ما هي التنشئة الاجتماعية؟ نقد فكرة التشكيل الوراثي أو العصبي للأشخاص والتأكيد على البناء الاجتماعي للأفراد

ماهي التنشئة الاجتماعية

كيف يشكلنا المجتمع؟ لقد أصبحت دراسات التنشئة الاجتماعية أكثر تعقيدًا في السنوات الأخيرة: إنها مهتمة بفاعلين جدد (الأطفال) وقضايا معاصرة، مثل تعلم أدوار المرأة أو الرجل، الأبوة، المرض… إلخ.

على نافذة أحد مقاهي مدينة لندن، يمكن أن نقرأ العبارات التالية: "مؤانسة، أكل وشرب" (Socialize, eat, drink)، على جدران صالة الألعاب الرياضية الخاصة بالأطفال نجد "التنشئة الاجتماعية، الصحوة، الازدهار" (Socialisation, éveil, épanouissement)، حتى في المرسوم المنظم لمواصفات المؤسسات الطبية والاجتماعية الصادر سنة 1999، نصادف التأكيد على رهان "حسن التنشئة الاجتماعية للمقيمين".

لا تتوافق أيٌّ من هذه المتواردات مع الاستخدام السوسيولوجي للمصطلح الذي سيتم الإشارة إليه هنا. ما يتبادر إلى أذهان علماء الاجتماع المتخصصين في التنشئة الاجتماعية عند سماعهم لهذا المفهوم هو "البناء، التشكيل، صناعة وإنتاج الفرد". بهذا المعنى، تكون التنشئة الاجتماعية هي مجموع العمليات الاجتماعية التي يتحول بموجبها الفرد إلى ما هو عليه، أو بشكل أكثر تحديدًا، يتعلم كيف يصبح هو هو، وفقًا لظروف وجوده المادية، وتجربته، وممارساته الاعتيادية والمتكررة المكملة لوجوده، تقليده أو استدماجه لسلوكات الآخرين.

من المصير الاجتماعي إلى التنشئة الاجتماعية الثانوية

تعرف سوسيولوجيا التنشئة الاجتماعية تطورًا ملحوظًا، بفعل إثارة النقاش حول إشكالات وقضايا هذا التخصص، تجسّد مؤخرًا في تأسيس "شبكة التنشئات الاجتماعية" (Socialisations) للجمعية الفرنسية لعلم الاجتماع.

إذا كان مصطلح "التنشئة الاجتماعية" قديمًا في علم الاجتماع –نجد حضورًا محتشمًا له في أعمال دوركايم- فقط تطور استخدامه بشكل جذري في إطار علم الاجتماع الفرنسي خلال العشرين سنة الأخيرة، وتم ربطه باستخدامات محددة من قِبَل أحد أهم المتخصصين في الموضوع؛ يتعلق الأمر بـ"كلود ديبار" (ClaudeDubar) الذي كتب كتيبًا يحمل العنوان نفسه (La Socialisation) خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي.

من أجل التفكير في التنشئة الاجتماعية للأفراد، اعتمدت السوسيولوجيا، في بدايات القرن العشرين، مقاربة ميكانيكية في جوهرها مركزة على مدخل الهوية الاجتماعية. ركز علماء الاجتماع على الأدوار المهنية أو العائلية كنتاج مباشر للبنية الاجتماعية دون التركيز على كيفية انتقالها. مع استثناءات نادرة، كان ينظر إلى التنشئة الاجتماعية الأولية – السنوات الأولى من مطاوعة الأسرة – على أنها عنصر فاعل وأساس؛ إن لم يكن حصريًّا، في تشكيل الفرد داخل المجتمع.

باختصار، يُحَدَّد كل شيء ميكانيكيًّا قبل سن السادسة… عملت التيارات السوسيولوجية المختلفة، والمتعارضة أحيانًا، على تحسين وتطوير هذا النهج خلال النصف الثاني من القرن العشرين: ركزت الوظيفية (Lefonctionnalisme) مع "روبرت ميرتون" (Robert Merton) على تعلم الثقافات المهنية وسيرورات تشكيل "التنشئة الاستباقية" (socialisation anticipatrice)، في حين شددت السوسيولوجيا التفاعلية (La sociologie interactionniste) مع "إيفرت هيوز" (Everett Hugues) و"هوارد بيكر" (Howard Becker) على التنشئة الاجتماعية الثانوية أو المهنية أو المنحرفة (على سبيل المثال من خلال دراسة كيف "يصبح المرء مدخنًا للماريجوانا").

فوق كل ذلك، تم بناء البحث في موضوع التنشئة الاجتماعية بالتدريج؛ أي لم يتم الاستنتاج الميكانيكي لعلاقته بالبنية الاجتماعية، بل لوحظ أثناء إنجاز البحوث والدراسات (في كلية الطب بالنسبة للمدخنين على سبيل المثال).

لكن، كان علينا الانتظار إلى حين بروز نظرية "الهابيتوس" (l’habitus) مع عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" (Pierre Bourdieu) من أجل تطوير نموذج مقارباتي، لفهم كيف يتحكم الطابع الموضوعي للبنية الاجتماعية في ظهور ذاتية الأفراد، التي يتم بناؤها من خلال استيعاب العالَـم الاجتماعي الذي يتطورون في إطاره. منذ عشرين سنة، تطورت سوسيولوجيا التنشئة الاجتماعية من خلال تعقيد وتشبيك هذه الأسئلة الأولية في اتجاهات مختلفة. دعونا نرى بعضًا منها. يقترن التطور الأول الملاحظ؛ من حيث إنه يشكل إطارًا للتحولات الأخرى في هذا المجال، بظهور السوسيولوجيا الاستعداداتية أو الاستباقية (la sociologie dispositionnaliste) المدفوعة بأعمال عالم الاجتماع الفرنسي (Bernard Lahire) "برنارد لاهير"[1].

تنتج التنشئة الاجتماعية علاقةً من نوعٍ خاصٍّ مع المدرسة، الكتابة أو الزمن، وهو الأمر الذي يفسر لماذا يصبح بعض الأطفال تلاميذَ أكثر تناغمًا وانسجامًا مع متطلبات المدرسة مقارنة بغيرهم.

وفقًا لهذه المقاربة، يمكن فهم طرائق أفعالنا، رؤيتنا، شعورنا، ميولاتنا للتصرف أو الاعتقاد من خلال سيرورات التنشئة الاجتماعية المتعددة، التي تحدث في سياقات مختلفة؛ في الأسرة على سبيل المثال. يوضح كتاب "جدول الأسرة" (Tableaux de famille) الكيفية التي بموجبها ينتقل الرأسمال الثقافي عبر هيئات التنشئة الاجتماعية (الأب، الأم، الإخوة والأسرة الممتدة) وبمساعدة بعض الأشياء الأخرى (اليوميات، والتقويمات والكتابة الأسرية). بهذا المعنى، تنتج التنشئة الاجتماعية علاقةً من نوعٍ خاصٍّ مع المدرسة، الكتابة أو الزمن، وهو الأمر الذي يفسر لماذا يصبح بعض الأطفال تلاميذَ أكثر تناغمًا وانسجامًا مع متطلبات المدرسة مقارنة بغيرهم.

التنشئة الاجتماعية للنوع الاجتماعي

تم الاهتمام كذلك بدراسة التنشئة الاجتماعية للنوع الاجتماعي في محاولة لفهم كيف يصير كل واحد امرأة أو رجل، وأيضًا أي نوع من النساء أو الرجال.

كانت الببليوغرافيا المتاحة حول الموضوع محدودة جدًّا ضمن المتن العام للسوسيولوجيا الفرنسية خلال تسعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين اهتم علماء الاجتماع بالطريقة التي يتم بواسطتها تشكيل النوع الاجتماعي: قبل الولادة، يتم تزيين وتنظيم غرفة الطفل أو تحديد ملابس معينة، ثم تهندس فترة الطفولة بواسطة مجموعة متنوعة من "موضوعات الطفولة" (الألوان، أنواع الملابس من جديد، الصور النمطية للجنسين في الأدب أو الصحافة الشبابية، ولعب الأولاد ولعب البنات) أو عبر الأنشطة الترفيهية أو الرياضية.

اهتم الباحثون بتسليط الضوء على الطريقة التي تتم من خلالها التنشئة الاجتماعية غير النمطية. على سبيل المثال، نجدهم يحددون الدوافع والشروط التي تقود فتاة نحو ممارسة كرة القدم أو طفل صغير نحو الرقص، من خلال التأكيد على عدم استقلالية أنماط الأنوثة والذكورة المدمجة بشكل قبلي عن الأصول الطبقية للأطفال (على سبيل المثال، فيما يتعلق بالجسم والمظهر، أوقات الفراغ والأذواق الثقافية، أو في التأثير النسبي لمجموعة الأقران، الآباء أو المدرسة في تشكيل الأفراد).

بالموازاة مع هذه الاستشكالات، تطورت الدراسات المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية الطفولية بشكل أكثر استقلالية. منذ عشر سنوات، تضاعفت البحوث لفهم تأثير قوة الحتميات الاجتماعية بالنسبة للأطفال أنفسهم، وليس فقط تأثير الكبار أو مؤسسات الإشراف على الأطفال. تعالج أعمال "مارتين كورت" (Martine Court)، "ويلفريد لينير" (Wilfried Lignier) و"جولي باغيس" (Julie Pagis) وغيرهم من الباحثين، هذه الأسئلة والقضايا المحورية[2] من خلال إظهار أن ما نسميه بالحرية المجتمعية أو الثقافة الطفولية يشكل ملتقى العديد من هيئات التنشئة الاجتماعية، في مقدمتها الأسرة والمدرسة، مهنيي الطفولة ونظم التربية، جماعة الأقران والمصانع الثقافية.

يدمج الأطفال بين نظرتهم للعالم ونظرتهم لذواتهم ضمن هذا العالم، لكنهم يظلون فاعلين أساسيين في هذه السيرورة من خلال نقل الشبكات المدرسية أو الأسرية إلى المواقف المختلفة التي يواجهونها. على سبيل المثال، يوضح كل من ويلفريد لينير وجولي باغيس أنه عندما يُطلب من الأطفال تصنيف أعمال مختلفة، فإنهم يستخدمون الأحكام التي يصدرها آباؤهم في سياقات أخرى؛ تشكل الأوامر ("مثلًا: لا تلمس هذا: إنه نجس"= قابل للتحوير…) مبادئ للحكم على مختلف الأعمال والأفعال والحد من الأنشطة "النجسة". إن إعادة التحوير هاته ليست تلقائية بحد ذاتها وتعتمد على العمر والجنس والخلفية الاجتماعية للأطفال.

التفكير بشكل مختلف

يسمح تسليط الضوء السوسيولوجي العميق على سيرورة التنشئة الاجتماعية بدحض الأفكار والتصورات التي تجعل من هذه الأخيرة معطًى "طبيعيًّا"، نفسيًّا، وراثيًّا أو حتى عصبيًّا، بالنسبة للأفراد.

لم يقتصر تطور سوسيولوجيا التنشئة الاجتماعية على دراسة السنوات الأولى من وجود الأفراد (الطفولة)، بل امتدت نحو المجالين المهني والسياسي. إن ما يسمى بـ"التنشئات الاجتماعية الثانوية" – لأنها تمارس تأثيرها بعد السنوات الأولى من تكوين الفرد – لا تنحصر فقط في عالم العمل، بل تواصل امتدادها حينما يصبح المرء أبًا أو أمًّا أو حينما يعيش في حي "هامشي" أو بالضواحي على سبيل المثال، كما يمكن لأمراض معينة – مثل فقدان الشهية – أن ترتبط بسيرورات ومحددات اجتماعية.بشكل عام، يكمن طموح وخصوصية التحليلات الحالية في إبراز انتشار سيرورات التنشئة الاجتماعية الأولية والثانوية، التعبير عن الطبقة الاجتماعية والنوع، والاهتمام بالسيرورات الملموسة للتنشئة الاجتماعية؛ أي أن الاهتمام لم يعد منصبًّا على مخرجات ومنتجات التنشئة الاجتماعية فقط، بل شروط تكونها وعملها. يسمح تسليط الضوء السوسيولوجي العميق على سيرورة التنشئة الاجتماعية بدحض الأفكار والتصورات التي تجعل من هذه الأخيرة معطًى "طبيعيًّا"، نفسيًّا، وراثيًّا أو حتى عصبيًّا، بالنسبة للأفراد، وتحذرنا من سذاجة الاحتجاج الميتافيزيائي بمقولة الإرادة الحرة.


الهوامش

 نشر هذا المقال في:

مجلة "Sciences_Humaines"، العدد 301، مارس 2018.

[1] – Bernard Lahire, Tableaux de famille. Heurs et malheurs scolaires en milieux populaires, 1995, rééd. Seuil, coll. « Points », 2012.

[2] – Martine Court, Sociologie des enfants, La Découverte, 2017 ; Wilfried Lignier et Julie Pagis, L’Enfance de l’ordre. Comment les enfants perçoivent le monde social, Seuil, 2017.