ندوة المقاربات الغربية الحديثة للعلوم الإسلامية: مراجعات نقدية

الصورة
المقاربات الغربية الحديثة للعلوم الإسلامية: مراجعات نقدية

في كتابه "مستقبل الإسلام في الغرب والشرق"، رأى المفكر الراحل مراد هوفمان أن الدراسات الإسلامية المكتوبة بالإنجليزية قد أسهمت في نشر المعرفة بشكل أوسع بسبب الحرية الفكرية المتاحة في الدول الغربية. وبرغم انتقاده لفكرة هوفمان في تراجع أهمية اللغة العربية في الدراسات الإسلامية مقابل الإنجليزية، يقرُّ الدكتور عبد الرحمن حللي -أستاذ التفسير والدراسات القرآنية المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر- بأن الكمَّ الهائل من الدراسات المنشورة باللغة الإنجليزية وترجمتها إلى العربية قد فرض تحديات جديدة، تستوجب مراجعة منهجية لتلك الدراسات والبحث عن بدائل تنافسية تُسهم في تطوير الدراسات الإسلامية، تعادل التأثير المتزايد للدراسات الغربية على الساحة الأكاديمية العالمية.

في هذا السياق، عقد مركز نهوض للدراسات والبحوث بالتعاون مع كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر ندوة علمية بعنوان "المقاربات الغربية الحديثة للعلوم الإسلامية: مراجعات نقدية"، وذلك في يوم السبت 5 أكتوبر 2024م.  وقد هدفت الندوة -كما أشار الدكتور إبراهيم الأنصاري عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- إلى الانفتاح على الدراسات الغربية للعلوم الإسلامية وتقديم رؤية نقدية لهذه للمقاربات التي تقوم عليها، مع التركيز على النقد العلمي البنَّاء بهدف تصحيح المغالطات واستكشاف الفوائد.

وقد جاءت الندوة ضمن مسارات مركز نهوض للدراسات والبحوث التي تركز على قضايا التجديد الديني، ودراسة العلاقة بين العلوم الإنسانية والشرعية. وأشار الدكتور محمد الشامري -مدير المركز- في الجلسة الافتتاحية إلى التحديات التي تواجه العاملين في هذا الحقل، سواء من الباحثين الغربيين في فهم النصوص الإسلامية نتيجةً لنقص التكوين الشرعي، أو المترجمين عنهم؛ إما لعدم تمكُّنهم من اللغة الأجنبية وإما لعدم إلمامهم بالمصطلحات العلمية الدقيقة. كما شدَّد على أهمية عقد مثل هذه الندوات لمراجعة وتقويم المناهج الغربية المستخدمة في دراسة العلوم الإسلامية.

وقد شملت الندوة ثلاث جلسات، عرض في كلٍّ منها نخبةٌ من الأساتذة والباحثين خلاصاتهم البحثية حول الدراسات الغربية في الدراسات القرآنية والحديثية، ودراسات العقيدة وعلم الكلام، ودراسات الفقه وأصوله.


الجلسة الأولى: الدراسات القرآنية والحديثية

ترأس الجلسة الأولى الأستاذ الدكتور محمد المجالي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وشارك في الجلسة عدد من الأكاديميين المتخصصين الذين تناولوا المقاربات الغربية في الدراسات القرآنية والحديثية، مع تحليل الفروق المنهجية بين الدراسات الإسلامية والغربية، وهم: الأستاذ الدكتور عبد الله الخطيب، أستاذ علوم القرآن والتفسير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية؛ والدكتور سامر رشواني، أستاذ الدراسات القرآنية والتاريخ الإسلامي الفكري بجامعة حمد بن خليفة؛ والدكتور معتز الخطيب، أستاذ مساعد في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بجامعة حمد بن خليفة؛ والدكتور عبد السلام أبو سمحة، الأستاذ المشارك في الحديث النبوي الشريف وعلومه بجامعة قطر. وخلصت الجلسة بالتأكيد على ضرورة تطوير مناهج نقدية إسلامية تستفيد من الأدوات الحديثة مع المحافظة على خصوصية التراث الإسلامي.

 

الورقة الأولى: الجهود الغربية في دراسة المصحف الشريف: "مصاحف الأمويين" أنموذجًا

قدَّم فيها الدكتور عبد الله الخطيب عرضًا تفصيليًّا عن تاريخ الاهتمام بدراسة المصاحف في الغرب، مشيرًا إلى أن أول دراسة مقارنة تختصُّ بالمصحف كانت في القرن السابع عشر مع المستشرق أبراهام هنكلمان، الذي طبع أولَ نسخة من المصحف في ألمانيا عام 1694م، وقد تتبع في عرضه المراحل المختلفة التي مرت بها الدراسات الغربية ومحركاتها.

وفي القسم الثاني من محاضرته تحدَّث الدكتور الخطيب عن المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش الذي يجلس متربعًا على عرش دراسة المصاحف بحسب وصفه. وقد أصدر كتابًا في عام 2013م حول هذا الموضوع بعنوان "مصاحف الأمويين"، الذي ترجمه مركز نهوض للدراسات والبحوث إلى العربية، ويُعَدُّ مرجعًا رئيسًا في دراسة المخطوطات القرآنية. وقد استخدم ديروش تقنيات حديثة مثل الكربون المُشعّ لتحديد عمر المخطوطات، وقدَّم تصنيفات دقيقة للخطوط القرآنية مثل الخط الكوفي والخط الحجازي.

وأكَّد الخطيب أن ديروش استطاع إثبات أن النص العثماني كان مكتملًا منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، مما ينقض الادعاءات الاستشراقية القديمة بأن القرآن لم يُجمع إلا في القرن الرابع الهجري. وناقش أيضًا قضية نشأة القراءات القرآنية، موضحًا أن ديروش أكَّد أن القراءات لم تنشأ بسبب عدم وجود نقط وحركات في النص، كما يدَّعي بعض المستشرقين، بل كانت القراءات موجودة منذ عهد النبي ، ونقلها الصحابة. وأوضح أن تعدُّد القراءات يعكس تنوُّع اللهجات العربية، وليس خللًا في الرسم العثماني.

 

الورقة الثانية: بنية السورة القرآنية في الدراسات الغربية المعاصرة: المناهج والمقاصد

في بداية عرضه، أوضح الدكتور سامر رشواني أن الدراسات الاستشراقية التقليدية كانت تميل إلى الاعتقاد بأن السُّور القرآنية -باستثناء بعض السُّور القصيرة- لا تتبع نظامًا واضحًا أو بنية منطقية. ورأى بعض المستشرقين -مثل هاملتون جيب وبيل وغيرهما- أن السُّور القرآنية مجرد مجموعات من النصوص المجمَّعة دون ارتباط واضح بين موضوعاتها. وقد طغت هذه النظرة السائدة على الدراسات الغربية فترة طويلة، ما أدى إلى تقليل فهمهم للتنظيم الداخلي للسُّور القرآنية.

لكن في الثمانينيات، ومع تزايد الاهتمام النقدي في الغرب بالنصوص الدينية عمومًا، بدأت هذه النظرة في التغيُّر. وألمح الدكتور رشواني إلى دور المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفرت التي أحدثت نقلة نوعية في دراسة بنية السُّور القرآنية. ففي عام 1981م، نشرت نويفرت كتابها الشهير "دراسات في بنية السُّور المكية"، أعادت فيه النظر في تقسيمات السُّور المكية وَفْقَ معايير جديدة. فقد استخدمت نويفرت منهج ألفريد بلوخ في تحليل القصيدة العربية القديمة لدراسة بنية السُّور المكية، معتبرة أن السُّور القرآنية تشكل بناءً أدبيًّا معقدًا ومتقنًا، وركَّزت على كيفية تنظيم الآيات ضمن وحدات موضوعية متماسكة. وقد قسمت نويفرت السُّور المكية إلى ثلاث فترات زمنية، تمتاز كل فترة منها بأنماط أسلوبية وأدبية محددة.

وبعد نويفرت انتقل الدكتور رشواني إلى الحديث عن مستنصر مير، الباحث الباكستاني الذي تأثَّر بأعمال علماء مثل حميد الدين الفراهي وأحسن إصلاحي. فقد طوَّر مستنصر مير مفهوم النَّظْم القرآني، وركَّز على دراسة عمود السورة لفهم بنيتها الداخلية. ووفقًا لمير، فإن السُّور القرآنية تحتوي على بنية أدبية معقَّدة، ترتبط الآيات فيها بشكل متسلسل ومنطقي.

ثم ناقش الدكتور رشواني إسهامات الباحث البلجيكي ميشيل كويبرس في مجال البلاغة السامية، الذي قال إن البلاغة السامية تختلف عن البلاغة اليونانية في تنظيمها، ففي حين تعتمد البلاغة اليونانية على التسلسل الخطي للأفكار (الاستهلال، السرد، البرهنة، الخاتمة)، تعتمد البلاغة السامية على التوازي، سواء التوازي المعكوس أو المحوري.

وفي السنوات الأخيرة، خاصةً في عامي 2021 و2022م، ظهرت دراسات جديدة تسعى إلى فهم ما يُسمَّى بـ"نحو السورة"، وهو منهج ينظر في التكرار، وأنواع المفاصل، والجمل النصية داخل السُّور. وأشار رشواني إلى أن هذه الدراسات تساعد في تقديم فهم أعمق لبنية السُّور خصوصًا المدنية التي تتسم بتعقيد بنيوي أكبر. وناقش مفهوم التسلسل النصي، حيث تربط الآيات بعضها ببعض عبر وحدات نصية متتابعة، وأحيانًا دون روابط ظاهرة، وضرب مثالًا على ذلك بالآية الكريمة: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، التي تأتي في موضع يبدو مفاجئًا في سورة البقرة، ولكن يُمكن تفسير وجودها جزءًا من تسلسل نصي أكبر.

وفي ختام ورقته، أكَّد الدكتور رشواني أن الدراسات الغربية الحديثة تتجه نحو فهم القرآن والسُّور القرآنية من داخل النص نفسه، دون الاعتماد على التراث الكتابي (التوراة أو الإنجيل). وركَّز على أهمية استخدام المنهجيات الأدبية والفيلولوجية الجديدة لفهم النصوص القرآنية بطريقة أكثر شمولية، ما يعزز الفهم الأدبي للنصوص بعيدًا عن الافتراضات التاريخية التي تبنَّاها المستشرقون التقليديون.

 

الورقة الثالثة: المنهج الغربي في نقد الروايات: مراجعة نقدية

يختلف منهج علم الحديث الإسلامي عن المنهج الغربي في التعامل مع النصوص، ومن هنا ركَّز الدكتور معتز الخطيب في ورقته على المنهج الغربي في دراسة الروايات النبوية، وتناول الموضوع من خلال ثلاثة محاور رئيسة:

المحور الأول: السياق العام لنشوء الدراسات الغربية حول علم الحديث

استند النقاش الغربي حول علم الحديث إلى مسارين رئيسين: الأول يركز على سؤال الموثوقية، وغلب عليه التشكيك في صحة الأحاديث النبوية، وهو ما دفع الباحثين الغربيين لمحاولة إثبات أو نفي الثبوت التاريخي للروايات الإسلامية. وكان هذا المسار هو المهيمن في الدراسات الغربية، وقد اعتمد على نقد الأسانيد بهدف التشكيك في صحة النصوص المنقولة. أما المسار الثاني فقد ظهر حديثًا، حيث بدأ التركيز على مضمون الروايات وتحليل محتواها الأخلاقي والديني، وتطور هذا الاتجاه بشكل أكبر في العقدين الأخيرين، مع اهتمام الباحثين بدراسة شروح الحديث والمحتوى الأخلاقي للنصوص، بدلًا من التركيز على الأسانيد فقط.

المحور الثاني: البدايات الأولى لهذه الدراسات

أوضح الدكتور معتز الخطيب أن الغربيين تعرَّفوا علمَ الحديث من خلال كتب علماء المسلمين المركزيين، مثل البخاري ومسلم وغيرهما، لكن النقد الجاد لعلم الحديث بدأ في أوائل القرن التاسع عشر، بسبب عاملين رئيسين: تطور الدراسات التاريخية في الغرب خلال تلك الفترة التي شجَّعت على البحث النقدي للنصوص الدينية، والاهتمام الاستعماري بمعرفة تقاليد الشعوب الإسلامية وثقافاتها، ما أدى إلى محاولة نقد التراث الإسلامي وتفكيكه، وربط الكثير من الدارسين بين الاستشراق والاستعمار، واعتبروا أن النقد الغربي للحديث النبوي جاء ضمن هذا السياق.

كما أن الغربيين تأثروا بالدراسات النقدية للكتاب المقدَّس، وخاصةً الدراسات الإسرائيلية، التي فتحت الباب لنقد الإسلام بوصفه أقرب الديانات إلى المسيحية واليهودية. ووفقًا لهذا السياق، فقد كان الهدف الأساسي للمستشرقين هو نقد التقاليد الدينية للإسلام، مستفيدين من أدوات النقد التاريخي التي طُبِّقت على الكتاب المقدَّس.

المحور الثالث: المنهج الغربي في نقد الروايات النبوية

استعرض الدكتور معتز الخطيب تطور المنهج الغربي في نقد الروايات النبوية منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع ظهور تساؤلات مركزية حول مصادر الروايات، وطرق نقلها، وقيمتها التاريخية. وطرح المستشرقون أسئلة حول مدى دقَّة الروايات المنقولة، وما إذا كانت الروايات قد خضعت لأي تحريف أو تعديل بمرور الزمن. ومن أبرز الباحثين الغربيين في هذا السياق: جوزيف شاخت، وإجناتس جولد تسيهر، وهارالد موتسكي.

ثم اختتم الخطيب ورقته بالاختلاف بين المنهج الغربي والمنهج الإسلامي، فأوضح أن المنهج الغربي في نقد الروايات يعتمد اعتمادًا كبيرًا على افتراضات تاريخية تختلف جذريًّا عن المقاربة الإسلامية، التي تعتمد على إسناد الرواية وموثوقية الرواة. ففي حين يعتمد المسلمون على علم الرجال لتوثيق الروايات والتحقُّق من صحة الأسانيد، يركِّز الباحثون الغربيون على نقد المحتوى التاريخي للرواية، وأحيانًا على المتن فقط دون إيلاء الأهمية اللازمة للسند.

وعلى الرغم من التطورات التي حدثت في المنهج الغربي، فإن التشكيك المبدئي في صحة الأحاديث ظل حاضرًا، خاصةً تلك الأحاديت المتعلقة بالأحكام الشرعية. وقد تعرض هذا المنهج لكثير من النقد، خاصةً من قِبَل الباحثين المسلمين، الذين أشاروا إلى أن العديد من الروايات النبوية تتمتَّع بموثوقية عالية، وأن المنهج الغربي لا يأخذ في الاعتبار العوامل الداخلية للدراسات الإسلامية.

 

الورقة الرابعة: قراءة نقدية لكتاب "قال رسول الله ﷺ: شرح الحديث في ألف عام"

قدَّم الدكتور عبد السلام أبو سمحة في هذه الورقة تحليلًا نقديًّا مستفيضًا لكتاب "قال رسول الله ﷺ: شرح الحديث في ألف عام"، الذي أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والبحثية، والذي ترجمه مركز نهوض للدراسات والبحوث إلى العربية، ويركِّز الكتاب يركز دراسة الحديث النبوي من منظور نقدي حديث، ويطرح رؤية جديدة لفهم الحديث النبوي عبر القرون.

أشار أبو سمحة إلى أن الكتاب يُمثِّل نقلة نوعية في تناول الحديث النبوي، حيث يحاول الكاتب الخروج من الأساليب التقليدية في دراسة الحديث، مقدمًا منظورًا نقديًّا جديدًا يعتمد على مناهج حديثة مستمدَّة من العلوم الاجتماعية والإنسانية. فقد تناول الكتاب قضايا مهمة، مثل: الموثوقية التاريخية للحديث، وكيفية تكوين الشروح الحديثية على مدار التاريخ الإسلامي. ويهدف الكاتب إلى فهم الحديث في سياق تطوراته على مدار ألف عام، مع التركيز على التأثيرات السياسية والاجتماعية التي لعبت دورًا مهمًّا في تشكيل الفهم الفقهي للحديث.

الإشكالات المنهجية في الكتاب

رغم الأفكار الجديدة التي يطرحها الكتاب، فإن الدكتور أبو سمحة يرى أن فيه العديد من الإشكالات المنهجية في طريقة التعامل مع الحديث النبوي. فالمؤلف يستخدم أساليب نقدية غربية قد تكون صالحة لدراسة النصوص الدينية الأخرى، مثل الكتاب المقدَّس، ولكنه يطبقها بطريقة غير منسجمة مع التراث الإسلامي. كما يحاول المؤلف تقديم قراءة جديدة تعتمد على التاريخ السياسي والاجتماعي لفهم كيفية تشكُّل الفقه الإسلامي عبر التاريخ، لكن هذه المقاربة تغفل -في بعض الأحيان- تعقيد السياقات الفقهية والشرعية التي تشكَّلت فيها هذه الشروح، مما يجعل النتائج غير متوافقة تمامًا مع الفهم الإسلامي التقليدي، كما أنه أغفل الجانب التكويني الفقهي والشرعي الذي يُعَدُّ جزءًا أساسيًّا من فهم الحديث النبوي في التراث الإسلامي.

وعلى الرغم من الملاحظات النقدية، فقد أشار أبو سمحة إلى أن الكتاب قد فتح بابًا مهمًّا للنقاش حول كيفية تطوير المناهج الدراسية في علم الحديث، ودعا الباحثين المسلمين إلى الاستفادة من بعض الأدوات النقدية الحديثة، ولكن بحذر، مع مراعاة خصوصية التراث الإسلامي. وأكَّد على ضرورة عدم إسقاط المناهج النقدية الغربية بشكل غير متوافق مع الدراسات الإسلامية، فالتطور المنهجي يجب أن يتمَّ بوعي عميق بمبادئ علم الحديث وإسناد الروايات النبوية.


 

الجلسة الثانية: دراسات العقيدة وعلم الكلام

شملت الجلسة الثانية نقاشات معمَّقة حول التوجُّهات الاستشراقية في دراسة العقيدة وعلم الكلام، فافتتح الدكتور يوسف بنلمهدي -الأستاذ بكلية الشريعة، جامعة قطر- الجلسة بمدخلٍ يسلِّط الضوء على الاهتمام الكبير الذي تحظى به دراسات العقيدة وعلم الكلام في الأوساط الأكاديمية الغربية، والمقاربات الغربية التي تنظر إلى العقيدة وعلم الكلام من زوايا متعددة: فيلولوجية، وفلسفية، واجتماعية، وإنسانية. وأكَّد على ضرورة أن يدرس الأكاديميون والباحثون العرب هذه المقاربات دراسة عمقية، لا للرد عليها فقط، ولكن أيضًا للاستفادة من بعض جوانبها التحليلية المفيدة.

 

الورقة الأولى: الأصول الاجتماعية لتشكُّل علم الكلام في دراسات المستشرق فان إس

استعرض الدكتور عزيز بطوي -الأستاذ بكلية الشريعة، جامعة قطر- ورقته حول "الأصول الاجتماعية لتشكُّل لعلم الكلام في دراسات المستشرق فان إس: دراسة تحليلية نقدية"، التي تحدَّث فيها عن تطور هذا العلم من منظور غربي، مشيرًا إلى أن علم الكلام كان دائمًا موضوعًا مثيرًا للاهتمام ليس في الدراسات الإسلامية فقط، لكن أيضًا في الاستشراق الغربي. واستند الدكتور عزيز إلى كتابات المستشرق الألماني جوزيف فان إس، الذي يُعَدُّ من أبرز الباحثين في الدراسات الكلامية.

أشار الدكتور بطوي إلى قضية نشأة علم الكلام، التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأصول الاجتماعية والسياسية لهذا العلم، أما المستشرقون -مثل فان إس- فغالبًا ما ركزوا على تأثير العوامل السياسية في نشأة علم الكلام وتطوره، مستدلين بذلك على العلاقة بين السلطة السياسية والفكر الكلامي، خاصةً في عهد الخلفاء الأوائل، كتطور بعض القضايا الكلامية، مثل قضية القدر والجبر، التي ظهرت ظهورًا واضحًا أثناء حكم الدولة الأموية.

ومع ذلك، يرى الدكتور بطوي أن هذا الربط بين علم الكلام والسياسة لا يمكن تعميمه، فالعديد من أصول هذا العلم تعود إلى نقاشات دينية ولاهوتية داخلية، بعيدة عن التدخلات السياسية. كما أشار إلى أن التحليل الاجتماعي وحده لا يكفي لفهم نشأة علم الكلام، بل يجب أيضًا توظيف المناهج الفلسفية والتاريخية لفهم تطور هذا العلم. ودراسة هذه العوامل ليست مسؤولية المستشرقين الغربيين، فمن الضروري أن يتناولها الباحثون المسلمون لفهم السياقات التي أسهمت في تطور الفكر الكلامي.

وأكَّد على أهمية المنهج النقدي في التعامل مع الأدبيات الغربية، وضرورة تطوير منهجية جديدة تمكِّن الباحثين المسلمين من قراءة الدراسات الاستشراقية حول علم الكلام بنظرة نقدية، بدلًا من رفض هذه الدراسات كليًّا أو قبولها دون تحفُّظ، مع تحليل الخلفيات الفلسفية التي توجِّه هذه الدراسات، والتفكير في إعادة صياغة المفاهيم التي طرحها المستشرقون بطريقة تتناسب مع المنهج الإسلامي.

 

الورقة الثانية: مناهج المستشرقين المعاصرين في بحث مسألة صحة الوثائق الإسلامية في الجدل مع أهل الكتاب

تحدَّث الدكتور سمير قدوري -الأستاذ المساعد بكلية الشريعة، جامعة قطر- في ورقته عن "مناهج المستشرقين المعاصرين في بحث مسألة صحة الوثائق الإسلامية"، مسلطًا الضوء على اهتمام المستشرقين بالجدل بين المسلمين وأهل الكتاب، فقد أولى المستشرقون اهتمامًا كبيرًا بتحديد مدى صحة نسبة الوثائق الإسلامية إلى مؤلفيها، سواء كانت هذه الوثائق تتعلق بالنصوص الجدلية أو التاريخية.

وضرب قدوري أمثلةً على المستشرقين الذين درسوا هذا المجال، مثل موريس شتاين شنايدر وديفيد توماس، حيث يعتمد منهجهم على تحليل النصوص التاريخية وتدقيق نسبة المؤلفات إلى أصحابها من خلال أدلة موجبة وسالبة. وأضاف قدوري في ورقته تفاصيل دقيقة حول كيفية تعامل المستشرقين مع هذه الوثائق التاريخية، فقد استخدمت سارة سترومسا التحليل النقدي لنفي نسبة بعض النصوص إلى شخصيات إسلامية بارزة، ورأت أن رسالة ابن حزم غير صحيحة بناءً على المعايير النقدية التي اعتمدتها، لكنها تجاهلت في الوقت نفسِه التقاليد الإسلامية في التوثيق.

وأوضح الدكتور سمير قدوري أيضًا أن المنهج الغربي في هذا الصدد يعتمد على أدلة داخلية، مثل الأسلوب والتاريخ، لكنه يغفل عن الأدلة الإسلامية التقليدية، مثل السند، وهو ما يفتح بابًا للنقاش حول الفجوة المنهجية بين المقاربات الإسلامية والغربية.

وفي نهاية ورقته، قدَّم الدكتور سمير قدوري نماذج من التحقيقات الغربية، مثل رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحق الكندي، مبينًا الفروقات بين المعايير النقدية الغربية والمنهج الإسلامي في التوثيق.

 

الورقة الثالثة: تطور الاستشراق في دراسة التصوف بين القديم والمعاصر

اختتم الدكتور عمر الخطيب -الأستاذ المساعد بكلية الشريعة، جامعة قطر- الجلسة الثانية بورقته حول "تطور الاستشراق في دراسة التصوف بين القديم والمعاصر"، مستعرضًا تطور الاهتمام الغربي بعلم التصوف على مدار القرون الماضية. وأشار الخطيب إلى أن المستشرقين تعاملوا مع التصوف الإسلامي من زوايا مختلفة، بدايةً من وصف التصوف بأنه انعكاس للفكر المسيحي، وصولًا إلى دراسات أكثر عمقًا وموضوعية في العصر الحديث.

وأشار الدكتور عمر الخطيب إلى لويس ماسينيون مثالًا على المستشرقين الذين أعادوا الاعتبار للتصوف الإسلامي باعتباره جزءًا أصيلًا من التراث الديني والفكري الإسلامي، مع تحليل عميق لشخصيات مثل الحلاج. ومع ذلك، فلا تزال بعض الدراسات الحديثة تعاني من التحيزات السياسية، وتبرز التصوف بوصفه وجهًا ودودًا ومتسامحًا من الإسلام لتحقيق أهداف معينة في الغرب.

وقد تطورت الدراسات الاستشراقية للتصوف من مجرد وصف ظاهري للظاهرة الصوفية إلى دراسة تأويلية عميقة للنصوص الصوفية، كما عند آرثر آربري وآنا ماري شيمل اللذين قدَّما دراسات نقدية وتحليلية للنصوص الصوفية، مع التركيز على الجوانب الروحية والفلسفية للتصوف.

ثم سلط الخطيب الضوء على الخصوصية الألمانية في الاستشراق من زاوية تميز الاستشراق الألماني بالعمق في التحقيقات النصيَّة والاهتمام بدقة التوقيت. وضرب الخطيب مثالًا بالمستشرق الألماني فان إس الذي قدم نموذجًا استثنائيًّا في تحليل الوثائق الكلامية والصوفية، واعتمد على التحليل الفلسفي والاجتماعي، دون إغفال التأثيرات الدينية والسياسية التي شكَّلت فكر المتكلمين والصوفية.


 

الجلسة الثالثة: دراسات الفقه الإسلامي وأصوله

شهدت الجلسة الثالثة نقاشًا غنيًّا حول التحديات التي تواجه دراسة الفقه الإسلامي في الأكاديميا الغربية، وأكَّد المتحدثون على أهمية تطوير المناهج البحثية المعاصرة للتعامل مع التراث الفقهي الإسلامي بصورة تتناسب مع تعقيداته، مع ضرورة النقد المنهجي والتفاعل مع الدراسات الغربية بشكل موضوعي. كما أكَّدوا على أهمية مراعاة الخصوصيات الفقهية والشريعة الإسلامية في سياقاتها التاريخية والاجتماعية. وقد رأس الجلسة الدكتور إياد النمر (رئيس قسم الفقه وأصوله بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر)، وشارك فيها عددٌ من أساتذة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وهم: الأستاذ الدكتور عبد القادر جدي، أستاذ الفقه وأصوله؛ والدكتور محمد الساعي، عضو هيئة التدريس بقسم الفقه وأصوله؛ والدكتور مراد العبدي، الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والدعوة؛ والباحث الأكاديمي الأستاذ حسن الرميحي.

 

الورقة الأولى: مقاربات الأكاديميا الغربية الفقهية: نظرة تقويمية

في ورقته العلمية "مقاربات الأكاديميا الغربية الفقهية: نظرة تقويمية"، قدَّم الدكتور عبد القادر جدي تحليلًا معمقًا لتطور دراسات الفقه الإسلامي في الأكاديميا الغربية، مظهرًا تجاوز هذه الدراسات إطار الاستشراق التقليدي الذي ساد لعقود، وتطورها لتشمل إسهامات من باحثين مسلمين وأكاديميين غربيين يعتمدون مناهج متنوعة. وركَّزت الورقة على أهمية التفاعل الإيجابي والنقدي مع هذه الدراسات بدلًا من رفضها، مؤكدةً على ضرورة الاستفادة منها لتطوير البحث الفقهي.

أشار جدي  إلى أن بعض الدراسات الفقهية الغربية تعتمد في تحليلها المعمق للقضايا الفقهية الإسلامية على مناهج العلوم الإنسانية المختلفة، وفي إطار مئات من الأقسام والمقررات التي تُدرّس فيها الدراسات الإسلامية، ما يعكس حجم الأبحاث والإنتاج العلمي في هذا المجال. كما يشير هذا التنوع الأكاديمي إلى التزايد المستمر في الاهتمام بالفقه الإسلامي من قِبَل الأكاديميين الغربيين والمسلمين العاملين في هذه الجامعات.

أما عن المناهج الجديدة التي تعتمدها الأكاديميات الغربية في دراسة الفقه الإسلامي، فأبرزها المنهجان الأنثروبولوجي والتاريخي، وقد ساعدت هذه المناهج الباحثين في تفسير التشريعات والفتاوى الفقهية بشكل أكثر دقة. ومثَّل على هذه المناهج الجديدة بدراسة عزة حسين حول "سياسات تقنين الشريعة" في ماليزيا، التي أظهرت أن حركة تقنين الشريعة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحركات الاستعمار، فقد أصبح التقنين أداةً تستخدمها الدولة لتنظيم الشريعة بطريقة معينة. واعتمدت هذه الدراسة على المنهج التاريخي لفهم تأثيرات السياسة في الفقه.

أما في استخدام المنهج الأنثروبولوجي، فإن الباحثين يواجهون صراعات متنوعة، منها الجدل حول تأثير العرف في التشريع الإسلامي، وما إذا كان العرف مكونًا رئيسًا في التشريع أو أنه يلعب دورًا محدودًا. كما أشار الدكتور جدي إلى تأثير تكوين النُّخَب النسوية في الجامعات الغربية في الدراسات الفقهية، حيث بدأت تظهر اتجاهات جديدة تتعلق بالاجتهاد والتفسير الفقهي، خاصةً فيما يتعلق بقضايا المرأة.

وفي نهاية ورقته، دعا الدكتور جدي إلى التعامل مع هذه الدراسات بطريقة تفاعلية نقدية بدلًا من التجاهل أو الرفض، وأوصى بإنشاء دوائر بحثية تهدف إلى تتبُّع الإنتاج الأكاديمي الغربي وتحليل نتائجه، مما سيُسهِم في إثراء البحث الفقهي الإسلامي، وتبني المناهج الحديثة مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ الاجتماعي في دراسة الفقه الإسلامي، لفهم أفضل للسياقات التي أدت إلى تطور الأحكام الفقهية. كما أكَّد على أهمية دور الجامعات في تشجيع طلبة الدراسات العليا على تناول الدراسات الغربية بوصفها موضوعات بحثية أساسية، ما يفتح آفاقًا جديدة لفهم الفقه وتطوره.

 

الورقة الثانية: البحث الدلالي والتأويلي في التراث الإسلامي من منظور الدراسات الأكاديمية الغربية

تناولت ورقة الدكتور محمد الساعي بعنوان "البحث الدلالي والتأويلي في التراث الإسلامي من منظور الدراسات الأكاديمية الغربية" موضوع الدراسات الدلالية والتأويلية للنصوص التراثية الإسلامية، في البحوث الغربية وفق مناهج لغوية وتأويلية حديثة. حيث ركَّز الساعي على ثلاثة محاور رئيسة تتعلق بالموضوع: المحور الأول: البحوث الدلالية التي تهتمُّ بدراسة المعنى في النصوص الإسلامية، وكيف تُفهم الكلمات في سياقها، وكيف تطورت معانيها عبر الزمن. والمحور الثاني: التأويل، حيث استعرض مناهج التأويل المختلفة في التراث الإسلامي، وكيف تعامل العلماء المسلمون مع النصوص الدينية لفهم ما ورائيات المعاني المباشرة. والمحور الثالث: العلاقة بين الفهم الدلالي والتأويلي، وهو المحور الذي يتناول كيفية تفاعل المناهج الدلالية والتأويلية مع بعضها في تفسير النصوص وفهم التراث.

وقد استعرض الساعي بعض النظريات الغربية الحديثة في علم اللغة الدلالي والتأويل، مثل التفكيكية (deconstruction) التي أسَّسها جاك دريدا، والهرمينوطيقا التي طوَّرها الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير، مع مناقشة المناهج اللغوية والتأويلية التي اعتمدتها الدراسات الغربية الأكاديمية، وهما المنهجان السياقي والأدبي.

أما التحديات المنهجية التي تواجه الدراسات الغربية في تأويل التراث الإسلامي، فقد قسَّمها الساعي إلى: التحيز الثقافي: فالعديد من الدراسات الغربية تقع في فخ التحيز الثقافي، حيث تُفهم النصوص الإسلامية ضمن معايير وقيم غربية، مما يؤدي إلى تفكيك بعض معانيها الأصلية. وغياب السياق الفقهي: حيث يتجاهل بعض الباحثين الغربيين السياق الفقهي أو العقدي للنصوص، ما يؤدي إلى قراءات مجتزأة أو غير متسقة مع المعاني التي قصدها الفقهاء أو المفسرون المسلمون.

وقد أشاد الدكتور الساعي بالإسهامات الإيجابية المفيدة من قِبَل الباحثين الغربيين، بالرغم من وجود تحديات منهجية حول البحث الدلالي والتأويلي للنصوص الإسلامية، فقد أبدعوا التحليل المقارن الذي يركز على مقارنة التأويلات الإسلامية بنظيرتها في الأديان الأخرى (مثل المسيحية واليهودية)، التي تفيد في فهم بعض الجوانب المشتركة في التأويلات الدينية. كما عمل بعض الباحثين الغربيين على إعادة قراءة النصوص التراثية، وقدَّموا قراءات جديدة بطرق حديثة، مثل دراسة الدلالة القرآنية باستخدام نظريات اللسانيات الحديثة، ما فتح أفقًا جديدًا للبحث في التأويلات المختلفة.

ملاحظات نقدية على الدراسات الغربية

ثم ختم الدكتور محمد الساعي ورقته بتقديم ملاحظات نقدية على المقاربات الغربية في دراسة الدلالة والتأويل في التراث الإسلامي، منها التعميم غير الدقيق من جانب الباحثين الغربيين خاصةً عند التعامل مع التأويلات الفقهية أو العقدية التي قد تختلف باختلاف المدارس الفقهية والمذاهب، وإسقاط المفاهيم الحديثة على النصوص الإسلامية التراثية بتطبيق مناهج تأويلية حديثة على نصوص قديمة دون مراعاة الفوارق الزمنية والثقافية.

 

الورقة الثالثة: المقاربات النقدية للاستشراق عند وائل حلاق: دراسة تحليلية نقدية

 ركَّز الأستاذ حسن الرميحي في ورقته على تتبُّع المقاربات النقدية التي قدَّمها وائل حلاق للاستشراق، وخاصةً فيما يتعلق بـدراسات الفقه الإسلامي، فحلاق من أبرز المشتبكين مع المستشرقين. كما أن أوراقه ومقالاته اليوم تُعَدُّ مناهج تُدرس في الجامعات الغربية في دراسات الشرق الأوسط، واسمه اليوم من الأسماء الكبرى إلى جانب شاخت وغيره من كبار المستشرقين.

والنقطة الأساسية التي ركَّز عليها الرميحي هي أن وائل حلاق لم يكتفِ بالاشتباك مع الاستشراق ضمن إطاره التقليدي، بل انتقد منظومته الإبستمولوجية، وأثار مسألة "الاستمداد الثقافي". فالاستشراق الكلاسيكي كان يرى أن المسلمين استمدوا فقههم من الرومان أو الفرس أو حتى اليهود. فقدَّم الرميحي تحليلًا لنقودات وائل حلاق للمستشرقين المهتمين بتاريخ الشريعة، الذين شكلوا محطات مهمة في الدراسات الغربية حول الإسلام، مثل جولدتسيهر وشاخت وموتسكي، واهتمَّ بالمقاربات المتعلقة بتاريخ الفقه وأصول الفقه المشكل الرئيس للشريعة.

كما تناولت ورقة الرميحي ثلاثة نماذج رئيسة للمجالات التي اشتبك فيها حلاق مع السردية الاستشراقية:

- مسألة جمود الشريعة في زمن ما بعد الإمام الشافعي.

- قصور الشريعة عن مواكبة التحولات الاجتماعية (الشخصية المعنوية نموذجًا).

- الاستمداد الإسلامي من الثقافات المجاورة في زمن التكوين.

فقد اهتمَّ حلاق بالاستماع إلى المنطق الداخلي الخاص بالحضارة الإسلامية، فمن خلال فهمه يمكن فهم التشابه بين الإسلام والحضارات الأخرى في بعض الأحكام، وكذلك فكرة فاعلية الشريعة، فالاستشراق كثيرًا ما ردَّد مقولة أن الشريعة غير صالحة لتسيير الحياة المعاصرة، لكن استطاع حلاق قلب الطاولة، وإظهار أن الشريعة الإسلامية كانت تعمل بشكل فعَّال عبر مؤسسات كالوقف والشخصية الاعتبارية، التي تعطي للوقف صلاحيات قضائية مستقلة.

واختتم الأستاذ الرميحي ورقته بالتأكيد على أن وائل حلاق جزءٌ من مشروع أكبر في الدراسات الغربية التي تتناول الشريعة الإسلامية بشكل تاريخي، ويجب النظر بعين الاعتبار إلى الدراسات المتناولة لهذا المجال، خصوصًا في ظل الاهتمام المتزايد بقراءة التحولات التاريخية للفقه الإسلامي.

 

الورقة الرابعة: تاريخ الدراسات الإسلامية والفقهية في الجامعات الغربية: تحديات المنهج والمفهوم

قدَّمت ورقة الدكتور مراد العبدي "تاريخ الدراسات الإسلامية والفقهية في الجامعات الغربية: تحديات المنهج والمفهوم" تحليلًا مفصلًا حول التطور التاريخي للدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، وناقشت التحديات التي تواجه هذه الدراسات على مستوى المنهج والمفهوم.

بدأ العبدي بتقسيم تاريخ الدراسات الإسلامية والفقهية في الغرب إلى ثلاث مراحل رئيسة:

مرحلة الدراسات المسيحية التبشيرية (القرون الوسطى - القرن التاسع عشر): تعود هذه المرحلة إلى بداية اهتمام الغرب بالإسلام من منظور ديني تبشيري، وكانت الدراسات الإسلامية في هذا الوقت تسعى أساسًا إلى مواجهة الإسلام من منظور ديني، فالدافع الرئيس لهذه الدراسات كان الدفاع عن المسيحية في مواجهة الإسلام. ومن الأمثلة المبكرة: ترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر بهدف فهم النصوص الإسلامية للرد عليها، والتركيز على الجدل الديني ومحاولة إثبات تفوق المسيحية على الإسلام.

مرحلة الاستشراق الكلاسيكي (القرن التاسع عشر منتصف القرن العشرين): شهدت هذه المرحلة ظهور الاستشراق الكلاسيكي، فقد بدأ الباحثون الغربيون بدراسة الإسلام من منظور علمي وأكاديمي، لكن الكثير من هذه الدراسات كانت مرتبطة بأهداف استعمارية. ومن أهم ملامح هذه المرحلة: الاهتمام بالنصوص الفقهية لفهم المجتمع الإسلامي وتحليله، وسعي الدراسات الاستشراقية بشكل عام إلى فهم المجتمع الإسلامي للتمكُّن من السيطرة عليه خلال فترة الاستعمار. وقد تعرضت هذه الدراسات لنقد لاذع بسبب التحيزات الثقافية والسياسية، فالهدف من دراسة الإسلام كان الترويج لفكرة تفوق الثقافة الأوروبية.

مرحلة الدراسات الإسلامية المعاصرة (منذ السبعينيات): في هذه المرحلة، ظهر اتجاه جديد في الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، فبدأت تُنشئ مراكز متخصِّصة لدراسة الإسلام، مثل مركز هارتفورد للدراسات الإسلامية في الولايات المتحدة، وزادت مشاركة الباحثين المسلمين في هذه الدراسات، مما أسهم في تقديم مقاربات أكثر توازنًا، بالإضافة إلى إدخال مناهج علمية جديدة مثل الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية لدراسة الفقه الإسلامي والنصوص التراثية، ما أدى إلى تطوير فهم جديد للإسلام.

التحديات المنهجية في دراسة الفقه الإسلامي في الغرب

كما أشار العبدي إلى أن الدراسات الإسلامية والفقهية في الجامعات الغربية تواجه عدَّة تحديات منهجية رئيسة:

- التركيز المفرط على المناهج الفيلولوجية: والمناهج الفيلولوجية هي مناهج تحليل نصيَّة تعتمد على دراسة النصوص اللغوية والتاريخية بشكل منفصل عن سياقها الاجتماعي والديني. فالدراسات الفقهية الغربية غالبًا ما تعتمد على تحليل النصوص الفقهية دون ربطها بالسياق التاريخي والفقهي الذي نشأت فيه.

- التحدي الثقافي والتحيز: فمركزية العقل الأوروبي لا تزال تؤثر في الدراسات الإسلامية في الغرب، فيتعاملون مع النصوص الإسلامية من منظور غربي بحت، مما يؤدي إلى إسقاطات ثقافية تجعل من الصعب فهم النصوص الإسلامية بالطريقة التي قصدها علماء المسلمين.

- إشكالية تفسير الفقه الإسلامي بوصفه قانونًا وضعيًّا: أي محاولة تفسير الفقه الإسلامي كأنه مجرد قانون وضعي، دون الأخذ بعين الاعتبار أنه نظام شامل يحكم الحياة الروحية والاجتماعية للمسلمين، مما يؤدي إلى تجزئة الفقه الإسلامي وفهمه بشكل سطحي، بعيدًا عن شموليته وتكامله.

التحديات المفهومية في دراسة الفقه الإسلامي في الغرب

ثم ناقش الدكتور مراد العبدي التحديات المتعلقة بالمفاهيم التي يستخدمها الباحثون الغربيون في دراسة الفقه الإسلامي مثل:

- فصل الوحي عن الفقه: فبعض الباحثين الغربيين ينظرون إلى الفقه الإسلامي بوصفه مجرد نتاج اجتماعي وقانوني دون أخذ مصدره الإلهي بعين الاعتبار، وهذه الرؤية تتناقض مع فهم المسلمين للفقه على أنه جزء من الشريعة، ومن ثَمَّ فالفقه ليس مجرد مجموعة من القوانين، وإنما هو جزء من الدين نفسه.

- الأعراف والتقاليد: تحاول الكثير من الدراسات الغربية ربط الفقه الإسلامي بالأعراف والتقاليد المحلية، معتبرة أن الفقه مجرد تعبير عن أعراف المجتمعات التي نشأ فيها. مما يؤدي إلى تجزئة الفقه الإسلامي والتقليل من دوره الديني.

إسهامات الدراسات الغربية والتفاعل معها

كما أشار العبدي إلى بعض الإسهامات الإيجابية التي قدَّمتها الدراسات الغربية في فهم الفقه الإسلامي، مثل استخدام المناهج التاريخية والأنثروبولوجية، التي ساعدت في تسليط الضوء على تطور الفقه عبر الزمن وكيفية استجابة الفقهاء للتحديات الاجتماعية والسياسية في مختلف العصور. كما وضعت الجامعات الغربية مناهج أكاديمية رصينة ومناهج بحثية متقدمة يمكن للباحثين المسلمين الاستفادة منها لتطوير دراسة الفقه الإسلامي في الجامعات الإسلامية.

أهمية التعاون بين الباحثين المسلمين والغربيين

واختتم الدكتور مراد العبدي ورقته بالتأكيد على أهمية التعاون بين الباحثين المسلمين والغربيين، وأن هذا التعاون يمكن أن يؤدي إلى إنتاج بحوث مشتركة تُسهم في تطوير الفهم الأكاديمي للفقه الإسلامي بشكل متوازن ودقيق، والاستفادة من الأدوات الأكاديمية الغربية في تحليل النصوص الفقهية، لكن مع مراعاة السياق الديني والاجتماعي الإسلامي الذي نشأت فيه هذه النصوص.

 توصيات لطلبة الدراسات العليا

وأخيرًا، أوصى الدكتور العبدي طلبة الدراسات العليا المهتمين بدراسة الفقه الإسلامي في الغرب بالإلمام الكامل بالتراث الإسلامي، وعدم الاعتماد على الدراسات الغربية فقط في فهم الفقه الإسلامي، وتطوير أدوات نقدية للتفاعل مع الدراسات الغربية بشكل إيجابي، ليتمكَّنوا من الاستفادة منها دون الوقوع في إسقاطات منهجية أو تحيزات ثقافية.