الفقه والسلطان: إشكالية الشريعة والقانون قبل نشوء الدولة الوطنية

الفقه والإمبراطورية والسلطان: حجية الأوامر السلطانية العثمانية ومذهب متأخري الحنفية سامي أيوب

من الإشكالات الرئيسية التي تواجه الباحثين في دراسة الدولة العثمانية هو أن كثيراً من الدراسات التاريخية في العالم العربي اليوم تُبرز السلطنة العثمانية من خلال سَرديّة قومية تتبنى حتميّة تاريخية قائمة بالضرورة على التضاد ونفي أي دور للسلطنة العثمانية في إدارة وتطوير المجتمع والسياسية والفقه. ويتم تأطير التاريخ الممتد للدولة العثمانية في تلك السرديات من خلال توصيفها بصفة "المحتل" التركي المختلق عرقيا و لغويا عن " العرب". أما الوجود الأوربي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر هو فقط "حملات" عسكرية انتهت باحتلال مقيت، لكن كان له فوائد جَمّة على التمدن والتقدم في تلك البلدان. و الظاهر أن الموقف المبدئي في تلك السرديات هو تأسيس علاقة عكسية ما بين حُكم العثمانيين و الدخول في الحداثة  الأوربية و التي لا يمكن الفكاك منها إلا بنفي شرعية السلطنة العثمانية و رفض إدارتها التاريخية للولايات العربية على المستوي الثقافي والاجتماعي والسياسي. فتقديم العثمانيين تاريخيا في تلك السرديات كقوة احتلال مثلا هي فكرة استعمارية من الأساس قائمة على نفي أي شرعية سياسية لنماذج الحكم ـــ بكل ما لها و عليهاـــ التي أنتجها التاريخ السياسي الإسلامي. فهذه السرديات يجب إذن فهمها في إطار الصراعات الايدولوجية التي تُفضّل إعادة صياغة الخرافات ولوم الخصوم السياسيين على حساب المعرفة التاريخية المُفْضية إلى التعليم من دروس الماضي وتقديم فهم منضبط للصراعات الأيديولوجية – خاصة القوميّة منها – والتي استلمت السلطة بعد انهيار السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولي والغاء الخلافة العثمانية فيما بعد.

وأود في السطور التالية أن أقدم للقارئ باللغة العربية مُلّخص لأهم المقاربات التي يتبناها كتابي الذي صدر حديثا (الطبعة الاولي ، يناير ٢٠٢٠) من مطبعة جامعة أكسفورد بعنوان (الفقه والإمبراطورية والسلطان: حجية الأوامر السلطانية العثمانية ومذهب متأخري الحنفية). و يركز الكتاب على العلاقة بين الفقه والسلطان بعد سيطرة العثمانيين على الولايات العربية في عام ١٥١٧ وحتى عام ١٨٨٠. و أناقش بشكل أساسي التحولات الفقهية الداخلية في مذهب السادة الحنفية المتأخرين ومسألة حُجيّة القوانين الشاهانية والفرمانات والأوامر السلطانية العثمانية وموقف الحنفية المتأخرين منها في مسائل التشريع الفقهي. ويقع الكتاب في أربعة فصول، الفصل الأول ورد تحت عنوان: " زين الدين ابن نجيم: هل كان أبو الحنفية المتأخرين ؟ "  أما الفصل الثاني فمعنون ب " قال السلطان: حُجيّة الأوامر السلطانية العثمانية في مذهب الحنفية المتأخرين" وفي الفصل الثالث المعنون ب " لو كان أبوحنيفة ههنا: حٌجيّة مذهب الحنفية المتأخرين واستمراريته وتصحيحه " وأما الفصل الرابع والأخير فعنوانه " مَجلّة الاحكام العَدليّة: العثمانيون ومنطق التقنين. " 

نبذة عن فصول الكتاب 

في الفصل الأول من الكتاب "زين الدين ابن نجيم: هل كان أبو الحنفية المتأخرين ؟" تشير الدراسة إلى أنه منذ ظهور ابن نجيم الحنفي في القرن السادس عشر الميلادي وقد اتخذت كتاباته ورسائله وفتاواه موقعا مركزيا من أي شروحات أو تعليقات لاحقه له في المذهب والتي امتدت إلى ابن ابن عابدين (علاء الدين). والذي يتراءى أن ابن نجيم كان من الجيل الأول من الحنفية العثمانيين والذي عاش في كَنَف السلطنة في مصر بعد أن ضَمّها السلطان سليم الأول (ت. ١٥٢٠) مع باقي الولايات العربية في عام ١٥١٧م. وأما الفصل الثاني " قال السلطان: حجية الأوامر السلطانية العثمانية في مذهب الحنفية المتأخرين " يناقش الكتاب مسألة قبول الفرمانات والأوامر السلطانية بشكل مطرد في المتون والشروح الفقهية من القرن السابع عشر حتى نهايات القرن التاسع عشر. ويركز هذا الفصل على كتابات العلامة حسن بن عَمّار الشرنبلالي (ت. ١٦٥٩) وعبد الرحمن بن محمد شيخي زاده (ت. ١٦٦٧) وعلاء الدين الحصكفي (ت. ١٦٧٧) وحامد بن علي العمادي (ت. ١٧٥٧). وتبيّن الدراسة أن كل هؤلاء الفقهاء قد أدرجوا في كتاباتهم أوامرا ونواهي سلطانية التزمو بها في آرائهم الفقهية. وفي الفصل الثالث "لو كان أبوحنيفه ههنا: حٌجيّة مذهب الحنفية المتأخرين واستمراريته وتصحيحه" يركز بشكل أساسي علي العلامة محمد أمين عابدين وكتاباته الفقهية والتي تعتبر أهم ما دون في المذهب في القرن التاسع عشر. وفي هذا الفصل يستثير الكتاب مسائل تم مناقشتها في الفصول السابقة منها مثلا مسألة المتأخرين في المذهب وحُجيّة الأوامر السلطانية ومسألة اعتبار العُرف الحادث وأخير أهمية المذهب و التقليد الفقهي كمنهجية أساسية في أي اجتهاد فقهي متأخر. وأما الفصل الرابع والأخير "مجلة الاحكام: العثمانيون ومنطق التقنين" وفيه أربط بين هذا الدور التشريعي للسلطنة العثمانية في الفقه الحنفي منذ القرن السادس عشر انتهاءاً بالإشراف على تقنين مشروع مجلة الأحكام العدلية والذي اكتمل في عام ١٨٧٦. ومن خلال استبيان لمواد المجلة في معظم أبوابها أبُيّن أن معظم الآراء التي تبنتها المجلة مأخوذة من المتون والشروح الفتاوى المتأخرة للمذهب والتصحيحات والترجيحات التي ضَمّنها المتأخرون في كتاباتهم الفقهية. وقد شارك في هذا المشروع ابن ابن عابدين (لمدة ثلاث سنوات من عمر المشروع والذي امتد لثماني سنوات كاملة) وبعض فقهاء الروم و بعض شيوخ الإسلام و المتشرعيين داخل السلطنة. وبشكل عام فإن مجلة الأحكام العدلية قد استهدفت بشكل اساسي القضاء الشرعي من أجل تركيز دور السلطنة في تسيير العدالة. فالسلطنة العثمانية رأت ان تقنين فقه الحنفية سوف يساعد في تبسيط إجراءات التقاضي أمام القضاة العمومين وخاصة في المحاكم النظامية الناشئة. فالمجلة لم تكن إحلالا لمنطق المذهب او الفقه ولا الفقها بل كانت ثمرة لجهود كان الغاية منها فرض نظام عثماني قضائي شامل من أجل مجابهة القوانين الاوربية التي اخترقت ولايات السلطنة خاصة في قضايا التجارة. هذا وقد استمرت الكتابات والشروحات والفتاوى لمذهب الحنفية بعد المجلة حتى بدايات القرن العشرين.


المنهجيّة و الحجج الأساسية

يبدأ الكتاب بالتأكيد على ضرورة تحرير مفهوم "متأخري الحنفية" من خلال تتبع النقاشات الفقهية الداخلية للحنفية حول طبقات المجتهدين والمُرجّحين والمُقلّدين في المذهب. لذلك يعطي الكتاب مساحة مهمة لتقديم التاريخ المتأخر للمذهب من وجهة نظر فقهاء الحنفية أنفسهم. وبشكل عام فإني أشير إلی أن مفهوم "متأخري الحنفية" ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي وتطور بشكل كبير في العصر المملوكي وبداية الدولة العثمانية. وهذا المفهوم ليس مدلوله مقتصرا على وصف تأريخ للمذهب المتأخر فحسب بل أيضا يُجسّد تراكم معرفي داخل المذهب بعد استقراره متمثلا في منهجية ومتون وشروح وفتاوى للمتأخرين. فالمذهب المتأخر للحنفية ليس إعادة تدوير لمذهب المتقدمين بل هو تأسيس متأخر للمذهب وفرز لمواقفه والتزاماته في هذا الظرف الزمني تحديدا. ويشير الكتاب إلى العلاقة الجدلية بين الالتزام المذهبي ومسألة التجديد داخل إطار التقليد الفقهي الإسلامي. وأوضح كيف أن مسألة الالتزام المذهبي عند المتأخرين في المذهب كانت لا تعني بالضرورة الوقوف الجامد علي أراء المتقدمين بعيدا عن مناسبة هذه الآراء في زمن الدولة العثمانية. فمذهب متأخري الحنفية لم يَتْبع في مسائل فقهية أساسية مذهب المتقدمين بمن فيهم أبو حنيفة. وبالتالي فاستمرار المذهب الحنفي في تلك الفترة المتأخرة اعتمد بشكل أساسي على استبطان منهجية المؤسس الأول للمذهب ومحاولة المتأخرين استلهام أصولها في بناء مواقفهم الجديدة ومن ثم التماهي عن فقه المتقدمين.

 وبنظرة سريعة على كتب متأخري الحنفية يستطيع القارئ أن يرى ارهاصات هذا التشكل المتأخر للمذهب من خلال العبارات والإشارات المستخدمة في هذا السياق للدلالة علي أراء فقهاء الحنفية المتأخرين. فمثلا تجد عبارات كثيرة مبثوثة في كتب المتأخرين مثل: أجمع المتأخرون، كثير من مشايخنا المتأخرين، اختيار المتأخرين، عامة المتأخرين، شواذ بعض المتأخرين، جماعة من المتأخرين، أكثر المتأخرين، في زمننا، في زمنهم وهكذا. وقد تزامن هذا مع ظهور تراجم وفتاوى تختص بالنظر في الإنتاج الفقهي لمتأخري الحنفية. فنجد مثلا أن الشيخ جمال الدين الحانوتي (ت. ١٦٠١) قد ألّف كتابا أسماه "إجابة السائلين بفتوي المتاخرين" والذي جمعه ورتّبه الشيخ عبد الله بن حسن الكازروني (ت. بعد ١٦٩٠) ونجد أيضأ أن شمس الدين محمد علي بن أحمد بن طولون الصالحي الدمشقي (ت. ١٥٤٦) قد ألّف زيلاً على طبقات الحنفية للعلامة محي الدين عبد القادر القرشي (ت. ١٣٧٣) أسماه "الغُرف العَليّة في تراجم متأخري الحنفية". وتشير تلك التراجم إلى ظهور تيار فقهي متأخر داخل مذهب الحنفية له ارتباطات والتزامات ومواقف مختلفة عن المتقدمين.فنجد مثلا أن زين الدين ابن نجيم المصري الحنفي (ت. ١٥٦٣) يقول في رسائله عن المتقدمين إنه "لو اطلع المتقدمون على ما رآه المتأخرون لأجمعوا على قول المتأخرين. و نجد محمد أمين عابدين (ت. ١٨٣٦) يقول في رسائله "اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعُرف وعِلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه". فالمسألة إذن بالنسبة للحنفية المتأخرين ليست مجرد الخروج على المذهب المتقدم او التعصب له او ضده، بل هو متعلق أساسا بكيفية تنزيل المذهب تاريخيا وتنمية آرائه من خلال التشابك مع القضايا والمسائل الرئيسية التي وُضعت أمام الفقهاء في تلك الفترة.

ويُبسط الكتاب الإشكالات الفقهية والقضائية الرئيسية التي واجهت فقهاء الحنفية المتأخرين وفي القلب منها حُجيّة القوانين والفرمانات والأوامر السلطانية العثمانية ودورها في التشكل المتأخر للمذهب. وأجادل في الكتاب أن تحولات فقهية جوهرية داخل المذهب المتأخر للحنفية قد أسفرت عن قبول دور تشريعي للسلطنة العثمانية داخل منظومة الفقه الإسلامي. وأنبه أن هذا الطرح هنا يتجاوز مسألة السياسة الشرعية التي قبلها الفقه الإسلامي منذ الدولة العباسية ولذا تشير الدراسة إلى أن تطور مفهومي السلطة والقانون عند العثمانيين أدي بدوره إلى تطور مقابل داخل الفقه تم من خلاله استيعاب أدوار تشريعية للسلطان تخرج من الإطار التاريخي للسياسة الشرعية. وأدلل على تبلور هذا الموقف من خلال استقراء متون وشروح وفتاوى ورسائل كبار ومشايخ متأخري الحنفية. 

وبشكل عام يجادل الكتاب أن متأخري الحنفية منذ زين الدين ابن نجيم إلي ابن ابن عابدين قد ضَمّنوا كتاباتهم الفقهية فرمانات وأوامر ونواهي سلطانيه عثمانية قد التزم بها الفقهاء في أراءهم حتى وإن كانت مخالفه لرأي متقدم أو متأخر في المذهب. وبشكل موازٍ بدأ أيضا تم الاعتماد على معروضات أبو السعود أفندي في متون وشروح وفتاوى متأخري الحنفية في الديار الرومية والولايات العربية على السواء. وهذه المعروضات لا تجدها إلا منثورة في كتابات المتأخرين التي كتبت باللغة العربية وهي مترجمة عن التركية وقد اشتكى ابن عابدين بأنها ترجمات ركيكة. و المعروضات هي الفتاوى التي عرضها شيخ الإسلام أبو السعود أفندي علي السلطان سليمان خان فأمر بالعمل بها. فحُجيّه هذه المعروضات تتأتي من جهة الأمر السلطاني المُلزم للفقهاء والقضاة. وأخيرا يظهر الدور الفقهي للسلطان في قدرته على حسم بعض الخلافات الفقهية بين فقهاء المذهب ليختار رأيا فيه مصلحة العامة ويُلزم به القضاة في حكمهم. فمثلا استقر رأى متأخري الحنفية أن اختيار السلطان بالنظر في مسألة المفقود وتحديد مدة زمنية من بعدها يعتبر المفقود ميتا أفضل من تبني الآراء الفقهية المتعددة في المذهب والتي أدي معظمها إلى إشكالات اجتماعية لطول المدة الزمنية التي تبناها الحنفية في مذهبهم. وهناك مسائل كثيرة مثل التقادم في الدعوي وبيع عبيد السباهية وتزويج الصغيرات ووقف النقود والمريض وعقوبة سب الرسول وغيرها والتي تبنى فيها الحنفية الأمر السلطاني الذي ورد، بغض النظر عن المواقف التي تبناها المتقدمون في المذهب. 

وغاية الأمر هنا أن هذا الموقف من السلطنة العثمانية عند متأخري الحنفية هو موقف مبدئي في كتاباتهم بدأ من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. فالمسألة تتعدي كونها رد فعل مؤقت نتيجة ضغوط سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ولهذا تجد صدي هذا الموقف من السلطنة العثمانية في كتابات الحنفية في الولايات العربية كما تجدها في كتابات فقهاء الروم من الحنفية. لذا تبدو المسألة كموقف كلَّي اتفق فيه متأخروا الحنفية على قبول دور تشريعي للسلطان العثماني داخل منظومة الفقه. ويشدد الكتاب أن هذه الأوامر السلطانية التي تبناها الفقه الحنفي المتأخر لم تكن بالضرورة تُرى على أنها "اختراق للفقه" غير مرغوب به من جانب السلطة السياسية. بل إن متأخري الحنفية أنفسهم نَظّروا لهذه السلطة وقبلوا أدوارا لها في الفقه بسبب استيعابهم لتطور مفهوم السلطة والحكم عند العثمانيين. 

وبالتالي أدعو في هذا الكتاب إلى إعادة النظر في السرديّة المتعلقة بالعداء الدائم والمنافسة المستحكمة بين السلطة السياسية والفقهاء تاريخيا. فتلك السردية تعوق الباحثين والقراء جميعا عن فهم أعمق لمسألة الحكم بشكل عام في السلطنة العثمانية وتعقيدات المجتمع والسياسة والقانون والعلاقة الجدلية بينهم. بل إن هذه السرديّة تحجب تاريخا قد قام بالفعل على علاقة تفاوضية بين تلك الاطراف. فالمسألة إذن ليست محصورة في قبول دور تشريعي للسلطان داخل الفقه بدون احتياطات شرعية. بل نجد أيضا أن متأخري الحنفية لم يألوا جهدا في التصدي لسياسات عثمانية في متونهم وشروحهم وفتاواهم قد اتفق معظمهم على أنها تخالف العدل وتنشر الظلم والفساد. ويشير الكتاب إلى بعض هذه القضايا والتي تدور حول مسائل مثل بيع الوقف وتوسيع سلطة القضاء والتضييق على المزارعين وتحديد سفرهم وقبول اكراه السلطان كإكراه ملجئ ونقد المظالم التي قام بها عمال السلطان ونقد السعاية إلي السلطان والسعاية بالناس بتضمين وتعزير الساعي. 

وقد اضافت الدراسات التاريخية المتعلقة بالمحاكم الشرعية داخل السلطنة العثمانية ودورها في استتباب الحكم السياسي والاستقرار الاجتماعي الكثير من التفاصيل المهمة عن الحياة الاجتماعية داخل السلطنة وحقيقة تداخل هذه المؤسسات. لكن هذه الدراسات لم تعنى بشكل كاف بمسألة تطور المذهب المتأخر للحنفية وركزت بشكل كبير على التاريخ الاجتماعي والمؤسسي و السياسي. و يبدو أن تركيز بعض هذه الجهود الأكاديمية كان منصبا على بناء سردية تاريخيه عامة عن شكل الحكم او المجتمع في تلك الفترة. والذي يظهر أن كثيرا من هذه الدراسات متأثر بشكل أو بأخر بما يٌسمّى الهوة بين "التطبيق" و"التنظير" الفقهي وخاصة في الدراسات الإستسشراقية. فالمحاكم الشرعية تُقَدم في تلك الأبحاث على أنها التطبيق العملي للشريعة وأن كتب الفقه من الشروح والمتون والفتاوى هي فقط للتنظير. وهذه النظرة للتقليد الفقهي مَرّدها بشكل كبير اليوم إلى عدم القدرة على استيعاب الصناعة الفقهية داخل المذهب وعملية تنزيله تاريخي وأساليبه وكيف كانت عملية ادماجه في مؤسسات السلطنة العثمانية أو في المجتمع بشكل عام. فأصبحت تلك الدراسات التاريخية الفقهية تحاول فك طلاسم هذه العلائق ما بين المذهب والسلطة والمجتمع. والمُتأمل يرى أن الكتابات التاريخية الفقهية __في كلا من السياق العربي و الغربي __قد تأثرت بشكل كبير بتغييب التقليد المذهبي في الصناعة الفقهية والتشريع المعاصر. و أرى أنه من المسببات الرئيسيه في هذا الاضطراب في تصور تنزيل المذهب على الواقع.

 وعلى أية حال فإن التأريخ للمذهب المتأخر للحنفية وخاصة بعد تبني الخلافة العثمانية له كمذهب رسمي واجه تحديات وجودية من داخل منظومة الفكر الإسلامي ذاته سواء من حركات الإحياء التاريخية أو من الحركات الاصلاحية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فنجد أن مذهب الحنفية في مصر مثلا والذي أصبح المذهب المعتمد في القضاء الشرعي بشكل عام في بدايات القرن التاسع اكتفي العُرف العثماني فيها بجعل منصب قاضي القضاة مختصا بالحنفية لكنه جعل نُوّاب الشرع الشريف (القضاة في المناطق المختلفة من السلطنة) على بقية المذاهب الفقهية في القضاء الشرعي. وقد تم تجاوز هذا العُرف العثماني بعد مجيء محمد علي باشا واليا على مصرفي عام ١٨٠٤وبعدها تم إلزام جميع القضاة بغض النظرعن مذهبهم بالحكم بالرأي الراجح عند الحنفية. وقد تسبب هذا التغيير في تفاقم إشكالات اجتماعية للمصريين وتعقيدات فقهية للحنفية خاصة في مسائل الطلاق والمفقود والعقود والتي تم تحييدها تاريخياً بتفويض القضاة المالكية مثلا في مسائل الطلاق للضرر. وبعد هذا التغيير ظهرت إشكالات جديدة مرتبطة بالتطبيق والتجديد والتلفيق. وانتهى الأمر بتنبي المدرسه الإصلاحية لمحمد عبده (ت. ١٩٠٥) و رشيد رضا (ت. ١٩٣٥)والمدرسه السلفيه ومن اعتنق مذهبها مثل أحمد شاكر (ت. ١٩٥٨) وحامد الفقي (ت. ١٩٥٩) بإنهاء التقليد الفقهي بفصل التقليد الفقهي عن قضايا التشريع وباعتبار إلزام القضاة بالراجح عند الحنفية بأنه "تعصب مذهبي" وأصبح منطق التشريع والتجديد الفقهي في مصر خاصة في مجال ما سُمّي ب "الأحوال الشخصية" في بدايات القرن العشرين ما هو إلا عبارة عن "أوامر وفرمانات عالية" من الخديوي او "مبادرات" من وزارة الحقانية يتم التصديق عليها من بعض الشيوخ بأنها "لا تعارض الشريعة". وانتهي أمر التشريع بالكامل إلی التقنين الكامل مع مشروع السنهوري ــــ وعلي الرغم من تقديره للتراث الفقهي بشكل عام ـــ  الذي قضى فعليا على المحاكم الشرعية والمجالس الملية تحت غطاء تأسيس"القضاء الوطني" أو "توحيد القضاء" أو "دمج القضاء" ـــ قبل الإلغاء الرسمي في ١٩٥٥ــــ لصالح القانون المدني الجديد الذي كتب نهاية القضاء الشرعي. ومشروع السنهوري يجب أن ينظر إليه أولا كتعبير عن رؤيته السياسية لطبيعة الدولة القومية و سلطاتها و دور مؤسساتها التشريعية والقضائية و موقع الدين في مصر بعد الإستقلال، خاصة بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة. 

وفي الختام، فإني آمل أن يُسْهم هذا الكتاب في إعادة النظر في علاقة الفقه الحنفي بالدولة العثمانية ومؤسساتها القضائية الشرعية. وأرجو أن يثير نقاشات مبدئية حول ضرورة إعادة الإعتبار للتقليد الفقهي و إحياء المذاهب الفقهية والإصرار علي تدريب فقهي مٌرَكّب وتعليم شرعي ولغوي وقانوني مُحكم. و بدون هذه الخلفيه الفقهيّة و التعليميّة سوف يصعب إيجاد اجتهاد فقهي معاصر منضبط يرقى بطرق الفهم في القضاء والتشريع وتنمية الفتوى. و الأهم أن مسألة التجديد الفقهي في الدول المعاصرة يعتمد علي طبيعة و أولويات الأنظمة السياسية الموجودة فيها و تركيبة نخبتها الفقهية و القانونية و كيفية تنظيم دور مؤسساتها الدينية و القضائية و مدي ارتباطهم بالتراث الفقهي الإسلامي.