروع فهرس موحد، تابع لمركز المكتبة الرقمية على الإنترنت، يجمع محتوى أكثر من 10000 مكتبة في أكثر من 40 دولة حول العالم. انظر الرابط: search?q=au/www.worldcat.org

[2] Louis Proal, Political Crime, With an introduction by Franklin H. Giddings, New Youk, D. Appleton, 1898, the University of Michigan.

[3] نيكولو دي برناردو دي ميكيافيلّي (3 مايو 1469 – 21 يونيو 1528) وُلد وتوفي في فلورنسا، كان مفكرًا وفيلسوفًا وسياسيًّا إيطاليًّا إبان عصر النهضة الأوروبية.

[4] Louis Proal, Political Crime, With an introduction by Franklin H. Giddings, Op. cit., p. 6.

[5] للمزيد: راجع: محمد طه بدوي، حق مقاومة الحكومات الجائرة في المسيحية والإسلام في فلسفة السياسة والقانون الوضعي، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1940م.

[6] مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الجزء الثاني، ص 740.

[7] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ط1، 2014م.