"قاسم أمين" خارج النسق الذكوري

الصورة
قاسم أمين

خارج النسق الذكوري حاول قاسم أمين العملَ برؤى مختلفة كمحاولة منه للخروج من وطأة التقليد بكافة أشكاله وأنواعه وممارساته، واستطاع خلالَ مسيرته أن يلتزم بالوسطية؛ ولكنه قام بتسليط الضوء حول مَوَاطن التسلط والتبعية والهيمنة الذكورية التي كانت تظهر بشكل عام في قمع وإقصاء المرأة، وتجريدها من حقوقها الطبيعية في التعليم والمشاركة في الحياة العامة. وأحدثت أفكاره ضجَّةً كبيرةً أماطت اللثام عن مجتمع كاد أن يسقط في الهاوية، وعلى الرغم من أن مطالب "قاسم أمين" كانت بالغةَ التواضع، مقارنةً بوضع المرأة حاليًّا، ولكن هذه المطالب كانت أشبهَ بثورة عارمة غيَّرت فكرَ المجتمع وأعرافَه؛ لأن في  هذه الفترة كانت المرأة سجينةَ واقع وأفكار فرضت عليها كليًّا.

علينا أن نعي جيدًا أن مجرد التحدث عن "حرية المرأة " خلال العقد الماضي كانت معاناةً شديدةَ الصعوبة.

ففي عصر النهضة، قد سبق جمال الدين الأفغاني ومن بعده الإمام محمد عبده، قاسم أمين في المناداة بحقوق المرأة، انطلاقًا من واقع المرأة العربية المسلمة في الدفاع عن حقوقها وكرامتها؛ إذ كان خطابًا مرهفًا للخصوصية الثقافية والدينية للعالم العربي، ومع ذلك واجه هذا الطرحُ رفضًا كبيرًا؛ ولكن علينا أن نعي جيدًا أن مجرد التحدث عن "حرية المرأة" خلال القرن الماضي كانت معاناةً شديدةَ الصعوبة، حيث "كان قاسم أمين واحدًا من المصلحين البارزين في مدرسة الاستنارة واليقظة والتنوير في مصر والشرق العربي والإسلامي. تلك المدرسة التي تكونت بمصر في النصف الأول من القرن الماضي، ورائدها هو رفاعة الطهطاوي (1801-1873م). وكان الموقف الاجتماعي لهذه المدرسة يستهدف العبور بالمجتمع من مرحلة الإقطاع والانتقال به إلى المرحلة البرجوازية"(1). ولكن؛ ما هي أهميّة تجديد الخطاب إن لم  يُسمح له بالتعبير عن المخاوف والعقبات ومعالجتهما في سبيل بلوغ الحرّيّة؟

وقد جاء كتاب قاسم أمين أشبه بحجرٍ سقط في المياه الرّاكدة، ومع ذلك لم يطالب بشيءٍ خارجٍ عن الإطار العام للشريعة الإسلامية؛ فهو لم يدْعُ إلى السُّفور والتبرج كما يدّعي البعض؛ بل دعا إلى خروج المرأة من أجل التعليم والمشاركة في الحياة العامة، و بالرغم من ذلك قد ظُلم من قِبل بعض الأقلام ، فمثلًا كتاب "تحرير المرأة" الذي أثار جدلًا واسعًا، ربما لأنه جاء بأفكار جديدة رُفضت مسبقًا لأنها اعتُبرت تهكمًا صريحًا على الإسلام، فنُبذ الكتاب وكاتبه قسرًا. أتى هذا الكتاب في أربعة فصول يتحدث فيهم "أمين" عن الامتيازات التي حصلت عليها المرأة تحت لواء الإسلام، فحتمًا قد حسم الإسلام الأمرَ في التخفيف عن المرأة ورفع المظالم التي كانت تُحيق بها. وفي واقع الأمر إن من اطلع على أعمال قاسم أمين سيعلم تمامَ العلم أنه كان دائمَ التمسك بالإسلام وتعاليمِه، ويرى أنه بمبادئه العظيمة يصلح دينًا للعالم بأسره ويعبر عن ذلك قائلًا: "إنني أبعدُ ما أكون عن التعصُّب، غير أنني أعتقد أن الإسلامَ هو أفضل راية يمكن أن تجتمع حولها البشرية كلها متحدةً في عقيدةٍ واحدة؛ ذلك أن الإسلام ببساطته، وبتسامحه الكبير الذي يتميز به يجمع في رأيي مؤهلاتٍ تكفي لترشيح نفسِه ليكون دينَ العالم كله"(2).

يُعدُّ وضعُ المرأة في أي مجتمع أحدَ المعايير الأساسية لقياس درجة تقدُّمِه، وبذلك فإن تخلُّفَه ينعكس أثره مباشرة على تفكير الرجل ومسلكه.

لا شك أن احتكاكَ العالم العربي وخصوصًا مصر بالعالم الغربي أثناء حملة نابليون وبعدها في فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار، لعب دورًا لا يُستهان به في التأسيس لخطاب المرأة في العالم العربي، ربما نظر قاسم أمين من وجهة مختلفة ليس في قمع المرأة فحسب باعتبارها الرئة المعطلة سلفًا، بل لأن كلًّا من الرجل والمرأة في حالة رق بطريقة أو بأخرى، فيقول: "انظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه! ثم انظر إلى البلاد الأوروبية، تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل!"(3). ولذلك يُعدُّ وضعُ المرأة في أي مجتمع أحدَ المعايير الأساسية لقياس درجة تقدُّمِه، وبذلك فإن تخلُّفَه ينعكس أثره مباشرة على تفكير الرجل ومسلكه، وبالتالي يشكل واحدًا من أهم العوائق الحضارية التي تعرقل التنمية الاجتماعية. لم يطالب قاسم أمين بمساواةٍ تامَّةٍ بين المرأة والرجل في جميع مراحل التعليم، بل طالب بالمساواة في التعليم الأَوَّلي فقط؛ لأن في هذه الفترة كانت تجربةُ تعليم النساء مقيدةً بذلك الاعتقاد بأن المرأة خُلقت للمنزل وحسب، وهو نفس الاعتقاد الذي ظل يلاحقها في مجال العمل أيضًا. ويعبر عن ذلك  قائلًا: "ولست ممن يطلب المساواةَ بين الرجل والمرأة في التعليم فذلك غيرُ ضروري، وإنما أطلب الآن، ولا أتردد في الطلب، أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يُعتنى بتعليمهن إلى هذا الحد مثل ما يُعتنى بتعليم البنين"(4). وكان هدفُه بالاعتناء بتعلميهن أن تتعلم المرأة تعليمًا جادًّا يجعلها تمتلك الشجاعةَ على تحمل المسئولية، والإيمان بأن نجاحها في الحياةِ ممكن أن يُدرك ذاتيًّا دون عون. 

لم يقصد أيضًا خلعَ الحجاب بمفهومه الإجرائي- كـزيٍّ- بل طالب برفع الحجاب عن حقوق التعليم والعمل والمشاركة في الحياة العامة، فلم يطالب "قاسم أمين" بسفور المرأة على النحو الذي كان عليه حالها في أوروبا يومئذٍ، فيقول: "إن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشُّف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تُصان المرأة من التعرض لمثارات الشهوة ولا ترضاه عاطفة الحياء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجُّب والتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال، حتى صارت المرأة أداةً من الأدوات أو متاعًا من المقتنيات، وحرمناها من كل المزايا العقلية والأدبية التي أعدت لها بمقتضى النظرة الإنسانية، وبين هذين الطرفين وسطٌ هو الحجاب الشرعي وهو الذي أدعو إليه"(5). فمن المؤكد أن حريةَ المرأة هي جزءٌ من تحريرِ المجتمع؛ لأنه لا يُمكن أن يكون المجتمع حرًّا وجزءٌ منه لا يتمتع بحقوقه، فمن الواضح أن قاسم أمين يقصد إزالةَ الحجاب عن العقل وليس عن الجسد.

استغلال وضع المرأة العربية المسلمة والممارسات المجحفة بحقها وتهميشها في الثقافة العربية الإسلامية ومنظومة القيم السائدة، لا تمتُّ لـروح الإسلام بأيِّ صلة.

لقد تبلور خطابُ قاسم أمين وموقفه الإصلاحي في تعامُلِه مع قضايا المرأة العربية بمنظورٍ يعكس وعيَه بأهمية الخطاب الديني ودوره في التأثير والتأثر بقضايا المرأة، ودعا بذلك لتأسيس مناهجَ فكرية ونظرياتٍ إنسانية منبعها الثقافة العربية، من شأنها النهوض بقضايا المرأة العربية والتعامل معها بمزيدٍ من الالتزام والمصداقية، فهو لم يرفض النموذجَ الغربي لحقوق المرأة برُمَّته باعتباره إنتاجًا غربيًّا، ولم يتبنَّه أيضًا، بل كان يبحث عن مدى ملائمته للثقافة الإسلامية، ووجد في واقع الأمر أن استغلال وضع المرأة العربية المسلمة والممارسات المجحفة بحقها وتهميشها في الثقافة العربية الإسلامية ومنظومة القيم السائدة، لا تمتُّ لـروح الإسلام بأيِّ صلة؛ إذ إن الإشكالية الحقيقة تكمُن في ممارسات بعض المسلمين وليس في الإسلام ذاته. وعلى الرغم من أن المكتسبات التي حصلت عليها المرأة كونها مضت بخطى متكاسلة وغير متكافئة في كثير من الميادين، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من المحاولات التوعوية التي قادها الخطاب النِّسوي لا زال هنالك العديدُ من الاتجاهات التي ترى خطابَ المرأة برمته خطابًا نشازًا وتسعى إلى إقصائه.


الهوامش

(1) عمارة، محمد " قاسم أمين ـ الأعمال الكاملة " ط2،  دار الشروق، ،  1409هـ - 1989م ، ص44.

(2) أمين، قاسم،  1988م، تحرير المرأة ( التمدن الإسلامي )، ط2 دار النشر الشروق، ص125.

(3) المرجع نفسه، ص 98

(4) المرجع نفسه ، ص 124

(5) المرجع نفسه ، ص 43 ،104