التعدديةُ الفقهيةُ في عصر التقليد: النظامُ القضـائيٌّ على المذاهب الأربعة فـي دولة المماليك

التعددية الفقهية

كلمة المترجم

كان المذهبُ السُّنيُّ بمفهومه الواسع هو المذهب الرسمي -عقيدةً وفقهًا وقضاءً- لدولة المماليك (648-923هـ/1250-1517م). وعلى الرغم من أن سلاطين هذه الدولة قد ترسَّموا -في العموم- خُطَى أسلافهم الأيوبيين في حماية الإسلام السُّني ورعاية المنتسبين إليه، فقد خالفوهم فيما يتصل بأمر القضاء مخالفةً جَلِيَّةً؛ إذ عَدَلُوا به من نظام المذهب الواحد إلى نظام الرباعية المذهبية، على نحو يكفل لأصحاب المذاهب الأربعة تمثيلًا عادلًا ومتساويًا في السُّلْطة القضائية. لقد أعاد السلطانُ الظاهر بيبرس تشكيل النظام القضائي وفقًا للمذاهب السُّنية الأربعة، بعد أن ظل مقصورًا على المذهب الشافعي، طوال العصر الأيوبي (567-648هـ/1171-1250م) وصدرًا من التاريخ المملوكي. وقد مهَّد لذلك بأن أمر قاضي الشافعية تاجَ الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز سنة 660هـ/1262م، وكان بيده قضاءُ مصر كلها، بأن يستنيب عنه نوابًا من الحنفية والمالكية والحنابلة من فقهاء المدرسة الصالحية بالقاهرة.

وفي ذي الحجة سنة 663هـ/1265م مضى بيبرس خطوةً أبعد في سبيل تحرير القضاء من هيمنة الشافعية، حيث قام بتولية ثلاثة قضاة: حنفي ومالكي وحنبلي، بوصفهم قضاةً مستقلِّين لا مجرد نوابٍ عن قاضي الشافعية، وسمح لهم باتخاذ نوابٍ في سائر الأعمال المصرية، واحتفظ ابنُ بنت الأعز بمنصبه قاضيًا لقضاة الشافعية، وظلَّ له على وجه الحصر النظر في أموال الأيتام والإشراف على بيت المال والفصل في الخصومات المتعلقة به، فصار بمصر منذ ذلك التاريخ -كما يذكر ابن عبد الظاهر- «أربعةُ قضاةٍ، يحكم كلٌّ منهم بمذهبه». وتجدر الإشارة إلى أن ثمة تعديلًا مماثلًا أُدْخِلَ على القضاء في بلاد الشام، الجناح الثاني لدولة المماليك. وكان هؤلاء القضاةُ الأربعةُ متفاوتين رُتْبَةً ومكانةً؛ فأجلُّهم قاضي قضاة الشافعية، يليه القاضي الحنفي، ثم المالكي، فالحنبلي.

وقد عُنِيَ الباحثون الغربيون بدراسة هذا التحول الجوهري الذي طرأ على نظام القضاء، واجتهدوا في تفسير أسبابه ودوافعه من منظور سياسي أو أيديولوجي في الغالب، وربما  شغلهم ذلك عن النظر في الأبعاد الفقهية والقضائية المحضة التي ينطوي عليها القرارُ الذي اتخذه الظاهر بيبرس، وهي الأبعادُ التي التفت إليها يوسف رابوبورت Yossef Rapoport وأولاها عنايتَهُ الفائقةَ في هذه الدراسة المهمة التي نُقدِّم لترجمتها إلى العربية بهذه الكلمة الموجزة. لقد استبعد رابوبورت أن يكون الإصلاحُ الذي أدخله الظاهر بيبرس على النظام القضائي إجراءً «أَمْلَتْهُ النفعيةُ السياسيةُ»، أو محاولةً لإشباع «احتياجات السُّكَّان المتزايدين في القاهرة التي كانت تَغَصُّ آنذاك باللاجئين الذين كانوا ينتسبون إلى المذاهب الفقهية الأربعة»، أو «جزءًا من سياسةٍ مملوكيةٍ عامةٍ تهدف إلى تقوية المذهب الحنفي الذي ارتبط بالنُّخْبة العسكرية التركية على حساب أتباع المذهب الشافعي»، أو طلبًا «لتعزيز شرعية النظام المملوكي الوليد بوصفه حارسًا للإسلام السُّني».

الغاية التي قصد بيبرس إلى تحقيقها من وراء هذه البنية الرباعية الجديدة للسُّلطة القضائية غايةٌ مركبةٌ ذات شقَّيْن: توحيدُ النظام الفقهي، وإكسابُهُ المرونةَ في الوقت نفسه.

ولعل رابوبورت كان مُحِقًّا في إنكار هذه التأويلات التي ساقها الباحثون قبله في معرض تفسيرهم لهذا الإصلاح القضائي؛ ذلك أنها تَغْلُو في التركيز على الجوانب السياسية والأيديولوجية، وتُهمل النظرَ في الأبعاد المذهبية والقضائية التي ينطوي عليها هذا الإصلاحُ إهمالًا يوشك أن يكون تامًّا، فضلًا عن أنها تغض الطرف عن الآثار البعيدة التي ترتبت على هذا القرار الخطير الذي اتخذه بيبرس واطرد به العملُ طوال تاريخ الدولة. ويطرح رابوبورت عوضًا عن هذه التفسيرات المردودة مقاربةً جديدةً تقوم في الأساس على استكْناه بواعث هذا الإصلاح من المنظور الفقهي والقضائي نفسه، مع العناية بالتماس الوشائج بينه وبين المنظور السياسي والأيديولوجي، فانتهى إلى أن «الغاية التي قصد بيبرس إلى تحقيقها من وراء هذه البنية الرباعية الجديدة للسُّلطة القضائية غايةٌ مركبةٌ ذات شقَّيْن: توحيدُ النظام الفقهي، وإكسابُهُ المرونةَ في الوقت نفسه. فالحدُّ من السُّلْطة التقديرية التي كان القضاةُ ينعمون بها، وتعزيزُ التقليد [الذي هو نقيض الاجتهاد]، بمعنى الاستمساك بمبادئ المذهب الراسخة، أسهما في إشباع الحاجة إلى قواعد فقهية مستقرة يمكن التنبؤُ بها. على أن تعيين أربعة قضاة للقضاة يستوعبون المذاهب الأربعة أورث النظامَ الفقهيَّ -من جهة أخرى- المرونة، وحال بين هذا النظام وبين الوقوع في شَرَكِ التعنُّت والجمود». وهذه في رأيي هي مزية الدراسة وفضيلتها الكبرى التي حفزتني إلى ترجمتها وإتاحتها للقراء العرب؛ عسى أن ينتفعوا بمنهجها وإن خالفوا صاحبَهَا بعضَ -أو كلَّ- ما قرره من آراء وما انتهى إليه من نتائج. والله من وراء القصد، عليه توكلتُ وإليه أنيب.

*  *  *  *

جرت العادةُ منذ أمد بعيد على النظر إلى القرار الذي اتخذه السلطانُ [الظاهر] بيبرس بتعيين أربعة قضاةٍ للقضاة، قاضٍ من كل مذهبٍ من المذاهب السُّنية الأربعة، بوصفه نقطةَ تحولٍ في تاريخ هذه المذاهب. وقد درج المؤرخون إلى يوم الناس هذا على تفسير هذا القرار من الزاوية السياسية أو الأيديولوجية فحسب، دون أن يُولُوا ما ترتَّب عليه من آثار على النظام القضائي إلا قليلًا من الاهتمام. وإنني أذهب في هذه الدراسة إلى أن الغاية التي قصد بيبرس إلى تحقيقها من وراء هذه البنية الرباعية الجديدة للسُّلطة القضائية غايةٌ مركبةٌ ذات شقيْن: توحيدُ النظام الفقهي، وإكسابُهُ المرونةَ في الوقت نفسه. فالحدُّ من السُّلْطة التقديرية التي كان القضاةُ ينعمون بها، وتعزيزُ التقليد [الذي هو نقيض الاجتهاد]، بمعنى الاستمساك بمبادئ المذهب الراسخة، أسهما في إشباع الحاجة إلى قواعد فقهية مستقرة يمكن التنبؤُ بها. على أن تعيين أربعة قضاة للقضاة يستوعبون المذاهب الأربعة أورث النظامَ الفقهيَّ -من جهة أخرى- المرونة، وحال بين هذا النظام وبين الوقوع في شَرَكِ التعنُّت والجمود. زد على هذا أن السلطة القضائية بهذه البنية الرُّباعية أتاحت للمتقاضِينَ -بقطع النظر عن انتمائهم المذهبي- الاختيارَ بين أحكام المذاهب الأربعة [عند التقاضي].

في سنة 663هـ/1265م، قرَّر السلطانُ الظاهر بيبرس تعيين أربعة قضاةٍ للقضاة في القاهرة، ينتسب كلُّ قاضٍ منهم إلى أحد المذاهب السُّنية الأربعة، فأضاف بذلك إلى النظام القضائي [الذي هيمن عليه المذهبُ الشافعيُّ إلى ذلك التاريخ] قاضيًا من الحنفية وآخر من المالكية وثالثًا من الحنابلة. واختُصَّ قاضي الشافعية بالنظر في المسائل المتعلِّقة ببيت المال وأموال اليتامى. ثم كان أن شهد العامُ التالي إصلاحَ النظام القضائي في دمشق على نحو مماثل. وقد تقلَّد منصبَ قاضي القضاة خلال القرن التالي [أي: القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)] طائفةٌ من غير الشافعية في عدد من المدن والبلدات المملوكية الأخرى. وبحلول النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، أمسى لحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وبيت المقدس، وغزة، نُظُمُها القضائيةُ الخاصةُ ذات البنية الرُّبَاعية. وظلَّ تعيينُ أربعة قضاةٍ للقضاة نظامًا مُتَّبَعًا حتى الغزو العثماني في مطالع القرن السادس عشر للميلاد[2].

[211] وقد اجتهد الباحثون المـُحْدَثون في تفسير الإصلاح الذي قام به بيبرس من زاوية العوامل الديموغرافية والسياسية والدينية، فذهب ج. إسكوفيتز (J. Escovitz) إلى أن السلطان المملوكي استجاب في هذا الإصلاح لاحتياجات السُّكَّان المتزايدين في القاهرة التي كانت تَغَصُّ آنذاك -حين بلغت الغزواتُ المغوليةُ ذروتَها- باللاجئين الذين كانوا ينتسبون إلى المذاهب الفقهية الأربعة[3]. وينظر ج. نيلسن (J. Nielsen) إلى إصلاح النظام القضائي بوصفه جزءًا من سياسة مملوكية عامة تهدف إلى تقوية المذهب الحنفي الذي ارتبط بالنُّخْبة العسكرية التركية على حساب أتباع المذهب الشافعي[4]. ويرى إيرا م. لابيدُس [1] (I. Lapidus) ورضوان السيد أن الظاهر بيبرس قصد إلى تعيين مُمَثِّلينَ عن المذاهب السُّنية الأربعة؛ من أجل تعزيز شرعية النظام المملوكي الوليد بوصفه حارسًا للإسلام السُّني (orthodox Islam)[5].

على أن هذه التفسيرات -كما أشار شيرمان جاكسون (Sherman Jackson)- لا يُولي أيٌّ منها كبيرَ اهتمامٍ للمصادر المعاصرة التي أرَّخت لهذا الإصلاح الذي استحدثه بيبرس؛ حيث كان قرارُهُ بتعيين أربعة قضاةٍ للقضاة -تَبَعًا لمعظم الكُتَّاب المعاصرين لهذه الحقبة- وثيقَ الصلةِ بالسياسة القضائية التي انتهجها ابنُ بنت الأعز قاضي قضاة الشافعية؛ إذ يروي هؤلاء المؤرِّخون أن بيبرس وطائفة من كبار أمرائه قد أسخطهم رفضُ ابن بنت الأعز تنفيذَ الأحكام التي يُصْدِرُها نوابُهُ من غير الشافعية، وامتثالُهُ الصارمُ لأحكام مذهبه الشافعي[6] [212]. ويقترح جاكسون نفسُهُ تفسيرًا بديلًا؛ حيث يرى أن بيبرس أقام القضاء على المذاهب الأربعة ابتغاء الحدِّ من سطوة [قاضي الشافعية] ابن بنت الأعز دون إقصائه رسميًّا؛ إذ كان وجودُهُ أمرًا ضروريًّا من الناحية السياسية[7].

ومن العسير في الواقع أن نُقَدِّر ما إذا كان وجودُ ابن بنت الأعز أمرًا ضروريًّا لا سبيل إلى الاستغناء عنه من الناحية السياسية، وإن بدا من المستبعد أن يكون هذا الإصلاحُ مجرد شأنٍ أَمْلَتْه النفعيةُ السياسيةُ، فثمة أولًا التجربة الفاطمية المثيرة للاهتمام مع النظام القضائي ذي البنية الرباعية، الذي كان يتألف من قاضٍ إسماعيلي، وقاضٍ شيعي [اثني عشري]، وقاض شافعي، وقاض مالكي. وتُوحِي هذه السابقةُ الفاطميةُ -التي يرجع تاريخُها إلى سنة 525هـ/1130م- ببعض الاعتبارات المؤسسية الشائعة التي تجاوزت الحسابات السياسية قصيرة الأجل التي راعاها بيبرس[8].

ويبدو ثانيًا أن بيبرس فكَّر مليًّا في إصلاح القضاء منذ بداية عهده؛ ذلك أنه أمر سنة 660هـ/1262م، أي: قبل ثلاث سنوات من إصلاح النظام القضائي، بتعيين نوابٍ من المذاهب الفقهية الثلاثة سوى المذهب الشافعي[9]. ونجد كذلك بعض الأدلة التي تكشف عمّا كان بيبرس ينتويه من إصلاح النظام القضائي في مجموع الفتاوى الذي صنَّفه الفقيهُ الشافعيُّ تاج الدين الفزاري (ت690هـ/1291م)، الذي يروي أنه في جمادى الآخرة سنة 662هـ/إبريل-مايو 1264م، حين كان بيبرس يفرض الحصار على مدينة أرسوف الواقعة على الساحل الفلسطيني، أُرْسِلت مجموعةٌ من الأسئلة الفقهية من معسكر السلطان إلى كبار فقهاء دمشق. وكان من بين هذه الأسئلة سؤال مهمٌّ يتعلَّق برجل ينتسب إلى المذهب الشافعي، هل يستطيع أن يَتَّبِعَ الرُّخَصَ التي تتيحها المذاهبُ الأخرى[10]؟ ويبدو أن مسألة تعدد المذاهب قد دارت بخَلَد الظاهر بيبرس مدةً من الزمن قبل أن يتخذ قرارَهُ الفعليَّ في هذا الصدد.

إن تعيين قاضييْن للحنابلة والمالكية كان جزءًا من خُطَّةٍ ترمي إلى دعم المذهب الحنفي. ومن المحقق أن الحُكْم المملوكي لم يعد بحاجة -في هذه المرحلة- إلى الاستعصام بضرب من الشرعية السُّنية.

وفضلاً عما تقدَّم، فإن التفسيرات الحالية كلَّها -حتى التفسير الذي قدَّمه جاكسون- لا تتناول الآثارَ طويلة الأجل التي ترتَّبت على الإصلاح الذي قام به بيبرس، وليس فيها تفسيرٌ مقبولٌ لما اطرد به العملُ من تعيين [213] أربعة قضاة للقضاة طوال العصر المملوكي. فعلى سبيل المثال، لماذا استُحْدِثَ منصبٌ لقاضي قضاة الحنابلة وآخر للمالكية في صفد سنة 786هـ/1384م[11]، أي: بعد مرور قرن من الزمان على وفاة بيبرس؟ على الرغم من أن هذه المدينة -في حدود معرفتنا- لم تكن تضم آنذاك إلا قليلًا من المالكية والحنابلة، إن كان ثمة فيها مَنْ ينتسبون إلى هذيْن المذهبيْن؛ ولهذا فإن تعيين قاضٍ للمالكية وآخر للحنابلة لم يكن يُعْزَى إلى تغيُّرٍ في البنية السكانية لهذه المدينة. ولا يمكن القولُ كذلك: إن تعيين قاضييْن للحنابلة والمالكية كان جزءًا من خُطَّةٍ ترمي إلى دعم المذهب الحنفي. ومن المحقق أن الحُكْم المملوكي لم يعد بحاجة -في هذه المرحلة- إلى الاستعصام بضرب من الشرعية السُّنية، لا في صفد، ولا في غيرها من المدن. ومن المحقق أيضًا أن تعيين هذيْن القاضييْن لا يمكن أن يكون -بأي وجه من الوجوه- نتيجة من نتائج المشكلات السياسية التي اعترضت سلطانًا وافته المنيةُ منذ أمد بعيد[2].

وبعدُ، فإن التفسيرات الراهنة ليست كافية؛ لأنها جميعها تُرَكِّزُ على الجوانب السياسية والدينية للإصلاح الذي أجراه بيبرس، في حين تتجاهل -بدرجة كبيرة- ما ترتَّب عليها من آثار على النظام القضائي. وحتى يستقيم لنا فهمُ الدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذا الإصلاح، يتعيَّن علينا فحصُ هذا النظام القضائي ذي البنية الرباعية في أثناء العمل به، استنادًا إلى المصادر المتأخرة التي ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي في المقام الأول. فما هي المهام والواجبات التي أُنيطت بقاضي القضاة؟ وما طبيعةُ الصلاتِ التي كانت تربط بينه وبين قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى؟ وكيف أثَّر تعيينُ أربعة قضاة للقضاة في عامة الناس؟ وما أثرُ ذلك في الخيارات والاستراتيجيات المتاحة أمام المتقاضين؟ وسوف تشغلنا في هذه الدراسة مسألتان: إحداهما: حاجة النظام الفقهي إلى قواعد مستقرة يمكن التنبؤ بها، والأخرى: حاجة هذا النظام في الوقت نفسه إلى المرونة وسهولة الاستخدام. والحق أننا لن نتمكَّن من تفسير الإصلاح الذي أجراه بيبرس في سياقه المؤسسي الصحيح إلا بعد إمعان النظر في ممارسات المحاكم المملوكية خلال القرن الرابع عشر الميلادي.

التوحيد الفقهي وعهد التقليد

تؤكِّد مؤلفاتُ أصول الفقه منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) حقَّ المــُفْتِين والقضاة وواجبَهم في اتباع آراء علماء المذهب السابقين عوضًا [214] عن العمل باجتهادهم المستقل[12]. وقد ذهب محمد فاضل إلى أن هذا التحول من الاجتهاد إلى التقليد كان مَسُوقًا في الأساس بالرغبة في تقييد السُّلْطة التقديرية للفقهاء أصحاب الوظائف [كالقضاة ونحوهم] من خلال إنشاء قواعد موحَّدة. ويرى فاضل أن "التقليد إذا نُظِرَ إليه من منظور سوسيولوجيا الفقه والعملية الفقهية يمكن فهمُهُ فهمًا أفضل بوصفه تعبيرًا عن الرغبة في التوصل إلى مخرجات فقهية منتظمة يمكن التنبؤ بها، أُسْوَةً بما يصطلح الفقهُ القانونيُّ الحديثُ على تسميته بحُكْم القانون، ومدارُ هذه الفكرة على أن المسؤولين القانونيين يتحتم عليهم العملُ بالأحكام الموجودة سلفًا"[13]. ويشير فاضل إلى نشأة "المختصرات" بوصفها أحدَ أجناس التصنيف الفقهي، خلال القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، والمختصرُ مصنَّفٌ مُوْجَزٌ مُحْكَمٌ لفقه المذهب، وهو نتيجةٌ منطقيةٌ أثمرتها هذه النزعةُ إلى التوحيد [الفقهي]. وبغير التقليد -أي بغير أن يتيح المذهبُ أساسًا موضوعيًّا للأحكام الفقهية- سيُنْظَرُ إلى الإجراءات القضائية على أنها إجراءاتٌ تعسفيةٌ في جوهرها.

والحق أن كبار فقهاء الشافعية خلال العصر الأيوبي، كابن الصلاح (ت 643هـ/1245م)، وابن عبد السلام (ت 660م/1262م)، كانوا يرون أن القاضي يجب عليه أن يقضي بما يوافق أحكامَ مذهبه، فإن لم يفعل تعيَّن نقضُ حُكْمِهُ[14]. وحين أجاب الفزاري عن السؤال المشار إليه آنفًا -الذي أرسله السلطان الظاهر بيبرس- علَّق قائلًا: إن القضاة يمتنعون عن مخالفة أحكام مذهبهم؛ لأن مثل هذه الأحكام الصادرة عنهم بالمخالفة للمذهب ستحيطهم بالشبهات في عيون المتقاضين[15]. وقال تقيُّ الدين السبكي (ت 756هـ/1355م)، قاضي قضاة الشافعية بدمشق منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي):

"والذي أقوله في هذه الأعصار أن الذي تولَّى القضاء على الإطلاق إذا أطلق السلطانُ توليتَهُ لَحَكَمَ بمشهور مذهبه [215] إن كان مُقَلِّدًا، وبما يراه إن كان مجتهدًا، والذي يقول له السلطانُ: وليتُكَ القضاء على مذهب فلان، ليس له أن يتجاوز مشهور ذلك المذهب إن كان مقلِّدًا، وإن كان مجتهدًا في مذهبه فله الحُكْمُ بما ترجَّح عنده منه بدليل قوي. وليس له مجاوزة ذلك المذهب مُقَلِّدًا كان أو مجتهدًا؛ لأن التولية حصرته في ذلك. وليس له أن يحكم بالشاذ البعيد جدًّا في مذهبه، وإن ترجَّح عنده؛ لأنه كالخارج عن المذهب"[16].

لقد كان السبكيُّ الذي اشتغل قاضيًا للقضاة في ظل هذا النظام الرباعي يرى أن الفقيه الذي يتولَّى القضاء على مذهب معين يجب عليه اتباعُ القول الراجح في هذا المذهب دونما اعتبار لما يميل إليه هو من آراء أو أقوال. وأما قاضي القضاة نجم الدين الطرسوسي الحنفي (ت 758هـ/1357م) فقد أسدى للقضاة نصائح أكثر تفصيلًا؛ إذ يجب على القاضي الحنفي -في رأي الطرسوسي- ألّا يَحْكُم إلا بما عليه الفتوى في مذهبه، ويجب على القاضي المالكي أن يتبع الأقوال المأثورة عن ابن القاسم، وأن يَدَعَ الأقوال التي ذهب إليها القرافيُّ أو ابنُ عبد البر، ويجب على القاضي الشافعي أن يتحاشى أقوال الغزالي وأن يأخذ بالأحكام التي قررها الرافعيُّ والنوويُّ، ولكل فقيهٍ منهما مختصرٌ مُعْتَمَدٌ [في الفقه الشافعي] صُنِّف في القرن الثالث عشر الميلادي[17]. وكذلك فقد أوضح تاج الدين السبكي (ت 756هـ/1355م)، ابن تقي الدين السبكي، أنه إذا اختلف النوويُّ والرافعيُّ، فإن القضاة كانوا يؤثرون اتباع النووي[18].

ثمة مرسومٌ صدر في القرن الرابع عشر الميلادي بتولية قاضي قضاة الحنفية، ويحظر عليه هذا المرسومُ الحُكْمَ بالأقوال الضعيفة في مذهبه. ويمكن الوقوفُ على وصايا مشابهةٍ في مراسيم التولية الخاصة بقاضي قضاة المالكية وقاضي قضاة الحنابلة.

وقد شاركت سلطاتُ الدولة العلماءَ حرصهم على إقامة نظام قضائي موحَّد[19]. وتُبَيّنُ المصادرُ الإداريةُ المملوكيةُ التي ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي أن [216] الدولة لم تكن ترجو من القضاة الذين عيَّنتهم أن يحكموا وفقًا لأحكام يمكن التنبؤُ بها فحسب، ولكنها ألزمتهم بذلك. وتُوصِي المراسيمُ السلطانيةُ الخاصةُ بتقليد الوظائف قضاةَ القضاة باتباع الأحكام المـُقَرَّرَة في مذاهبهم، كما أفصحت عنها المصنفاتُ المـُعْتَمَدَةُ أو المختصراتُ، وتحاشي التفسيرات غير المعيارية. فمن ذلك مثلًا أن أحد المراسيم الخاصة بتعيين قاضي قضاة الشافعية -وهو المرسوم الذي حفظه لنا ابنُ فضل الله العمري (ت 749هـ/1348-1349م) في الدليل الإداري الذي صنَّفه- يُوصِي قاضي قضاة الشافعية بأن يتجنَّب العمل بالقول المرجوح إلا إذا كان نصَّ مذهبِ إمامه أو عليه أكثرُ الأصحاب، أو إلا إذا كان قد حَكَمَ به أهلُ العِلْم ممن تقدَّمه[20]. وثمة مرسومٌ صدر في القرن الرابع عشر الميلادي بتولية قاضي قضاة الحنفية، ويحظر عليه هذا المرسومُ الحُكْمَ بالأقوال الضعيفة في مذهبه[21]. ويمكن الوقوفُ على وصايا مشابهةٍ في مراسيم التولية الخاصة بقاضي قضاة المالكية وقاضي قضاة الحنابلة[22].

والحق أن مراسيم التولية لم تكن مجرد وصايا إرشادية للقضاة، ولكنها فرضت عليهم التزامًا فقهيًّا؛ فالقاضي الذي يعجز عن اتباع الحُكْم المـُقَرَّر في مذهبه ينبغي عزلُهُ، فيما ذكره الطرسوسي[23]. وثمة شواهدُ كثيرةٌ ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي تدلنا على أن تهديد القضاة بالعزل كان تهديدًا حقيقيًّا؛ فقد عُزِل قاضي قضاة الحنابلة، جمال الدين المرداوي، عن القضاء سنة 767هـ/1366م، بعد أن أجاز بيع الأوقاف الخيرية مُخَالِفًا القولَ المـُعْتَمَدَ في المذهب الحنبلي[24]. وفي سنة 786هـ/1384م عُزِلَ قاضي قضاة المالكية بالقاهرة بعد أن وجد مجلس فقهاء المالكية أن أحكامه تخالف القول المعتمد في المذهب[25] [217]. وقد تولَّت طائفةٌ من فقهاء الحنفية مراجعة حُكْمٍ قضى به أحدُ نواب قاضي الحنفية يتعلَّق بمدة العِدَّة، وانتهى هؤلاء الفقهاءُ إلى رفض الحُكْم[26]. بل إن المـُفْتِينَ كان يُحْظَرُ عليهم في بعض الأحيان الإفتاءُ بما يخالف المـُقَرَّر في المذهب؛ فبعد أن ثبت أن فتاوى أحد علماء الشافعية في دمشق تتعارض مع قواعد المذهب الشافعي، عنَّفَهُ والي المدينة[27].

وفي ظلال النظام القضائي ذي البنية الرباعية، ظلَّ قاضي قضاة الشافعية يحتفظ بالمسؤولية العامة عن انضباط النظام كله؛ فكان من مهامه التثبُّتُ من أن القضاة من غير الشافعية لا يحيدون عن قواعد مذاهبهم التي يَعْتَزُونَ إليها. وعلى هذا النحو، بدا من قبيل المفارقة أن يكون قاضي قضاة الشافعية مسؤولًا عن النظر في امتثال القضاة للفقه المالكي أو الحنبلي؛ فحين كان تقي الدين السبكي يشغل وظيفة قاضي قضاة الشافعية بدمشق، منع أحدَ نواب الحنابلة من فسخ النكاح على تلك الصورة التي ضعَّفها جمهورُ الحنابلة[28]. وقد رفض السبكيُّ أيضًا تأييدَ الأحكام التي قضى بها أحدُ نواب الحنابلة، ويُقال له: ابنُ بخيخ (ت 749هـ/1347- 1348م)، وهو أحد تلاميذ ابن تيمية، بعد أن عجز قاضي قضاة الحنابلة عن إثبات موافقة هذه الأحكام للقواعد المستقرة في المذهب الحنبلي[29].

لقد كان التوحيدُ[3] إحدى السمات الرئيسة التي ميَّزت النظامَ الفقهيَّ المملوكيَّ؛ حيث تعيَّن على أي قاضٍ أن يَحْكُمَ بموجب القول المـُعْتَمَدِ في مذهبه، وفقًا لما نصَّ عليه مرسومُ توليته منصبَ القضاء. بيد أن نظام التقليد [الذي هو نقيض الاجتهاد] -من حيث كونه الأداة الضامنة للتوصل إلى أحكام مستقرة يمكن التنبؤ بها- جاء بالضرورة على حساب الاجتهاد، وعلى حساب قدرة الفقهاء على تحقيق المواءمة بين الحُكم الفقهي وتغير الأحوال وما يَجِدُّ من أوضاع اجتماعية مستحدثة. ولقد كان من الصعوبة بمكان إدخالُ بعض التغييرات على أقوال هذا المذهب أو ذاك، بمعنى إدخال تغييرات على أحكام المذهب، فاستُعِيضَ عن ذلك باستغلال الخلافات الفقهية بين المذاهب السُّنية، من خلال التسوية بين أقوال المذاهب الأربعة جميعها.

تعيين أربعة قضاة للقضاة

لماذا عُيِّنَ أربعةُ قضاةٍ للقضاة يحكمون وفقًا لأربعة "مدونات فقهية" متباينة؟ ولماذا لم يَقْنَعْ سلاطينُ المماليك بوجود قاضٍ واحدٍ للقضاة هو قاضي قضاة الشافعية، أُسْوَةً بأسلافهم من بني أيوب؟ يمكن الوقوفُ على إجابة هذيْن السؤاليْن من خلال قراءةٍ متأنيةٍ لمرسوم تولية علي بن المـُنَجَّي، علاء الدين التنوخي (ت 750هـ/1349م)، قضاءَ قضاة الحنابلة بدمشق سنة 732هـ/1332م، وهو المرسومُ الذي حفظه لنا القلقشنديُّ في دليله الإداري، وقد جاء فيه:

"[وكانت دمشقُ المحروسة هي مدار قطبِهم ومطلع شموسِهم ونجومِهم وشُهُبِهم]، وأهلها كثيرًا ما يحتاجون إلى حاكم هذا المذهب [أي: المذهب الحنبلي] في غالب عقد كل بيع وإيجار، ومُزَارَعة في غلال، ومُسَاقاة في ثمار، ومصالحة في جوائح سماوية، لا ضرر فيها ولا ضرار، وتزويج كل مملوكٍ أَذِنَ له سيدُهُ بحُرَّةٍ كريمةٍ، واشتراطٍ في عَقْدٍ بأن تكون الامرأةُ في بلدها مُقِيمَةً، وفسخ إن غاب زوجُهَا ولم يترك لها نفقةً ولا أطلق سراحها، وبيع أوقافٍ داثرةٍ لا يجد أربابُ الوقف نفعًا بها، ولا يستطيعون إصلاحَهَا"[30].

وتَبَعًا لهذا المرسوم، فقد عُيِّنَ قاضٍ حنبليٌّ في دمشق؛ لأن مذهبَهُ الفقهيَّ هو المذهبُ الوحيدُ الذي يُجيز بعضَ المعاملات اليومية الجارية بين أهالي هذه المدينة. ولعل من المناسب أن نعقد مقارنةً بين هذا المرسوم وكتاب "المُغْنِي" لابن قدامة، هذا الكتاب الجامع في الفقه الحنبلي، وأحد الكتب المعاصرة لهذه الحقبة. ويُعَدُّ المذهبُ الحنبليُّ -تَبَعًا لكتاب "المغني"- المذهبَ الوحيدَ الذي يُجِيزُ عقود المزارعة التي يأتي فيها الزُّرَّاعُ بالبَذْرِ، في حين أن المذاهب الأخرى لا تُجِيزُهَا إلا إذا جاء ربُّ الأرض بالبذر من عنده[31]. ولا يُحَمِّلُ البائعَ مسؤوليةَ هلاك الثمار بالجوائح إلا الحنابلة، في حين أن المذاهب الأخرى تنصُّ على تحميل المشتري هذه الخسارة[32]. ولا يأخذ الحنابلةُ بمفهوم "الكفاءة" في النكاح للتفريق بين الأَمَةِ والحُرَّة، خلافًا للمذاهب الأخرى[33] [219]. ولا يقول بجواز تضمين عقود النكاح بعضَ الشروط إلا الحنابلةُ، كذلك الشرط الذي يحظر على الزوج نقل زوجته من بلدتها[34]. ويُجِيزُ الحنابلةُ، بالإضافة إلى المالكية، فسخ النكاح في حالة غياب الزوج[35]. وكذلك، لا يُجِيزُ بيعَ الأوقاف الداثرة التي يتعذَّر إصلاحُهَا إلا الحنابلة[36]. وصفوةُ القولِ أن هذه الآراء لا يقول بها في الغالب إلا الحنابلة، دون أصحاب المذاهب الأخرى. 

وتشتمل مراسيمُ التولية الخاصة بقاضي قضاة الحنفية وقاضي قضاة المالكية على إرشاداتٍ مماثلةٍ؛ فقاضي قضاة الحنفية منوطٌ به الأخذُ بالأقوال التي اختُصَّ بها مذهبُهُ ما دام فيها صلاحُ الناس[37]، ومن أهمها: تزويج الصغائر [وتحصينُهن بالأكفاء من الأزواج خوفًا عليهن من الكبائر] [38]، وشُفْعَةُ الجوار [التي لو لم تكن من رأيهم لما أُمِنَ جارُ السوء على رغم الأنوف، ولأقام الرجلُ الدهرَ ساكنًا في داره بين أهله وهو يتوقع المخوف][39]، ونفقة المـُعْتَدَّة التي هي في أَسْرِ مَنْ طلَّقها [وإن بُتَّت من حباله، وبَقِيَتْ لا هو بالذي يُنْفِقُ عليها، ولا هي بالتي تستطيع أن تتزوج من رجل يُنْفِقُ عليها من ماله] [40]، ومن استدان مالًا فأكله وادّعى الإفلاس[41]. ويَلْزَمُ قاضي قضاة المالكية تطبيقُ أحكام مذهبه على نحو يسمح للوصيّ على الميراث بأن يكون وصيًّا على يتامى المتوفى أيضًا[42] [220]، وباستخدام الأدلة الوثائقية[43]، والأهم من ذلك بمحاكمة الزنادقة[44]. ولئن كان قولُ الجمهور في المذاهب الأخرى يُلْزِمُ القضاةَ بحقن دماء الزنادقة إذا رجعوا إلى حظيرة الإسلام، فإن المذهب المالكي يُوجِبُ على القاضي الحُكْمَ بإراقة دم هؤلاء متى ثَبَتَ كُفْرُهم، دونما التفاتٍ إلى توبتهم بعد ذلك[45].

الثغرات التي اعترت المذهب الشافعي ستُوهِنُ أمر السيطرة الاجتماعية؛ لأن الشافعية يسمحون للمَدِين بالإفلات من الحبس بدعوى الإفلاس، في حين أن الزنادقة يسعهم التظاهرُ بالتوبة للإفلات من العقاب.

وتَشِي مراسيمُ التولية المشار إليها بأن استحداث تعيين عددٍ من قضاة القضاة ينتسبون إلى مذاهب مختلفة كان وسيلةً تَكْفُلُ للفقه مزيدًا من المرونة؛ ذلك أنه إذا اقتصر التعيينُ على قاضي قضاة الشافعية، فإن نظام التقليد [نقيض الاجتهاد] والحاجة إلى التوحيد [أي: توحيد الأحكام الفقهية] سيُلْزِمَانِهِ باتباع أحكام مذهبه. ومن شأن الامتثال الصارم لأحكام المذهب الشافعي أن يضع قيودًا شديدةً على أهالي دمشق؛ فلن يغدو في مستطاع الزوجات إدراجُ بعض الشروط في عقود النكاح، ولن يُتَاح تزويجُ اليتامى القُصَّر، وسيمتنع بيعُ الأوقاف الداثرة. زد على هذا أن الثغرات التي اعترت المذهب الشافعي ستُوهِنُ أمر السيطرة الاجتماعية؛ لأن الشافعية يسمحون للمَدِين بالإفلات من الحبس بدعوى الإفلاس، في حين أن الزنادقة يسعهم التظاهرُ بالتوبة للإفلات من العقاب. والحق أن الأخذ بأحكام أحد المذاهب الثلاثة فيما يتصل بهذه المسائل الفقهية المحدَّدة سيفضي إلى صور من العدول عن المذهب الشافعي.

وفي إطار الالتزام بنظام التقليد، كان القضاةُ الشافعيةُ يُحِيلُون أحيانًا بعض القضايا إلى قضاة المذاهب الأخرى. ويُجِيزُ تقيُّ الدين السبكي للقاضي الشافعي إحالةَ قضيةٍ تشتمل على وثائق مكتوبة إلى القاضي المالكي الذي يجوز له قبولُ مثل هذه الأدلة. ويرجو السبكيُّ أيضًا من القاضي الشافعي أن يُحِيلَ المسائل المتعلِّقة بالأوقاف على النفس -التي يحظرها المذهبُ الشافعيُّ- إلى القاضي الحنفي أو المالكي؛ حيث يقولان بجواز هذا النوع من الأوقاف[46]. [221] ويُقِرُّ تاجُ الدين السبكيُّ ما دأبت عليه السلطاتُ المملوكيةُ من إحالة القضايا التي تستوجب التعزيرَ إلى قضاة المالكية. فلئن كانت المذاهبُ الأخرى قد ذهبت إلى أن التعزير لا ينبغي أن يزيد على أقل العقوبات الحدِّية المنصوص عليها في القرآن، فقد أجاز المالكيةُ للقاضي أن يفرض ما شاء من عقوبات تعزيرية يلوح له أنها عقوباتٌ ملائمةٌ، حتى إن بلغت حدَّ الحُكْمِ بالقتل[47]. وقد أبدى الحنفيةُ كذلك استعدادهم لإحالة بعض القضايا إلى نُظَرائهم من الشافعية، حيث أرشد نجمُ الدين الطرسوسيُّ قضاة الحنفية إلى إحالة القضايا التي يمتنع عليهم فيها -وفقًا لأحكام مذهبهم- اتخاذُ شهادةِ الواحد مع اليمين (فيما يُعْرَف باليمين المضافة) دليلًا [قضائيًّا مكتملًا] إلى قاضٍ شافعي[48]. وكان السبكيُّ الشافعي والطرسوسيُّ الحنفي على دراية بالقيود التي يفرضها التمسكُ الصارمُ بأحكام المذاهب التي يَعْتَزُونَ إليها، فقبلوا -بل أيدوا في الواقع- تعددية المذاهب بوصفها سبيلًا مُفْضِيًا إلى معالجة هذه القيود[49].

السلطة القضائية ذات البنية الرباعية في سياق التطبيق

كيف كان نظامُ قضاة القضاة الأربعة يعمل عند التطبيق؟ ثمة خصيصتان رئيستان يمكن الوقوفُ عليهما فيما بلغنا من سجلات المحاكم والحوليات التاريخية والكتابات الفقهية التي يرجع تاريخُها إلى القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري). 

[222] أما الخصيصةُ الأولى فهي أن بعض أنواع الدعاوى والعقود لم تكن تُؤَدَّى إلا أمام أحد القضاة الأربعة. وقد لاحظ مؤلِّفو كتب الشروط أنه لا يمكن تنفيذُ بعض الإجراءات في الغالب إلا أمام قاضٍ ينتسب إلى مذهب بعينه. ويشتمل الكتابُ الإرشاديُّ الذي صنَّفه الطرسوسيُّ على وثيقة نموذجية لبيع وقفٍ "على النحو الذي أقره القاضي الحنبلي"[50]. ويلاحظ الجَرَوَانيُّ (ت 813هـ/1410-1411م) -في سياق استشهاده بطائفة قليلة من الأمثلة المتصلة بأحكام الأسرة- أنه إذا وافق زوجان مطلقان على ترك طفل في حضانة أمه بعد زواجها مرة أخرى، فإنه يجب عليهما تسجيلُ هذا الاتفاق عند قاضٍ مالكي[51]. ويسوق أيضًا وثيقةً نموذجيةً أصدرها قاضٍ حنفيٌّ، يمنع فيها زوجًا من نقل زوجته عن بلدها على غير إرادتها[52]، ونموذجًا لطلب الطلاق من القاضي رفعته زوجةٌ غاب عنها زوجُهَا إلى قاضٍ مالكي أو حنبلي[53].

وأما الخصيصةُ الثانيةُ فهي أن المنتسبين إلى أحد مذاهب الفقه كانوا -بأثر مما تقدَّم- يرفعون قضاياهم عادةً أمام قضاة المذاهب الأخرى، فمن ذلك مثلًا أن أبناء النخبة العسكرية الذين غلب عليهم الانتسابُ إلى المذهب الحنفي كانوا إذا رغبوا في بيع الأوقاف أو شرائها، يتصلون بقاضٍ حنبلي، بوصفه القاضي الوحيد الذي يُجيز إجراء مثل هذا البيع[54] .

وتُبَيِّنُ الأدلةُ المباشرةُ المستقاةُ من مجالس القضاء خلال القرن الرابع عشر الميلادي -وأكثرها مُسْتَمَدٌّ من الوثائق التي يرجع تاريخُها إلى أواخر القرن المذكور وصدرت عن مجلس القضاء ببيت المقدس- "تقسيمَ العمل" بين مسؤولي المذاهب الأربعة. وسوف نجد هاهنا مسئولاً مالكيًّا، ألا وهو بهاء الدين أحمد على وجه التحديد، سمح له القاضي الشافعي بإقرار الوثائق الخطية؛ [223] ففي إحدى القضايا أبطل بهاءُ الدين وثيقةً قُدِّمتْ لمجلس القضاء؛ بسبب توقيع مزور[55]. وفي وثيقة أخرى، يسجل أحدُ الأمراء وزوجتُهُ قضية طلاق بالتراضي (وهو ما يُعْرَف بالخُلْع) أمام قاضٍ حنبلي يحرص على الإشارة إلى أن الطلاق -مع إدراك الفرق في الرأي بين مذاهب الفقه- دخل حيز النفاذ تَبَعًا للمذهب الحنبلي. ولما كان الحنابلة يعدّون الخُلْعَ فسخًا وليس طلاقًا، فإن الزوجيْن قد حصلا على حق الانفصال والزواج مرة أخرى لأكثر من ثلاث مرات متوالية[56].

ومن المحقَّق أن معرفتنا بالممارسة القضائية خلال العصر المملوكي في معظمها معرفة عابرة أو ترجع إلى المرويات التاريخية. بيد أن الحوليات التاريخية المعاصرة لهذه الحقبة تُمِدُّنا بمعلومات منهجيةٍ وافيةٍ إلى حدٍّ ما فيما يتعلَّق بأحد أنماط هذه المحاكمات، ألا وهو المحاكمات المتصلة باتهامات الزندقة؛ حيث يورد المؤرخون ما لا يقل عن ست وعشرين محاكمة بتهمة الزندقة وقعت خلال القرن الرابع عشر الميلادي (انظر: الجدول رقم 1). ومن هذه القضايا الست والعشرين أربعةُ قضايا فقط انتهت بتبرئة المتهمين، وهي القضايا التي أُحِيلَتْ إلى قضاة شافعية أو حنفية. وأما المحاكمات الاثنتان والعشرون الأخرى فقد انتهت بإدانة المتهمين وحُكِمَ عليهم بالقتل حدًّا، منها ثماني عشرة محاكمة، أي ما يزيد على 80%، أمر بالحُكْم فيها قاضي قضاة المالكية أو أحدُ نُوَّابِهِ[57]. وقد تبيَّن لنا فيما تقدَّم أن مراسيم التولية [الخاصة بمنصب قاضي القضاة] أجازت لقضاة المالكية تطبيقَ حُكْمِ مذهبهم في الزنادقة؛ إذ لا يمنح المالكيةُ -دون غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى- فرصةَ التوبةِ للزنادقة. وفي القضية الوحيدة التي حَكَم فيها قاضٍ شافعيٌّ بقتل أحد الزنادقة حدًّا، لم يحكم بذلك إلا بعد أن رفض المتهمُ ما عُرِضَ عليه من الرجوع عن زندقته[58]. وأما الحالات الثلاث الأخرى للقتل حدًّا فقد أمر بها قضاةٌ حنابلةٌ. ومما تجدر ملاحظتُهُ أن بعض الحنابلة، ولا سيما في القرن الرابع عشر الميلادي، أخذوا بقول المالكية[59].

جدول رقم 01

بيانات المصادر الواردة في الجدول:

- ابن حجر العسقلاني، إنباء الغمر بأنباء العمر، القاهرة، 1971-1976م.

- ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، حيدر آباد، 1929-1932م.

- الصفدي، أعيان العصر وأعوان النصر، دمشق: دار الفكر، 1998م.

- ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة، دمشق، 1977م.

- ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت: دار الكتب العلمية، 1988م.

- المقريزي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1934- 1972م[60].

[225] والحقُّ أن وجوه الخلاف بين المذاهب كانت فيما يتعلَّق بمن يُتَّهَمُ بالزندقة مسألةَ حياةٍ أو موتٍ. ويُعَدُّ السؤال الذي أُرْسِلَ إلى تقي الدين السبكي خيرَ شاهدٍ على سلوك المتقاضين في إطار النظام القضائي ذي البنية الرباعية. وصورةُ هذا السؤال أن رجلًا نُسِبَ إليه ما يقتضي الكُفْرَ، بيد أن خصمَهُ الذي نَسَبَ إليه ذلك عجز عن إقامة البيِّنة على دعواه، فطلب المـُدَّعَى عليه من القاضي الشافعي أن يحكم بعصمة دمه؛ خشية أن تقوم بينةُ زورٍ عند قاضٍ مالكيٍّ، فلا تُقْبَلُ توبتُهُ. فنصَّ السبكيُّ في إجابته على أنه يجوز للقاضي الشافعي، أو غيره من القضاة ممن في مذهبه قبولُ توبةِ الزنديق، أن يُصْدِرَ هذا الحُكْمَ [أي: الحُكْم بإسلام المـُدَّعَى عليه، وعصمة دمه، وإسقاط التعزير عنه]. وينبغي على القاضي الشافعي -استنادًا إلى ما سمعه من المتهم من كلمة الإسلام- أن يحكم بأن الرجل قد جدَّد إسلامَهُ. ولعل هذا الحُكْمَ يُفضي إلى تحاشي ما عسى أن يقع في المستقبل من إجراءات قضائية تتعلَّق بهذه الزندقة المزعومة، وعصمة دم المتهم من احتمال الحُكْم بقتله حدًّا على يد القاضي المالكي. ويختتم السبكيُّ إجابته بملاحظةٍ مفادُهَا أن الاحتكام إلى قضاة الشافعية ابتغاء منع الاتهام بالزندقة في المستقبل أضحى إجراءً شائعًا[61].

على أن القاضي الشافعي قد يُحِيلُ قضيةَ الزندقة في بعض الأحيان إلى قاضي المالكية[62]. ومن أشهر محاكمات الزندقة خلال العصر المملوكي محاكمةُ العالم الشيعي ابن مَكِّي (ت 786هـ/1384م)، المـُلَقَّب في المصادر الشيعية بـ"الشهيد الأول". وقد عُرِضَتْ هذه القضيةُ أولًا على قاضي قضاة الشافعية، فأحالها إلى زميله المالكي، الذي امتنع في البداية عن إصدار حُكْمٍ فيها، ولكن قاضي الشافعية أمر بوجوب الامتثال الصارم لقول المالكية، فأمر قاضي المالكية تَبَعًا لذلك بقتل ابن مكي حدًّا[63]. وقد ذهب س. ونتر (S. Winter) -في دراسته التي صدرت مؤخرًا وتناول فيها سيرة ابن مكي- إلى أن تردد قاضي قضاة المالكية يشي بأنه لم يكن له دورٌ مؤسسيٌّ يضطلع به في محاكمة الزنادقة[64] [226]. والحق أن هذه القضية تُبَيِّن الإطارَ المؤسسيَّ للنظام القضائي المملوكي أحسنَ بيانٍ؛ فلم يكن قاضي قضاة الشافعية يستطيع أن يأمر بإعدام ابن مكي، على الرغم من أنه كان يعتقد أن القتل هو العقوبة الصحيحة، وكان على قاضي قضاة المالكية المنوط به تطبيقُ أحكامِ مذهبه ضد الزندقة أن يأمر بإعدامه، ربما خلافًا لما يُفْتَرضُ أن يحكم به؛ فلم تكن الآراءُ الشخصيةُ لقضاة القضاة المالكية والشافعية أمرًا مهمًّا بقدر أهمية مهمتهم الرسمية المتمثِّلة في تطبيق أحكام مذاهبهم التي ينتسبون إليها.

خاتمة

دعونا نرجع إلى القرار الذي اتخذه الظاهر بيبرس بإصلاح النظام القضائي، لنعيد النظر في الدوافع التي حملته على اتخاذه، والأهداف التي تغيَّا تحقيقَهَا من ورائه. لقد ورث بيبرس عن أسلافه الأيوبيين نظامًا قضائيًّا ليس له إلا قاضٍ واحدٌ للقضاة، هو قاضي الشافعية، الذي كان يتعيَّن عليه -بأثر من التقليد المذهبي- الالتزامُ بأحكام المذهب الشافعي، بقطع النظر عما يترتب على ذلك من نتائج قانونية. وقد أراد بيبرس التحايلَ على هذه المشكلة، فآثر في البداية تعيينَ نُوَّابٍ لقاضي القضاة من غير الشافعية، يكون في مستطاعهم إصدارُ أحكامٍ مخالفةٍ لأحكام المذهب الشافعي. بيد أن قاضي الشافعية، ابن بنت الأعز، رفض إقرارَ أحكام هؤلاء النُّوَّاب، من حيث كونُهُ رئيسًا لهم. هنالك قرَّر بيبرس تعيين قضاة للقضاة من غير الشافعية؛ حتى لا يستطيع قاضي الشافعية نقضَ أحكامِهم، وربما كان يدور بخلَده -حين اتخذ هذا القرار- ما سبق إليه الفاطميون حين جعلوا القضاء نظامًا ذا بنية رباعية. وبعد التطبيق الناجح للنظام القضائي ذي البنية الرباعية في القاهرة ودمشق، وسِّع نطاق هذه البنية الجديدة تدريجيًّا لتشمل المراكز الحضرية الأخرى؛ ولهذا، ينبغي النظرُ إلى إقامة أربعة قضاة للقضاة -قاض من كل مذهب- بوصفه إصلاحًا مؤسسيًّا للنظام القضائي، يهدف إلى تحقيق غرض مزدوج: التوحيد والمرونة.

هذا التنافس بين المذاهب كان تنافسًا داخل النظام، وكان يعتمد على الإطار المؤسسي الذي أقامه بيبرس. وليس هناك في الواقع دليلٌ على التحيُّز المذهبي بين المذاهب خارج مجتمع المشتغلين بالفقه.

وأود أن ألفت الانتباهَ في ختام هذه الدراسة إلى الآثار العديدة التي يمكن أن تنشأ عن هذا التفسير للنظام القضائي المملوكي. وأولها: أن المذهب في إطار النظام القضائي المملوكي كان في المقام الأول عبارةً عن طائفةٍ من الأحكام المـُقَنَّنَة إلى حدٍّ ما. والواقع أن مراسيم التولية كانت تَكِلُ إلى قضاة القضاة واجباتٍ إضافيةً، كالمسؤولية عن رعاية الفقهاء المهاجرين الذين ينتسبون إلى مذاهب هؤلاء القضاة[65]. وعلى الصعيد الشعبي، [227] كان الانتسابُ إلى أحد مذاهب الفقه يُعَدُّ في بعض الأحيان عنصرًا من عناصر الهوية الاجتماعية، على نحو ما أوضحت د. تلمون-هيلر (D. Talmon Heller) في دراستها للمجتمعات الحنبلية في دمشق وفلسطين خلال القرن الثالث عشر الميلادي[66]. ولا سبيل إلى إنكار أن بين المذاهب درجةً ما من الاحتكاك. وكان فقهاءُ الشافعيةِ يسعون إلى الاحتفاظ بولايتهم القضائية الحصرية على بيت المال وأموال اليتامي، ويقاومون تطلعات الفقهاء الحنفية إلى انتزاعها[67]. بيد أن هذا التنافس بين المذاهب كان تنافسًا داخل النظام، وكان يعتمد على الإطار المؤسسي الذي أقامه بيبرس. وليس هناك في الواقع دليلٌ على التحيُّز المذهبي بين المذاهب خارج مجتمع المشتغلين بالفقه. ولم يكن من النادر أن تجد فقهاء غيَّرُوا انتماءَهم المذهبي من أجل الحصول على منصب يتصل بمذهب آخر[68]. ولم يكن القضاةُ زعماء للمجتمع، ولا كانوا يُعَيَّنُونَ بوصفهم مُمَثِّلين للطوائف الاجتماعية، وإنما كان الواجبُ الأساسيُّ المنوطُ بهم هو تطبيق أحكام المذاهب التي يَعْتَزُونَ إليها.

وأما الأثر الثاني من آثار التفسير الذي ذهبنا إليه فيتصل بالعلاقة بين النظام القضائي والسُّلْطات السياسية؛ ذلك أن القرار بتعيين أربعة قضاة للقضاة ينبغي النظرُ إليه -كما ذهب البعضُ- بوصفه تحايلًا على النظام الفقهي قام به سلاطينُ المماليك[69].  والحق أن قضاة القضاة لم يعترفوا بالفوائد الناجمة عن تعددية المذاهب فحسب، ولكنهم تقبَّلُوا أيضًا إحالة بعض القضايا إلى قضاة المذاهب الأخرى، بل أوصوا بذلك. ويبدو أن النُّخْبَةَ العسكرية والمجتمع الفقهي قد توافقا في الغالب على الأحكام [حرفيًّا: القوانين] الموضوعية المحددة التي يتعيَّن الأخذُ بها، سواء فيما يتعلَّق بقتل الزنادقة حدًّا أو بيع الأوقاف الداثرة، وهكذا تقاسمت الدولةُ وفقهاؤها رؤيةً مشتركةً للمصلحة الاجتماعية[70].

[228] وقد استتبع ذلك أيضًا أن الدولة انخرطت في المجال الفقهي بدرجةٍ أكبر من الفاعلية مما كان يُفْتَرضُ عادةً، وتدخلت تدخلًا مباشرًا في طائفةٍ واسعةٍ من المعاملات الاجتماعية والاقتصادية، من خلال السماح للقضاة -من مختلف المذاهب- باتباع أحكام مذاهبهم في مسائل فقهية بعينها. ولقد يَسَعُنَا في مجال أحكام الأسرة، على سبيل المثال، أن نُعِيدَ -بدرجةٍ ما- بناءَ السياسة الحكومية في مجال كان يُنْظَرُ إليه عادةً بوصفه بعيدًا عن سلطان الدولة الإسلامية قبل الحداثة كلَّ البُعْد. وقد اشتملت هذه السياسةُ على تأييد تضمين عقود النكاح شروطًا لصالح الزوجة، والسماح للزوجة التي غاب عنها زوجُهَا بفسخ النكاح، وتقديم النفقة للمطلقة أثناء فترة العِدَّة، وتزويج اليتامى القُصَّر. ويمكن أيضًا إعادةُ بناء سياسة الدولة المتعلِّقة بالأوقاف وعقود المزارعة على نحو مماثل.

ومن الأهمية بمكان -حتى يستقيم لنا إدراكُ الآثار الناشئة عن هذا الإطار المؤسسي بالنسبة لتاريخ الفقه الإسلامي- أن نقارن النظامَ القضائيَّ ذا البنية الرباعية بطريقة تنظيم السُّلْطة القضائية في مناطق أخرى من العالم الإسلامي؛ ففي شمال إفريقيا والأندلس، على سبيل المثال، خلال الحقبة المعاصرة للحُكْم المملوكي، تحققت أهدافُ التوحيد [أي: توحيد الأحكام الفقهية] والمرونة من خلال بنية مختلفة كلَّ الاختلاف؛ إذ تستند هذه البنيةُ إلى التباين داخل مذهبٍ واحدٍ، ألا وهو المذهب المالكي. فمجلس "شورى الفقهاء"، وهو السمةُ المائزةُ لمجالس القضاء في المغرب والأندلس، لم يُقَيِّدْ السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي فحسب، ولكنه أتاح له أيضًا طائفةً متنوعةً من الأقوال التي يمكن أن يختار من بينها. وكان "العمل" المالكي، أو الممارسة القضائية، اتفاقًا يتوصل إليه الفقهاءُ في زمان محدَّد ومكان معين؛ بغية اختيار رأي واحد من جملة آراء متباينة؛ فكان بذلك أداةً مرجعيةً تفضي إلى تعزيز التوحيد المشار إليه[71]. ولئن كان تقديمُ مقارنةٍ أكثر تفصيلاً أمرًا خارجًا عن نطاق هذه المقالة، فإن المسألة المهمة التي نريد إبرازها -كما يؤكد محمد فاضل- هي ضرورة دراسة الفقه الإسلامي، لا بوصفه مشروعًا فكريًّا فحسب، ولكن من خلال صرف عناية فائقة إلى الإطار المؤسسي الذي تطور هذا الفقهُ في داخله أيضًا.


الهوامش

[1] كانت هذه الدراسةُ في الأصل مقالةً قُدِّمَتْ إلى المؤتمر الدولي الثالث لدراسات الفقه الإسلامي، بجامعة هارفارد، الذي عُقِدَ في مايو سنة 2000م. وأود أن أشكر المشاركين في المؤتمر، وأن أشكر كذلك رفعت أبو الحاج، ومايكل كوك (Michael Cook)، وآدم صبرة (Adam Sabra)، وباكي تزكان (Baki Tezcan)، ومحرري ILS))  [Islamic Law and Society]؛ لتعليقاتهم القيِّمة.

[2] هناك عدة دراسات حديثة تناولت مسألة استحداث أربعة قضاة للقضاة. انظر بوجه خاص:

E. Tyan, Histoire de l'organisation judiciare en pays d'Islam, 2nd revised edition (Leiden: E.J. Brill, 1960), 138-42; J. Escovitz, "The Establishment of four Chief Judgeships in the Mamluk Empire", Journal of the American Oriental Society, 102 (1982), 529-31; J. Nielsen, "Sultan al-Ẓāhir Baybars and the Appointment of four chief Qādīs, 663/1265", Studia Islamica, 60 (1984), 167-76; S. Jackson, "The Primacy of Domestic Politics: Ibn Bint al-Aazz and the Establishment of the Four Chief Judgeships in Mamluk Egypt", Journal of the American Oriental Society, 115 (1995), 52-65.

[3] J. Escovitz, "The Establishment of four Chief Judgeships"; E. Tyan, Histoire,138-42.

[4] J. Nielsen, "Sultan al-Ẓāhir Baybars".

وثمة آراء مماثلة ذهب إليها:

L.Fernandes, "Mamluk Politics and Education: The Evidence from two fourteenth-century Waqfiyya", Annales Islamologiques, 23 (1987), 87-98; and M. Menasri (étude, édition et traduction), Najm al-Dīn al-Ṭarsͧūsī (m. 758/1357). Kitāb Tuhfat al-Turk, ɶuvre de combat hanafite à Damas au XIVe siècle (Damas: Institut françaisde Damas, 1997), 32-3.

[5]  I. Lapidus, "Ayyūbid Religious Policy and the Development of the Schools of Law in Cairo", in Colloque international sur l'histoire du Caire (Cairo, 1974), 279-86;

رضوان السيد، الفقه والفقهاء والدولة: صراع الفقهاء على السلطة والسلطان في العصر المملوكي، مجلة الاجتهاد، العدد الثالث، 1989م، ص134-138.

[6] للوقوف على الروايات التي تناولت الإصلاح القضائي في الحوليات التاريخية، انظر: أحمد بن عبد الوهاب النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1923م، 30/117- 123. ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تحقيق: عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1976م، ص182. أبو شامة، تراجم رجال القرنيْن السادس والسابع المعروف بالذيل على الروضتيْن، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، القاهرة: دار الكتب المالكية، 1947م، ص236. قطب الدين اليونيني، ذيل مرآة الزمان، حيدرآباد: دائرة المعارف العثمانية، 1954م، 2/324- 325. ابن كثير، البداية والنهاية في التاريخ، القاهرة: مطبعة السعادة، بدون تاريخ، 13/245. تقي الدين المقريزي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد مصطفى زيادة، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1934-1975م، 1/472، 501، 538-543. ابن حجر العسقلاني، رفع الإصر عن قضاة مصر، تحقيق: حامد عبد المجيد، القاهرة: وزارة التربية والتعليم، 1957-1961م، 2/381-383.

[7] S. Jackson, "The Primacy of Domestic Politics"; idem, Islamic Law and the State: The Constitutional Jurisprudence of Shihāb al-Dīn al-Qarāfī (Leiden: E.J. Brill, 1996), 52-4.

[8] عن الإصلاح الفاطمي لنظام القضاء، انظر:

A. Allouche, "The Establishment of Four Chief Judgeships in Fāṭimid Egypt", Journal of the American Oriental Society, 105 (1985), 317-20.

[9] المقريزي، السلوك 1/472. 

[10] عبد الرحمن بن الفركاح الفزاري، فتاوى الفزاري، مخطوط بمكتبة تشيستر بيتي (Chester Beatty)، رقم 3330، ورقة 107ب.

[11] في بعض الأماكن، كصفد أو حلب، عُيِّن قاضي قضاة الحنفية أولًا، ثم أعقبه تعيين قاضي المالكية وقاضي الحنابلة بعد عقد أو عقديْن. وقد جرت العادة بتعيين قضاة القضاة هؤلاء إضافةً إلى قاضي قضاة الشافعية، فيما عدا الإسكندرية التي لم يكن يُعَيَّنُ فيها إلا قاضٍ للمالكية وآخر للحنفية. انظر: القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة: دار الكتب الخديوية، 1913-1920م، 4/221، 234، 238، 240. ابن كثير، البداية والنهاية 14/290. ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة، حيدرآباد، 1929-1932م، 3/172. ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق: المعهد الفرنسي، 1977-1994م، 1/92، 139، 183، 3/225، 446. 

[12] للوقوف على هذا التحول، انظر:

W. Hallaq, A history of Islamic legal theories (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 144-6; idem, "Ifta and Ijtihād in Sunni Legal Theory: A Developmental Account", in Islamic Legal Interpretation: Muftīs and their Fatwās, ed. Khalid Masud, Brinkley Messick and David Powers (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1996), 33-43; Jackson, Islamic Law and the State, 78-9, 152-9. 

[13] M. Fadel, "The Social Logic of Taqlid and the Rise of the Mukhtaṣar", Islamic Law and Society, 3 (1996), 197.

[14] استشهد عيسى بن عثمان الغزي (ت 799هـ/1397م) برأي كلا الفقيهيْن. أدب القضاء، نسخة مخطوطة بمكتبة "تشستر بيتي" تحت رقم (3736)، ورقة 77أ، 78أ.   

[15] يقول الفزاري: "وكان بعض أصحابنا يَنْهَى من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره لتوجه التهمة إليه، قال الماوردي: وهذا وإن كانت السياسةُ تقتضيه بعد استقرار المذاهب وتميز أهلها، فحُكْمُ الشرع لا يُوجبه؛ لما يلزم من الاجتهاد في كل حُكْمٍ طريقه الاجتهاد". انظر: فتاوى الفزاري، ورقة 107 ب.  

[16]  تقي الدين السبكي، كتاب الفتاوى، القاهرة: مطبعة القدسي، 1937م، 2/13. وقد استشهد ابنُ حجر الهيتمي (ت 974هـ/1566م) بهذه الفتاوى بتصرف يسير. الفتاوى الكبرى الفقهية، القاهرة، بدون تاريخ، 3/317، كما استشهد بها أيضًا مؤلف مجهول لرسالة صُنِّفت بعد العصر المملوكي بعنوان "رسالة في التقليد"، وقد توفّر على ترجمتها ونشرها:

L. Wiederhold in "Legal Doctrines in Conflict: The Relevance of Madhhab Boundaries to Legal Reasoning in the Light of an unpublished Treatise on Taqlīd and Ijtihād", Islamic Law and Society, 3 (1996), 275. 

[17]  نجم الدين الطرسوسي، كتاب تحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في الملك، تحقيق: رضوان السيد، بيروت، 1992م، ص 79- 85. وراجع أيضًا:

Menasri, ɶuvre de combat hanafite, 17-22 (Arabic text); M. Winter, "Inter-Madhhab Competition in Mamlūk Damascus: Al-Ṭarsūsī Counsel for the Turkish Sultans", Jerusalem Studies in Arabic and Islam, 25 (2001), 202ff.  

[18]  تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: محمود محمد الطناحي، عبد الفتاح محمد الحلو، القاهرة، 1964- 1976م، 6/188. 

[19]  عن دور الدولة في إتاحة نظام قضائي موحَّد، انظر أيضًا:

Fadel, "Social Logic", 224n. 

[20]  ابن فضل الله العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، القاهرة: مطبعة العاصمة، 1312هـ، ص119. وثمة روايةٌ مختصرةٌ للنص أوردها: القلقشندي، صبح الأعشى، 11/95.

[21] G. Guellil, Damaszener Akten des 8./14. Jahrhunderts nach al-Tarsusis Kitāb al-IʿIām. Eine Studie zum arabischen Justizwesen (Bamberg: aku, 1985), 185-7 (no. 81).

[22] ابن فضل الله العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، ص120-123. القلقشندي، صبح الأعشى 12/55 (فيما يتصل بقاضي قضاة المالكية في دمشق)، 12/57 (فيما يتصل بقاضي قضاة الحنابلة في دمشق).

[23]  Guellil, Damaszener Akten, 286; also cited by Wiederhold, "Legal Doctrine", 251.

[جاء في كتاب "تحفة الترك": "وينبغي للإمام أن يذكر أيضًا (أي: في نسخة تقليد القضاء للقاضي الحنفي) أن يحكم بالقول المُفْتَى به في المذهب، ولا يحكم بما شذَّ من الأقوال، ولا بما انفرد به بعضُ الأصحاب، إلا أن يكون قد نُصَّ أن الفتوى إليه. وإذا انفرد الإمام، واتفق الصاحبان أبو يوسف ومحمد خُيِّرَ. والأولى ألا يخرج عن قول الإمام، إلا أن يكون قد نُصَّ أن الفتوى على قولهما". انظر: نجم الدين الطرسوسي، تحفة الترك فيما يجب أن يُعْمَل في الملك، تحقيق: رضوان السيد، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الأولى، 1992م، ص71]. (المترجم)

[24] عن هذه الحادثة، انظر: ابن كثير، البداية والنهاية 14/318. وراجع أيضًا:

J. Nielsen, Secular Justice in an Islamic State. Maẓālim under the Baḥrī Mamluks (Istanbul: Nederlands Institut, 1985), 101, 156.

[25] وهذا القاضي المالكي هو ابنُ خير الأنصارى. انظر: المقريزي، السلوك 3/517. الصيرفي، نزهة النفوس والأبدان في تواريخ أهل الزمان، تحقيق: حسن حبشي، القاهرة: مطبعة دار الكتب، 1973م، 1/97. وراجع أيضًا:

J. Escovitz, The Office of Qāḍī al-Quḍāt in Cairo under the Bahri Mamluks. Islamkundliche Untersuchungen, B. 100 (Berlin: K. Schwarz, 1984), 234.

[قال الصيرفي في "نزهة النفوس والأبدان": "وسبب عزله أنه حكم في قضية مخالفًا فيها فقهاء مذهبه، وخطَّؤوه وشنَّعوا عليه، فبلغت القضيةُ السلطان فعزله"]. (المترجم)

[26] ابن حجر العسقلاني، إنباء الغمر بأنباء العمر، تحقيق: حسن حبشي، القاهرة: لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1969م، 1/194. وراجع أيضًا:

Wiederhold, "Legal Doctrines", 252.

[قال ابن حجر في "إنباء الغمر": "وفيها  -أي: في سنة 781هـ- عُزِّرَ جمال الدين بن عبد الرحيم بن عبد الرزاق، وعُزِلَ من نيابة الحُكْم للحنفية؛ وذلك أن امرأة أقرت عنده بانقضاء عدتها بسقط مخلق فحكم بذلك، ثم ادعت أنها حامل، فكتب لها فرض حمل، فاستُفْتِي عليه، فأفتى علماءُ مذهبه بأن ذلك مخالفٌ لهم، فأمر برقوق بعزله وتعزيره"]. (المترجم)

[27] ابن كثير، البداية والنهاية 14/35. ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة 4/72.

[28] ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة 2/239، وراجع أيضًا:

Menasri, ɶuvre de combat hanafite, 22 (Arabic text).

[ونائب الحنابلة المذكور هو عبادة بن عبد الغني بن منصور الحنبلي الحراني المفتي المؤدب (ت 739هـ). وقد تفقَّه على المذهب الحنبلي، ولازم ابن تيمية، وأفتى فأجاد، وذكره البرزاليُّ في الشيوخ المتوسطين، فقال: "فقيه فاضل يعقد الأنكحة ويلازم الشهود ... وكان يفتي في مذهبه ويبحث ويناظر. قال ابن حجر: "ومنعه السبكي من فسخ النكاح بعمل المحلوف عليه، فإنه كان يفتي به ولا يعدّ الفسخ طلاقًا"]. (المترجم)

[29] الصفدي، أعيان العصر وأعوان النصر، بيروت: دار الفكر، 1998م، 3/1323.

[30] القلقشندي، صبح الأعشى، 12/57. وعن سيرة هذا القاضي، انظر: الصفدي، أعيان العصر 3/1285- 1286.

[31]  موفق الدين بن قدامة المقدسي، المغني، بيروت: دار الفكر، 1984م، 5/589-590 (رقم 4142). وانظر أيضًا: أبو الوليد ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: ماجد الحموي، بيروت: دار ابن حزم، 1995م، 4/1392.

[32]  ويقصر المذهبُ الحنبليُّ أيضًا مفهوم الجائحة على الأضرار الناتجة عن الكوارث الطبيعية، خلافًا للأضرار الناتجة عن صنع الآدميين؛ كالسرقة (المغني 4/233-234، أرقام 2941-2943). ويرى المالكيةُ أن البائع لا يتحمل مسؤولية هذه الأضرار إلا إذا تلف أكثرُ من ثلث الثمار (ابن رشد، بداية المجتهد 3/1267-1270).

[33]  وهذه المسألةُ موضعُ خلافٍ عند الحنابلة؛ فالفقيه الحنبلي الخرقي (ت 334هـ/946م) ذهب إلى قصر معايير الكفاءة في النكاح على النَّسَب والتقوى، في حين أن ابن قدامة أقر جميع الشروط الإضافية التي أوجبها الحنفيةُ والشافعيةُ، ولا سيما شرط الحرية (ابن قدامة، المغني، 7/374- 376، أرقام 5190-5192). ومن جهة أخرى، يقلل المذهبُ المالكي شروط الكفاءة بدرجة أكبر، حيث يرى أنه لا ينبغي أن يُؤْخَذ بعين الاعتبار إلا تقوى الزوج، (Y. Linant de Bellefondes, Trait. de droit musulman compar. [Paris and Le Haye: Mouton & Co., 1965], vol. 2, 179). ومن البيِّن أن إزاحة العقبات التي تحول دون زواج العبيد كان أمرًا يصب في مصلحة النخبة العسكرية الحاكمة التي برز فيها العبيدُ المماليكُ.

[34]  ابن رشد، بداية المجتهد 3/1038.

وإذا كان الحنابلةُ فقط هم من يعترفون بجواز تضمين عقود النكاح بعض الشروط، فإنه ينبغي أن نلاحظ أن المذهب الحنفي آنذاك كان يؤيد التحريم العام بنقل الزوجة من بلدتها على غير إرادتها. راجع أيضًا ما سيأتي.

[35]  ابن قدامة، المغني 8/247-248 (رقم 6743).

[36]  ابن قدامة، المغني 6/250-252 (رقم 4410).

[37]  انظر: ابن فضل الله العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، ص119، 120. القلقشندي، صبح الأعشى 11/95،200.

[38]  ابن قدامة، المغني 7/382 (رقم 5201). ابن رشد، بداية المجتهد 3/944- 946.

[39]  ابن قدامة، المغني 5/461 (رقم 4012). ابن رشد، بداية المجتهد 4/1403-1404.

[40]  ويرى المالكيةُ والشافعيةُ أن المطلقة طلاقًا بائنًا لها السُّكنى ولا نفقة لها. انظر: ابن رشد، بداية المجتهد 3/1104.

[41]  ويرى الحنفيةُ أن المدين لا يستطيع أن يدّعي الإفلاس إلا بعد أن يُحْبَسَ مدةً [؛ حتى يتبيَّن صدقُهُ أو يقر له بذلك صاحبُ الدَّيْن]. ابن قدامة، المغني 4/529 (رقم 3446)؛ 543 (رقم 3463). ابن رشد، بداية المجتهد 4/1451، 1466.

[42]  للوقوف على مرسوم تولية لوظيفة قاضي قضاة المالكية، انظر: التعريف بالمصطلح الشريف، ص121. وللوقوف على رأي المالكية انظر: ابن قدامة، المغني 7/392 (رقم 5215). ابن رشد، بداية المجتهد 3/955.

[43]   ولمعرفة رأي المالكية في الأدلة الوثائقية، انظر:

W. Hallaq, "Qadis Communicating: Legal Change and the Law of Documentary evidence", al-Qanṭara, XX (1999), 453ff.; E. Tyan, Le notariat et le régime de la prevue par . crit dans le pratique du droit musulman (Beirut: Annales de l'École Française de Droit de Beyrouth, 1945), 76, 82-4; J. Wakin, The Function of Documents in Islamic Law (Albany: SUNY Press, 1972), 8-9.

[والمقصود بالأدلة الوثائقية: "قبول الشهادة على الخط، وإحياء ما مات من الكتب وإدناء ما شطَّ، فهذا مما فيه فسحةٌ للناس". صبح الأعشى،11/201 ]. (المترجم)

[44] جاء في مرسوم تولية قاضي قضاة المالكية: "ومذهبُهُ له السيفُ المـُصْلَت على مَنْ كفر، والمـُذْهِب بدم من طُلَّ دمُهُ وحصل به الظفر، ومَنْ عدا قدره الوضيع، وتعرَّض إلى أنبياء الله صلواتُ الله عليهم بالقول الشنيع، فإنه إنما يُقْتَل بسيفه المجرد، ويُراق دمُهُ تعزيرًا بقوله الذي به تفرَّد، ولم يزل سيفُ مذهبه لهم بارز الصفحة". صبح الأعشى 11/200. (المترجم)

[45] ابن قدامة، المغني، 10/76- 77 (رقم 7088). ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت: دار الجيل، 1964م، 3/129-133. ومن الملاحظ أن هذا الحُكْمَ لا يصدق إلا على الزنادقة، دون المرتدين.

[46] السبكي، كتاب الفتاوى 2/445. وكذلك فقد أجاز علماءُ الشافعية المتأخرون، كالإسنوي (ت 772هـ/1370م) والزركشي (ت 794هـ/1392م)، لقضاة الشافعية إحالةَ كثيرٍ من أنواع القضايا الأخرى إلى قضاة المذاهب الأخرى. ويزعم ابنُ حجر الهيتمي، أحد مصنِّفي القرن السادس عشر الميلادي، أن قضاة الشافعية كانوا يحيلون القضايا إلى غير الشافعية على مدى قرونٍ؛ ولهذا فقد تشكَّل "إجماعٌ فعليٌّ" على جواز هذه الممارسة. انظر: الزركشي، البحر المحيط، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1957م، 6/327؛ ابن حجر الهيتمي، كتاب الفتاوى 3/314؛ وانظر أيضًا:

Wiederhold,"Legal Doctrines", 233-4, 253n.

[47] تاج الدين السبكي، معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق: ديفيد م. ميرمان (David M. Myhrman)، (London: Luzac, 1908)، ص36. وعن قول المالكية في التعزير، انظر: ابن رشد، بداية المجتهد 4/1766.

[48]  Guellil, Damaszener Akten, 268-9; cited in Wiederhold, "Legal Doctrines", 250.

وعن الفروق بين أحكام المذهب الحنفي وأحكام غيره من المذاهب، انظر: ابن قدامة، المغني 12/11 (رقم 8337)، ابن رشد، بداية المجتهد 4/1781.

[49] منع السبكيُّ، وجمهورُ الفقهاء أيضًا، تطبيقَ الأحكام المستمدة من مذاهب مختلفة على واقعة بعينها (وهو ما يُعْرَف بالتركيب)، على نحو يرقى إلى أن يكون تلفيقًا لرأي جديد. انظر: (Jackson, Islamic Law and the State, 110-2)؛ النووي (ت 676هـ/1277م)، فتاوى الإمام النووي المسماة بالمسائل المنثورة، تحقيق: علاء الدين بن العطار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1982م، ص113. تاج الدين السبكي، معيد النعم، ص135-136؛ الزركشي، البحر المحيط 6/314 وما بعدها؛ (Wiederhold, "Legal Doctrines", 277-8).  

[50] Guellil, Damaszener Akten, 127-9 (no. 42); 160-3 (no. 62).

[51]  أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحسني الجرواني، المواهب الإلهية والقواعد المالكية، مخطوط بمكتبة تشيستر بيتي (Chester Beatty)، تحت رقم 3401، ورقة 139 ب. وانظر أيضًا: شمس الدين محمد المنهاجي الأسيوطي، جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، القاهرة: 1955م، 2/228، 240، 247.

Sherman Jackson, "Kramer Versus Kramer in a tenth/sixteenth century Egyptian Court: Post-Formative Jurisprudence Between Exigency and Law", Islamic Law and Society, 8 (2001), 27-51.

[52]  الجرواني، المواهب الإلهية والقواعد المالكية، ورقة 140ب. وانظر أيضًا:

Guellil, Damaszener, 192 (no. 78).

[53]  الجرواني، المواهب الإلهية والقواعد المالكية، ورقة 78ب. الأسيوطي، جواهر العقود،2/123-125.

[54] ومن هذه القضايا تلك القضية التي يرجع تاريخُها إلى سنة 730هـ/1330م؛ حيث طلب الأمير قوصون من قاضي قضاة الحنابلة أن يأذن له بشراء حمام أشرف على الدثور كان يُشكّل جزءًا من وقف خيري. ويزعم المؤرخون أن قوصون أمر رجاله سرًّا بتخريب الحمام؛ حتى يتسنى بيعُهُ (المقريزي، السلوك 2/320، Escovitz, The Office, 150). وللوقوف على قضايا أخرى ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي، طُلِبَ فيها إلى قضاة القضاة الحنابلة إجازةُ بيع الأوقاف، انظر: المقريزي، السلوك 2/362، 888، 918؛ ابن كثير، البداية والنهاية 14/239؛ Nielsen, Secular Justice, 101-2, 114.

[وقد ذكر المقريزيُّ في القضية المذكورة أن الأمير قوصون "قصد أن يتملك حمام قتال السبع، وكانت من وقف قتال السبع، فاحتالوا لحل وقفها بأن هدموا جانبًا منها، وأحضروا شهودًا قد بيَّنوا معهم ذلك، ليكتبوا محضرًا أن الحمام خرابٌ لا يُنْتَفع به، وهو يضر بالجار والمار، والمصلحة في بيع أنقاضه، ليؤدي هذه الشهادة عند قاضي القضاة تقي الدين أحمد بن عمر الحنبلي، حتى يحكم ببيعه على مقتضى مذهبه. فعندما شرع الشهودُ في كتابة المحضر المذكور، امتنع أحدهم من وضع خطه فيه، وقال: والله ما يسعني أن أدخل باكر النهار في هذا الحمام وأتطهر فيه، وأخرج وهو عامر، ثم أشهد بعد ضحوة النهار أنه خرابٌ، وانصرف، فاسْتُدعي غيره، فكتب وأثبت المحضر عند الحنبلي، فابتاع الأمير قوصون الحمام المذكور من ولد قتال السبع، وجدّد عمارته". (المترجم)

[55] Ḥaram no. 18; D. Little, A Catalogue of the Islamic Documents from al- Ḥaram al-Sharīf in Jerusalem (Beirut, 1984), 225.

[56] وثائق الحرم القدسي، الوثيقة رقم 47، 1/254-257. وقد نشرها كامل العسلي، في: وثائق مقدسية تاريخية، عمان، 1983-1985م. وللوقوف على السبب الذي يُفسر لنا لماذا قد يتطلع الزوجان إلى الانفصال والزواج أكثر من ثلاث مرات، انظر دراستي:

Domestic Authority and Public Power in Early Mamluk Society: Ibn Taymiyya on Divorce Oaths", in The History and Politics of the Mamluks in Egypt and Syria, ed. A. Levanoni and M. Winter (2002, forthcoming).

[57] وقد لاحظ آشتور (Ashtor) الدور المركزي للمالكية في إقامة عقوبة القتل حدًّا على الزنادقة، انظر:

"L'inquisition dans l'état mamlouk", Revista degli studi orientale, 25 [1950], 11-26.

[58] وربما كانت هذه القضية قضية "ردة"، وليست قضية "زندقة". وللوقوف على هذه المحاكمة، انظر: (Escovitz, The Office, 140)؛ ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة 3/61.

[59] وهذه مسألةٌ خلافيةٌ عند الحنابلة، وقد أيَّد الفقيه الحنبلي ابن قيم الجوزية (ت 751هـ/1351م) رأي المالكية. انظر: إعلام الموقعين 3/129- 133.

[60] وتجدر الإشارةُ إلى أننا اكتفينا بذكر مصدر واحد فقط من المصادر الأساسية في كل محاكمة، على الرغم من أن معظم هذه المحاكمات قد رُصِدَت في غير كتاب من كتب الحوليات. وقد توفر س. ونتر (S. Winter) على مناقشة بعض هذه المحاكمات مناقشةً مفصلةً، في دراسته:

"Shams al-Dīn Muḥammad ibn Makkī al-Shahīd al-Awwal (d. 1384) and the Shiah of Syria", Mamlūk Studies Review, 3 (1999).

وكذلك ل. فيديرهولد (L. Wiederhold) في دراسته:

"Blasphemy against the Prophet Muḥammad and his Companions (sabb al-rasūl, sabb al-Ṣaḥābah): The Introduction of the Topic into Shāfiī Legal Literature and its Relevance for Legal Practice under Mamlūk Rule", Journal of Semitic Studies, XLII (1997).

[61] السبكي، كتاب الفتاوى 2/325- 333.

[62] انظر على سبيل المثال: ابن كثير، البداية والنهاية 14/250. المقريزي، السلوك 3/488. ابن قاضي شهبة، تاريخ ابن قاضي شهبة 1/109. وانظر أيضًا:

L. Wiederhold, "Blasphemy against the Prophet Muḥammad and his Companions (sabb al-rasūl, sabb al-Ṣaḥābah): The Introduction of the Topic into Shāfiī Legal Literature and its Relevance for Legal Practice under Mamlūk Rule", Journal of Semitic Studies, XLII (1997), p. 69.

[63] يمكن الوقوف على رواية مستفيضة لهذه المحاكمة استنادًا إلى المصادر السنية والشيعية، في:

S. Winter, "Shams al-Dīn Muḥammad ibn Makkī al-Shahīd al-Awwal (d. 1384) and the Shīah of Syria, Mamlūk Studies Review, 3 (1999), 176-9; Wiederhold, "Blasphemy", 67-9.

[64] تبعًا لـ س. ونتر (S. Winter) "تقوِّض المحاكماتُ التي استعرضناها فكرة وجود أي مؤسسة رسمية مسؤولة عن التحقيق في قضايا الزندقة. وكان غياب قضاة المالكية هو الأكثر وضوحًا؛ حيث دأبوا على التهرب من القيام بدور المحقِّق الكبير". انظر: ("Shams al-Dīn Muḥammad ibn Makkī", 179). وانظر أيضًا:

M. Chamberlain, Knowledge and social practice in medieval Damascus, 1190-1350 (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), 167-75).

[65] ابن فضل الله العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، ص117، 118. وتُذَكِّرُنَا هذه المهامُّ الإضافيةُ بما ذهب إليه جاكسون من تفسير المذهب على أنه طائفةٌ من الأحكام الموضوعية، ومستودع للسلطة الفقهية، وجمعية خاصة من المسلمين الذين يلتفون حول هذه الطائفة من الآراء الفقهية. انظر:

Jackson, Islamic Law and the State, xix-xx, 134-41.

[66] D. Talmon Heller, "The Shaykh and the Community: Popular Hanbalite Islam in 12th-13th century Jabal Nablus and Jabal Qasyūn", Studia Islamica, 79 (1994), 103-20.

[67] يُعَدُّ كتاب "تحفة الترك" لنجم الدين الطرسوسي محاولةً لإقناع سلطات الدولة بنقل الولاية القضائية الحصرية إلى الفقهاء الحنفية في المسائل المتعلقة ببيت المال وأموال اليتامى، انظر:

Menasri, ɶuvre de combat hanafite, 113-27; R. al-Sayyid, "al-Fiqh", 158-9; M.  Winter, "Inter-Madhhab Competition", 195.

وللوقوف على ردِّ الفقيه الشافعي تقي الدين السبكي على هذه المحاولة، انظر: كتابه الفتاوى 2/21- 26، 444- 445.

[68] للوقوف على بعض الأمثلة الدالة على حالات تغيير الانتساب المذهبي، انظر:

Escovitz, The Office, 235; Wiederhold, "Legal Doctrines", 250.

[69]  Ashtor, "L'inquisition", 25; Chamberlain, Knowledge, 50; D. Little, "Religion under the Mamluks", Muslim World, 73 (1983), 174-5.

[70]  انتهى محمد قاسم زمان إلى نتائج مماثلة إلى حدٍّ ما تتعلق بالعصر العباسي. انظر:

Muḥammad Q. Zaman, "The Caliphs, the Ulamā and the Law: Defining the Role and Function of the Caliph in the Early Islamic Period", Islamic Law and Society,4 [1997], 1-36.

[71]  Delfina Serrano, "Legal Practice in an Andalusī-Maghribī Source from the Twelfth Century CE: The Madhāhib al-Ḥukkām fī Nawāzil al-Aḥkām", Islamic Law and Society 7, 2 (2000), 187-234.