التأويل القياموي للعبث السياسي في الجغرافيا الإسلامية

الصورة
التأويل القياموي للعبث السياسي في الجغرافيا الإسلامية

من القواسم المشتركة بين الأديان اهتمامها بالحديث عن نهاية العالم وما يسبقه من أحداث ومتغيرات، مع اختلافها في تفاصيل الرؤية الأخروية والمصيرية ما بعد الموت، فمما تتفق عليه كثير من الأديان الحديث عن مخلِّصٍ في آخر الزمان، ومن مجمل ما تشترك به الأديان الكتابية مع الإسلام (على اختلاف بين الفرق، وفي ثبوت الأخبار، وفي تأويل الثابت منها) تركيزها على الأرض المقدسة، وعودة المسيح، والصراع بين الخير الذي يدعيه كل دين وبين الشر الذي يمثله الدجال الذي يتبعه أصحاب الأديان الأخرى، ولكل ديانة تفاصيلها. فتشترك الرؤى المسيحية -اليهودية في مقولة عودة المسيح بعد السيطرة على بيت المقدس، والتي ترافقها أحداث كبرى، تطلق عليها الأدبيات اليهودية و المسيحية اسمَ «معركة هرمجدون» يقاتل فيها المؤمنون الأخيار أعداءهم الكافرين الأشرار في آخر الزمان، وهذه الرؤية تجد تأويلاتها في احتلال فلسطين وقيام إسرائيل وتوسعها وصراعها المستمر.

ويعتقد بعض الإنجيليين أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيساعد في قدوم القيامة، حيث يلتقي جميع المسيحيين بالرب، وحسب الأب ديفد إسواغارتي -الزعيم الإنجيلي- فإن نقل السفارة لا يشكل فقط حافزًا جيوسياسيًّا لإسرائيل، بل "إنهم يرون أن نقل السفارة مهم للغاية لظهور المسيح". وهناك أيضًا تأويلات رمزية اتجهت إلى عدّ فكرة عودة المسيح فكرةً رمزية يمثلها قيام دولة إسرائيل، والتي تقف حاجزًا أمام توسع وامتداد الأشرار، وكان لهذه الفكرة الأخروية حضورها الشعبي في تبرير قيام دولة إسرائيل، أو تعزيز دورها الوظيفي- بتعبير عبد الوهاب المسيري. وهذه الرؤى والتأويلات ليست بغريبةٍ عن التفكير اليهودي المسيحي المسكون بالرؤية الدينية الأخروية (الإسكاتلوجية)، والتي تجاوزت الجانب الديني لتصبح جزءًا مكونًا للرؤية العلمانية للعالم، حتى غدت المصطلحات الأخروية المصطلحات السياسية في العصر الحديث، بل غدت جزءًا من اللغة الصراعية في العصر الراهن، حتى أصبح أبلغ تعبير للتحذير من حروب كبرى يستخدم له تعبير "القيامة"، ووُصِف أحدث سلاح نووي روسي في الصحافة الأجنبية باسم سلاح "يوم القيامة"، لما يحمله من قوة تدميرية تشبه المتخيل الحاضر عن القيامة.

إسلاميًّا تعد أحاديث الفتن والملاحم وعلامات الساعة نموذجًا لما كثر فيه الوضع والكذب؛ لاسيما ما يخص منها الجدل مع الفرق حول آخر الزمان، فالرؤية القرآنية فيما يخص الآخرة واضحةٌ في اتجاهين:

الاتجاه الأول: يرتبط بالسلوك الإنساني تنبيهًا على أن يومًا سيأتي يحاسب به الناس، وأن هذا اليوم علمه عند الله، ما يعني أن واجب الإنسان أن يفكر بما يفيده في ذلك اليوم من عمل، لا أن يفكر في اليوم نفسه، والذي لا ينفعه التفكير في موعده.

والاتجاه الثاني الواضح في القرآن حول الآخرة: هو بيان أهوال ذلك اليوم والتحولات التي تسبقه، في دلالة على قدرة الخالق وانقياد الخلق له. على أن معانيَ أخرى لمفردة الآخرة يمكن أن تفيدها بعض السياقات القرآنية تتصل بآخرة الأعمال في الدنيا.

إن الملاحظ على كلام الشُّرَّاح أن الدافع وراء ربط زمانهم بما ذكرته الأخبار يأتي في سياق نقدي للواقع، مع نزعةٍ تَقَوِيَّةٍ تحذر من السلوك السيء، ولا تعكس ولعًا بالتأويل الأخروي أو شغفًا بتوقع القيامة.

أما في السنة النبوية فالأخبار كثيرة عن الساعة وعلاماتها التي قسمت إلى صغرى وكبرى، وكثير منها مكذوبٌ وغيرُ صحيح، لكن الملفت للنظر أن من يتتبع شروح هذه الأحاديث، يجد من ملاحظات الشراح عليها تأويلها على زمانهم، فتسارع الزمان، وكثرة الكذابين، وإسناد الأمور إلى غير أهلها، وكثرة الهرج، وكثرة النساء، والتطاول في البنيان، وشيوع الجهل، ومنع الإرث… وغيرها من الظواهر، توالَى الشراح- ومنذ قرون- على التعليق عليها بقولهم: «هذا الحديث نص في زماننا هذا» أو «كما هو في زماننا»، وقد يعلق المتأخر على المتقدم بقوله: «فكيف لو أدرك زماننا هذا». بل إن أحداثًا نادرة مما ذكر من علامات الساعة تم وصف وقوعها كـ«نزول الروم بالأعماق أو بدابق»، أو «النار التي تحصد الناس من المشرق». إن الملاحظ على كلام الشُّرَّاح أن الدافع وراء ربط زمانهم بما ذكرته الأخبار يأتي في سياق نقدي للواقع، مع نزعةٍ تَقَوِيَّةٍ تحذر من السلوك السيء، ولا تعكس ولعًا بالتأويل الأخروي أو شغفًا بتوقع القيامة، فهذه النزعة مرفوضة إسلاميًّا بوصفها تُخالف التوجه القرآني في الحث على العمل وعدم السؤال عن الساعة.

الفكرة الحالمة بظهور المهدي قد تبدو مؤنسةً في زمن اليأس، لكن المشكلة أن يؤمن البعض أن هذا اليأس والإحباط يمكن أن يصطنع أو يعزز لتعجيل ظهوره.

في الفكر الشيعي كان لفكرة الغيبة والمهدوية أثرٌ في التفكير الأخروي لدى الفرق الإسلامية عمومًا والفكر الشيعي خصوصًا، فجوهر الفكرة المهدوية هي انتظارُ ظهور الإمام الغائب، والانتظار نفسه هوس يسيطر على التفكير، وكردود على الفكرة ظهرت فكرة المهدي السني، بتأويلات أخرى تتشابه مع الفكرة الشيعية، وكان للفرقِ الأخرى مهديُّهَا، وأصبحت المهدوية فكرةً متخيلة يدَّعيها كل من يبحث عن دورٍ خارقٍ في محيطه دينيًّا أو سياسيًّا،بل اتسع تأثيرُها لتتحول إلى عَرَض من أعراض الأمراض النفسية التي يتوهم فيها المريض أنه المهدي المنتظر وأنه سيصلح العالم. الفكرة الحالمة بظهور المهدي قد تبدو مؤنسةً في زمن اليأس، لكن المشكلة أن يؤمن البعض أن هذا اليأس والإحباط يمكن أن يصطنع أو يعزز لتعجيل ظهوره، كما هي رؤية "الحجتية" من الشيعة الذين يستعجلون ظهوره، أو غيرهم ممن يبررون خوض الصراع الطائفي في بلاد الشام ومحيطها، بوصفه مرحلةً حتمية من المراحل التي تمهد لظهوره وفق الروايات الشيعية.

على الصعيد الجغرافي ومنذ أن أجهضت سلمية الثورة السورية وتم صبغها بالطائفية، نبشت الكتب والمرويات وانتثرت المصطلحات القياموية في كل مكان، فأول ما بدأ الترويج له رسميًّا هو شعار "الفتنة" في وقت كان الرأي العام موحدًا ضدها وواعيًا بخطرها.

ولما تم التمكين للفتنة من أن تفعل فعلها في شق صفوف الناس واستدراج داعمها من الداخل والخارج، بدأ أبطال المسرح القياموي يلعبون أدوارهم، واستحضرت من الروايات شعارات: "الرايات الصفراء" و"الرايات السوداء"، و"الملحمة الكبرى"، و"حركة السفياني"، وتم إحياء أسماء مناطق جغرافية وردت في روايات متعددة، من ذلك: "بلاد الشام" و"فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة"، و"المنارة البيضاء شرقي دمشق"، و"دابق"، وكل الأطراف التي تستحضر هذه المرويات تتحدث عن صراع ملحمي بين الخير والشر، ينتهي بسيطرة الخير على الشر، وبيت المقدس واليهود عنصران ثابتان في ذلك الصراع لدى الجميع، وفي الطريق إلى تلك الملحمة الكبرى سيقضي كل فريق على خصومه ومن يعاونهم، وقد يئول ذلك إلى تدمير المدن وتغيير معالمها، في حركة عبثية تستحضر الدين والتاريخ ليحارب بهما الجميعُ الجميعَ، وباسم الإله تسحق الأرواح وتداس الحقوق من أجل الفوز بمعركة مستقبلية مفترضة. التأويل القياموي للأحداث هو نزعة قَدرية تبريرية لمن كان ساذجًا في تلقي تلك الأخبار.

تأسست دولة إسرائيل منذ نشأتها على رؤية دينية تتصل بأرض موعودة وهي رؤية قياموية، ومثل قيامها بحد ذاته تفسيرًا لاهوتيًّا لبعض الطوائف المسيحية، وفي المقابل تسعى إيران ومنذ انتصار ثورتها إلى التوسع طائفيًّا، ومع حشدها العسكري على الأرض لم يعد قادتها الدينيون وبعض السياسيين يخفون البعد المهدوي للصراع.

من يتابع أحاديث هؤلاء النباشين في كتب الفتن والملاحم سيجد سرديات متعددة، كل منها يلائم اتجاهًا سياسيًّا في الصراع، يساق من كلِّ طرف لتنزيه تياره وإدانة خصمه.

وبالمقابل السني كان الجهاديون وعلى رأسهم تنظيم داعش يوظفون تلك المرويات لتبرير نمط الصراع الذي اختاروه، والذي يختصهم بالحق واحتكار القيام عليه، أما عامة الناس فسحقهم اليأس، وإذ ينتظر الفرد منهم الفرج يسلي نفسه بما ينبشه الدعاة القصاصون من بطون الكتب؛ مما قد يبعث في نفسه الرضَا بالقَدَر الذي يحيط به. ومن يتابع أحاديث هؤلاء النباشين في كتب الفتن والملاحم سيجد سرديات متعددة، كل منها يلائم اتجاهًا سياسيًّا في الصراع، يساق من كلِّ طرف لتنزيه تياره وإدانة خصمه. إن القاسم المشترك بين الجميع هو الهروب من الواجب الأخلاقي إلى تبرير الإفلاس فيه، فالتأويل القياموي للأحداث هو نزعة قَدرية تبريرية لمن كان ساذجًا في تلقي تلك الأخبار، أو نزعة ثأرية لمن يوظف تلك الأخبار لأهداف طائفية أو شخصية، أو تبرير وقح لنزعة عدوانية دوافعها سياسية أو اقتصادية أو قبلية تتخذ منها قناعًا يحوِّل الأنظار عن هذه الأنانية.

وستبقى بلاد المسلمين بدعوى هذه القياموية قصعةً يُتداعى الأكَلَةُ عليها، ما لم يدركوا أنه لن يحميها إلا أهلُها وأصحاب الحق فيها بوحدتهم وإقامة العدل فيما بينهم.