ألان تورين “القرن السياسي الجديد”

كتاب القرن السياسي الجديد آلان تورين

صدر لعالم الاجتماع والمفكر الفرنسي ألان تورين عن دار النشر Editions du seuil كتابٌ باللغة الفرنسية في 193 صفحة من الحجم المتوسط يحمل عنوان "القرن السياسي الجديد"؛ وذلك في شهر أكتوبر من سنة 2016. كرس المؤلف خمسة عشر صفحة لمقدمة أثار فيها الرهانات الأساسية التي تحكمت في تأليفه للكتاب، وفي مقدمتها اعتباره للانتخابات الرئاسية الفرنسية فرصة سانحة للتعرف على الطريقة التي يقدِّم بها كل مترشح -سواء كان رجلًا أو امرأة- نفسه للمواطنين؛ ليس باعتباره يتحدث باسم فريق ضد فريق آخر فحسب، بل باعتباره يقدم خطابًا سياسيًّا واجتماعيًّا لمعالجة المشكلة السياسية والاجتماعية الأساسية، التي يطرحها النسق السياسي الفرنسي.

آلان تورين

آلان تورين

يتعلق الأمر بالتأليف بين إكراهات عالم الإنتاج والمطالب الشعبية العادلة، في صيغة واعدة ومثيرة تسمح بتحقيق التقدم المنشود للبلد. إن المترشح للانتخابات الرئاسية في فرنسا من المفروض -على حد تعبير ألان تورين- أن يعرف أفضل من غيره كيف يدفع بالتنمية الاقتصادية الوطنية قُدُمًا إلى الأمام، ويثمن أفكار الطبقات الوسطى، ويتحمل عبء الدفاع عن الفئات التي تقع في أسفل السلم الاجتماعي.

جاء الكتاب مشتملًا على سبعة فصول وخلاصة، فضلًا عن المقدمة المذكورة أعلاه. فأما الفصل الأول؛ فقد حمل عنوان "المسألة الوطنية" وفيه ثمانية محاور هي على التوالي:

1- إمبراطوريات وأنصاف أمم.

2- أمة بمضمون جديد.

3- مهاجرون ولاجئون.

4- من حقوق الإنسان إلى الحقوق الإنسانية.

5- تأويلات جديدة للتاريخ.

6- جمهوريون وديمقراطيون.

7- تشرذم اليسار السياسي.

8- تأمل في سقوط أوروبا.

وأما الفصل الثاني، فقد حمل عنوان "المسألة الدينية واللائكية"، وجاء مشتملًا على أربعة محاور وهي:

1- اللائكية القائمة.

2- من أجل لائكية موسعة.

3- من المقدس إلى الذات.

4- قرن روحي.

وأما الفصل الثالث فجاء حاملًا لعنوان "جهاد ومجاهدون" وفيه ثلاثة محاور حملت على التوالي عناوين:

1- من باندونغ إلى فشل البعثيين.

2- الجهاد في فرنسا: تأويلات.

3- حركة اجتماعية مضادة.

وجاء الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان "من أجل مدرسة ديمقراطية أكثر منها جمهورية". واشتمل بدوره على ثلاثة محاور وهي:

1- لندافع عن اللغات الأوروبية.

2- مدرسة الجمهورية.

3- من التنشئة الاجتماعية إلى السيرورة الذاتية.

وأما الفصل الخامس فجاء تحت عنوان "المسألة البيئية". واشتمل على محورين هما:

1- الإلزام الإيكولوجي.

2- الأيديولوجيا المضادة للحداثة ومستقبل الإيكولوجيا.

وشمل الفصل السادس الذي يحمل عنوان "لنغير القرن السياسي" أربعة محاور جاءت على التوالي كالآتي:

1- لا مخرج للنزعة السيادية.

2- استراتيجيتان اثنتان لليسار.

3- السيرورة الذاتية باعتبارها هدفًا.

4- ما معنى أن تكون يساريًّا اليوم في فرنسا؟

وأخيرا جاء الفصل السابع حاملًا لعنوان "ما فوق الأحزاب، الذوات-المواطنون". واشتمل على أربعة محاور وهي:

1- تفكك الاشتراكية الديمقراطية.

2- اليسارية الأيديولوجية الجديدة.

3- مجموعات المبادرات المواطنة.

4- تغيير للقرن السياسي.

وفي النهاية ذيَّل ألان تورين فصولَه السبعة بخلاصة وسَمَها بعنوان "كيف نخرج من المأزق؟". وفيها أربعة محاور وهي:

1- الحقوق الإنسانية الأساسية.

2- نزاع اجتماعي محوري جديد.

3- المأزق.

4- معنى انتخابات 2017.

يبدو من عناوين الفصول والمحاور التي اشتملت عليها هذه الفصول أن ألان تورين يسعى إلى الولوج بنا إلى عالم سياسي جديد، بإشكاليات جديدة وفاعلين جدد ومهام سياسية جديدة. ولعل التحول الرئيس الذي يخترق قرننا الحالي فيجعل منه قرنًا جديدًا بامتياز هو العولمة، التي وقعت على شهادة ميلادها وقدومها إلى عالمنا المعاصر منذ سقوط جدار برلين وتفكك المنظومة الاشتراكية.

في هذا السياق الجديد، أصبح ينتابنا شعورٌ قويٌّ بأن ثنائية يسار/يمين قد كفت عن ممارسة فعلها في الحقل السياسي والاجتماعي كما كانت تفعل في السابق، دون أن يعني هذا أن اليسار واليمين سوف يختفيان نهائيًّا في المستقبل القريب، بل إن كل ما يعنيه الأمر- اليوم- هو أن الحياة السياسية والاجتماعية في كل بلد سوف تتأثر مباشرة بما يعتمل داخل العالم بأسره. وعليه، فإن التناقض التاريخي الرئيس الذي سوف يخترق كل بلد على حدة، فيحكم على باقي التناقضات بأن تدور في فلكه مشكلة طبيعة المجتمع خلال قرننا الحالي، هو التناقض بين أولئك الذين قبلوا أن ينخرطوا في العالم المعولم، وأولئك الذين يقاومون هذا المصير بكل ما أوتوا من قوة.

وفي فترة تاريخية كالتي يمرُّ منها عالمنا المعاصر، حيث تضطرب المعايير والمعالم والمرجعيات، يصير لزامًا علينا أن نجيب عن الأسئلة المتعلقة بإعادة التموقع من جديد، تلك الأسئلة التي تهم واجبنا في تحمل المسؤولية المدنية في مثل هذه الشروط.

في هذا المؤلَّف الجديد، يمد ألان تورين إلينا يدَ العون كيما نتمكن من وضع أقدامنا بثبات أثناء ولوجنا للقرن السياسي الجديد؛ ففي عشية الانتخابات الفرنسية بصفة خاصة والانتخابات العالمية عمومًا، يعود ألان تورين إلى طرح الأسئلة الكبرى التي يتعين على الناخبين أن يُدلوا بدلوهم فيها في ضوء مستجدات القرن الحالي. يتعلق الأمر بالقضية الوطنية والقضية الدينية (في علاقتها بالعلمانية) والحرب ضد الإرهاب، ثم المسألة البيئية. ويبقى الرهان من تأليف هذا الكتاب على درجة بالغة من الأهمية؛ فإذا قبلنا أن نتعاطى للسياسة ونُمارسها ونحن على وعيٍ تامٍّ بأننا ولجنا عالمًا جديدًا، فإننا سوف نمنح للمواطنين الفاعلين، الذين سنصيرهم في المستقبل- فرصة لإسماع صوتهم، وهم في خضم المواجهة مع قوى التكنولوجيا، والسعي الدائم إلى تحقيق الأرباح ومراكمتها، والإغراء الكبير والقوي الذي تمارسه عليهم وسائل الاتصال الجماهيرية.

وإذا كان ألان تورين يستند في تأليفه لهذا الكتاب إلى أحداث سياسية خاصة؛ كالانتخابات مثلًا أو الأدوار التي اضطلع بها قادة وزعماء سياسيون في هذا البلد أوذاك، وهو الأمر الذي يقود لا محالة إلى الحكم على السياسات والحكومات والأحزاب المعارضة، فإنه قرر- على حد تعبيره- ألا يدخل في هذا النقاش مادام أن موضوعه في هذا الكتاب مختلف وبعيد عن المواضيع التي يطرحها السياسيون.

يقيم ألان تورين مماثلة بين التحوُّل العميق الذي تشهده مجتمعاتنا المعاصرة، والتغير الذي نقل المجتمعات الغربية في مرحلة سابقة من أُمة قائمة على نشاطين إنتاجيين رئيسين هما الفلاحة والتجارة إلى المجتمع الصناعي الجديد.

فألان تورين لا يبحث في هذا الكتاب عن تعريف وضعية فرنسا أو تقييمها، بل يتخذ أثناء التحليل موقعًا سوسيولوجيا؛ حيث يلاحظ أن فرنسا، مثلها في ذلك مثل البلدان المجاورة لها، هي بصدد الخروج من المجتمع الصناعي، لكن دون أن تكون لها فكرة واضحة عن المجتمع الذي تتأهب للدخول إليه. من هذه النقطة ينطلق ألان تورين؛ لذلك يعتبر أن الانتخابات الرئاسية لسنة 2017 سوف تدعو الفرنسيين إلى الاختيار بين الماضي والمستقبل، أكثر مما ستدعوهم إلى الاختيار بين اليمين واليسار. يقيم ألان تورين مماثلة بين التحوُّل العميق الذي تشهده مجتمعاتنا المعاصرة، والتغير الذي نقل المجتمعات الغربية في مرحلة سابقة من أُمة قائمة على نشاطين إنتاجيين رئيسين هما الفلاحة والتجارة إلى المجتمع الصناعي الجديد.

ويعتبر هذا التحول بمثابة الخلفية السوسيولوجية التاريخية التي تسمح بتفسير: لماذا فقد الفرنسيون الثقة في قدرة اليسار الديمقراطي على تأهيل الاقتصاد الفرنسي الغارق في إنتاج البطالة وتعميقها، منذ النصر الذي حققته الرأسمالية المالية المعولمة في العالم بأسره، في أعقاب الصدمة النفطية المفاجئة عام 1973.

أكيد أن ألان تورين يسجل موقفًا سلبيًّا اتجاه وضعية اليسار الديمقراطي الفرنسي التي تتسم بالتشرذم، لكنه، وفي مواجهته لكل يأس، لا يعدم كل إمكانية لتجاوز هذه الوضعية. بيد أن ألان تورين-قبل تصديه لهذه المهمة- يشرع أولًا في تعريف مجتمع التواصل الذي بالكاد ولجنا إليه بعد خروجنا من المجتمع الصناعي. والملاحظة التي تفرض نفسها منذ البداية، هي أن السلطة في مجتمع التواصل والمعلوميات لا تمارس على الأشياء فحسب، كما هو الحال بالنسبة لمجتمع الإنتاج، بل تمارس مباشرة على التمثلات والآراء والقرارات والاختيارات وكل ما يهم الشخصية، دونما الكف، في نفس الوقت عن التحكم في الخيرات المادية والرساميل.

يتعين على المقاومة أن تستحضر في مواجهتها لخصومها حقوقًا أساسية؛ من قبيل حق الشخص في الوجود والاعتراف له بأنه ذاتٌ مبدعة وحرَّةٌ ومريدةٌ.

والنتيجة الأساسية لهذا التحوُّل هي أن تطورَ السلطة جاء شاملًا وكليًّا يمسُّ كل الأبعاد الحياتية للإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… إلخ. ومن ثمة، فإن معارضةَ هذه السلطة يجب أن تكون بدورها شاملةً وكليَّةً. فلا ينبغي أن تنحصر المواجهة بين الفاعلين الاجتماعيين في الصراع من أجل الحصول على حقوق مخصوصة تتعلق بوضعية الشغل على سبيل المثال، بل يتعين على المقاومة أن تستحضر في مواجهتها لخصومها حقوقًا أساسية؛ من قبيل حق الشخص في الوجود والاعتراف له بأنه ذاتٌ مبدعة وحرَّةٌ ومريدةٌ.

إن هذا التحولَ هو ما يفسر ارتفاع أصوات في قرننا الحالي تنادي بحق كل كائن إنسانيٍّ في الكرامة وعدم التعرض للإهانة. أكيد أن هذه الإلزامات تنطوي على جوانب اقتصادية، لكنها تتجاوزها إلى جوانب أخرى من طبيعةٍ قانونيةٍ ولاسيما أخلاقية. فلا أحد- يقول ألان تورين- يدين النازية أو الفاشية أو الستالينية لأسباب اقتصادية أو سياسية حصرًا، بل إننا نحمل عن هذه الأنظمة الكليانية حكمًا أخلاقيًّا أولًا وقبل كل شيء.

إن معسكرات الإبادة تُعبر- أولًا وقبل كل شيء- عن فوضى أخلاقية لأنها تعبير عن الاحتقار الكلي للإنسانية. لقد انتقل محورُ الصراعات الرئيسة في عالمنا المعاصر من عالم الأشياء إلى عالم الأخلاق؛ فبعدما كنا نتمثل مجتمعاتنا أهرامًا تتشكل قاعدتها من علاقات الإنتاج، وفي قممها تُعبر السياسة والثقافة عن أشكال من الهيمنة تتولد عن القاعدة الاقتصادية- صارت بمثابة أكوان مفتوحة، تنتظم فيها الأشياء على قاعدة أخلاقية نطالب بالاحتكام إليها في كل ميادين الحياة الإنسانية، سواء كانت اجتماعيةً أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو تربوية. يدعو كتاب ألان تورين- إذن- إلى انقلاب في الرؤية، يستلزم تحولًا وتغييرًا في التحليل، وكذا الأهداف وأدوات الفعل السياسي.

لقد كرس ألان تورين الفصل الرابع من هذا الكتاب لمطارحة قضايا التربية؛ مؤكدا على أن الغاية القصوى من التربية ليست هي التنشئة الاجتماعية (الجمعنة: la socialisation)؛ أي إدماج الأحداث في عالم الراشدين، وإنما هي تحقق السيرورة الذاتية (la subjectivation)؛ أي أن تعمل التربية على إيقاظ وعي الأحداث، هؤلاء القادمين الجدد إلى المجتمع، بحقِّهم في الكرامة والحرية والمساواة.

يذكر ألان تورين في هذه النقطة بالخلاصة العامة التي يمكن للقارئ أن يستنتجها من كتابيه: "نهاية المجتمعات" و"نحن ذوات إنسانية" الصادرين عن دار النشر Seuil على التوالي سنتي 2013 و 2015؛ حيث اعتبر أن الفعل الجماعي في مجتمع التواصل لا يُعبر عن التناقضات الداخلية التي تترتب عن هيمنة اقتصادية وسياسية فحسب، بل يجسد أسلوبًا تاريخيًّا لإثبات الحق والمشروعية الاجتماعية والسياسية، ليس لمجموع مطالب محددة، وإنما لحركة تحرير للذات الإنسانية.

تتخذ المسألة الوطنية- التي خصص لها ألان تورين الفصل الأول- أهمية قصوى بالنظر إلى كونها حقلًا يحتضن تحوًلا تاريخيًّا لطبيعة الصراع؛ حيث يبدو أن المسألة الوطنية قد حلت محل المسألة الاجتماعية في بنينة (la structuration) الصراع في زمن العولمة. فلعل أبرز مظاهر الأزمة التي خلقتها العولمة الاقتصادية هي أزمة الدولة الوطنية، التي تعمقت أكثر فأكثر مع تشكيل اتحادات دولية كالاتحاد الأوروبي مثلًا، والتي أصبحت تفرض نفسها على الساحة الدولية على حساب الدول الوطنية، لكن ألان تورين لا يكتفي بالوقوف على أزمة الدولة الوطنية في زمن العولمة، بل يثير انتباهنا إلى بروز نوع جديد من الدول أُطلق عليه في البداية اسم السلطة الشمولية (pouvoir total) قبل أن يستقر في النهاية على تسميتها بالإمبراطوريات (empires).

ويتخذ هذا الاسم دلالة مفهومية عندما يشير إلى اتحاد وثيق بين سلطة سياسية وقوة اقتصادية وهوية ثقافية، كما تشهد على ذلك تجارب دولية كالصين والولايات المتحدة الأمريكية وإيران، لكن ألان تورين يضيف الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إلى هذه القائمة؛ وبالرغم من أن "داعش" بعيدة كل البعد عن أن تقارن بالصين أو الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من حيث القوة أو الاستقرار، فإنها تقدم نفسها للعالم على أنها سلطة سياسية واقتصادية ودينية وعسكرية في الوقت نفسه، وتعتبر كل من يخالف تفسيرها الحرفي للإسلام عدوًّا لها.

إن الدولة الإسلامية والخلافة التي أُعلنت في الرقة والموصل هي أولًا وقبل كل شيء ثمرة لقلب دول وطنية أصابها الوهن وتعرضت للتقسيم، هكذا حلت سلطة سياسية ودينية في الوقت ذاته محل الاتحاد بين دولة وأمة، وأعلنت نفسها دراعًا سياسيًّا للأمة الإسلامية السنية، وتجدر الإشارة أن للمسألة الوطنية في فرنسا علاقة بهذا الموضوع؛ حيث إنه إلى حدود الإعلان عن تأسيس "داعش" كانت المسألة الوطنية في فرنسا محصورةً في "حركات جهوية" قبل أن تتحول بشكل مأساوي في أعقاب الفشل الذي لحق البناء الوطني في بلاد العراق والشام.

يعتبر ألان تورين أن ضعف الدولة الوطنية الفرنسية هو ما دفع في الحقيقة ببعض الشباب الفرنسي المسلم إلى التوجه نحو "داعش".

فليس من الصحيح أن نفسر تطرف بعض الشباب الفرنسي المسلم بالرجوع إلى الممارسات التمييزية، أو قل الإقصائية التي تعرض لها المسلمون في الماضي بفرنسا، بل إن التجربة الصاعدة لرد فعل مناهض للإسلام، والذي تمثله الجبهة الوطنية ويدعمه قسم كبير من الساكنة، لاسيما تلك التي تحملت العبء الأكبر لتراجع التصنيع في فرنسا، هو ما وضع فرنسا في مرمى التطرف الإسلامي، ولقد كان من شأن ذلك أن ينتهي إلى بروز خطاب يساري مناهض للنزعة الكولونيالية، هذا بينما يعتبر ألان تورين أن ضعف الدولة الوطنية الفرنسية هو ما دفع في الحقيقة ببعض الشباب الفرنسي المسلم إلى التوجه نحو "داعش".

إن أولئك الذين يدعون إلى "تجاوز" الدول الوطنية باسم الانخراط في العولمة الاقتصادية هم- برأي ألان تورين- المسؤولون الرئيسون عن تحول وعي وطني أصابه الإحباط إلى نزعة سيادية عدائية؛ فإنكار أهمية الدول الوطنية وضرورتها في النمط الجديد من المجتمعات المعولمة، والذي نراه يتعزز يومًا بعد يوم، يبدو- برأي ألان تورين- خطأ فادح تحفُّه مخاطر حقيقية.

وبالمقابل، يعترض ألان تورين كذلك على الأطروحة التي يتهم أصحابها الدولة الوطنية باعتبارها المسؤول الأول والأخير عن استغلال العمال وعن النزعة الاستعمارية، ونجد هذا الرأي سائدًا بين اليساريين والمنافحين عن قضايا العالم الثالث وحتى مابعد-الكولونياليين؛ وهو رأي يعتبره ألان تورين ينطوي على نزعة موغلة في المدنية، ترفض بشكل مبدئي كل وظيفة أو دور للدولة وتعتبره مهددًا للمجتمع ومدمرًا له. وإذا كان هذا الرأي قد وجد موقعًا له في فرنسا، فلأنه يعتبر بمثابة الوجه المقابل لهيمنة الدولة على المجتمع، والتي عانت منها فرنسا منذ عهد الملكية إلى فترة حكم الجنرال دوغول، مرورًا بالأحزاب الشيوعية.

إن ما نحن في حاجة إليه فعلًا- في نظر ألان تورين- هو نهضة حقيقية للحس العمومي، وليس هذا بالأمر الممكن إلا إذا صار الفعل والتنظيم السياسيين نفسهما تابعين لقيم أخلاقية كونية، وضمنها كرامة الكائنات الإنسانية، لقد تمَّ تقديم السياسة في الغالب نشاطًا يهدف إلى تحقيق مشروع جماعي. واليوم يتعين على الفاعلين السياسيين الجدد، في مواجهتهم لقوى البناء والهدم التي يعج بها عالمنا المعاصر- أن يوسعوا المكان والزمان السياسِيَّيْن لفائدة حقوق الذوات الإنسانية؛ وذلك حتى نخوِّل للأفراد والجماعات إمكانيةَ إسماع صوتهم ومتطلباتهم وحقوقهم، من خلال مقاومة الضغوط والإكراهات التي تمارِسُها عليهم قوى التكنولوجيا والرغبة في تحقيق الأرباح وسلطة الإعلام.

ولا ينبغي أن ننسى- يقول ألان تورين- أن للخلق والإبداع جانبًا سلبيًّا كذلك؛ وهو الجانب المرتبط بتفكك النظام السياسي وانتشار العنف والموت. إن أولئك الذين يتبنون النزعةَ اليسارية الجديدة سوف يحاربون هذا التصور للسياسة، لكنهم سرعان ما سوف ينتهون إلى التخلي عن لغتهم المحكمة عندما يدركون أنهم صاروا طوائف معزولة عن بعضها البعض، تحتاج إلى إعادة ربط العلاقة بالواقع من جديد. ولعل الحركات الاجتماعية ذات الطبيعة الأخلاقية-الديمقراطية سوف يكون لها دور في فصلهم عن المؤسسات السياسية ووضعهم على طريق الفعل الإرادي والحر، الذي تقوده العاطفة وتجارب الحياة.

هنا ينتهي بألان تورين مشوار التفكير، الذي أراده متوجهًا نحو المستقبل؛ فهو يستخلص أولًا أننا- بمغادرتنا اقتصاديًّا واجتماعيًّا المجتمع الصناعي- نكون قد غادرنا في الوقت نفسه طريقةَ هذا المجتمع في ممارسة السياسة، وكذلك منظوره للإصلاحات الاجتماعية التي تتوخى تحقيق الرفاه في كل الميادين، وبخروجنا من المجتمع الصناعي، نكون قد كففنا عن تحديد أنفسنا ككائنات اقتصادية قبل كل شيء. ولعل هذا ما يضع حدًّا نهائيًّا لفكرة التقدم باعتباره اجتماعًا طبيعيًّا بين النمو والإنتاجية وارتفاع مستوى العيش، الذي سَيتْبَعُه لا محالة توسيعٌ للحريات والتعددية. إننا نغادر قرنًا سياسيًّا طويلًا هو قرن المجتمع الصناعي، مجتمع العمال والنقاشات حول التقدم، واليوم يبدو أن الأقليات الحاكمة أقوى من الأغلبية التي لا نفلح بعد في التعريف بخصائصها.

إن أول ما يثبته هذا الكتاب هو أن الصراع الرئيس الذي سيدور في القرن الذي نعيشه- هو ذاك الذي سيضع العالم المغلق والعنيف للإمبراطوريات والجماعات في مواجهة العالم المفتوح لكن غير المستقر؛ الذي تمثله وسائل التواصل والإعلام. والأسوأ في فرنسا -يقولألان تورين- هو أن الجبهة الوطنية تسعى، مستغلة الوضع الخاص الذي تمر منه فرنسا، إلى فرض سياسة الانطواء والانغلاق؛ وهذا ما ينبغي تفاديه بأي ثمن.

ينهي ألان تورين كتابه بهذه الكلمات: "إن فرنسا النخب الحاكمة عاجزة عن التفكير والعمل، لكن فرنسا القواعد تعلن وتكشف في الشوارع، حتى في أحلك الظروف، تحت تهديدات داعش والقاعدة- أنها تؤمن بقدراتها وأنها تطمح إلى المواطنة والتحرر من أولئك الذين يريدون تدميرها. لكن ما هي فرنسا الشارع؟

إنها تتكون أولًا وقبل كل شيء من أولئك الذين يؤمنون بالمستقبل؛ لأنهم يضعون ثقتهم في المعرفة وفي حقوق الإنسان، أولئك المهدِّدين أكثر من غيرهم لكنهم يرفضون الاستسلام والتصرف كضحايا، فهل سيفرضون أفكارهم وشجاعتهم على أصحاب القرار؟

لا يمكن أن أقرر فيما إذا كان سيحدث ذلك أم لا، لكن من شأن قوة الديمقراطية أن تسمح لأولئك الذين يهتدون بالأفكار الكبرى والقناعات الراسخة، بأن يحثوا المواطنين على إنقاذ الحرية والمساواة والكرامة، حتى يضموا إليهم أولئك الذين نال منهم اليأس وفقدوا الأمل. ومادام الأمرُ يتعلق إذًا بانتخابات، فإنني أؤكد أنه إذا لم يكن هناك من مرشح جيِّد، فإنه سيكون هناك بالتأكيد ناخب جيد، يختار المستقبل ضد الماضي.


الكتاب متوفر باللغة الفرنسية بعنوان: "Le nouveau siècle politique"