عن "حق الإنسان" في الهيمنة

كتاب عن حق الإنسان في الهيمنة

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1948 الإعلانَ العالمي لحقوق الإنسان، ونصَّت مادته الـ28 على أن "لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعيٍّ ودوليٍّ يمكن أن تتحقَّق في ظلِّه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققًا تامًّا"[1]، وللمفارقة فقد سبق هذا الإعلان – في العام نفسه – قرار إعلان قيام دولة إسرائيل التي استعمرت الأراضي الفلسطينية قبل هذا التاريخ وبعده في عام 1967، وربما يمثِّل ذلك إشارةً واضحة لمأزق حقوق الإنسان منذ اللحظة الأولى لتشكُّل مفاهيمها عقب الحرب العالمية الثانية، وهي المفاهيم التي صاغتها الدول المنتصرة في الحرب أو التي يمكن وصفها بالمهيمنة على النظام العالمي.

يحاول هذا الكتاب "عن حق الإنسان في الهيمنة"[2] – وهنا تكْمُن أهميته – فهْمَ أسباب اهتمام القابضين على مقاليد الهيمنة بتطويع حقوق الإنسان، وكيفية توثيق الحكومات والشعوب انتهاكاتها، وكيفية نبذها لتلك الانتهاكات، وطريقة تجييشها هذه الحقوق في سياقات العنف السياسي والهيمنة والإمبريالية الجديدة، ويضع حالةَ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أنموذجًا لذلك، خاصةً أن النظام الإسرائيلي يروِّج لنفسه باعتباره "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". ويقع الكتاب في 320 صفحة، وينقسم إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.

يطرح الكتاب في المقدمة عمليات التقارب في الخطاب بين منظمات حقوق الإنسان والأنظمة الاستعمارية، وماهية ضروب تطويع حقوق الإنسان، وارتباط حقوق الإنسان بالدولة، إلى الحدِّ الذي يجعل هناك إمكانية للتغاضي عن جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان باسم السيادة.

في الفصل الأول: (تناقضات حقوق الإنسان) يناقش الكتاب إشكال دور الدولة القومية في تحديد مفاهيم حقوق الإنسان والحصول على تلك الحقوق، رغم أن الدولة القومية هي التي دخلت في تناحرٍ في أثناء الحربين العالميتين وترتب عليهما وفاة الملايين، لتحيي حقوق الإنسان الشرعية السياسية للدولة القومية مرةً أخرى، ثم ينتقل إلى قيام الأوروبيين بتعويض اليهود عن انتهاكات حقوق الإنسان عبر إعطائهم أرضَ فلسطين، فأصبح للاحتلال هالةٌ من الشرعية الدولية عبر تأطيره كحل إنسانيٍّ، ويتناول الكاتبان التغيرات التي جرت في خطاب حقوق الإنسان الإسرائيلي منذ نشأتها، وكيف بدأ الخطاب في التغيُّر عقب الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.

وفي الفصل الثاني: (تهديد حقوق الإنسان) يضع الكتاب مسألة "تسييس" حقوق الإنسان تحت الضوء، بمعنى أن العملية التي تنطوي على تبنِّي حقوق الإنسان وادعائها وتوظيفها، ما هي إلا عملية سياسية على الدوام، مما ينقلنا إلى الحديث عن مفاهيم مثل "الحرب القانونية" التي يتم فيها تأطير انتهاكات حقوق الإنسان باعتبارها تهديدًا أمنيًّا، ويبدو أن ذلك لم يكن كافيًا، فأصبحت حقوق الإنسان تمثِّل "إرهابًا قانونيًّا" باعتبارها تقوِّض إجراءات الدول الديمقراطية أمام أمنها، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين.

أما الفصل الثالث: (حق الإنسان في القتل) فإنه يناقش عمليات القلب والإبدال في خطابات حقوق الإنسان، فيستخدم المستعمِر الخطابَ نفسه بصورة مقلوبة، فيصبح هناك قتل أخلاقيٌّ وقتل غير أخلاقيٍّ، ويكون هناك استهدافٌ مقبول للمدنيين وآخر غير مقبول، ويتم تطويع هذا الاستهداف باعتبار "الأعداء" يستخدمونهم كدروع بشرية، وكذلك يناقش تبريرات قصف المنازل والمشافي والمساجد والمدارس الفلسطينية في أثناء أيِّ عدوان إسرائيليٍّ عليها.

وفي الفصل الرابع: (حق الإنسان في أن يستعمر) يطرح الكتاب عمليات قلبٍ وإبدالٍ جديدة يقوم بها الإسرائيليون، عبر اعتبار أنهم السكان الأصليون، والفلسطينيين هم الغزاة، ومن ثَمَّ فإن التجمعات السكانية الفلسطينية التي لم تأخذ إذْن بناءٍ تعتبر "بؤرًا فلسطينية"، ويتحول الاستيطان الإسرائيلي إلى استيطانٍ فلسطيني؛ ولذا يُعَدُّ تشريد السكان الأصليين وحماية الاستيطان من العناصر المكوِّنة للاقتصاد الأخلاقي الاستعماري.

ويتساءل المؤلفان في الخاتمة: (ماذا بقي من حقوق الإنسان؟) ويؤكِّدان أن الظروف التي حولت حقوق الإنسان إلى أدواتٍ للهيمنة، هي نفسها الظروف التي تؤكِّد حضورها في الحياة الأخرى بعد أن يتضح تورطها مع الهيمنة، ويطرحان أسسًا قانونية وعامَّة لتتم إعادة تفعيل حقوق الإنسان.

العنف وحقوق الإنسان ليسا متناقضَيْن بالضرورة، فالعنف يحمي حقوق الإنسان من العنف الذي ينتهكها.

يبدأ الكاتبان بالإشارة إلى وجود تقاربٍ بين المنظمات الحقوقية غير الحكومية وبين توجهات النُّظم الاستعمارية، ويدلِّلان على ذلك بحملة منظمة العفو الدولية منتصف عام 2012 عقب إعلان أوباما سحب قواته من أفغانستان، ووضعت المنظمة ملصقًا لـ"قمَّة ظل من أجل المرأة الأفغانية" لامرأتين تضعان البرقع وتتوسطهما فتاة صغيرة تنظر بحذر، في إشارة إلى أن مستقبل الفتاة سيكون "البرقع"، وكُتب على الملصق: "واصل التقدُّم أيها الناتو"، كما أعدَّت المنظمة رسالةً أكَّدت فيها أهمية مواصلة تدخل الناتو في أفغانستان. فالافتراض الكامن وراء تلك الحملة يفيد بأن العنف ضروريٌّ لحماية حقوق الإنسان، مما يشير إلى أن العنف وحقوق الإنسان ليسا متناقضَيْن بالضرورة، فالعنف يحمي حقوق الإنسان من العنف الذي ينتهكها، وليس العنف مصدرَ تعدٍّ فحسب، لكنه يمكن أن يكون مصدرًا لتحرير المرأة وللتقدُّم، كما تبيِّن لافتة منظمة العفو الدولية الخاصة بالقمَّة.

كانت حملة منظمة العفو الدولية أنموذجًا لثقافةٍ أوسع يتم فيها تطويع حقوق الإنسان لخدمة الهيمنة، وباتت حقوق الإنسان هي اللغة المشتركة الجديدة في النقاش الأخلاقي العالمي للتقاليد السياسية ذات المشارب المختلفة، وأصبح كلٌّ من الليبراليين والمحافظين يستنسخون بعضهم بعضًا من أوجه عدَّة بهدف تعزيز أهدافٍ سياسية مختلفة، وتشهد تلك العمليات قَلْبًا وإبدالًا في المُثُل والمعتقدات، ولكنها بلغةٍ متماثلة على نحو غريب، وتساعدنا أنواع القلب والإبدال في تبيان أن حقوق الإنسان – التي يفترض معظم الناس أنها تقدُّمية – يمكن أن ترتبط بمنتهى السهولة بالهيمنة، وتؤكِّد لالِه خليلي أن "استدعاء القانون والشرعية عادةً ما يشيِّد سلوك الحرب ويؤثر في بنيتها، وذلك يساعد في تفسير وجوب تذرُّع الدول بحقوق الإنسان كوسيلة لضمان الامتثال الإداري والأخلاقي".

أولًا: تناقضات حقوق الإنسان

بدأت مصطلحات حقوق الإنسان في التبلور عقب إدراك المنتصرين في الحرب العالمية الثانية العواقب المروّعة لآلة القتل النازية، وظهرت فكرة إنشاء نظامٍ لحماية حقوق الإنسان، وبدأ يتشكَّل نظام جيوسياسيٌّ يسيطر عليه المنتصرون، وفي هذا الإطار ظهر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفسَّر كثيرٌ من دعاة حقوق الإنسان صعودها بعد الحرب بأنها "آلية تحدُّ من سلطة الدولة"، إلا أن هذا التفسير ينهار إذا فُحصت التناقضات الواضحة والكامنة في نظام حقوق الإنسان الذي شُيّد بعد الحرب.

لم تعُد الدولة القومية هي المسؤولة عن تنظيم المجتمعات السياسية وإدارتها فحسب، بل بات الانتماء إليها شرطًا أساسيًّا للحصول على حقوق الإنسان.

تعامل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع تطلعات تحقيق العدالة باستخدام مفرداتٍ عالمية، لكنه أعاد إلى الدولة القومية الاعتبارَ بوصفها الوحدةَ المكوِّنة للأسرة الدولية، ومُنحت الدولة سلطة تطبيق نظام حقوق الإنسان الجديد، وبناءً على ذلك ساعد نظام حقوق الإنسان في إحياء الدولة القومية من الأنقاض التي نتجت من أفعالها، ولم تعُد الدولة القومية هي المسؤولة عن تنظيم المجتمعات السياسية وإدارتها فحسب، بل بات الانتماء إليها شرطًا أساسيًّا للحصول على حقوق الإنسان والالتحاق بمجموعةٍ تحظى بالاعتراف الدولي.

ولفهم الآثار السياسية المترتبة على منح الدولة مسؤولية حماية الشعب من انتهاكات حقوق الإنسان، ولفهم العلاقة بين حقوق الإنسان والهيمنة؛ يمكننا التحول إلى حالة فلسطين-إسرائيل؛ لأنها تكشف بوضوحٍ الآثار المترتبة على تناقضات حقوق الإنسان.

التعويض عن انتهاكات حقوق الإنسان

يوضِّح تاريخ خلق دولة إسرائيل تناقضَ النظام الدولي لحقوق الإنسان، والترابط التأسيسي بين حقوق الإنسان وأصول الحكم الوطني والهيمنة، ويؤدِّي التاريخ هذا الدور لأن الحلفاء في منتصف أربعينيات القرن العشرين نظروا إلى تأسيس دولة إسرائيل كتعويض إنسانيٍّ عما ارتُكب ضد اليهود في أوروربا، واتخذ هذا التعويض شكلَ الدولة القومية الاستيطانية في فلسطين التي ولَّدت ممارساتها الاستعمارية انتهاكات حقوق إنسان جديدة.

اعتبر الحلفاء أن الإبادة بحقِّ اليهود الأوروبيين لحظةٌ غير مسبوقة في التاريخ البشري، وجرى استحداث مفهوم الإبادة الجماعية في النقاشات الأخلاقية والقانونية الدولية في شأن حقوق الإنسان باعتبارها الشكل الأساسيَّ للانتهاك الذي ينبغي على المجتمع الدولي أن يتخذ إزاءه سياسة تعبئة دائمة. وعلى الرغم من تأطير إبادة شعبٍ باعتبارها ظاهرةً جديدة نسبيًّا، فإن كُتَّابًا من طراز حنة أرندت وفرانز فانون وغيرهما، شدَّدوا على أن للمحرقة الأوروبية تاريخًا طويلًا؛ ذلك أن القتل الجماعي المنظَّم على أُسسٍ عرقية ظهر أولَ مرة في المستعمرات الأوروبية قبل أن يُعاد استخدامه داخل القارة فيما بعد.

أمَّا إسرائيل فقد اعتمدت على خطاب حقوق الإنسان والتذكير بالمحرقة في كل مناسبة، وعقب الغزو الإسرائيلي في عام 1967 قال وزير الخارجية أبا إيبان في الأمم المتحدة: "لو أن العرب انتصروا في الحرب، لَما ظلَّ لاجئون يهود، بل مليونا جثة من اليهود كانت ستضاف إلى الستة ملايين ضحية في المحرقة"، فاستُخدم "الحضور الأبدي" للانتهاكات التي ارتُكبت خلال المحرقة لتأكيد صحَّة الادعاء بأن إسرائيل مهدَّدةٌ باستمرار من احتمال تكرار هذه الانتهاكات.

وعقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية عام 1987 أصبح الحفاظ على القانون والنظام العام في الأراضي المحتلة، يُعتبر خدمةً لمصالح حكومة غير شرعية في تصور الجمهور الفلسطيني، كما كانت الانتفاضة محاولةً لكشف النقاب عن الطابع القمعي لما حاولت قوات الاحتلال تقديمه بوصفه حكمًا بيروقراطيًّا؛ إذ كان الهدف هو إجبار إسرائيل على استبدال القانون الاستعماري وجهازه الإداري بمزيدٍ من الجنود، فيتسنَّى تقويض جميع محاولات تقديم الاحتلال باعتباره أمرًا عاديًّا.

في هذا السياق حصل التحول المهم؛ إذ بدأت وسائل إعلام فلسطينية وإسرائيلية ودولية – تغطي الحوادث الجارية – في تأطير المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي باستخدام مفردات حقوق الإنسان، وأدَّت التغطية إلى تأثيرٍ ما في الصحافيين الذين غطوا الحوادث، وكذلك في مؤسسات العلاقات العامة في الجيش والحكومة الإسرائيليَّين، مما دفعهم للردِّ على ادعاءات الانتهاكات بلغة مماثلة، وتأكيد قلقهم على محنة الفلسطينيين الإنسانية.

دخل الفلسطينيون تدريجيًّا في "دائرة الضحايا"، ولم تعُد حقوق الإنسان حكرًا على اليهود، ومن ثَمَّ بدأ التحول في الرأي العام الدولي إزاء محنة الفلسطينيين.

وعلى نحوٍ آخر تمأسست حقوق الإنسان وظهرت منظماتٌ كثيرة غير حكومية جديدة، فقبل اندلاع الانتفاضة كانت في إسرائيل منظمةٌ واحدة غير حكومية، ثم أصبحت 15 منظمةً في الأعوام التي تلت الانتفاضة، وأصبحت الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تؤطَّر لأول مرة على نحوٍ ممنهجٍ بوصفها انتهاكات حقوق الإنسان، ودخل الفلسطينيون تدريجيًّا في "دائرة الضحايا"، ولم تعُد حقوق الإنسان حكرًا على اليهود، ومن ثَمَّ بدأ التحول في الرأي العام الدولي إزاء محنة الفلسطينيين.

ومع ذلك، فإن "ازدهار حقوق الإنسان" لم يؤدِّ إلى توقف العنف السياسي بالمنطقة، وفي سياقٍ آخر ساعدت منظمات حقوق الإنسان – بقصدٍ أو بغير قصدٍ – في إضفاء الشرعية على المحاكم الإسرائيلية التي قاطعها فلسطينيون على مدار العقود الأولى للاحتلال عبر تقديم المذكرات إليها، وكان المطلوب من الدولة المسؤولة عن عمليات الإعدام والقتل خارج نطاق القانون والتعذيب وهدم البيوت[3]، أن تكون هي الحَكم في الانتهاكات التي ترتكبها، كما كان مطلوبًا منها توفير الحماية للمستعمَرين من هذه الانتهاكات.

ثانيًا: تهديد حقوق الإنسان

تقوم منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية المحافظة باستخدام نفس خطابات المنظمات غير الحكومية الليبرالية ولكن على نحوٍ مختلف، وتهاجم تلك المنظمات ما أسمته "تسييس حقوق الإنسان" وتحويلها إلى تهديد، فهم يقصدون أن المنظمات الليبرالية قامت بتشويه المعنى الحقيقي لحقوق الإنسان، وأنها قامت بتعيين نفسها في موقع الوصاية الأخلاقية على حقوق الإنسان، وتزعم المنظمات المحافظة أنها تريد نزعَ هذا التشويه الذي أصاب حقوق الإنسان. ثم ظهر مصطلح "الحرب القانونية" الذي يستخدمه مسؤولون بمعنى "استخدام القانون لتحقيق هدف عسكريٍّ"، ويتم توظيف هذا المفهوم في إدانة منظماتٍ غير حكومية ليبرالية، باعتبارها تهديدًا للأمن القومي.

هذه الاستراتيجية المهاجِمة لحقوق الإنسان لم تكتسب زخمًا في الأوساط الإسرائيلية إلا بعد صدور تقرير "غولدستون"[4]، وقد قامت منظماتٌ إسرائيلية غير حكومية محافظة بمهاجمته بشدَّة، واعتبرت التقرير كما لو كان "قصًّا ولصقًا" من وثائق المنظمات غير الحكومية الليبرالية، واعتبرت المنظمات المحافظة أن نظيراتها الليبرالية قد تجاوزت "الإطار الأخلاقي المشروع" لتوظيف حقوق الإنسان، الذي يثبت حقوق الإنسان في البرنامج الوطني الصهيوني، ومن هنا يصبح التهديد الذي تمثِّله حقوق الإنسان تهديدًا وجوديًّا للمشروع الصهيوني، وهو تهديد تقرنه الدولة بالإرهاب، لكنه "إرهاب قانونيٌّ"، وهنا لا يتم انتقاد القانون الدولي بذاته، بل ما يُناقش هو شرعية استخدامه، كما أن النزاع هنا على تطويع القانون الدولي وتطبيقه "الصحيح"، فالقانون الدولي لا يتم انتقاده إلا عند استخدامه من قِبل فاعلين محدَّدين وعند توظيفه بطريقة معينة.

في هذا السياق صوَّت الكنيست بأغلبية ساحقة في كانون الثاني/ يناير 2011 لإنشاء لجنة تقصِّي حقائق بشأن مصادر تمويل منظمات حقوق إنسان متهمة بمحاولات "نزع الشرعية" عن الجيش الإسرائيلي، وحُشدت الحملات لكتم صوت منظمات حقوق إنسان غير حكومية، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى اضطر "صندوق إسرائيل الجديد" إلى تغيير إرشاداته التوجيهية بشأن التمويل، وأوقف إرسال التبرعات إلى منظمتين كان قد تعاون معهما في الماضي، ويعتبر الصندوق أكبر مانحٍ لمنظمات حقوق الإنسان الليبرالية، وجاء في التوجيهات الجديدة: "إننا نعارض بحزمٍ محاولات محاكمة المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم الأجنبية باعتبار ذلك مبدأ أصيلًا من مبادئ التزامنا الديمقراطية الإسرائيلية"، وبذلك تقتصر شرعية تجييش حقوق الإنسان على المحكمة العليا الإسرائيلية، التي لديها سجل طويل من إضفاء الشرعية على العنف الاستعماري ومنح الحصانة لمرتكبيه.

ثالثًا: حقُّ الإنسان في القتل

إن للجهة السيادية الحقَّ في القتل؛ ذلك أن القانون يشمل الإدارة السيادية للعنف القائم على نقل الحق في القتل من الفرد إلى صاحب السيادة.

يعتبر الجيش الأمريكي أكبر مؤسسة تدريبٍ في مجال حقوق الإنسان في العالم، وفقًا لأستاذ القانون البارز "ديفيد كينيدي"، وقد شارك كينيدي بنفسه في تدريب أفراد من الجيش السنغالي على قوانين الحرب وحقوق الإنسان، وقد عُقد هذا البرنامج في 53 بلدًا، وينقل أن الرسالة الموجَّهة للمتدربين هي: "لقد أكدنا أن القانون الإنساني سيجعل جيشكم أكثر فاعلية، وسيجعل استخدامكم القوة شيئًا يمكنكم استدامته وتقفون خلفه فخورين"، والإشكال هنا أن الجيوش ومنظمات حقوق الإنسان تتقارب فيما يتعلَّق باستخدام حقوق الإنسان بوصفها إطارًا معرفيًّا وأخلاقيًّا للحكم على مغزى القتل، ولا يختلف الجيش الإسرائيلي عن الجيش الأمريكي؛ إذ يعمل "آسا كاشِر" أستاذ الفلسفة في جامعة تل أبيب مع الجيش الإسرائيلي لوضع توجيهاتٍ إرشادية تُحدِّد متى يكون "الاغتيال" أخلاقيًّا في "محاربة الإرهاب"، فالاغتيالات بهذا الشكل جائزة أخلاقية عند حماية الدولة لنفسها وحمايتها للمواطنين. ومن ثَمَّ، ساغ للبعض ألَّا يفصل بين ظهور الدولة الحديثة وبين الفكرة القائلة: إن للجهة السيادية الحقَّ في القتل؛ ذلك أن القانون يشمل الإدارة السيادية للعنف القائم على نقل الحق في القتل من الفرد إلى صاحب السيادة، وهذه إحدى دعائم نظرية العقد الاجتماعي الحديثة.

الدروع البشرية

إن استخدام حقوق الإنسان لإضفاء الصحَّة على الهيمنة وشرعنتها يبدو بوضوحٍ في الخطاب الخاص بالدروع البشرية، ويعني التدرُّع بالبشر: استخدام الأشخاص المحميين بموجب القانون الدولي الإنساني، مثل المدنيين أو أسرى الحرب، لردع الهجمات عن المقاتلين أو المواقع العسكرية، وكثيرًا ما كان المدنيون في طليعة العنف في فلسطين-إسرائيل؛ لكن المنظمات غير الحكومية الليبرالية لم تقرِّر استخدام النصوص المتعلِّقة بالدروع البشرية لانتقاد ممارسات الجيش الإسرائيلي إلا في منتصف الانتفاضة الثانية، وقامت المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2005 بإصدار قرارٍ يصف استخدام الدروع البشرية بأنه عمل "قاسٍ ووحشيٌّ".

وبعد مرور عامٍ على القرار، نشر مركز أبحاث إسرائيلي – مكاتبه موجودة في وزراة الدفاع – تقريرًا عن استخدام حزب الله مدنيين لبنانيين دروعًا بشرية في أثناء الحرب على لبنان عام 2006، وذكر المركز أن "ضربات جيش الدفاع الجوية وهجماته البرية ضد أهداف حزب الله الواقعة في مراكز سكانية، نُفّذت وفقًا للقانون الدولي الذي لا يمنح حصانةً لمنظمة إرهابية تختبئ عمدًا خلف المدنيين وتستخدمهم دروعًا بشرية"، وبالتالي تم تطويع مصطلح الدروع البشرية عبر إلصاق معنًى مختلف به، أصبح من خلاله استخدام الدروع البشرية ليس مجرَّد انتهاك، لكنه في الحروب الحضارية المعاصرة التي ينعدم فيها التكافؤ، يمكن أن يساعد أيضًا في إضفاء الصحَّة على الدعوى الأخلاقية بأن "مقتل مدنيين غير مستهدفين" ما هو إلا ضرر جانبي، وبالتالي هو شرعي، واستمرت هذه الدعاوى في أثناء الحروب على غزة في عامي 2008 و2014[5].

في هذا الإطار لم تنفرد الحكومة الإسرائيلية ومراكز بحوثها في صوغ أفعال القتل السيادية كأنها حقٌّ إنساني، بل تبعتها منظماتٌ غير حكومية ليبرالية، وهو ما فعلته منظمة "بتسليم" في مراقبتها لأعمال الحرب في عام 2012؛ إذ ذكرت في معرض تحليلها لظروف مقتل الفلسطينيين والإسرائيليين، أن "القانون لا يجيز إلا استخدام الأسلحة الدقيقة القادرة على تمييز الأهداف العسكرية من المدنية"، وبعبارة أخرى فإن استخدام إسرائيل لأسلحة تكنولوجية متقدِّمة يعفيها من خرق القانون الدولي بغضِّ النظر عن عدد القتلى المدنيين غير المتكافئ[6].

رابعًا: حقُّ الإنسان في أن يستعمر

أصدرت منظمة ريغافيم عام 2010 كتيبًا بعنوان: حول تجيير العدالة (On the perversion of justice) ويتمحور عمل ريغافيم حول "حماية الأراضي والممتلكات الوطنية" ومنع الفلسطينيين من "الاستيلاء على موارد البلاد من الأراضي"، وتقوم ريغافيم بقلب المسار التاريخي لمشروع السلب الإسرائيلي، ومفاد هذا القلب أن المستوطنين اليهود هم ضحايا التمييز، في حين أن الفلسطينيين المستعمَرين هم "الغزاة" للأراضي الإسرائيلية، وأنهم مرتكبو انتهاكات حقوق المواطنين اليهود في إسرائيل.

رغم أن عملية الاستيطان كانت تجري بدأب، فقد قامت الحكومة الإسرائيلية – مع تزايد الضغط عليها – بتحرُّك رمزيٍّ لإجلاء بعض المستوطنين من بؤر استيطانية، وفي هذا السياق بدأ نشاط منظمة "ييشا لحقوق الإنسان" وكانت تلك هي المرة الأولى التي ينشئ فيها المستوطنون منظمةً غير حكومية بهدف الدفاع عن حقوق المستوطنين، ومنها "حق الإنسان في ألَّا يتم إجلاؤه من المستوطنات وفي مواصلة استعمار أرضٍ فلسطينية". ويمكن ملاحظة ضرورتين "أخلاقيتين" توجهان حق الإنسان في أن يستعمر، هما: حماية المستوطنات القائمة على فكرة أن إجلاء المستوطنين اليهود انتهاكٌ لحقوق الإنسان، وأن تهجير الفلسطينيين القائم على مفهوم الطرد عملٌ من أعمال العدالة.

ما يمكن ملاحظته هو أن هناك عملية محاكاة يقوم بها المحتل، بحيث يصير هو الأصلي ويتحول الأصلي إلى غازٍ، ولا تتحقَّق "أصالة المستعمِر" إلا إذا قام بعمليةٍ ذات بُعْدين: نزع مليكة المستعمَر، ثم حماية المستعمِر من غزوٍ مفترض يمكن أن يشنّه المستعمَر، وكي يمسي المستعمِر أصليًّا، يجب قلب العلاقات التاريخية والأخلاقية بين المستعمِر والمستعمَر.

خامسًا: ماذا بقي من حقوق الإنسان

ما يطرحه الكتاب من عمليات قلبٍ وإبدالٍ وتقاربٍ واستنساخٍ يدفع إلى التساؤل عما يتبقى من حقوق الإنسان؟ وهل من الممكن مواصلة توظيف حقوق الإنسان باعتبارها خطابًا مناهضًا للسيطرة والهيمنة؟ ويرى الكاتبان إمكانية ذلك عبر أمور منها:

أولًا: لا بدَّ من تطوير حقوق الإنسان باستخدام منظورٍ غير قانوني، فإذا كان القانون الإنساني يعزِّز الهيمنة في أغلب الأحيان، فإن على حقوق الإنسان أن تُستخدم لنقد القانون كلما وأينما عزّز الهيمنة، دون أن يعني ذلك تجاهل القانون.

ثانيًا: إذا كانت منظمات حقوق الإنسان تتشكَّل من طبقاتٍ من المثقفين ذات امتيازاتٍ واسعة ويُسمح لها بالتحدُّث على نحوٍ أكثر مشروعية من غيرها، حتى من أولئك الذين يعانون من الانتهاكات، فلا بدَّ من إزالة هذه الفوارق الطبقية، ونزع "الاحترافية" عن حقوق الإنسان، ويمكن أن يتمَّ ذلك عبر التغيير المؤسسي، الذي يستهدف جعلها مسؤولةً أمام الناس الذين تزعم أنها تمثِّلهم.

أخيرًا: إن حقوق الإنسان يجري تطويعها في فضاء سياسيٍّ يفتقر إلى الحياد، ويتحرك بتوجيه من علاقات الهيمنة؛ ولذا ينبغي قياس حقوق الإنسان من حيث علاقتها بالهيمنة، ولا بدَّ من رفض أيِّ استنفارٍ لحقوق الإنسان يكون من شأنه تعزيز الهيمنة.

إن القضيةَ قضيةُ شكلٍ كما هي قضية مضمونٍ في الوقت نفسه، فعندما لا تستطيع الأشكال الحالية تعبئة حقوق الإنسان للمساعدة في تفكيك الهيمنة في وضعٍ ما، فعلى ناشطي حقوق الإنسان حينئذ إعادةُ صوغ مفاهيم النضال، كما يجب عليهم إعادة تأطيره.


الهوامش

[1] انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: http://www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights/index.html.

[2] نيكولا بيروجيني، نيف غوردون، "عن حق الإنسان في الهيمنة"، ترجمة محمود محمد الحرثاني، مراجعة سعود المولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018م.

[3] وفقًا لمنظمة بتسليم، فقد بلغت عدد البيوت المهدومة "هدمًا تامًّا" فيما بين عامي 1987 و2004، وبوصف هذا الإجراء وسيلةَ عقابٍ – (1115) منزلًا، يُنظر: معطيات عن هدم وإغلاق البيوت بهدف العقاب، 1987-2004. https://www.btselem.org/arabic/punitive_demolitions/statistics_since_19… وبلغت عدد المنازل والشقق المهدومة في الفترة بين عامي 2014 و2018 – (53) منزلًا وشقة. يُنظر: معطيات عن هدم البيوت كوسيلة عقاب. https://www.btselem.org/arabic/punitive_demolitions/statistics.

[4] شكَّلت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بعثةً لتقصِّي الحقائق في العدوان الإسرائيلي على غزة (2008-2009) برئاسة القاضي الجنوب أفريقي واليهودي ريتشارد غولدستون، ورفضت إسرائيل التعاملَ معه ودخول بعثته لأراضيها.

[5] صادق مجلس النواب الأمريكي في كانون الأول/ ديسمبر 2018 على مشروع قانونٍ يهدف إلى فرض عقوباتٍ على حزب الله وحركة حماس لاستخدامهما المدنيين كدروعٍ بشرية، مما يضمن أن يصبح قانونًا، يُنظر: قانون أمريكي يستهدف قادة حماس كأفراد. https://www.palinfo.com/news/2018/12/12/قانون-امريكي-يستهدف-قادة-حماس-ك….

[6] قدَّرت الأمم المتحدة عدد القتلى خلال حرب 2012 بـ(174) فلسطينيًّا منهم (101) مدني، و(6) إسرائيليين منهم (4) مدنيين.