قسمة الرحمة الإلهية: إشكاليتا التسامح والعدالة

الصورة
هل يمكن تجنُّب مخاطر إدخال العلوم الاجتماعية في الدراسات الإسلامية؟

مع كل حدث مهم يستجد، تُستعاد جدليات ثارت وخفتت غير مرة عبر التاريخ، إلا إن عمومية المعرفة مع شيوع وسائل تداولها؛ جعلت النقاش حول تلك القضايا شأنًا عامًّا، يخوض فيها الخائضون، ويرتجل فيها العالمون والجاهلون، مما يجعل النقاش حولها بحاجةٍ إلى نفض غبار كثير أثاره خبط العشوائيين الذين يقاربون القضايا العلمية مبتورةً ومجتزأةً.

ويمكن تعميمُ هذا الوصف على مسائل كثيرة مما استقرت فيه المعرفة أو ما يزال منها موضع جدل، والخطب أكبر عندما تكون القضية من حقل المعرفة الدينية، أو تتصل بالتراث المتراكم الذي لا يتمكن من فهم منظومته من لم يعتد مدارسته، أو عندما تتنازع القضيةَ اتجاهاتٌ دينية أو سياسية أو طموحات شخصية، يقدم الإعلام روادها بوصفهم مرجعياتٍ معتبرةً، كما تثار ضدهم مواقف لا تقل تهويلًا ومبالغة، مما يجعل تفكيكَ تلك القضايا بحاجة إلى الوقت، وإلى المختصين.

في المقابل ثمة جانب إيجابي من ظاهرة (الجدل العمومي في المعرفة) هذه، ذلك أنها تثير بين الوقت والآخر قضايا حيوية لم تأخذ حقها من النقاش، لاسيما في حقول المعرفة الدينية خصوصًا، كما تُمكن من كشف الغطاء السياسي لإثارة هذه القضايا وتعيدها إلى إشكالياتها العلمية الخاصة بها، وهي في الغالب إشكاليات تاريخية أثيرت ونوقشت عبر التاريخ، ولئن خفت الجدل حولها إلا إنه لم يحسم الجواب فيها.

من تلك القضايا التي أثيرت مجددًا قضيةُ الرحمة الإلهية في الآخرة، ومن تشمله هذه الرحمة ومن يُستبعد منها، من أتباع الأديان أو الملحدين، وبني على هذا الجدل افتراضاتٌ وارتبطت به لزوميات تحتاج إلى تفكيك كي تفهم حيثيات إثارتها وجدية الإشكال فيها، وسأناقش في هذا المقال إشكالين هما التسامح والعدالة الإلهية وصلتهما بالرحمة الإلهية.

الرحمة والتسامح

التساؤل الذي يثار هنا: هل طبيعة الموقف ممن تشمله رحمة الله في الآخرة شرطٌ من شروط التسامح وحُسن العلاقة مع المختلف في الدين؟ 

وبتعبير آخر: هل من يتصور أن النجاةَ في الآخرة مقصورة على أتباع دينه لا يكون متسامحًا بالضرورة مع الأديان الأخرى؟

يبدو أن من أثاروا القضية يرون أن اعتقاد حصر الرحمة الإلهية الأخروية (النجاة والجنة) يتنافى مع التسامح مع الآخر، وأن هذا التصور هو الذي حفزهم على إثارة النقاش، داعين إلى إعادة النظر في سعة الرحمة الإلهية الأخروية، بل إن دراسة موضوع الرحمة الإلهية بهذا المعنى أصبحت عنوانًا جديدًا لحوارات الأديان والتقارب بينها. 

موضوعيًّا لا يمكن تحكيم مصائر عالم الغيب المختلف تصوره ومآلاته- والذي هو محل الرحمة الإلهية الأخروية- بعالم الشهادة.

لكن النظر في القضية ينفي هذا التلازم المدَّعى، تاريخيًّا وموضوعيًّا، فالتجارب التاريخية الإيجابية للتسامح والتعايش بين الأديان كانت بين أديان متناقضة في تنافسها على احتكار الحقيقة والنجاة أو الخلاص الأخروي، ولم يكن هذا التنافس والاختلاف الديني عائقًا أمام تعايش الأديان والتسامح فيما بينها، بل وحتى نظريات التسامح الحديثة لم تشترط ذلك، والتي نشأت أساسًا لتأصيل التسامح بين فِرق الدين الواحد. أما موضوعيًّا فلا يمكن تحكيم مصائر عالم الغيب المختلف تصوره ومآلاته- والذي هو محل الرحمة الإلهية الأخروية- بعالم الشهادة الذي تحكمه علاقات مباشرة ومصالح آنية يمكن التفاهم في إدارتها بين المختلفين، فالآخرة في تصور كل دين تختلف عنها في الدين الآخر وإن اشتركت في قضايا عامة، فأن يرى المسلم أن غير المسلم لن ينال الرحمة التي يتصورها المسلم لا يعني غير المسلم شيئًا؛ لأن له تصوره الخاص لرحمة الله، كما أن المسلم لا يضيره أن يعتقد المسيحي أن المسلمين لن ينالوا الخلاص ما لم يؤمنوا بالخطيئة والمسيح المخلص وفق الرؤية المسيحية، ومن باب أولى فإن الملحد لن يجرح مشاعره أن يستبعده أهل الأديان من جنتهم التي يؤمنون بها طالما أنه يعتبرها خرافة ووهمًا.

نفي هذا التلازم بين تصور من تشمله النجاة أو الخلاص في الآخرة وبين إمكان التعايش والتسامح بين أتباع الأديان المختلفين في الدنيا- لا يعني عدم وجود إشكالات واختلافات في مفهوم الرحمة داخل كل دين، وأهمية مراجعتها ودراستها، لا لأنها عائقٌ أمام التسامح والتعايش، وإنما لأسئلة يفرضها التصور نفسه داخل كل دين، على أن طرح السؤال ابتداءً غير دقيق، فسعة رحمة الله ليست موضعَ اجتهاد البشر أو نظرهم، إنما يمكنهم أن يبحثوا فيما يكشفه الله عن رحمته ومن يشملهم بها، ومعايير ذلك.

الرحمة والعدالة الإلهية

التساؤل الثاني الذي يثيره الجدل حول شمول الرحمة الإلهية- هو قضية العدالة الإلهية، وصورة الإشكال أنه: هل يستقيم أن يكون من العدل الإلهي أن يختص الله المسلمين الذين هم أقلية من خلقه برحمته في الآخرة (النجاة)، والتي وصفها القرآن بأنها رحمة للعالمين، والعالم يشهد ما قدمه غير المسلمين من أعمال الخير للناس، والمسلمون مدينون لهم بها؟

وهذا التساؤل يقوم على افتراضات تستند إلى فهم نصوص إسلامية تحصر الدين الحق المقبول عند الله بالإسلام، وأن الكافرين هم غير المسلمين وأن مصيرهم النار، وهذه الافتراضات هي المعتقد الشائع لدى جمهور المسلمين، وثار حولها نقاشٌ وجدل هامشي في مراحل متفرقة من التاريخ الإسلامي.

المشكلة الحقيقية في التعامل مع هذه المعايير، أن المسلمين اتخذوها مرجعًا للقضاء في مصائر الناس، بينما وضعها الله للهداية والاسترشاد بها.

وبالعودة إلى التساؤل حول العدالة الإلهية وشمول الرحمة، فالتساؤل نفسه يفترض أن ثمة ما يقابل الرحمة وهو العقاب كأثرٍ للعدالة الإلهية، وبالتالي فالحديث عن الرحمة يلزم عنه الحديثُ عن ضدها، والحديث عن العدالة الإلهية يستلزم الحديثَ عن معايير وضعها الله لعدالته، وبالتالي ما يمكن الحديث عنه مما اختص الله به هو تقريرُ المعايير التي وضعها الله لعدالته، وما يترتب من آثارها على الخلق في الرحمة أو العذاب. لكن المشكلة الحقيقية في التعامل مع هذه المعايير، أن المسلمين اتخذوها مرجعًا للقضاء في مصائر الناس، بينما وضعها الله للهداية والاسترشاد بها، وليبين لخلقه كيف يحكم بين الناس، لا ليحكم بها الناس على بعضهم البعض، فثمة فرق بين أن يضع الله معايير لعدالته ليقيم بها الحجة عليهم، وبين أن ينصِّب الخلق أنفسهم قضاةً فيما اختص الله به.

إذًا ثمة تلازم بين القول بعدالة الله والقول بثنائية الرحمة والعذاب، أما من تشمله هذه الرحمة ومن لا تشمله تعيينًا فتلك قضية غيبية يقضي بها الله، ولا يمكن لأحد أن يتحكم بها؛ إذ تتوقف على قضاء الله، لكن في الآن نفسه لا يستقيم اعتقاد أي مؤمن بدين لا يرى أن مبادئه تتوافق مع معايير العدالة الإلهية التي وضعها الله، وأنها تفضي إلى النجاة ورحمة الله، ومن الطبيعي أن من يؤمن أن اعتقادَه يقود إلى النجاة سيتصور لزومًا أن ما يناقضه لا يقود إليها، وإلا أصبح إيمانًا بنقيضين، وهذا ما يتبناه عموم المسلمين وأهل الأديان، لذا يحصرون النجاة بأتْبَاعهم.

وقد يوسع بعضهم فيعلق الأمر بشأن غيرهم بإمكان شمولهم بالرحمة، وبأتباعهم بالقطع، فقرر "المجمع الفاتیكاني الثاني (4140-16)– 1964" أن الخلاص "یشمل الذین یعترفون بالخالق، ومن بینھم أولًا المسلمون"، وكذلك "الذین بدون ذنبٍ منھم، لم یتوصلوا بعد إلى معرفة الله الصريحة".

فللقضية بُعدان: الأول: ألا سلطة لأحد أن يحكم بمصيرِ أحد في الآخرة؛ حيث اختص الله بمحاسبته، والثاني: أن من يؤمن بطريق للنجاة يُؤمن بالضرورة أن ما يناقضه لا يقود إليه، ومن هنا كانت المسلَّمة التي يتداولها المسلمون أن من أسلم دخل الجنة، ومن كفر دخل النار، لكن هذا الإطلاقَ يخلط بين جانبين ينبغي التفريق بينهما:

الأول: الإسلام كمبدأ، وهو التسليم لله والإقبال عليه، وضده الكفر وهو الجحود ورفض الانقياد للحق، وهذا الجانب هو معيار الشمول في رحمة الله أو عدمه، وهو أمر بين الله وخلقه، لا يعلمه غير الله لأنه من أعمال القلوب.

قد يكون الإنسان مسلمًا لقبًا لكنه غير ناج لعلة خفية كحال المنافقين، وقد يكون الإنسان كافرًا لقبًا وهو ناج عند الله لكونه سلَّم أمره لله ولم يستحق لقب الإسلام.

الثاني: الإسلام كلقب: وهو اختصاص المسلمين بهذا اللقب يميزهم عن الأديان الأخرى، كموحدين ومؤمنين بجميع الرسل والكتب، ومن جحد كلَّ أو بعضَ ما يؤمنون به يلقب بالكافر، ولهذا الوصف بالإيمان والكفر معايير، وللإنسان حرية الانتساب لأيٍّ من الفريقين، ولاختياره آثار ترتبط بانتظامه في الدنيا كواحد من جماعة المسلمين، واعتقاده أن هذا طريق النجاة لا يخوله الحكم على المسلمين أو الكافرين لقبًا بالنجاة أو عدمها، فمبدأ التسليم لله أو الكفر به لا يستلزم استحقاقَ لقب الإسلام أو الكفر، فقد يكون الإنسان مسلمًا لقبًا لكنه غير ناج لعلة خفية كحال المنافقين، وقد يكون الإنسان كافرًا لقبًا وهو ناج عند الله لكونه سلَّم أمره لله ولم يستحق لقب الإسلام، كقصة التائب الذي أدركه الموت وهو في الطريق إلى التوبة.

هذا الخلط بين الإسلام والكفر كمبدأ ولقب أثارَ الالتباس في الصلة بين عدالة الله والرحمة الإلهية، وقد أثير هذا التساؤل تاريخيًّا، من خلال مسألة أصولية كلامية مشهورة هي قضية التصويب والتخطئة في الاجتهاد، وهل يشمل ذلك مسائلَ الاعتقاد والأعمال أم يختص بالأعمال؟ وهل الحق واحد أم متعدد فيهما؟

واستقر الرأي على أن الحق واحد في مسائل الاعتقاد، واختلف في مصير المجتهد المخطئ فيها، فرأى الجاحظ (ت:255ه)– فيما نقل عنه- أن الحق واحدٌ متعين، لكن المخطئ فيه معذور غير آثم كما في الفروع، فمخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندًا على خلاف اعتقاده فهو آثمٌ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضًا معذور. وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفًا من الله تعالى؛ إذ اشتدَّ عليهم طريق المعرفة.

ولم تقبل مقولة الجاحظ هذه عند الجمهور، وعلق عليه الغزالي بقوله: "وهذا الذي ذكره ليس بمحالٍ عقلًا لو ورد الشرع به، وهو جائز، ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية". ويورد نماذج من الأدلة السمعية على ذلك، وهي في واقع الحال خطابٌ إلهي للكافرين الذين يعلمهم الله ويعلمون من أنفسهم أنهم كافرون، لكن أجريت أحكامها على مفهوم الكفر كلقب.

إن مُحاجَجَة الجاحظ تقوم على أن النجاة تستند إلى ما يبذله الإنسان من جهد بقدر وسعه للبحث عن الحق، والسعي للوصول إليه والعمل به، فإذا عرفه وجحده كان كافرًا وآثمًا، وإن لم يصل إليه أو أوصلته قناعته إلى أن الحق غيرُ الإسلام أو في اللادين فإنه لا يكون آثمًا لأنه بذل ما يستطيعه للوصول إلى الحق ولم يصل.

وبتعبير آخر: العبرة بالسعي الصادق والدائم للوصول إلى الحق، وليس بالضرورة الوصول إليه، فالنجاة مسألةٌ لا ترتبط بالدين قدرَ ارتباطها بمنهج تبنِّي الدين والصدق فيه، فموقف القرآن من مصير غير المسلمين/الكافرين، يوم القيامة- مرتبط بعدم اتباعهم الحق الذي يعترفون به في ضمائرهم واتباعهم التقليد وعدم المساءلة العقلية في أمر الدين.

إن ما قرره الجاحظ تدعمه مقررات علم الكلام الإسلامي وإن كانت لا تقرُّ رأيه، وذلك بقولها: إن أول واجب هو النظر، وإن التقليد في التوحيد مرفوض. وحتى الغزالي (ت:505هـ) الذي أقرّ مقولةَ الجاحظ عقلًا وشرعًا، لولا ما رآه من أدلة تخالفها، يدعم مآلها فيما قرره في كتابه "فيصل التفرقة"؛ حيث أكد على لزوم التكذيب لوصف الكفر، والتكذيب يقتضي معرفة الصدق، وأن "من اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضًا مغفورٌ له، ثم له الرحمة الواسعة. فاستوسع رحمة الله تعالى، ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين الرسمية".

وما قرره أيضًا من أن من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته بطريقة مشوَّهة لا تحثه على الدخول في الإسلام، أو بأسلوب "لا يحرك داعية النظر في الطلب"– فهو في حكم من لم تبلغه الدعوة. وعليه فالرحمة الإلهية في الآخرة تقررها عدالة الله، في تقييم استجابة خلقه لما كلفهم به وما بذلوه من وسع للوصول إلى الحق، فقسمتها لا توزع بألقاب الأديان وحسب أتباعها، وإنما بجدية السعي وصدق التوجه إلى الله، وتقديره فردي يحكم به الله، وأن يعتقد المؤمن أن دينَه وطريقه هو سبيل النجاة لا يناقض هذا التصور، لكن ادعاءه لا يضمن له النجاةَ ما لم يقترن بالصدق في التوجه إلى الله، لذا ميز القرآن في المؤمنين بين المخلصين والمنافقين.