جدل الدين والمجتمع والدولة في سياق منظومة القيم المشتركة

الصورة
حولَ انتقاد المصادر التاريخية الإسلامية ومفهوم التاريخ عند المستشرقين

كشفت نتائج الربيع العربي عن أزمةٍ أخلاقية تتصل بالهوية والدولة والمصير، فقد كانت شعاراتُ الثورة ضدَّ الاستبداد والفقر مقدِّماتٍ لظهور إشكاليات ثقافية تمس التصورات عن الذات والآخر والمؤسسات، بخصوص غياب ثقافة تعايشية وتآلفية بين مختلف المكونات السياسية والفكرية في المجتمع، تمخضت عن بروز أنانية مفرطة تنطلق من العقيدة والقبيلة والحزب والطائفة، ولا تركن لقيم التعدُّدية والاختلاف، مما نقل المجتمع العربي من عنفِ الدولة التسلطية إلى عنف المجتمع اللامتسامح.

وهكذا غدا المجالُ العام ميدانًا للفتك والهتك باسم الحقيقة والأحقية، وبات الآخرُ وجهةً للنقد والنقض، تارة باسم الشرع وتارة باسم الشرعية، واختفت لغةُ الحوار والتواصل، فضلًا عن غياب أمشاج التضامن والحرية، ليحل السلاح محلَّ الكلمة والبرنامج، ويلعلع في الشوارع ويستولي على المؤسسات والثروات.

ثورة المجتمع العربي ومشكلة العقد الاجتماعي

لقد كان ممكنًا أن تتمخض الثورة العربية على الأنظمة الفاسدة عن ديمقراطيات جديدةٍ في الوطن العربي، تحتكم إلى دولة القانون والمؤسسات، وتكرس لأخلاقيات واضحة تسمح بتعددية تنظيمية في الهياكل السياسية والحزبية، كما في الطوائف الدينية والعشائرية واللغوية، بما يضع الكلَّ أمامَ سلطة القانون والدستور، ويُفضي إلى المساواة على أساس المواطنة. لكن أخلاقيات الخيرية والنرجسية وكذا قيم الوثوقية والحقانية، دفعت بالفرقاء داخلَ الوطن الواحد إلى شقِّ عصا الوحدة وبلقنة الحقل السياسي، وتصريف خطاب عدواني أو إقصائي تجاه المخالفين.

وكل هذا ساهم في عودة التسلط إلى ساحة الحكم، وتهييئِ الظروف لقوى التحكم والأنظمة المخلوعة لكي تمسك بزمام الأمور، مستغلةً الفراغ السياسي وأحيانًا الأمني، أو مدفوعة من جهات خارجية لكي لا تسمح بنشوء نظام سياسي جديد، ينزع إلى الحرية والعدالة والكرامة، أو على الأقل لا يسمح بالاستمرار في تحقيق مصالحها الحيوية والإستراتيجية، مما فوَّت فرصة إرساء نموذج عربي في السياسة والاجتماع والاقتصاد.

إن إرساءَ هذا النموذج يحتاج إلى صياغة نموذج أخلاقي يلزم الفاعلين داخل الدولة، ينتظم جملة من القيم العليا المشتركة، من حرية وعدالة ومساواة وكرامة، وينتمي إلى أخلاقيات السياسة المدنية لا الدينية، بحكم اختلاف المرجعيات العقدية واللغوية والسياسية والقبلية لأطراف الحوار في الدولة، مما يفرض الحسمَ مع ثقافة الفرقة الناجية والطهرانية التنظيمية، وفتح جميع التجارب على خبرة الواقع، والانتظام في سلك المواطنة الحقة؛ حيث لا فرق بين المواطنين وكلهم متساوون أمامَ القانون.

يهدف مشروع أخلاق العقد الاجتماعي الجديد إلى ترسيخ التسامح الديني والفكري، وتعزيز التعددية السياسية، وتنمية أخلاقيات الحوار والتواصل.

يشكل هذا النموذج الأخلاقي مدخلًا  لتأسيس عقد اجتماعي بين السلطة والجماهير، وبين الأحزاب والهيئات والعشائر، كاتفاق يُراعي تركيبةَ المجتمع المتنوعة، وينمي وحدة الدولة، ويعزز أخلاقيات التضامن والتعاون، ويضع السلطة بيد المؤسسات المنتخبة، ويقطع بين مظاهر التسلح والاحتقان والكيد في المجتمع من جهة، وبين الأغلبية والمعارضة من جهة أخرى. ويهدف مشروع أخلاق العقد الاجتماعي الجديد إلى ترسيخ التسامح الديني والفكري، وتعزيز التعددية السياسية، وتنمية أخلاقيات الحوار والتواصل، والتداول على السلطة واحترام القانون، وتقوية الشعور بالانتماء للمواطنة، وتكريس السلم الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي.

إنه سيشكل عنوانَ مرحلة جديدة لمواجهة تحديات الداخل المأزوم بالصراع والتشظي، وبتحديات الخارج الذي يتربص بالتجربة لوَأدِها، ويغري في الوقت نفسه بمستوى عال من التقدم والازدهار، والمواجهة ستكون بأدوات عقلانية وأخلاقية وسياسية.

فسياسيًّا لابد من ليبرالية مبدئية للانتقال إلى المجتمع المفتوح على التعدد، وفكريًّا يلزم قدرٌ كاف من العلمانية التي تفرض على الدولة الحيادَ تجاه المكون الديني، وأخلاقيًّا يجب إدخال التجديد والتمحيص في ثقافة الاجتماع لوضعها على شروطٍ أكثرَ إنسانية، لتسديد الحوار والجوار بين أفراد المجتمع.

وتفترض هذه النظرية الاجتماعية إمكانيةَ تحقيق توازن في مفاعيل المجتمع تجاه الدولة، وإمكانية تعايش الديني والسياسي بمنطق التحييد والتخصص، فضلًا  عن إمكانية إيجاد مشترك أخلاقي للدولة الحديثة يصون الحقوقَ ويحمي التعددية، ثم إمكانية إيجاد نموذج عربي يصون الديمقراطية والحرية والعدالة، ويحقق طموحات ثورة الربيع العربي، ويستثمر خلاصات تجربة النهضة العربية خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

كما تُعنَى النظريةُ برصد ونقد وظيفة الدين إزاءَ مشاكل المجتمع والدولة، التي تنعكس كوجود متغير ومتعدد ومتناقض لا يسمح بزعامة صوت واحد، بل يتقلب إلى صور وجدليات لا تحكمها إلا قيمٌ مشتركة كبرى، تعود إلى صيغة تآلفية تتغيَّى حماية حقوق الفرد والجماعة بمنطق الحق الوجودي، لا يلغي الحاجة إلى الدين ولا ينزع كليًّا إلى تفاصيله إزاء مجتمع متعدد المشارب ومتعجل لمصالح دنيوية.

قيم المجتمع بين الخصوصية والكونية

وهذا النقاش كله دائمًا يعود إلى الموافقة أو المصادمة بين القيم المنقولة والقيم المعقولة في السياسة المدنية أساسًا، وهناك اجتهادات حديثة تنحو منحى التوفيق وأحيانًا التلفيق بين المعطيين، لإبراز وجه التسامح في الدين، والحث على تقبل الدين في مسرح الحياة العامة… وهكذا فعناوين من مثل: الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الحزبية والعمل النقابي ومشاركة المرأة والمواطنة والحرية، تجد موطئ قدم في التفكير الديني الحديث، بصيغ توليفية وتكييفية تلغي التعارض بين هذه المطالب وبين روح الدين.

ويتم احتواءُ هذا التصادم والمواجهة بـ"براديغمات" معرفية (نماذج تفسيرية) قديمة جديدة، باسمِ تفعيل مقاصد الشريعة، وباسم الضرورة الشرعية، وتحت عنوان تغير الأحكام بتغير الأزمان، وقولهم: إن العادة مُحكَّمة. وإعادة ترتيب النوازل بفقه الأولويات، والموازنة بين المصالح والمفاسد.

إن الإجماع الدولي على قيم مشتركة يشكل بشكل ما وجهًا من وجوه إمكانية التوافق على مبادئ كبرى بينية، مع الإبقاء على الاختلافات بين القوميات واللغات والثقافات، وإذا أمكن تطبيق هذا الاتفاق على الصعيد الأُممي فأحرى أن يجد طريقه إلى الإقليم والدولة، فما يصلُح أن يكون عرفًا دوليًّا في الشراكة القيمية والحضارية يمكن أن يكون ميثاقًا بين أبناء الدولة الواحدة، ولو بعدت بينهم الشُّقَّة فكريًّا وسياسيًّا.

لقد نشأ مفهومُ الغرب كجغرافيا وتحوُّل إلى قيم سياسية وأيديولوجية واقتصادية واضحة، فلم تمنع الخلافات القديمة بين الشيوعية والرأسمالية، ولا الحروب الفتاكة بين النازية والتحالف، ولا البُعد الجغرافي بين القوى العظمى في أوربا وأمريكا وآسيا، من التواضع على صياغة غرب جديد يؤمن بالعولمة والربح والمنافسة، ومراقبة أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية، فضلًا  عن توجيه الاختيارات الكبرى للأمم المتحدة.

هل من شروط المشاركة السياسية للفاعل الديني أن يكون الدين منصوصًا عليه في ديباجة دستور الدولة؟

لقد تعلَّم صُنَّاع القرار من التاريخ أن الاختلاف لا يُفسد للود قضية، والود ليس خارجًا عن نطاق المصلحة المباشرة أو الإستراتيجية، فبالقيم المشتركة يمكن تحقيق العدالة والمساواة بين أبناء المجتمع، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، ولا فرق بين إسلامي وليبرالي، ما يهم: ماذا سيحققه هذا أو ذاك في إطار التكليف بالخدمة العمومية، بمعنى أن مستوى الخدمات العمومية سيكون مِحكًّا لاختيار الأنسب لتولي المناصب العامة، وهذا ما يفتح النقاش في موضوع تولي مناصب الدولة بالنسبة لغير المسلم مثلًا  في مجتمع أغلبه يعتقد بالديانة الإسلامية، فضلًا  عن فتح الحديث في مشاركة الإسلامي في حكم غير إسلامي بمنطقه، أي السؤال عن موقف الإسلامي من الدولة العلمانية التي تتخذ موقفًا محايدًا من الدين، وهل من شروط المشاركة السياسية للفاعل الديني أن يكون الدين منصوصًا عليه في ديباجة دستور الدولة؟

وعند النظر إلى التجربة الأوروبية والأمريكية في السماح للمسلمين في تولِّي المناصب العامة والوزارات الحساسة كالعدل والتعليم، يرِد السؤالُ: كيف يُمكن استنساخ هذه التجربة واستنباتها في المجال العربي الإسلامي، أليس الغرب بترسانته القانونية موفقًا في حماية الأقليات، وفي الإسناد إليها جملةً من المهام في الحكومات دليلٌ  قاطعٌ  على إمكانية التعايش السلمي والفعال، بين مختلف المكونات السياسية والفكرية داخلَ الدولة الواحدة؟

فلماذا يكون الدين عائقًا أمامَ دمج الدولة والمؤسسات بخبرات من مكونات عقدية مخالفة لمعتقد الأغلبية المسلمة، وهل فعلًا نصوص الدين صريحةٌ في إفادة هذا المنع، أم أن الأمر يتعلق بتأويل في الدين، له سياق تاريخي معين تم إسقاطه على مجتمع مغاير لا يصلح له؟

ثم ألا يسمح الدين بالتواضع على أخلاقيات مدنية انطلاقًا من واقعة "صحيفة المدينة"، التي جمعت بين المختلف من قبائل العرب من ديانات مختلفة إسلامية ويهودية ومسيحية؟ بتجريد السياسة المدنية من خلفيات دينية معينة، ودفعها إلى معانقة الحياد تجاه الأفراد وابتغاء السلم الاجتماعي والتآلف السياسي، لصناعة دولة قوية تعددية وموحدة في الوقت نفسه.

يجبُ علينا إذن أن نفكر في تجارب الأمم التي أعطت الفرصة لعنصر غريب أو مهاجر كي يحقق حلمه، ثم يتقدم دون تمييزٍ أو عنصرية أو حيف بسبب المعتقد أو اللون إلى مناصب عامة؟ وقياسًا عليه يجبُ علينا أن نبحث عن مبررات منع مواطن من ديانة أخرى أو مقيم غير مُجنس من تولِّي مسؤولية حكومية، ما دامت شروط النزاهة والكفاءة موجودة في المترشح؟

هذا سؤال يُسائل طبيعة الدولة التي من المفروض أن يتساوى الناس أمامَها، ويستظلون جميعًا بحمايتها، ويتكافأون تحت القانون الذي يعبر عن دولة الحق والعدالة.

العلمانية وحياد الدولة وسيادة القانون

إن السياسة الدينية والسياسة المدنية لا يجب أن تخرج عن منطوق القرآن: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: ٤]، أي الإمعان في الاشتغال بالموضوعات الاقتصادية والأمنية التي تمس راحة الفرد والجماعة في العاجل أساسًا، ليكون المواطن محفَّزًا إلى العمل والإبداع والتقلب في العيش بحرية وكرامة ومسؤولية.

يكفي أن تصون الدولة الحريات الدينية وتحميها من الإكراه والصوت الواحد، لتكون بذلك محايدة تجاه قضايا الدين.

فإذا كان الله جل قدره قد منّ على أهل قريش بنعمة الطعام بعد أن نال منهم الجوع، وأسبغ عليهم نعمة الأمن بعد أن تسرب إليهم الخوف، فلا أجدى ولا أنفع من تكريس الجهود في صيانة الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بعاجل حياة الإنسان. أما مُضَمنات الحياة الأخروية فليس التدخل المباشر في رسمها والنبش في أسرارها من متعلقات الحُكم، يكفي أن تصون الدولة الحريات الدينية وتحميها من الإكراه والصوت الواحد، لتكون بذلك محايدة تجاه قضايا الدين.

لكن الأمور العادية والدنيوية هي مجال للمباشرة والتدخل العاجل، من قبل الدولة والفاعلين السياسيين، وحتى من الذين يمارسون السياسة من منطلق هَم ديني، وعليه يكون المجال الدنيوي مجالًا  للمغالبة والتداول والتناوب والتجريب {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦].

فقيمة العمل السياسي لا تستمد مصداقيتها فقط في انتماءات المنتخبين ومنطلقاتهم العقدية، وفي تصدِّيهم للملفات الأخلاقية في المجتمع، بل بما يُنتجون من حلول وبدائل للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي تؤزم الأوضاعَ وتحتاج إلى عقل تدبيري وسياسة مدنية فاعلة وحكيمة.

إن التدخل السافر للفاعل الديني في أمور الحريات، يُفضي إلى خلق حالة من اللاتسامح الاجتماعي، وبروز طائفية ممقوتة تدخل المجتمع في صراعات طبقية، وإلى منازعات فكرية لا علاقة لها بالحاجيات والضروريات التي يفرزها السوق والشغل والصحة والتعليم وغيرها.

فالهوية من داخل الدولة ينبغي أن تكون للمواطنة وليس للعقيدة، فإذا كانت العقيدة من طبيعتها تُفرق وتُمايز بين الأفراد، فإن المواطنة لُحمة تكسو جميعَ أطراف الجسد الواحد، وتفيض عليهم حرارة الانتماء للذات المشتركة. ويظل القانون الروح الغامرة التي تسري في هذا الجسد، وهي التي تحدد الأعطاب وتشخصها، كما تولد العلاجات والحلول التي تبت في مشاكل الجسد ووظائفه.

فالصراع الطائفي بين القوى الدينية والقومية يدعو إلى التفكير في المشترك في الأخلاق المدنية، للحدِّ من الصراع والفتنة والمكر، وإلا فإن التوافق سيكون عسيرًا على مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع، بما يزيد من تأزم الوضع الأمني والاجتماعي بين الفرقاء، ويعطي فرصةَ الظهور بقوة للخلايا المتطرفة، التي تستفيد من سقوط الدولة الوطنية في قعر النهب والتسلط والصراع.

ثم إن اختلافَ القوى الدينية نفسها بين سُنَّةٍ وشيعةٍ وبين مسلمين ومسيحيين وبين عرب وأمازيغ وأكراد… يحتِّم التعجيلَ بحيادية الدولة بشأن المسألة الدينية والهُوياتية وتركها للضمير الفردي، وتجريد القوانين من الإشارات الدينية المباشرة، اعترافًا بحقوق الأقليات وحقوق كل الطوائف والمشارب الفكرية، وإعلاء للمواطنة العادلة، وإعلانًا للحياد الإيجابي تجاه أفراد المواطنين، بعيدًا عن تشكلاتهم السياسية والطائفية؛ لأنهم في أصلهم من أبناء الوطن الواحد، لا يغير من انتمائهم له عقيدتهم ولا حزبهم ولا جماعتهم اللغوية. مما يفرض ترسيم هذه الحيادية للدولة في دستورها وفي قوانينها التنظيمية، لتلائم هذه التعددية وترسخها، وتحمي حقوقها وتواجدها، وتدرأ طبيعة الصراع بين مكوناتها، بما يؤكد سمو القانون وكرامة المواطن في إطار الدولة الواحدة التي تُظل الجميعَ تحت أكنافها.