شهد القرنان الماضيان تفاعلات فكرية كبرى، لم يكن كثيرٌ منها صدًى لوفود الكتابات الغربية وثقافة الحداثة، بل كان لاستخراج نفائس كتب التراث المنسيَّة وإعادة طباعتها حظٌّ وافرٌ في إثارة النقاشات حول مختلف قضايا التاريخ والأدب والفقه، وفي فتح أبوابٍ واسعةٍ لفهم أبعاد الثقافة الإسلامية وتاريخها وعلومها.
إن قارئ اليوم أوثقُ صلةً وأوسعُ معرفةً بكتب التراث من قارئٍ عاش في الحواضر العربية قبل ثلاثة قرون. فلم تكن أسواق الكتب ودكاكين الورَّاقين -في ذلك الزمن- تحوي "تفسير الطبري" ولا "مقدمة ابن خلدون" ولا كتاب "الأم" للشافعي، وغيرها الكثير.
والكتاب الذي بين أيدينا كتابٌ عن تاريخ الكتب، وعن رحلة المخطوطات المنسيَّة إلى المكتبات العامَّة، وعن إعادة اكتشاف التراث الإسلامي؛ ولكنَّ محتوى الكتاب في حقيقة الأمر أوسعُ من ذلك، فهو أيضًا تأريخ للتحولات الفكرية والاجتماعية والمؤسسية التي صاحبت إعادة الاكتشاف هذه، وهو كذلك وثيقة تاريخية ممتعة ومليئة بالروايات الشيّـقة لشبكة الأشخاص والفاعلين الذين شاركوا في هذه المسيرة، جمعًا واستخراجًا لدفائن التراث، وتصحيحًا وتحقيقًا لمخطوطاته، وتأسيسًا وتطويرًا لتقاليد التحقيق والطباعة، وجدالًا حول مضامين هذا التراث والموقف المنهجي منه.