-ما زال المفهوم راهنا- حوار مع آصف بيات

بيات

البروفيسور آصف بيات، نودُّ في البداية أن نعرب عن شكرنا لكم على تفضلُّكم بإجراء هذا الحوار معنا في مركز نهوض للدراسات والبحوث، ونباشر بالأسئلة:

  •  بعد ما يزيد عن عشرين عامًا، كيف تصف رحلتك مع مفهوم "ما بعد الإسلاموية"، منذ لحظة ميلاده في السياق الإيراني وحتى اللحظة الراهنة؟ وكيف تُقيّم القدرة التفسيرية لهذا المفهوم عبر هذه السنوات المديدة؟ 

بيات: لقد قطع هذا المفهوم شوطًا طويلًا خلال السنوات العشرين الماضية، وتجاوز خلالها حدود الجغرافيا التي وُلِدَ فيها. فإن بحثتَ عن مصطلح "ما بعد الإسلاموية" Post-Islamism على مُحرّك البحث جوجل، ستعثر على نحو مليونَي نتيجة باللغة الإنجليزية وحدها. وإذا أضفنا إليها النتائج التي سنعثر عليها باللغات السائدة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، سندرك حجم الجدل والنقاش الذي تسبَّب به هذا المفهوم. لقد بِتنا أمام عددٍ هائلٍ من الأدبيات التي تتناول موضوع "ما بعد الإسلاموية"، وهي أدبياتٌ تشمل عشرات الكتب. ولعلَّ أكثر ما يُثير اهتمامي وسط ذلك، هو رواج مصطلح "ما بعد الإسلاموية" في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. فقبل نحو عشر سنوات، أرسلت إليَّ إحدى الطالبات في تركيا ورقةً تستعرض فيها ما يقرب من ۱۰۰ ورقة علمية نُشرت حول مصطلح "ما بعد الإسلاموية" باللغة التركية وحدها.

ولا شكَّ أن رقعة النقاش قد اتَّسعت منذ ذلك الوقت. فهناك نقاشاتٌ خِصْبة اليومَ في إيران وباكستان وإندونيسيا وتركيا، وفي سائر بلدان العالم العربي. وهذه النقاشات -في رأيي- مؤشرٌ واضحٌ على أن مفهوم "ما بعد الإسلاموية" يلتقط ويعبِّر عن شيء يشعر به الكثيرون في العالم الإسلامي شعورًا عميقًا. ولا أعني بذلك أن المفهوم ورواجه يكشفان عن وجود تغيُّر في خصائص السياسة كما يمارسها الإسلاميون، بل أعني أيضًا أن "ما بعد الإسلاموية" تُمثل "مشروعًا" يرى فيه العديد من المواطنين المسلمين أنفسهم. ولا شكَّ أن الانتفاضات العربية في بدايات العقد الماضي -في نظري- كانت إثباتًا لمدى راهنيَّة المفهوم.

  •  بعد موجة الثورات العربية في عام ۲۰۱۱م (أو ما بات يُعرف بـ "الربيع العربي")، عاد مفهوم "ما بعد الإسلاموية" إلى الواجهة مجددًا. فقد انخرطت العديد من حركات الإسلام السياسي في عملية التحوُّل الديمقراطي في العديد من البلدان. كيف تُقيّم أدوار هذه الحركات في مسار الانتقال الديمقراطي، وفي مصر خاصَّة؟ 

إنَّ تجربة حزب النهضة ما بعد الإسلاموي في تونس تُثبت أن بعض الأحزاب الدينية (ما بعد الإسلاموية، وليس الإسلاموية) تستطيع أن تلعب دورًا إيجابيًّا في تعزيز الديمقراطية الانتخابية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة.

بيات: أعتقد أن ما يُسمَّى بـالربيع العربي كان تجسيدًا -بدرجة من الدرجات- لما يُمكن أن يُسمَّى بـ "الثورات ما بعد الإسلاموية"؛ إذ لم تكن اللغة الدينية -على خلاف حال الثورة الإيرانية في عام ۱۹۷۹ مثلًا- حاضرةً خلال الانتفاضات. ولم تبرز الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس والمغرب وغيرها، ولم تصل إلى السلطة إلَّا في أعقاب تلك الانتفاضات. قد يعني ذلك -في نظر بعض المراقبين- عودةً للإسلاموية. ولكني لا أرى ذلك. فهذه الأحزاب -باستثناء حالة الإخوان المسلمين في مصر- لم تكن إسلاموية، وإنَّما كانت بالدرجة الأكبر أحزابًا ما بعد إسلاموية. إنَّ تجربة حزب النهضة ما بعد الإسلاموي في تونس تُثبت أن بعض الأحزاب الدينية (ما بعد الإسلاموية، وليس الإسلاموية) تستطيع أن تلعب دورًا إيجابيًّا في تعزيز الديمقراطية الانتخابية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة.

  •  بعد الردَّة السلطوية على الديمقراطيات الوليدة في المنطقة، يبدو أن مقاربة دمقرطة الأحزاب الإسلامية (أو ما يُعرف بأطروحة الدمج والاعتدال inclusion-moderation) لم تعُد صالحةً. فالعديد من الشخصيات والفاعلين "ما بعد الإسلامويين" باتوا في سجون الحكومات الاستبداديَّة مُتَّهَمين بالإرهاب. فهل يعني ذلك أن "ما بعد الإسلاموية" بوصفها "حالةً" و"مشروعًا" لم تعُد صالحةً كذلك؟

بيات: لا شكَّ أن الأنظمة السلطوية القائمة -التي تشكِّل جزءًا من مشروع الثورة المضادة في المنطقة- قد قوَّضت شروط الانتقال الديمقراطي في المنطقة. ولكنَّ ذلك لا يختصُّ بما بعد الإسلاموية. فالأنظمة الاستبداديَّة كالنظام المصري والإماراتي والسعودي والبحريني، وهي أنظمة مدعومة من القوى الغربية، قد خنقت كلَّ المشروع الديمقراطي في المنطقة. ولا يقتصر الأمر على قمع شخصياتٍ تنتمي لمشروع ما بعد الإسلاموية، بل يشمل هذا القمع أحزابًا علمانية ويسارية، بل ويشمل كلَّ حزب مستقلٍّ يُشكِّل معارضةً جدِّيةً لهذه الأنظمة. بل إن هذه الأنظمة لا تتسامح حتى مع منظَّمات المجتمع المدني المستقلَّة، ولا تقبل بنشاط مجموعات حقوق الإنسان أو حقوق المرأة. 

  •  من وجهة نظرٍ سوسيولوجية، كيف تقرأ أطروحة وائل حلاق "الدولة المستحيلة"؟ وما موقع "الإسلاموية" و"ما بعد الإسلاموية" من هذه الاستحالة؟ 

بيات: أعتقد أن فكرة وائل حلاق عن "الدولة المستحيلة" تنطبق على مشروع الإسلاموية لا مشروع ما بعد الإسلاموية. وأتمنى أن أكون قد أوضحت -بما فيه الكفاية- الفوارق الأساسية بين المشروعَيْن في شتَّى كتاباتي. ولكن أنتهز الفرصة لأذكِّر بأن ما بعد الإسلامويين -بحسب فهمي- لا يريدون دولة إسلامية، بل يفضِّلون دولة علمانية مع وجود مجتمعٍ صالحٍ وتقيٍّ. ولا شكَّ أن مشروعًا كهذا سيواجه هو الآخر أشكالًا من التوتُّر، ولكنها أشكالٌ تختلف اختلافاً بيِّنًا عن أشكال التوتُّر التي يواجهها أيُّ نظام حكم إسلامي.

  •  لقد شهدت تونس انتقالًا ديمقراطيًّا ناجحًا جزئيًّا. وإذا قارنا الحالة التونسية بنظيرتها المصرية، فإلى أيِّ درجة كان خطاب حزب النهضة مُسْهِمًا في هذا النجاح؟

على خلاف الإخوان المسلمين في مصر، الذين فشلوا في تشكيل تحالفٍ مع القوى السياسية غير الإسلامية لمواجهة قوى الثورة المضادة، تمكَّنت النهضة من العمل مع الأحزاب الليبرالية العلمانية.

بيات: لم تقم تجربة الديمقراطية الإجرائية procedural democracy في تونس -مقارنة بمصر- على وجود تقليدٍ سياسيٍّ يقضي بتقليل درجة تدخُّل الجيش التونسي فقط، وإنما استندت أيضًا إلى عاملين اثنين: الأول هو الحركة العمَّالية القوية والمنظَّمة تنظيمًا جيدًا (الاتحاد العام التونسي للشغل)؛ والثاني هو النزعة ما بعد الإسلاموية لحركة النهضة. فعلى خلاف الإخوان المسلمين في مصر، الذين فشلوا في تشكيل تحالفٍ مع القوى السياسية غير الإسلامية لمواجهة قوى الثورة المضادة، تمكَّنت النهضة -بفضل نزوعها الإدماجي inclusivism- من العمل مع الأحزاب الليبرالية العلمانية، لتشكيل تحالف مشترك وتقاسم السلطة، وإن بقيت التوتُّرات قائمةً ومستمرةً داخل هذا التحالف حتى اليوم. إن العمل المشترك الذي أدَّى إلى صياغة دستور تقدُّمي نسبيًّا هو إنجاز محمود. وبناءً على ما تقدَّم، أجيب بنعم، كان للخطاب الإدماجي للنهضة إسهامٌ مهمٌّ في الديمقراطية الانتخابية التونسية.

  •  في ظلِّ الصعود الجديد للأنظمة السلطوية، والإقصاء المتواصل لحركات الإسلام السياسي، ما هي السيناريوهات الكبرى لمستقبل الحركات الإسلامية في كلٍّ من تونس ومصر؟ 

بيات: أعتقد أن الإسلاموية ستبقى حاضرةً معنا في المستقبل المنظور، حتى لو تقلَّص حجم حضورها أو خضع للتهميش. فالنزعة الإسلاموية ناجحةٌ في صياغة الانتماء ورموز الهوية، كما أنها تقدِّم نفسها بوصفها مجموعةً متكاملةً ومُتَّسِقةً من الأفكار والقِيم وطرق العيش، القادرة على الإجابة عن الأسئلة الاجتماعية والفلسفية كافَّة. وهذه السمات هي التي تجعل النزعة الإسلاموية جذَّابةً للعديد من المسلمين، ومن شأن ذلك أن يكفل لها الاستمرار.

غير أن قمع الحركات الإسلاموية عادةً ما يؤدي إلى مسارَيْن متضادَّيْن: فقد يفضي ببعض شرائح الحركة إلى مزيدٍ من الراديكالية، ويحملهم إلى استعادة نهج الكفاح المسلَّح، في حين قد يفضي بشرائح أخرى إلى إعادة التفكير ومراجعة استراتيجيات عملهم، الأمر الذي يجعلهم في موقعٍ أكثر "اعتدالًا". وأعتقد أن الإسلاموية المصرية ستسلك هذا المسار.

  •  لعبت الأنظمة الملكيَّة في الخليج دورًا محوريًّا في دعم الثورات المضادة، ولكنَّ هذه السياسات الكبرى لا تعكس الميولَ السياسية في الشارع الخليجي بالضرورة. ومن ثَمَّ كيف تقرأ التحوُّلات الاجتماعية في المجتمعات الخليجية؟ وكيف يُمكن أن تؤثِّر هذه التحوُّلات في الحركات والتيارات الإسلامية المختلفة هناك؟

بيات: هذا صحيح، لقد لعبت الأنظمة الملكيَّة في الخليج -وخاصةً المملكة العربية السعودية- دورًا مدمِّرًا في عكس مسارات الثورات في المنطقة. ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن صدى الثورات العربية قد تردَّد في ممالك هؤلاء الحكَّام. ولذلك حاولت هذه الأنظمة أن تمتصَّ معارضة مواطنيها عبر  تقديم حزمة من "الإصلاحات" (الحقيقية أو الزائفة) أو عبر سياساتٍ من السخاء المالي داخليًّا، مزاوجةً ذلك مع نهجٍ قمعيٍّ شرسٍ ضدَّ كلِّ مَن يسعى إلى تغييرٍ حقيقيّ. ومع ذلك، يبدو لي أن التغيير في هذه المجتمعات يتحرَّك تحركًا ثابتًا -وإن كان هادئًا- تحت السطح، تقوده مجموعاتٌ من الشباب والنساء والمصلحين الدينيين. بل إنَّ الإصلاحات التي فرضتها دولٌ مثل المملكة العربية السعودية من أعلى هرم السلطة، يُمكن على المدى البعيد أن تفتح مساحاتٍ جديدةً وتدفع إلى تغيُّرات أعمق في قاعدة المجتمع. إن التغيُّر المحسوب الذي تحاول سلطة ما أن تفرضه من الأعلى ليس أمرًا سهلًا في ظلِّ القمع؛ إذ يُمكن أن تكون هذه وصفةً للانفجار الداخلي بكل بساطة.

  • بعد قمع الثورات السلميَّة بوحشية تحت أنظار المجتمع الدولي (سوريا على سبيل المثال)، يرى البعض أن العديد من الدول تشهد تناميًا في المزاج الراديكالي الجذري، حتى على المستوى الشعبي. فهل تتفق مع القائلين بأن هذا المزاج مؤهَّل للصعود والانتشار؟ وكيف ينعكس ذلك على مشروع "ما بعد الإسلاموية"؟

بيات: لستُ متأكدًا من صحَّة هذه الملاحظة. انظر إلى الموجة الثانية من الانتفاضات في السودان والجزائر ولبنان والعراق وما حملته من حراك. لم تُظهر أيٌّ من هذه الحركات الثورية مزاجًا راديكاليًّا، بمعنى السعي إلى حمل السلاح. وقد حدثت جميع هذه الانتفاضات السلميَّة بالطبع بعد المجازر والعنف الذي شهدته سوريا واليمن أو البحرين. إنَّ حقيقة اندلاع هذه الانتفاضات الثوريَّة على الرغم من كلِّ أهوال الحرب الأهليَّة والدمار الحاصل في سوريا واليمن وليبيا أمرٌ مذهلٌ بالفعل ويدعو إلى الإعجاب. وهو ما يُظهر أنَّ الروح الثوريَّة ما تزال ساريةً في المجتمعات العربية. 

  •  لطالما مثَّل حزب العدالة والتنمية المغربي نموذجًا يُحتذى للغالبية العظمى من الإسلاميين "التقدُّميين". ولكن بعد توقيع اتفاقية تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، رأى البعض أن هذه الخطوة تمثِّل نهايةً منطقيةً وطبيعيةً لمشروع "ما بعد الإسلاموية" وخطابه التوافقي. فكيف تقرأ تحوُّلات الحركة الإسلامية في المغرب ومستقبلها؟ 

إذا ما أرادت الأحزاب ما بعد الإسلاموية أن تكون صحيةً وقادرةً على الصمود، فعليها أن تتبنَّى العدالة الاجتماعية في خطابها وبرامجها.

بيات: أولًا، إنَّ حزب العدالة والتنمية -حسب فهمي- لم يكن هو مَنْ وافق على التطبيع، وإنَّما الملك، ثمَّ تبعه رئيس الحزب، سعد الدين العثماني، وقد تسبَّبت خطوة العثماني هذه في إثارة غضب العديد من أعضاء الحزب، الذين طالبوا باستقالته. في الواقع، كانت اتفاقيات التطبيع على الدوام خطواتٍ تبادر إليها الأنظمة السلطوية العربية، دون موافقة الجماهير ورضاهم. وفي المقابل، لا أرى أنَّ لهذه القضية ما يتصل بمفهوم "ما بعد الإسلاموية". ويبدو لي أن البعض يميلون إلى تصوُّر "ما بعد الإسلاموية" كحلٍّ سحريٍّ أو نموذجٍ مثاليٍّ للديمقراطية والعدالة والإدماج. وليست "ما بعد الإسلاموية" كذلك بالطبع. فلدى الأحزاب ما بعد الإسلاموية مشاكلها وتوتُّراتها أيضًا. فعلى سبيل المثال، نادرًا ما ترفع الأحزاب ما بعد الإسلاموية خطابَ العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، فقد تبنَّى معظمها نهجًا اقتصاديًّا نيوليبراليًّا، رغم ما يؤدي إليه من عواقب مُقلقة. وإذا ما أرادت الأحزاب ما بعد الإسلاموية أن تكون صحيةً وقادرةً على الصمود، فعليها أن تتبنَّى العدالة الاجتماعية في خطابها وبرامجها، وعليها أن تسعى إلى ديمقراطياتٍ اجتماعية ما بعد إسلاموية. 

  •  وُجهت العديد من الانتقادات لمفهوم "ما بعد الإسلام السياسي"، منها على سبيل المثال: انتقادات خليل العناني، وفرانسوا بورجا، ولوز جوميز جارسيا؛ ويركِّز كثيرٌ منها على اتساع النطاق الذي يغطيه المفهوم، وعجزه من ثَمَّ عن التفسير والتنبؤ، فمفهوم "ما بعد الإسلام السياسي" مظلَّة واسعة تندرج تحتها حالات متنوِّعة ومتباينة. أَلَا تتفق مع النقد القائل بأن تأطير التحوُّلات المختلفة، التي تعيشها الحركات الإسلامية في بلدان ذات تجارب سياسية متباينة، تحت مفهومٍ واحدٍ من شأنه أن يحجب التنوُّع الحاضر في مسارات هذه الحالات؟ وأليس من الأفضل دراسة كلِّ حالة على حدة؟

بيات: لا، لا أعتقد ذلك ما دام المفهوم قادرًا على استيعاب هذه التنوُّعات المختلفة في مسارات تحوُّل الإسلاموية، وهو الأمر الذي بيَّنته في كتابي "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيِّرة للإسلام السياسي" (۲۰۱۳). في الواقع، إن مفهومي عن "ما بعد الإسلاموية" هو أكثر  دقَّةً وتركيزًا مقارنة بمصطلح "الإسلاموية" كما يعرِّفه هؤلاء الخبراء؛ إذ يشمل لديهم الاتجاهات التي أصنِّفها كاتجاهاتٍ ما بعد إسلاموية. فمفهوم "الإسلاموية" بالصورة السائدة بات يشمل كلَّ الحركات وأنظمة الحكم التي تستند إلى مرجعية إسلامية، سواءٌ في ذلك القاعدة وحزب النهضة التونسي، والخميني وخاتمي، وأبو بكر البغدادي وراشد الغنوشي، فجميعهم -وَفْقَ هذا الاستعمال- يندرجون تحت التصنيف ذاته، وهذا أمرٌ إشكاليٌّ في نظري. وفي المقابل، تساعدنا "ما بعد الإسلاموية" على التمييز بين هؤلاء الأشخاص وبين هذه التوجُّهات الأيديولوجية المختلفة.

  •  قد يقول مراقب خارجيّ: إن حالة المنطقة العربية بعد مرور عشر سنواتٍ على انطلاقة الربيع العربي قد باتت أسوأ من حالها قبل عام ۲۰۱۱م. فهل ما تزال مؤمنًا بأن المنطقة تخوض عملية "الثورة الطويلة" كما صاغها رايموند وليامز؟ وما المؤشرات التي تجعلك مقتنعًا بذلك؟ 

بيات: دعني أستشهد بإجابة سبق لي إيرادها على سؤالٍ صحفيٍّ قريبٍ من سؤالكم: إن حال البلدان العربية اليومَ بعيدةٌ كلَّ البُعْد عن التوقُّعات التي رافقت رياح الأمل الأولى التي جَلَبتها الثورات إلى المنطقة. والأسباب التي أفضت إلى هذا المآل كثيرةٌ جدًّا فصَّلت الحديث عنها في كتابي "ثورة بلا ثوَّار" (۲۰۱۷). ولا شكَّ أن أحد الأسباب الكبرى لهذه الحال هو الدور الإقليمي العدواني الذي لعبته الثورة المضادة لوأدِ هذه الثورات، خاصةً السعودية والإمارات. إلَّا أن هذه الصورة القاتمة صحيحةٌ فقط عندما ننظر إلى قمَّة الهرم (إلى الدول، وأنظمة الحكم، وأشكال الحوكمة، التي لم تتغيَّر تغيُّرًا كبيرًا عمَّا كانت عليه قبل الثورات). ولكنَّ حكمنا قد يتغيَّر إذا ما غيَّرنا منظورنا وزاوية نَظَرِنا ونَظَرْنا إلى القاعدة السفلية (إلى العالم الاجتماعي، والذاتيات الشعبية popular subjectivities، بين النساء والشباب والأقليات، وإلى جميع المجموعات التابعة subaltern). فبالنظر إلى هذا المستوى القاعدي، أجدني متفائلًا بمستقبلٍ ديمقراطيٍّ. وليس بإمكاني التفصيل في هذا الأمر أكثر من ذلك هنا، ولكن أستطيع القول إني قد ناقشت ذلك تفصيلًا في كتابي القادم الذي سيصدر قريبًا.