الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي

غلاف كتاب الأخلاق والإيمان

صدر عن دار الثقافة المغربية كتاب «الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي» للدكتور أحمد بوعود المتخصص في فلسفة الدين، والأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة عبد المالك السعدي بالمغرب.  يقع الكتاب في مئة وأربعين صفحة، ما يتيح لقارئه أن ينهيه في جلستيْن، ورغم صغر حجم الكتاب فإنه جدير بالقراءة المتأنية، لا سيما إذا علمنا أن المؤلف قد بدأ عمله على موضوع الكتاب (أي فلسفة محمد عزيز الحبابي)، منذ ما يقارب خمس سنوات[1]، واعتمد في بنائه المعرفي للكتاب على مئة مرجع ومصدر بلغات عدة، شملت العربية والفرنسية والإنجليزية.

الأخلاق والإيمان

 

وسنحاول أن نُسلِّط الضوء في قراءتنا للكتاب على المنهجية التي اعتمدها في تشكيل فكرة الكتاب، كما سنقوم بتلخيص أهم أفكاره، مسجلين في النهاية بعض الملاحظات التي فكرنا فيها أثناء قراءته.

أطروحة الكتاب

يتطرق المؤلف في كتابه -كما يظهر من العنوان- إلى فلسفة محمد عزيز الحبابي في حقل الإيمان والأخلاق. ولعل الإشكال الرئيس الذي يناقشه الكتاب يدور حول سؤال: ما الذي يمكن أن يضيفه الإيمان إلى الأخلاق؟ لكن قبل أن يصل الباحث إلى تبيّن الإجابة عن هذا السؤال في فلسفة الحبابي، حاول الإجابة عن أسئلة أخرى مرتبطة بالسؤال الأول من قبيل: ما هي الأخلاق؟ وهل يعيش عالمنا فعلًا أزمة أخلاقية؟ وهل فشلت المذاهب المعاصرة حقًّا في الرقي الأخلاقي بالإنسان؟ ومن هنا تقوم أطروحة الكتاب على تبيّن تفكك المذاهب الأخلاقية المعاصرة، ووقوع الإنسانية في أزمة قيمية، تجعل من المشروع  النهضوي للحبابي بديلًا لتجاوز الأزمات الأخلاقية التي يشهدها العالم.

 منهجية الكتاب

أما المناهج الموظَّفة في الكتاب فنجد هيمنة المنهجيْن النقدي والمقارن، والتفسيري والوصفي، ومنهج المثال، فضلًا عن منهج التأثير والتأثر.

قسم المؤلف كتابه «الأخلاق والإيمان» إلى فصليْن بعد أن مهَّد لهما بمقدمة ومدخل في تعريف الأخلاق. فجاء الفصل الأول بعنوان: النقد الأخلاقي للواقع المعاصر، وتناول في هذا الفصل دلالة الأزمة الأخلاقية، ثم مظاهرها، وانتهى بالحديث عن سلبيات الحلول المقدمة لها. أما الفصل الثاني الذي حمل عنوان: الأخلاق والإيمان، فقد تناول فيه موضوع الوحي والإيمان، ثم الإيمان والعقلانية، وتطرق في الختام إلى طاقات الإسلام الأخلاقية. ثم انتهى بخاتمة لخَّص فيها مضمون الكتاب بشكل مُركَّز. وقد اعتمد المؤلف تقسيمًا منهجيًّا متناسقًا، ما جعله يُحيط بأطروحة الكتاب من جميع جوانبها. أما المناهج الموظَّفة في الكتاب فنجد هيمنة المنهجيْن النقدي والمقارن، والتفسيري والوصفي، ومنهج المثال، فضلًا عن منهج التأثير والتأثر. واستعمال هذه المناهج قد اقتضته طبيعة الكتاب الذي يبدأ بمدخل تعريفي للأخلاق، ثم يُعرِّج على تفسير المذاهب الأخلاقية ووصفها، ثم ينتهي بنقدها، وتقديم مالكوم إكس بوصفه مثالًا اختبر طاقات الإسلام الأخلاقية.

 ملخص الكتاب

 يُبيِّن الباحث في مقدمة كتابه أهمية الأخلاق بوصفها جوهر الفكر الفلسفي وقوامه، وكيف أن السؤال الذي شغل فكر الحبابي في مجال الأخلاق هو السؤال التالي: هل من منقذ للمجتمعات الحالية من الشرنقة الذاتية التي تأسر الأنا، ومن الشرنقة الجماعية التي تحشر الدول في متاهات بلا مخرج؟ فهذا السؤال -كما يوضح المؤلف- كان الهم الذي سكن الحبابي، وجعله يلاحظ انحدار الأخلاق في العالم، فنادى في مؤلفاته المتعددة بضرورة إعادة بناء الحضارة، من خلال إعادة النظر في الإنسان وموقعه الصحيح في هذا الكون، وبتخليص الإنسان من كل الشوائب، عن طريق تربيته على احترام حقوق الغير، وهذا الذي لن يحدث -حسب الحبابي- إلا بالإيمان، وذلك لما له من آثار نفسية واجتماعية على الإنسان.

 ثم يجيب المؤلف في مدخل تعريف الأخلاق عن أهم الإشكالات المرتبطة بالأخلاق، فيبدأ بالتعريف اللغوي للأخلاق، ثم بالتعريفات الفلسفية لها، مثل تعريف مسكويه، والشيرازي، والغزالي، وغيرهم من الفلاسفة. كما يتطرق في مدخله للكتاب إلى توضيح المقصود بعلم الأخلاق، وعلاقة الأخلاق بالواجب والإلزام، وعلاقتها أيضًا بالمجتمع والدين.

ثم في الفصل الأول، وهو فصل نقدي بامتياز، يتطرق المؤلف إلى النقد الأخلاقي للواقع المعاصر، ويتناول في هذا الفصل دلالة أزمة القيم، إذ يؤكد أن القرن العشرين هو قرن أزمة، وأن التقدم أسهم في تفاقمها، ليقرِّر أن عصرنا هذا عصر أزمات أخلاقية، سواء على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة، فهذا ما يؤكِّده كثير من المفكرين المعاصرين أمثال إدغار موران، وآين راند التي كتبت: «نعم، هذا زمن الأزمة الأخلاقيّة... وإذا أردت أن تستمر في الحياة، فإن ما تحتاج إليه ليس هو العودة إلى الأخلاق، بل تحتاج إلى اكتشافها». فما مظاهر هذه الأزمات وما أسبابها عند الحبابي؟ يجيب المؤلف عن هذا السؤال عن طريق عرض ثلاثة مظاهر كبرى من مظاهر الأزمات الأخلاقية حسب الحبابي. أولًا: الكذب. ثانيًا: الأنانية. ثالثًا: المزاحمة. فالكذب ضرب من أوجه الخداع، إضافة إلى التلفيق والتكتم والإخفاء.

أما الأنانية بوصفها من مظاهر الأزمات الأخلاقية حسب الحبابي، وهي تعني تفضيل الأنا على الغير، فإن سبب تفشيها في زمننا المعاصر يرجع للفردانية التي أغرقت الإنسان المعاصر في حب الذات.

ويُبيِّن الحبابي حسب المؤلف، أن الكذب في عالمنا المعاصر نوعان: خسيس ونبيل، والكذب الخسيس هو المبتذل، أما النبيل فهو الذي يُنعَت بالدهاء والمهارة والحنكة، و يُركِّز الحبابي أثناء حديثه عن الكذب -كما يؤكد المؤلف- على الكذب السياسي الذي يذهب ضحيته آلاف الأرواح من الناس. ويذكر الباحث قائمة الأكاذيب الدولية التي جمعها ميرشيمر وهي: إثارة الذعر، التغطيات الاستراتيجية، صناعة الأساطير القومية، الأكاذيب الليبرالية، الإمبريالية الاجتماعية، التغطيات الشنيعة. أما الأنانية بوصفها من مظاهر الأزمات الأخلاقية حسب الحبابي، وهي تعني تفضيل الأنا على الغير، فإن سبب تفشيها في زمننا المعاصر يرجع للفردانية التي أغرقت الإنسان المعاصر في حب الذات، أما المظهر الثالث للأزمة الأخلاقية فهو ما سماه الحبابي بالمزاحمة التي ترتبط بالأنانية والظلم، ويُميِّز المؤلف في هذه المسألة بين الحسد المذموم والمنافسة النبيلة والمباحة تأسيسًا على ما جاء في التنزيل الحكيم: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».

وهكذا، بعد شرح وتفسير هذه الأزمات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والنفسية الكبرى، يتطرق المؤلف إلى سلبيات الحلول الحالية، ويقصد سلبيات الحل اللِّيبرالي والحل الاشتراكي، ويرى أن الحبابي لا يُنكر ما أعطته اللِّيبرالية من تقدم علمي وتقنيات وفلسفات، لكنه يلاحظ عليها ما «أنتجته من إمبريالية واستعمار وعنصرية وانغماسها في الاستبداد والطغيان والبطش، كما أنها سلختهم من إنسانيتهم، وزرعت فيهم الفردانية والحسد والحقد، رغم تنمية وعي الأفراد بالذات والكرامة وبلورة حقوقهم»[2].

محمد عزيز الحبابي

محمد عزيز الحبابي

أما الاشتراكية التي استبشر الناس بها خيرًا بوصفها تيارًا مضادًّا لليبرالية، و»عندما جاءت حاملة مشعل التجديد وأمل الغد الزاهر واعدة بمجتمع عادل منفتح ومؤَنْسَن»[3]، فإنها عرفت أزمات تاريخية كبيرة، جعلت التعويل عليها من قبيل التعويل على الوهم. ثم بعد مناقشة سلبيات الحليْن اللِّيبرالي والاشتراكي، ناقش المؤلف موضوع الغديّة والمستقبلية عند الحبابي، ويرى هنا ما أكده الحبابي أن المستقبلية التي تحاول أن تتنبأ بما سيكون عليه الغد القريب اقتصاديًّا وتقنيًّا، لم تُحقق شيئًا لإنسانية الإنسان، في حين أن البديل يكْمن في الغدية التي تؤمن بأن الإنسان يحمل دومًا آمالًا، ويؤمن بأن في استطاعته أن يصنع تاريخه ويكتبه بصيغة المستقبل، متى توافرت بعض الشروط، أي متى أُزِيحت الأنقاض عن الطريق[4].

ثم يناقش المؤلف مسألة حقوق الإنسان التي اختار أن يُعرِّفها كما عرَّفها هاردي بوالون: بأنها رزمة منطقية متضاربة من الحقوق والحقوق المدعاة[5]، ويُسجِّل المؤلف ما لاحظه الحبابي في كتابه «المستقبلية والغديّة» بأن المقصود بالإنسان في عبارة حقوق الإنسان هو الفرد المنتمي لشعب لا يعارض مصالح الدول العظمى التي تحمي حقوق الإنسان في عالم النفاق والهوان وقدسية القوى[6].

أما في الفصل الثاني، فقد تناول فيه المؤلف موضوع الأخلاق والإيمان، وعرَّف في هذا الفصل مفهوم الإيمان، وناقش مسألة الشهادة والعلاقة مع الآخر كما رآها الحبابي، فالشخص عند الحبابي يعي ذاته وعيًا تامًّا عن طريق شهادة ألَّا إله إلا الله؛ لأنه واقع مزدوج ومتفرد. إن الشهادة هنا -كما يؤكد الحبابي- لها قطبان: فردي ذاتي، ومزدوج ترابطي، فحينما نشهد بألوهية الله ووحدانيته نؤكد وجود الله من جهة، ووجودنا الشخصي من جهة ثانية، وهنا تكمن القيمة الأنطولوجية للشخص، أي حين يدرك ذاته في بداية الشهادة وفي آخرها. ويتلخص صلب موضوع الشهادة عند الحبابي في الآية 143 من سورة البقرة: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ﴾.

بعد أن عرض المؤلف أطروحة الحبابي عن الآخر والشهادة ينتقل للحديث عن تصور الحبابي للكرامة بوصفها محور الوجود الإنساني. ثم عرَّج بعد ذلك على موضوع العقلانية والإيمان، مستحضرًا اقتباسات كثيرة لفلاسفة مثل كيركيغارد، ولرجال دين مسيحيين كمارتين لوثر، وغيرهما. لينتهي في نهاية الفصل الثاني بالحديث عن طاقات الإسلام الأخلاقية -حسب الحبابي- التي تتجلى أساسًا في خاصية النية التي يُعبِّر عنها الحديث الشهير: «إنما الأعمال بالنيات»؛ ولأنها -أي النية- ترتبط بالصدق الذي يُعَدُّ الضامن الأساسي للحفاظ على كرامة الآخرين حسب الحبابي. ويختم الباحث الفصل بقصة مالكوم إكس الذي اختبر طاقات الإسلام الأخلاقية في الرحلة التي قام بها في الحج، تلك الرحلة التي غيَّرت مفهومه عن المساواة، وجعلته إنسانًا لا يحمل ضغينة لأحد، خاصة للرجال البيض الذين كان يمقتهم.

خاتمة 

في الختام، نسجل فكرتيْن عن الكتاب:

الأولى: أن كتاب «الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي» يضم جهدًا بحثيًّا كبيرًا يتجلَّى في تعدد المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف، إذ نجده يرجع إلى المصادر الأولى في تعريف المفاهيم، وفي شرح الأفكار والنظريات الفلسفية، كما أن الكتاب يضم الكثير من الاقتباسات مع الإشارة إلى مراجعها بدقة، وهذا الأمر يدل على سعة اطلاع الباحث، وتعدد قراءاته.

الثانية: أن موضوع الكتاب يكتسي راهنية؛ لأنه جاء في فترة تفكك المذاهب الأخلاقية وضعفها، وإن كان الحبابي قد كتب عن أزمة القيم ولاحظها في القرن العشرين، فما عساه كان سيقول عن القرن الحادي والعشرين الذي كاد أن يمر منه ربع قرن. هذا القرن الذي أضحت فيه منصات التواصل الاجتماعي شاهدة على كل مظاهر الأزمات الأخلاقية الكبرى التي تحدَّث عنها الحبابي، وأعني الكذب والأنانية والمزاحمة، بل أضحت هذه المثالب مدعاة للافتخار والتمجيد، لتصبح الأخلاق معها في حاجة للاكتشاف؛ وذلك لاضمحلالها واختفائها كما قالت وآين راند.

هكذا -إذن- يمكن أن نقول إن هذا الكتاب حلقة جديدة من حلقات الأطروحات العربية المعاصرة التي تنتقد قيم العصر السلبية، وإن اختلفت منطلقات مؤلفيها الأيديولوجية والفكرية، فالمؤكد اليوم أن مفكري الوطن العربي يحاولون تجاوز أغلب الأيديولوجيات التي هيمنت على الفكر العربي والإسلامي لعشرات السنين، وذلك إما بإعادة بعث أفكار نهضوية فلسفية متأثرة بالإسلام قد طواها النسيان، وهو ما قام به الدكتور أحمد بوعود في كتابه «الأخلاق والإيمان»، أو من خلال التأكيد على ضرورة العودة إلى مُثُل الحداثة وإلى قيم الإنسانويّة الصادقة.


الهوامش

[1] سبق أن أجرينا حوارًا مع الدكتور أحمد بوعود نُشر على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود بتاريخ 6 مايو 2017م، ذكر فيه حين سألناه عن مشاريعه المستقبلية ما يلي: «أشتغل هذه الأيام على فلسفة محمد عزيز الحبابي رحمه الله، وأعيد قراءة مكتوباته، للإجابة عن بعض الإشكالات التي سيأتي ذكرها، إن فلسفة الحبابي تُشكِّل مشروعًا نهضويًّا، يهم الإنسان بمختلف حيثياته، ويهم الإنسانية جمعاء، همه في هذا كله أن تسود الفضائل والأخلاق، وأن يخرج الإنسان من أنانيته التي يكاد يذوب فيها، وأن يُنتشَل الضعيف من براثن القوي، سواء كان هذا القوي فردًا أو جماعة. وهذا ما عبَّر عنه بشكل صريح أكثر من مرة: هل من منقذ للمجتمعات الحالية من الشرنقة الذاتية التي تأسر الأنا، ومن الشرنقة الجماعية التي تحشر الدول في متاهات بلا مخرج؟ وكيف يستقيم الحديث عن حضارة في ظل تدهور أخلاقي؟ وهل فشلت المذاهب المعاصرة -حقًّا- في الرقي الأخلاقي بالإنسان؟ وكيف أسهمت في التدهور الأخلاقي للإنسان؟ ألا يمكن أن تدلّنا المذاهب والفلسفات المعاصرة على نسق أخلاقي؟ أم أنها في علاقة صدام مع الأخلاق؟ ما الذي يمكن أن يضيفه الإيمان إلى الأخلاق؟ إن هذه الأسئلة كانت الهم الذي سكن الحبابي رحمه الله، وهو يكتب ويحاضر ويحاور، ليبحث لها عن إجابة، ويدعو الآخرين للتفكير معه لإيجاد تلك الحلقة المفقودة».

[2] أحمد بوعود، الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي، (المغرب: دار الثقافة، الطبعة الأولى 2021)، ص65.

[3] السابق، ص67.

[4] السابق، ص69.

[5] السابق، ص74.

[6] السابق، ص76.

الكلمات الدلالية