المجتمع وصناعة الخطاب الفقهي: قراءة في الممارسة الاجتماعية وتأثيرها في الاجتهاد الفقهي
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
ففي ساحة الفكر الاسلامي تراكمٌ معرفيٌّ كبير، والتراث الفقهي أحد أهم مجالات المعرفة في التراث الإسلامي؛ لِما له من أثر فاعل في ساحة التفكير الفقهي المعاصر خصوصًا، والتفكير الشرعي عمومًا، إلا أن هذا التراث الفقهي الكبير لم يخضع للدراسات الإنسانية، كعلوم الإنسان، وعلوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد؛ لأن التراث الفقهي مثلما تشكَّل من النصوص وأدوات فهم النصوص وقواعد الاستنباط تشكَّل أيضًا وفق سياقات متعددة وبيئات مختلفة، وسياسات وصراعات واقتصاديات، كلها عملت بشكل وآخر في رسم كثيرٍ من المعارف، ومدَّت يدها قصرًا لتشكيل هذا التراث الفقهي، وبمعنى آخر فإن الاجتهاد الفقهي لم يشكله الفضاء النخبوي فقط، بل الفضاء العام فاعل كبير ولاعب أساسي في مخرجات الاجتهاد الفقهي. ولفكِّ هذا الترابط الكبير والأدوات التي شكَّلت هذا التراث لا بدَّ من الاستعانة بهذه العلوم المجاورة لفهم النص، وفهم كيفية تشكيل العلوم والمعارف التي سُطرت حول النص. ويتجه هذا البحث بالنظر إلى الاجتهاد الفقهي مستعينًا بعلوم الاجتماع وما تمثله من فاعل كبير في قراءات معرفية تسهم في فهم هذا التراث المعرفي الكبير.
لقد نحت عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو نظريته الاجتماعية التي أطلق عليها "نظرية الممارسة الاجتماعية" ودور الفضاء العام (المجتمع) وتأثيره في بناء الأفكار والتصورات. ومن قبله الفيلسوف فرنسيس بيكون أيضًا أكَّد على هذه الممارسة الاجتماعية وتأثيرها في الفضاء المعرفي، وذلك في أصنامه التي عُرفت بأصنام بيكون، وهي أصنام العقل الأربعة، ودورها في صناعة المعرفة. والاجتهاد الفقهي ليس بمعزل عن ذلك التأثير. ومن هذه المنطلقات العلمية جاء البحث مركزًا على تلك الأبعاد وتأثيرها في صناعة الأنموذج الفقهي.
أي قراءة الموروث الفقهي في سياقه الاجتماعي والتاريخي للوقوف على ظروف نشأته وملابساته، ولا يعني حصر الموروث الفقهي والمنتج الفكري والعلمي تاريخيًّا، بل التاريخ ضروري للفقيه؛ لمعرفة المتغيرات الفقهية وتحولاتها، وهو أداة مهمة لمعالجة الواقع؛ لأنَّ هناك زوايا مظلمة في الفقه الإسلامي لا يكشف عنها إلا ملاحظة سياقها التاريخي والاجتماعي، ويصحح النظر في تصورها وأسباب نشوئها.
والبحث يقوم على مُسلَّمتين أساسيتين: الفرق بين النص وفهم النص أو الوحي وفهم الوحي، فالنص محفوظ بقدسيته، وعملية فهم النص هي موضوع الدراسة والتحليل والنقاش. وهو بيان لطبيعة الخطاب الفقهي، وأنَّ فرقًا حاصلًا بين الخطاب الفقهي وخطاب الوحي؛ فالأول قابل للنقد والمراجعة والاعتراض، بعكس الثاني، فهو وحي معصوم، واللبس الشديد يحصل عندما يُعامَل الخطاب الفقهي والوحي بنفس التعامل والمنـزلة، وهو ممَّا يُحوِّل الخطاب الفقهي والفهم البشري إلى نصوص مقدَّسة تسري فيها روح الجمود والركود.
وكذلك فإنَّ الخطابَ الفقهيَّ قائمٌ على الاختيار والانتخاب الذكي المقرون بالأدلة والنظر فيها، وكلُّها مبنية على الاجتهاد، ومساحة الظنِّ فيه واسعة، واجتهد العلماء أن يتجرَّدوا من المؤثرات النفسية الظاهرة بدرجة كبيرة جدًّا. إلَّا أنَّ المؤثرات الخفية قد يصعب الاحتراز عنها؛ لأنَّها تأتي بلباس الحق، فتزداد عندها شدَّة الخفاء والغموض[1]. لأنَّ الخطاب الفقهي بين مستويين: مستوى ظاهر يعتمد النص وقواعد اللغة ودلالات الألفاظ، وما تحمله من دلالات ومسوغات. ومستوى ثانٍ خفيّ مستور بكوامن النفس، وهي منطقة الظِّلِّ التي تكوَّنت من خلال مصادر تشكيل الفقيه من عادات وبيئات وتربية وغيرها[2].
وهو ما يقودنا إلى المسلمة الثانية: أن الفهم الذي تشكَّل من خلال النظر إلى النص والوحي، وما تمخض عنه من تراث معرفي، لم يكن لهذا التراث أن يتشكَّل من غير قبليات قارة في الذهن[3]، وواقع وبيئة تضغط في الاختيار والاعتبار، ولم تكن مجردة عن زمانها ومكانها. وبمعنى آخر: لم تكن أجوبة الفقيه بالحِلِّ والحرمة اعتمادًا على النص فقط، كما يبدو للناظر ابتداء، إلا أن هناك مؤثرات أخرى تفرض نفسها على انطباع الفكر الفقهي. وفي ساحتنا التراثية آراء متعددة نجد الرأي ونقيضه، فاستدعاء الرأي تحت المؤثرات تجعل المفتي ينزاح باتجاه إرادة العادة والسياسة والمجتمع، أو هي تحركات ضمن دائرة الاجتماع. فما كان شاذًّا في زمن يكون أصلًا في آخر. وكذلك نظرنا المعاصر إلى هذا الاجتهاد يخضع أيضًا لتلك المؤثرات، ومنها ضغط المجتمع وإرادته، فعندما نستهجن بعضًا من الفتاوى ليس باعتبار ضعف دليلها بقدر ما يخفى من البعد الاجتماعي الذي صنع نموذجًا للتفكير.
ومن المهم هنا التأكيد على قضية مهمة، وهي أنَّ شخصيَّةَ الفقيه شخصيَّةٌ تعتريها ما يعتري الإنسان من ميولات نفسية عاطفية، وأُخرى بيئية مجتمعية، وسلطوية سياسية؛ فهذه وغيرها لها تأثير كبير في العقل الفقهي وتصوره وتطبيقه للأحكام.
وهذا البحث يهدف إلى الوعي بالخطاب الفقهي، كما يعطي قراءة واضحة لِـمَا يعتري الخطاب الفقهي من مُؤثِّرات خارجة عن إرادة الفقيه، لها القوة والسطوة على خطابه، وهي ممَّا لا يُذكَر في كتب الفقه إلَّا إشارات يسيرة ومتناثرة هنا وهناك. فهذا البحث دراسة نقدية علمية، تُعالج المرتكزات الفكرية والنفسية التي تسكن ما وراء مداد القلم، فتُحرِّكه إلى ما استتر فيها، وما تقود إلى نتائج أقرب لمكنون الذات النفسية، فتتحيز له النفس بعيدًا عن الحقِّ، وهي تسكن في مناطق اللَّاشعور أحيانًا، وما تشكله تلك الحجب من مخاطر علمية في تكوين الخطاب الفقهي. كما أنَّ البحث يعطي تصوُّرًا عامًّا للمخرجات الفقهية عبر سنينها الماضية، وكيف يتحرك الخطاب الفقهي وهو محفوفٌ بعدد من الحجب التي تحرك عقل الفقيه أحيانًا، أو تحيد بالنظر إلى جهة ما. وهذه القراءة مهمة في قراءة الخطاب الفقهي المعاصر؛ لأنَّ الحجب مستمرة لا منقطعة، وكم هناك من المسائل التي تبقى بحاجة إلى تفسير ميل الفقيه إلى هذا الرأي أو ذاك، وهذا التفسير خارج عن الدليل المتبنى، ممَّا يثير تساؤلات يُبحث فيها عن مناطق التأثير. كما أنَّ تلك المؤثرات يُمكن أن تنسحب على الجماعات والأفكار والتيارات، وهي أقرب لتلك الحجب من الفقيه.
وهذه القراءة قد فرضها الواقع والاحتكاك الأممي والواقعي[4]، ولا شكَّ أنَّ الخطاب الفقهي له الحضور الكامل في الأوساط المسلمة، وخاصة في ظلِّ الانفتاح الموجود، ممَّا يجعلها قراءةً مُلحَّةً لبيان الملامح الأساسية المؤثرة في تكوين الخطاب الفقهي، وخطوة جريئة في طريق التصحيح الفقهي. كما أنَّها تُعَدُّ رؤية للخطاب الفقهي المستقبلي أنْ يتجرَّد بقدر الإمكان عن هذه المؤثرات التي قد تُشكِّل تكوين الفقيه والفقه.
أما عن منهج البحث فالبحث يسلك المنهج التحليلي والوصفي معًا، للوصول إلى الرؤية الكلية. وأما عن خطة البحث فيقسم إلى مقدمة وثلاثة مباحث رئيسة وخاتمة فيها أهم ما توصل إليه البحث من نتائج.
وفي الختام، فإنَّي لا أدَّعي الصواب فيما قلتُ، أو ما كتبتُ، بل هو جُهد المُقل، ونتاج المبتدئ، بذلتُ فيها قصارى جهدي، فإنْ كان فيه من خطأ فمني، وإنْ كان فيه من صواب فمن الله وحده، فهو صاحب المنِّ والفضل.
ولا يجادل أحدٌ في أنَّ الاجتهاد الأصولي يأخذ بعدين: بعدًا يتجه النظر فيه إلى النص من حيث ألفاظه وعباراته ومعانيه، وبعدًا يتجه النظر فيه إلى الواقع الخارجي وما يتبعه من لواحق وإضافات لتحديد محل الحكم وتحقيق مناطه الذي يرتبط به، وكذا معرفة الحكم الشرعي فيما يستجد من وقائع وتصرفات، وتطبيق الأحكام المجردة على الوقائع النازلة
المبحث الأول
مداخل منهجية
أولًا: نحو رؤية فقهية واعية
إذا كان الفقه ينشد "المحل" الذي ينزل فيه النص، فإنَّ تاريخ المجتمعات وسياقاتها يعطي أوجه التكامل لصورة المحل من خلال البيئات التي نزل فيها النص، وكيف نمت الفتاوى الفقهية، وهي تراعي محال التنزيل. لأنَّ الواقع بالنسبة إلى الفقه والاجتهاد يُمثِّل شرطه الأساسي وميدانه الذي ينزل فيه؛ لأنَّه لا يوجد تكليف ينزل على مُكَلَّف مجرد عن واقعه، فكان النظر إلى الواقع عند التطبيق أمرًا مهمًّا لا مناص منه، "ولا يجادل أحدٌ في أنَّ الاجتهاد الأصولي يأخذ بعدين: بعدًا يتجه النظر فيه إلى النص من حيث ألفاظه وعباراته ومعانيه، وبعدًا يتجه النظر فيه إلى الواقع الخارجي وما يتبعه من لواحق وإضافات لتحديد محل الحكم وتحقيق مناطه الذي يرتبط به، وكذا معرفة الحكم الشرعي فيما يستجد من وقائع وتصرفات، وتطبيق الأحكام المجردة على الوقائع النازلة، فإذا كان اعتبار السياق الداخلي (فهم النص) في المجالات التشريعية يساعد على تبيان مدى صحة الأحكام، فإنَّ اعتبار السياق الخارجي يدعم اعتبار السياق الداخلي، كما يعينُ على استبانة معالم الإعمال الأوفق للأحكام... فقد تكون الأحكام صحيحة غير أَنَّ تطبيقها يقتضي تكييفات معينة لا بدَّ فيها من اعتبار السياق والملابسات المرتبطة بمختلف القضايا والأسئلة والمشكلات التي يفرزها الواقع الاجتماعي"[5].
ففَهْم الواقع وإدراكه عند التنزيل يُعَدُّ شطرًا ثانيًا لمنظومة الأحكام، فضلًا عن النصوص التي لم تأتِ إلَّا لتخاطب الواقع وتتنزل فيه على أحسن حال، وأفضل منهج، وأقوم سبيل. وواجب المجتهد الاطلاع على أحوال زمانه، والإلمام بالأصول العامة لأحوال عصره، فهو يسأل عن أشياء قد لا يدري شيئًا عن خلفيتها، وبواعثها، وأساسها الفلسفي، أو النفسي، أو الاجتماعي، فيتخبط في تكييفها والحكم عليها بتنزيل خاطئ[6].
وقد تكون المشاكل التي تكمُن وراء الكثير من المجازفات والمفارقات عدم الإدراك الكامل لحدود التكليف في كل مرحلة وإمكانياته، الأمر الذي يؤدي إلى العبث بالأحكام والتكاليف الشرعية، وتنزيلها على غير محالها. والسبب الأساسي في ذلك هو الاقتصار بالاجتهاد على فهم النص، وغياب الاجتهاد في محل التنزيل، وإلى أي مدى تتوافر الشروط المطلوبة في المحل أو الاستطاعة المطلوبة لتنزيل الحكم، والله يقول: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]، ويقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، حتى يكون التكليف في حدود الاستطاعة، وهو ما اصطُلح على تسميته "فقه الواقع"، الذي هو فقه المحل، وعدم الاقتصار على فقه النص. وهذه الثنائية بين فقه النص وفقه الواقع أو المحل هي في واقع الحال ثنائية فنية لتسهيل الإدراك للموضوع، ذلك أنَّ الحقيقة أنَّ من مقتضيات فقه النص فقه المحل، ولا فقه لنص دون فقه لمحله[7].
"وقد يكون تحقيق المناط خاصًّا، أي: يتعلق بشخص معين؛ لمعرفة ما يناسبه وما ينطبق عليه من أحكام الشرع، وإلى أيِّ حد تناسبه وتنطبق عليه. فالاجتهاد في مثل هذه الدرجة من الخصوصية يحتاج إلى نوع خاص من المجتهدين، فلا يكفي أنْ يكون المجتهد "قانونيًّا" ماهرًا بنصوص التشريع وتفصيلاته، ولكنه يتطلب مجتهدًا ماهرًا أيضًا بالنفوس وخفاياها وخصوصياتها، وماهرًا بالملابسات الاجتماعية وتأثيراتها"[8].
وبهذا فإن البيئة الاجتماعية تمتدُّ جذورها بعيدًا تاريخيًّا ونفسيًّا، وتصنع العادات والأعراف، فتكون هذه العادات حجابًا قويًّا، فتترك الخطاب الفقهي لا يُعبِّر عن صورته الصحيحة. ومن المُشكِل جدًّا في هذه العادات أنها تُلبس بلباس الدين، فتُقدَّم بوصفها شرعًا يحاسب الناس، فعندها يختلط الأمر بين ما هو عادة وبين ما هو عبادة.
وعندما نجد في تراثنا الفقهي التعبير بـ"غناء المدينة ونبيذ العراق" فهي تُعَدُّ رمزية تُعبِّر عن بُعْد العادات في تكوين الرؤى الفقهية والاتجاهات والاختيارات[9]. ولو انتقلنا إلى رؤية علماء التخصُّص (علماء الاجتماع) في هذا الباب، نجد أن الرؤى اتفقت أنَّ للبيئة تأثيرًا كبيرًا في الإنسان وتكوينه، وابن خلدون في مقدمته يجسد ذلك البعد، فيقول: "ولـمَّا كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم، وفي أصل تكوينهم، كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حرًّا، فتكون أكثر تفشيًا، فتكون أسرع فرحًا وسرورًا وأكثر انبساطًا، ويجيء الطيش على أثر هذه، وكذلك يلحق بهم قليلًا أهل البلاد البحرية، لـمَّا كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة. وقد نجد يسيرًا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنَّها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول. واعتبر ذلك أيضًا بأهل مصر؛ فإنَّها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريبًا منها، كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنَّهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مآكلهم من أسواقهم، ولـمَّا كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن، وكيف أفرطوا في نظر العواقب، حتى إنَّ الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئًا من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم وللبلدان تجد في الأخلاق أثرًا من كيفيات الهواء. والله الخلاق العليم"[10].
ويُبيِّن ابن خلدون أمرًا آخر يتعلَّق بالخطاب الفقهي والتحول البيئي الذي يُعَدُّ سببًا رئيسًا في تحرك الخطاب الفقهي وانتقاله، فيقول: "وأمَّا مالك رحمه الله تعالى فاختصَّ بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وإن كان يوجد في غيرهم؛ إلَّا أنَّهم لـم يقلدوا غيره إلَّا في القليل، لِـمَا أن رحلتهم كانت غالبًا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذٍ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولـم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذٍ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلَّدوه دون غيره، ممَّن لـم تصل إليهم طريقته. وأيضًا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولـم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لـم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم، ولـم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب"[11].
وبهذا فإنَّ عوامل البيئة الاجتماعية والطبيعية والجغرافية تُعَدُّ من الحجب التي تقف وراء سلوك الفقيه وانتخابه واختياره، ومنه نشوء التسميات التي تصبغ فقه المكان والمنطقة؛ ولهذا فقه العراق، وفقه الحجار، ولكلتا المدينتين اختيارات ورؤى خاصة تنفرد عن الأخرى[12].
ثانيًا: صانع الخطاب الفقهي
لا بدَّ في هذا المجال من التأكيد على قضية صانع الخطاب وتشكيله، وحتى يظلَّ الفقه حيًّا في حياة الناس وعقولهم لا بدَّ من الإشارة لبعض المقترحات التي تُسهم في بناء العقل الفقهي:
- التأكيد على مكانة العلماء الكبيرة من جهة، وبشريتهم من جهة أخرى.
- الفقهاء كغيرهم من البشر يخضعون للعوامل النفسية والوراثية والطبيعية والاجتماعية.
- الفقهاء يختلفون فيما بينهم في سِماتهم وطبائعهم وأنماطهم التي جُبلوا عليها، وكل واحد منهم يميل بحكم طبيعته إلى ما يوافق هذه الطبيعة من الآراء والمذاهب في غالب أمره.
فالبيئة التي يعيشها الفقيه بأصنافها الثلاثة (الطبيعة الجغرافية والاجتماعية والثقافية) تطبع كثيرًا من سماتها في نفس الفقيه وفكره وسلوكه، وذلك مؤثِّر لا محالة في فقهه واختياره وترجيحه[13]. ولـم يكن هذا أجنبيًّا عن صناعة الفقيه، فقد رُوي عن الإمام الشافعي أنَّه أقام على تعلُّم العربية وأيام الناس عشرين سنة، فقال: "ما أردت بهذا إلَّا الاستعانة للفقه"[14].
وهذا أيضًا يقودنا إلى أهم الأسئلة المنهجية في هذا الصدد:
- هل التغيرات النفسية والتكوينية والمجتمعية والسياسية لها تأثير في الخطاب الفقهي؟
- وهل لها من تأثير في اختيار الفقيه واجتهاده؟ وخاصةً أن أكثر هذه المؤثرات تسكن في منطقة اللَّاشعور عند الفقيه؟
- أليس لِينُ الفقيه ورِقَّةُ طبعه أو قساوته لها تأثير في اختياره واتجاهه؟
- كذلك من الناحية الجغرافية التي يعيشها الفقيه من سهل وجبل، وهضاب ووديان، وبرد وحَر، وبَر وبحر، هل لها من تأثير في الفقيه؟
- وهل للعادات والأعراف والقيم والمنطلقات الأساسية المجتمعة التي ساعدت في تكوين الفقيه من سلطان على خطابه؟
- وهل للحياة وما فيها من استبداد وظلم وقهر من تأثير في الخطاب الفقهي؟
- وهل الفقيه بعيدٌ عن سيف الخوف أو إغراء الرجاء الذي تمارسه السياسة؟
- وهل الفقيه يختار الحِلَّ أو الحُرمة، أو الإباحة، أو التوقُّف، وهو رأي علمي بحت؟ أي لـم تكن هناك مؤثرات خارجية في اختياره أو ترجيحه، وإذا كان رأيًا علميًّا بحتًا، فلماذا تتباين آراء الفقهاء حتى تصل في بعض الأحيان إلى التناقض؟
- هل العقل وحده هو المحرك في تكوين الخطاب، أم الأبعاد النفسية لها قوة التحريك أيضًا كونتها حياته وظروفه البيئة والاجتماعية وطغيان العيش؟
- هذه وغيرها من الأسئلة هي المحركة لهذا البحث[15].
ولا يرقى حكم الفقيه في عمومه على عموم النصوص، فإذا كان الجمهور يعدون دلالة العام على جميع أفراده ظنية، فلنُعِدَّ على الأقل عموم الحكم الذي يصدره الفقيه عمومًا محتملًا، حتى إذا ما عرضت مسألة نستبعد أن تكون مدرجة ضمن وعي الفقيه مع أنَّ عموم حكمه يشملها، فلا نحمله القول بها لمجرد هذا العموم
ثالثًا: طبيعة الفقيه وخبرته وأثرها في الاجتهاد الفقهي
ومن الأمور المهمة التي تحتاج إلى كشف وإيضاح في التعامل مع أقوال الفقهاء هي طبيعة الفقيه، فإنَّ للواقع أثرًا في تشكيل طبيعة الفقيه؛ وعليه يجب أنْ يُنظَر إلى المجتهد باتجاه يمثل المجتهد، واتجاه يمثل طبيعة ذلك المجتهد؛ فكثيرًا ما تُؤثر الطبيعة البشرية في صيرورة الأحكام الدينية، وتكوين الاجتهاد الفقهي. وبهذا يكون اجتهاد الفقيه ذا اتجاهين: الأول: اجتهاد فقيه. والثاني: اجتهاد نابع من طبيعته الجبلية.
وأكثر الخلاف بين المذاهب من الشق الثاني؛ لأنَّ الأول ينبني على قواعد وضوابط يشترك فيها بقية الفقهاء، وإنَّما يحدث الخلاف في الشق الثاني. ومن هذا قول سيدنا عمر -رضي الله عنه-: "لست بالخبِّ ولا يخدعنِي الخب"[16]. فهذا القول يمثل طبيعة سيدنا عمر -رضي الله عنه- الفقيه والمجتهد.
بينما لو نظرنا إلى ما يُشكِّل طبيعة سيدنا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-، بما يخبرنا هو عن نفسه كما جاء في طبقات ابن سعد، فقد روي أنَّ عبد الله بن عمر كان إذا رأى من رقيقه أمرًا يعجبه أعتقه، فكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، قال نافع: فلقد رأيت بعض غلمانه ربما شمر ولزم المسجد، فإذا رآه على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: والله يا أبا عبد الرحمن ما هم إلَّا يخدعونك، قال فيقول عبد الله: مَن خدعنا بالله انخدعنا له[17]. فهذا القول الذي خالف به أباه -رضي الله عنهما- هو الذي يُنبئ عن طبيعته، التي بلا شك لها تأثير في تكوينه الفقهي.
فنرى أنَّ القول الأول يمثل طبيعة سيدنا عمر -رضي الله عنه- المعروف بشدته وصرامته والمنهج الذي اتبعه في النظر المقاصدي دون الاكتفاء بظواهر الأمور والألفاظ. والقول الثاني يمثل شخصية ابن عمر -رضي الله عنه- المعروف بسمته البسيط ووقوفه عند ظواهر الألفاظ من غير التفتيش عن مقاصدها. فشكَّلت هاتان الطبيعتان مدرستين مختلفتين في الاجتهاد الفقهي. وهما أب وابن، فكيف بمن يختلف عنهم بنسب وبيئة وغير ذلك؟
وكذلك هناك من السابقين من أشار إلى طبيعة الفقيه وأثرها في الاجتهاد كابن رشد، إذ قال: "فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها، ومن لم تقوَ عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد"[18]. ومعرفة هذا له أثر في الاجتهاد؛ لأنَّه يقرأ طبيعة الفقيه وأحواله قراءة جيدة ومتفحصة، ويُمحِّصُ آراءه ومدى أثر طبيعته فيها. وليس هذا على الإطلاق والعموم، وإنما يُلاحظ ذلك عند التنزيل إذا رأى المجتهد أنَّه برز أثرٌ لطبيعة الفقيه في فقهه.
ويجب أن يُلاحظ التنصيص على الشروط النفسية للمجتهد بوضوح أكبر، والتوسُّع في دراسة العلاقة بين الاجتهاد والملكات الذاتية والعوامل النفسية، وبحث أثر كل ذلك في الاختيارات الفقهية، ولعلَّ الطفرات المعرفية التي حققتها علوم النفس والاجتماع في العصر الحاضر تكون عاملًا على إنجاز ذلك[19]. وكذلك مَمَّا يُؤثر في التعامل مع أقوال الفقهاء خبرة الفقيه، وفي هذا يقول الدكتور رشيد: "إنَّ الحكم الفقهي يقوم على شقين: شق اجتهاد فقيه، وشق هو خبرة خبير، أي: خبرة الفقيه واطلاعه كغيره على الواقعة التي يطبق عليها الحكم"[20].
وينبغي أن يُنظر إلى نصوص الفقهاء وأحكامهم نظرة متفحصة؛ لأنَّها آراء بشر يخطئون ويُصيبون، وليس ذلك انتقاصًا من مقامهم، وإنَّما هو ترشيد في التعامل مع آراء الفقهاء حتى نرقى وترقى إلى المستوى المطلوب، "ولا يرقى حكم الفقيه في عمومه على عموم النصوص، فإذا كان الجمهور يعدون دلالة العام على جميع أفراده ظنية، فلنُعِدَّ على الأقل عموم الحكم الذي يصدره الفقيه عمومًا محتملًا، حتى إذا ما عرضت مسألة نستبعد أن تكون مدرجة ضمن وعي الفقيه مع أنَّ عموم حكمه يشملها، فلا نحمله القول بها لمجرد هذا العموم، ولو كان لعموم أنْ يتجرد من الزمان والمكان لكان ذلك لنصوص الوحي وحده"[21].
"وإذا اهتدينا في دراستنا إلى اعتبار شرط يقلص عموم الفقيه، فقد لا يُعَدُّ ذلك اجتهادًا مخالفًا له، بقدر ما يُعَدُّ ضبطًا دقيقًا لمذهبه، وذلك حسب قوة ما نستدل به على ما وصلنا إليه"[22]. ولهذا نجد متأخري المذاهب قالوا بخلاف قول أئمتهم؛ وذلك لاعتبار الواقع واختلاف الزمان، ومنها أنَّ ابن أبي زيد يقول: "لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسدًا ضاريًا"[23]. وكذلك "قال ابن يونس: لو أدرك مالك وأصحابه زمننا هذا لجعلوا الميراث لذوي الأرحام لا لبيت المال؛ لعدم انتظامه في هذا الزمان، وأطال رحمه الله في الاحتجاج لتوريثهم. قال ابن ناجي: ولا أعرف اليوم بيت مال، وإنَّما هو بيت ظلم"[24].
وهؤلاء أتباع فقهاء المذاهب لم يجمدوا على ما قال أئمتهم؛ وذلك لاختلاف الزمان كما صرحوا بذلك، فنحن من باب أولى أن نتوقف عند أقوالهم؛ لأنَّ الزمان تباعد كثيرًا. وقد عُهد أنَّ معيار الإحساس تتباين حساسيته من أُمَّةٍ إلى أُمَّةٍ ومن جيل إلى جيل، ويترتب على هذا التباين تباين الأحكام التي بُنيت عليه دون أن يكون ذلك خلافًا للفقيه الذي أصدر الحكم، وإنَّما يُعَدُّ ضبطًا صحيحًا لمحل الحكم الذي أصدره، ويصح به قولنا إننا تبع لفقيهنا[25].
رابعًا: كيف نفكر في التراث
لا شكَّ أن ما أنتجه الفقهاء من مُنتج علمي وفكري يُشكِّل موضع فخر واعتزاز، إلَّا أنَّه لا ينبغي أنْ يكون ذلك حاجزًا ومانعًا عن النظر والتفكُّر بما يناسب واقعنا كما هم بيَّنوا ذلك. يقول أبو زهرة: "فإذا جاء الفقيه وابتلي بحوادث وجد النصوص المذهبية القياسية قائمة، وقد تكون غير مناسبة للزمان فتقف محاجزة بين الفقيه والإفتاء الصالح"[26]. فلأصول الفقه أثر كبير في صناعة الحياة، والتفاعل مع الواقع الاجتماعي، ومن تلك الأصول: العرف، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع وفتحها، والاستحسان، ومراعاة الخلاف. وليس ذلك فحسب، بل هو أداة مهمَّة "للفقه الاستراتيجي" عن طريق أصل "المآلات" الذي يعمل على قراءة الواقع بدقَّة عند تطبيق الحكم الشرعي الآني، مع ملاحظة آثاره المستقبليَّة، لكن كل ذلك مرهون بتفعيل هذه الأصول وحضورها في الاجتهاد المعاصر، مع جودة استخدامها عند تقاطع الأدلَّة الأصولية وكيفية التوفيق بينها.
والمخرجات الفقهية والتراث الفقهي عمومًا مخرجاتٌ لتلك الأدوات الأصوليَّة. ولمعالجة الواقع، لا بدَّ من العمل على تلك الأدوات فهمًا وتفعيلًا. ولا يتم فقط من خلال استرجاع الاجتهادات الفقهية، التي بنيت في واقعها لشدَّة التصاقها بواقعها، وهو ما تقرره الأصول المنهجية التأسيسية كما مرَّ آنفًا.
فالاستدعاءاتُ المتواصلةُ والمتكررةُ من التراثِ، من غيرِ تمحيصٍ وتدقيق، وتحقيق مناط، مع تكلف استنطاقه: إحدى عوائق التجديدِ والتفعيل. والإقرار بأن أصول الفقه يراعي الواقع يناقض ما تفعله المدارس الفقهية المعاصرة، من استصحاب مخرجاته القديمة على بيئات مختلفة ومجتمعات تباعدت عن واقع تلك المخرجات، وهو واضح وخاصة على المستوى السياسي والاجتماعي. والسير بهذه الطريقة من التفكير في الماضي ليجيب عن الحاضر جعل الواقع يتجاوز لغة الفقيه في بعض الأحيان؛ لأننا ما زلنا في فقه اللحاق، ولما نصل إلى فقه الاستباق من خلال التأسيس المنهجي.
خامسًا: تحكُّم الواقع في حركة الفقه
لقد حاول الفقهاء الالتزام بالقواعد المنهجية والمحافظة على اطرادها في التدوين الفقهي، إلا أنَّ هذا الاطراد في القواعد قد لا يتناسب وحركية الفقه؛ لأن القواعد واطرادها تتسم بالثبات والفقه يتعامل مع الواقع وحيثياته وهو متغير. ومن هنا يُفهم سلوك الإمام الجويني في كتابه "الغياثي" وهو يشير إلى الحلول المناسبة لخلو الزمان عن حملة الشريعة بالاتكاء على الكليات المقاصدية[27]، التي تُعَدُّ أكثر مرونة من القواعد المذهبية، ولها قابلية الاستيعاب لتغير الواقع.

ومن ذلك أن ابن خلدون بيَّن أن التجريد للقواعد التي اتخذها الفقهاء والوفاء لها جعلها عرضة لكثرة اغلاطهم في الواقع[28]. يقول الفلاسفة: "إن ما تربحونه من ناحية الدقة، إنما تخسرونه من ناحية الموضوعية"[29]. فكثيرٌ من القضايا الفقهية التي أُثيرت فيها نقاشات حادة، وخلافات قوية (مثل: التلفزيون، والتصوير، والموسيقى، وأدوات التواصل الاجتماعي الإلكتروني، وقيادة المرأة ووظيفتها الاجتماعية أو الحكومية، وعملها خارج البيت) اليوم تجاوزها الزمن شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى، وانتهى بها الواقع إلى الجواز المطلق.
يبقى سؤال: ما السبب في جعل تلك الواقعات تنتهي إلى الاعتبار الواقعي المهم، وأصبحت تشكل حيزًا كبيرًا من حياة الإنسان، وتجاوزت لغة الإنكار والتحريم؟ أين غابت تلك اللغة التحريمية التحكمية؟ هل الخلل في الواقع أو في قراءته وتحقيق مناطه واعتبارات تنزيله؟ أو الخلل في استخدام الأدوات أو في الأدوات نفسها؟ هذه أسئلةٌ استحضارها طريقٌ للعلاج.
ولا بدَّ من إدراك القضية الأهم، وهي أن الواقع يسير بتحولات سريعة، فإن لم تكن سابقًا له تركك ومشى، والركضُ خلفَهُ لم يعُد مجديًا، بل مرهقًا ومُكلفًا. وحتى يكون الحضورُ الشرعي القيمي مندرجًا في منظومة الواقع، يلزم التفكير في الانتقال من فقه اللحاق إلى فقه الاستباق، وذلك لا يتأتى إلا من خلال المنهج التأسيسي المقاصدي الكلي، وتعزيز دور الكليات الشرعية ومقاصدها في تغيير نمط التفكير، وجودة استخدام النصوص وتأويلها واستنطاقها؛ لأن العقل يفرض أن الزمن كلما تقدَّم زاد الاحتياج إلى الكليات والقواعد الضابطة أكثر. وكل ما تقدَّم من تلك الواقعات التي استُخدمت فيها لغةُ المنعِ المباشر كانت نتيجة استدعاءات لنصوصٍ جزئية وتخريجات فقهية حركت أدواتها الاعتبارات الواقعية والظروف المجتمعية التي تسكن خلف تلك اللغة غالبًا.
لم تعد المجازفات الإفتائية المرتجلة أو اللغة الوعظية علاجًا ناجعًا، من دون القراءات الواقعية والمستقبلية، وذلك بالاستنجاد بمقررات علم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة، والتاريخ؛ لأن النوازل والواقعات المعاصرة لم تَعد بمعزل عن تلك السياقات، لتشابك مستجدات الواقع وتعقيداته، وبُعده عن الاستنتاجات الفقهية المدونة التي تتسم بالبساطة بعيدًا عن التعقيد؛ تبعًا لبساطة الواقع الذي نمت فيه، إضافة إلى التصور الشرعي الصحيح، والاستكمال المنهجي الأُصولي المقاصدي.
والملاحظ في سيرة الفقهاء المتقدمين أنهم يملكون الأدوات العلمية الواقعية، كالمنطق والفلسفة والاجتماع وحتى الطب، والتي شكلت حضور الفقيه في الساحة العلمية العملية. ونثر المسائل الفقهية تبرئةً للذمَّة من غير إدراك لمراميها في المستقبل وتداعياتها على الشريعة وقيم التدين: أحدُ أسبابِ التعثُّر في عرض المواضيع ومناقشتها.
سادسًا: إشكالية التحيز الفكري في التراث
وهذا المدخل أحد المبررات المهمة لهذه لدراسة؛ لأن معالجة "التحيز الفكري" في بيئة الفقيه ومجتمعه تتكشف في نقل الآراء وتبنِّيها، وهو أمر مهم في كشف الحقائق والوصول إلى النتائج السليمة، فقد صنعت الظاهرة الاجتماعية السائدة الاختلاف إلى مجاميع ومشارب وتياراتٍ متناقضة جعلها تتخيَّر من الأفكار ما يناسب وجهتها الفكريَّة أو المذهبيَّة، فتتحيز له، فصنعت خطابًا يمثِّل وجهةً شخصيةً أو نفسية، أو رغبةً في اتباع ذلك الرأي أو ذاك من غير اعتبارٍ لأصالة الدليل.
كما لا بدَّ أن يُعلم أن في عالم الأفكار ميولاتٍ نفسيَّة واجتماعيَّة تكوينيَّة تصنع تلك الأفكار وتمجِّدها قبل أن تحتكم إلى العقل. وكذلك فإن تفسير النصوص وتأويلها، واختيار الآراء وترجيحها يخضع في بعض الأحيان للتوجهات الفكريَّة المسبقة في الذهن، أو ضغط الرؤية السياسيَّة، أو الهوى، ويتمُّ التعامل معها على وفق تلك الأُطر، وتعمل على ألَّا يتعداها مستوى التفكير. لقد جنحت هذه التحيزات إلى اجتزاء النصوص من سياقاتها، وتأويلها بغير مرادها؛ لتكون خادمةً للمذهب أو المشرب أو التيار، فشكَّلت مفاهيمَ متحيِّزة لتعبِّر من خلالها عن إرادة الشارع.
فهذه الطريقة خلقت التحيز الذي يعني مسايرة المرتكزات الفكرية والنفسية التي تسكن ما وراء مداد القلم، فتحركه إلى ما استتر فيها، وما تقود إلى نتائج أقرب لمكنون الذات النفسية، فتتحيز له النفس بعيدًا عن الحق، وهي تسكن في مناطق اللاشعور أحيانًا. وما تشكله تلك التحيزات من مخاطر علمية في مجال الفقه والمعرفة[30].
وهذا ليس مقتصرًا على الرؤية المعاصرة، بل له بُعْد كبير في التراث الفقهي، ومن ذلك ما قاله ابن دقيق العيد (ت702هـ): "واعلم أن تقديمَ أرجحِ الظنين عند التقابل هو الصواب إن شاء الله، غير أنا نرى العلماء إذا انصرفوا إلى النظر في الجزئيات يخرج بعضُهم عن هذا القانون؛ ومن أسباب ذلك: اشتباه الميل الحاصل بسبب الأدلة الشرعيَّة، بالميل الحاصل عن الألفة والعادة والعصبيَّة، فإن هذه الأمورَ تحدث للنفسِ هيئةً وملكةً، تقتضي الرجحان في النفس بجانبها، بحيث لا يشعر الناظر بذلك، ويتوهم أنه رجحان الدليل، وهذا محلُّ خوف شديد، وخطر عظيم، يجب على المتقي لله تعالى أن يصرف نظره إليه، ويقف فكره عليه، والله أعلم"[31].
فالإمام ابن دقيق يؤكِّد حضور المؤثرات الخارجيَّة، كالألفة والعادة والتعصُّب والهوى، التي لها الأثر الكبير في الترجيح وتبنِّي الآراء، وهي مؤثرات تسكن في شعور الفقيه بشكلٍ عميقٍ يصعب معه التمييز بينها وبين الحقِّ الخالص أحيانًا، والتفريق بينها وبين صحَّة الترجيح.
وقد عدَّ بيكون في كتابه "الأورجانون الجديد" أصنامًا أربعة، أو أوهامًا أربعة، يجب على العقل الجمعي العالمي التخلُّص منها حتى يشارف تخوم الحقيقة. تلك الأصنام ترسّخت في العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت في عقولنا جميعًا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة التي تباعد بيننا وبين جوهر العقل الصافي ومعدنه الأصيل الذي خلقه الله فينا لنصل به إلى الحقيقة.

أول تلك الأصنام صنمٌ جمعيٌّ عامٌّ يخصُّ الجنس البشري بكامله، وأسماه "صنم القبيلة"؛ لأنه يخصُّ "قبيلة الإنسان" بكاملها. وهو الهوى الشخصي ومجمل المعتقدات الزائفة المغروسة في الطبيعة الإنسانية، فتشكّل أحلامه وأمانيه وحدوسه التي تنزع نحو التعميم في الأحكام وعدم تحليل الأمور على نحو علمي منطقي، بل على العكس تجعل الإنسان يُسلّم دون وعي بمعتقدات قبيلته أو عِرقه أو جماعته. فالعقل البشري لا يقبل إلا ما يوافق نزعاته وميوله، ولا يلتفت إلى التجارب التي لا تتفق مع رؤاه وترضي ميوله، لهذا نستسلم للخرافة والسحر والأحلام والتنجيم.
والصنم الثاني يخصُّ كل إنسان على حدة، وأسماه بيكون "صنم الكهف"، وهو استلهام من قصة الكهف التي نسجها أفلاطون ليدلل على أن الإنسان -كل إنسان- أسيرٌ في كهفه الخاص المعزول عن الرؤية الشاملة الخاضعة للمنطق والعلم. فكل إنسان هو عبدٌ تابعٌ لبيئته الخاصة ومستوى تعليمه وثقافته وظروفه الخاصة وتجاربه الشخصية ومَلَكاته وعيوبه.
أما الصنم الثالث فهو "صنم السوق"، وهو الآراء والمعتقدات المغلوطة الناتجة عن تواصل البشر مع بعضهم البعض وتناقلهم الأحاديث دون علم. وينتج عن هذا الصنم تشويه المصطلحات والتعريفات وتعميم الأمور، بسبب تداول البسطاء والعامة والدهماء لآراء علمية دون فهم ولا دراية ولا دراسة. ففي المقاهي والأندية والأسواق التجارية وغيرها من مناطق تجمع الناس، يتداول الناس في شؤون الحياة والطبيعة والسياسة بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، فتفقد الألفاظُ دلالتها الحقيقية وتستقر في الأذهان مجموعةٌ من المغلطات المشوهة.
وفي الأخير، نصل إلى الصنم الرابع، لأنني أرى فيه آفة عصرنا الراهن في المجتمع العربي، وهو "صنم المسرح"، وهو تزييف المصطلحات على يد الإعلام والنخبة. إنها الأفكار المغلوطة التي نتداولها عن المذاهب والمدارس الفكرية التي تشكّلها القيادات والمشاهير ذوو النفوذ والتأثير المجتمعي العميق في الأفراد في كل مجتمع[32].
المبحث الثاني
التطبيقات الفقهية
يتناول هذا المبحث جملةً من التطبيقات الفقهية، التي تحمل بصمات الممارسة الاجتماعية في اختيار الفقيه وانتخابه، وهي:
أولًا: الزواج بنيَّة الطلاق
"وهو زواج توفرت فيه أركان النكاح وشروطه، ولكن أضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة، أو مدة مجهولة، كإتمام دراسته، أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله، أو نحو ذلك مع عدم علم الزوجة"[33]. وهو زواج اختلف الفقهاء في مشروعيته، ولا يهمنا الوقوف على حيثيات الخلاف والمذاهب التي قالت به، إلا أننا نقرأ هذا النوع من الزيجات في سياقه الماضي والمعاصر، مع ملاحظة أثر الوضع الاجتماعي في مقبوليته من عدمها.
فلو أخذنا نحلل طبيعة العلاقات الاجتماعية المعاصرة، فإن القيمة الأبرز التي أفرزها النموذج الحداثي الغربي في هذا السياق هي "الفردانية"، فقد حوَّل هذا النموذج النزعة الفردية عند الإنسان من كونها نزعة استثنائية في المجتمع إلى نمط حياة يحكم سلوك المجتمع، فالمزاج الفرداني هو المزاج الأكثر انتشارًا اليوم، هذا المزاج الذي يفضل تلك العلاقات العابرة والمؤقتة على العلاقات التي تتصف بالثبات والاستمرار والاستقرار، وهو الذي أطلق عليه باومان "الحب السائل"[34]. وقد أصبح هذا المزاج يعبر عن نفسه بعدم الرغبة في الزواج؛ لأنها علاقة تفرض عليه الكثير من القيود التي لا يريدها، والتي يفضل العيش متحررًا منها، كما يعبر هذا المزاج عن نفسه في ازدياد نسب الطلاق بين الجيل الشباب الجديد الذي كان المفترض أنه أكثر وعيًا في اختيار شريكة الحياة ورفيقته.
ولو جئنا إلى الخطاب الفقهي لوجدنا كثيرًا من الفقهاء اليوم يقاربون موضوع الزواج بالطريقة الفقهية ذاتها التي ناقشها الفقهاء قديمًا، دون ملاحظة السياقات الاجتماعية المختلفة. فمن يفتش داخل المدونة التراثية الفقهية يجد جمهور الفقهاء متسامحين مع هذا النوع من الزواج ضمن شروط معينة[35]، وهي شروط لا تعنينا الآن بقدر ما يعنينا نفس التسامح مع هذه المسألة. فيأتي الفقيه الذي تعرض عليه المسألة اليوم ويفتش في تلك الأقوال، ثم يقارن بين الأدلة، ثم يرجح الجواز، أو سوغان القول فيها، دون أن يجري أي عملية مقارنة بين السياق الاجتماعي الذي طُرحت فيه هذه المسألة قديمًا والسياق الاجتماعي الذي نعيشه اليوم!
تُراثيًّا تم طرح هذه المسألة ضمن ثقافة مجتمع "جماعي" متماسك، كانت الأسرة فيه متماسكة بأشكالها المصنفة في علم الاجتماع (المشتركة والممتدة)، أي على النقيض تمامًا من حالة المجتمع (الفردانية) التي يتم عولمتها. والفرق بين السياقين كبير جدًّا، ففي المجتمع التراثي نحن أمام مجتمع متماسك، ما يجعل من وقوع مسألة كهذه معدودًا وقليل الحدوث وإلى الندرة أقرب، ونحن أمام مجتمع لا يعرف مشكلة اسمها "مشكلة الطلاق". فالمرأة تتطلق من جهة، وتتزوج بكل سهولة من جهة أخرى، وكتب التاريخ والسير والأدب حافلة بذكر نماذج لنساء يقع عليهن الطلاق لمرات، وتتزوج لمرات دون أي شعور بحالة من النقص والتعثر، فهناك حالة من السهولة واليسر في صور الزواج المستقر وبدائله الشرعية مع سيولة ويسر في حال المرأة المطلقة، مما يشي بمحدودية الأثر السلبي لهذا النوع من الأنكحة.
إن طرح المسألة في هذا السياق الاجتماعي لن يخلق المشكلة ذاتها التي ستحصل إذا ما طُرحت في السياق المجتمعي الحديث؛ فالأمر على النقيض من ذلك، فنحن هنا أمام سياق اجتماعي لا يريد الثبات ولا الاستقرار ولا الديمومة، بل يخلط الحاجات بالرغبات، ويتعدى حق المرأة في ديمومة العيش، وقد استقر طلبها ولو استقرارًا عرفيًّا على الأقل، فضلًا عن كونه من حكم الشرع في الزواج، فلا يخطر ببال المرأة أنها ستخوض عمَّا قريب العنت الذي تلقاه المطلقة في مجتمعاتنا.
إن الفقيه اليوم وهو يتسامح مع هذا النوع من الزواج ويستحضر الإرث الفقهي الذي تسامح معه يُسهم بشكل أو بآخر في توسيع هذا المزاج الحداثي الفرداني ويدفع باتجاه،ه ولكن بشكل وفي إطار تراثي إسلامي. والآن أمام هذا المزاج الذي موَّلته الحداثة الغربية بفعل ما تملكه من أدوات التأثير، كيف يفكر الفقيه وهو يقارب مسائل الزواج[36]؟ ثم لو أننا أردنا أن نعالج المسألة وقراءتها قراءة واعية فنحن بحاجة إلى مرآة صافية، ولا أجود من مرآة مقاصد الشريعة وكلياتها، وهذا ما سيأتي بيانه في المبحث الثالث المخصص للمعالجات العلمية.
ثانيًا: زواج المسيار
وفي السياق ذاته يتصدر زواج المسيار اليوم المشهد الاجتماعي، ليرضخ الفقيه إلى القول بجوازه كما جاء في فتوى مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة (10-14 ربيع الأول 1427هـ/8-12 إبريل 2006م)، وقد نَظَر في موضوع عقود النكاح المُستَحدثة، وقال بإباحته[37]: و"هو زواج موصى بكتمانه، تحقق فيه الصيغة، والشهادة، والمهر، والتوثيق ووجود الولي، وتنازلت فيه المرأة عن كل أو بعض حقوقها في المبيت والمسكن والنفقة، وغالبًا تكون الزوجة في هذا العقد هي الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة"[38].
وهذه هي صورة هذا النوع من الزواج، ومن خلال هذا التعريف لزواج المسيار يتبيَّن أهم الفروقات بين زواج المسيار والزواج الشرعي المعروف، وهي: توصية الشهود بالكتمان، وإسقاط المرأة حقها في المبيت والنفقة والسكن. وهذا الزواج له ذكر وصورة عند الفقهاء، ويُسمَّى زواج النهاريات، وفي هذا يقول الشيخ القرضاوي: "إنَّ زواج المسيار -كما يسمى- ليس شيئًا جديدًا، إنَّما هو أمر عرفه الناس من قديم، وهو الزواج الذي يذهب فيه الرجل إلى بيت المرأة، ولا تنتقل المرأة إلى بيت الرجل"[39]. كما جاء عند الحنفية: "قالوا: ولا بأس بتزوج النهاريات، وهو أن يتزوجها ليقعد معها نهارًا دون الليل"[40]. وقال ابن قدامة: "ولا بأس بتزوج النهاريات، وهو أن يتزوجها على أن يكون عندها نهارًا دون الليل"[41]. ونُقل "عن الحسن وعطاء أنَّهما كانا لا يريان بأسًا بتزويج النهاريات"[42].
وكذلك نجد الخلاف عند المعاصرين بين مؤيد ومعارض لهذا الزواج، ومِمَّن أباحه الشيخ القرضاوي، وكذلك الشيخ عبد العزيز بن باز[43]. وكذلك زيجات أخرى مستحدثة معاصرة تقع ضمن هذا السياق الاجتماعي الفرداني الذي يواجه فيه الفقيه ضغطًا مجتمعيًّا، وقد ذكر الدكتور تحسين بيرقدار مجموعة من الأنكحة المستحدثة[44]، التي تكشف عن عمق الممارسة الاجتماعية في تشكيل الاجتهادات الفقيه وأجوبتها.
ثالثًا: اشتراط الولي في النكاح من عدمه
وهي مسألة أخرى تطل علينا من اختلاف المجتمعات وتختلف مسألة تقبلها تبعًا لطبيعة المجتمعات، ويبقى التساؤل هل تعامل الفقيه مع هذه المسألة في سياق المجتمعات الإسلامية، التي تحتفظ كثير من قطاعاتها بموقع معتبر للأب ولا يزال له تأثيره داخل الأسرة، هو التعامل ذاته في بيئة من المعتاد أن تخرج فيها الفتاة من سلطة الأسرة منذ وقت مبكر من حياتها، وتنفصل عنها ولا ترتبط بها إلا بشكل رمزي في أعياد ومناسبات خاصة، حتى إذا أسلمت وأرادت الزواج طرحت عليها مسألة الولي؟ إن الفقيه عليه أن يتساءل قبل أن يصدر حكمه ما موقع الولي هنا؟ وما موقعه هناك؟ وما معنى اشتراطه هنا؟ وما معنى اشتراطه هناك؟ وما معنى أن يختار الفقيه بديلًا عنه في حال لم تجد لها وليًّا فيقول: "فإن لم يوجد كحال الجاليات المسلمة المقيمة في بلاد الغرب زوَّجها رئيس المركز الإسلامي، فإن لم يوجد زوَّجها إمام المسجد، أو عالم من علماء المسلمين، أو رجل عدل من المسلمين". وهذه المسألة ليست يتيمة في السياق الاجتماعي فقط، بل لها أخوات في السياق الاقتصادي والسياسي، ولا بدَّ أن يواجهها الفقيه، ولا بدَّ أن يفكر فيها بجدية[45].
ومن ثم الفهم لا يساوي النص كما هو، بل يقترب من معنى النص أو يبتعد، وذلك يعتمد على مدى تأثير هذه المؤثرات في التفكير قوة وضعفًا. وملاحظة هذا الأمر ضرورية في قراءة الآراء والأفكار والاجتهادات؛ من أجل تجنُّب الانزلاق والابتعاد عن منطقة النص، وليتسنى إنزالها إلى الواقع بما يتناسب وطبيعة التشريع.
رابعًا: الحرية في السياق المعاصر وأجوبة الفقيه
لو انتقلنا بعيدًا عن الفقه الصرف قليلًا إلى سياق فكري آخر، وهو مفهوم الحرية في السياق المعاصر سنجد الإجابة متعثرة؛ نتيجة اختلاف السياق المعاصر عن السياق الاجتماعي القديم. فاستخدام مفهوم الحرية في الفقه الاسلامي التراثي جاء في مقابل العبودية والرق، والحرية من العبودية، وفي علم الكلام جاء مفهوم الحرية كفكرة مناقضة للجبر والتعبير عن الإرادة، والحرية في مفهوم التصوف جاءت بمعنى الانتزاع عن الدنيا والمخلوقات إلى الخالق[46].
هذه المسائل وغيرها كثير تحتاج عند إجاباتها الإطلالة من شرفة المقاصد وملاحظة التحديات الاجتماعية، ومراعاة الواقع الذي تصدر منه المسائل؛ لأن لكل سياق اجتماعي أسئلته وأجوبته الخاصة، وفي هذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "لو أنَّ أحدًا أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم، وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثَّر بها فتاواه، بحيث إن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتاوى العجمي رائحة العجم، ومن فتاوى القروي رائحة القرية، ومن فتاوى المدني رائحة المدينة[47]".
ومن ثم فالفقيه ليس منبتًّا عن واقعه، فهو يفكر بما يفكرون، ويتكلم بما به يتأثرون، ويعالج ما منه يمرضون. إلا أنه أحيانًا تكون تلك الاعتبارات غلابة، فمن الصعب تمريرها في واقع آخر. ومن ذلك التأثير البيئي والاجتماعي، حيث يتم إنتاج الفهم عن النص، ومن ثم الفهم لا يساوي النص كما هو، بل يقترب من معنى النص أو يبتعد، وذلك يعتمد على مدى تأثير هذه المؤثرات في التفكير قوة وضعفًا. وملاحظة هذا الأمر ضرورية في قراءة الآراء والأفكار والاجتهادات؛ من أجل تجنُّب الانزلاق والابتعاد عن منطقة النص، وليتسنى إنزالها إلى الواقع بما يتناسب وطبيعة التشريع.
فعملية التفكير والتوليد وإنتاج الآراء ليست عملية محايدة بدرجة كبيرة، مع اعتمادها على النص أساسًا للتفكير والتفسير؛ لأن المحددات القَبْلِية، والاعتبارات الواقعية، مع التنشئة البيئية والتكونية، تسير مع عملية الاختيار والترجيح، وهي تسكن في مناطق اللاشعور غالبًا. وهذا أمر تفطَّن له الأئمة، وتنوُّع الاجتهادات ينبئ عن ذلك، إلا أن ذلك قد ضعف مع امتداد فكرة الجمود والتعصب، التي كرستها السلوكيات المتشددة، فتحوَّل التدين دينًا، والأقوال والأفكار نصوصًا، حتى غدت النصوص التشريعية غريبة في خضم الآراء والاجتهادات التي تحكمت في إنتاجها المؤثرات الخارجية، لكنها أُخذت بمقبولية واسعة، ولم تخضع للنقد والمساءلة؛ لأنها ولدت في بيئة يسودها طابع الوثوقية المطلقة.
وهذا السلوك مناقض لطبيعة الشريعة، فمن طبيعة الشريعة أنها حيَّة، وحياتُها وعطاؤها مستمر ما دام الاجتهاد والبناء وحضور الملكات فاعلًا. وهذا ما ضيقته ظاهرة الجمود والتعصب، وأجهضت فاعليته. وهو ما استفز كبار الأئمة لنقده، حيث شدَّد الإمام القرافي النكير على ظاهرة الجمود والتعصب، فقال: "والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد العلماء والسلف الماضين"[48].
ولمعالجة ذلك التصحر المنهجي لا بدَّ من استصحاب المنهج المقاصدي الذي يرسم الكليات الأساسية في خارطة التشريع، ويمدُّ الفكر بمساحة واسعة من النظر الشمولي، والذي بدوره يمنع ويقلل من امتداد المؤثرات إلى المساحة الاجتهادية، وخاصة في التقريرات والتفسيرات والاجتهادات الجزئية. فهو من الرؤى المنهجية الناجعة للتعامل مع النص الشرعي، ومن أجل ألَّا يكون الفهم أسيرًا لتأثيرات الواقع، بل لضبط مساره بالاعتبار المقاصدي، الذي يحكم الواقع وتغيراته. ولا يكفي أن ننتهي إلى القول بأن الأئمة كانوا مقاصديين، بل الأهم هو حدوث النقلة في الدرس المقاصدي من مستوى التبرير إلى مستوى التفعيل والتشغيل.
المبحث الثالث
معالجات علمية
أولًا: مشكلات العقل الفقهي
قبل النفوذ إلى المعالجات المنهجية، لا بدَّ من المرور على أهم المشكلات التي تعيق التفكير الفقهي السليم؛ فتشخيص المشكلة أول العلاج:
غياب النقد الذاتي
من أعظم المشاكل التي صاحبت العقل الفقهي المعاصر: التماهي مع العقل الباطن في تحريك المسائل وتوجيه النظر، من غير استحضار النقد والتعامل بحيادية وموضوعية، بل بما تلوح به النفس المتماشية مع وضعية التعصب السائدة، فوضعت الحجب وضاعفتها؛ "لأن النفس إذا كانت على حالِ الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقَّه من التمحيص والنظر حتى تتبيَّن صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله"[49]. وهذا القبول يحتاج إلى تبرير، وهو ما سعى إليه المتعصبون لدوائرهم المغلقة؛ من أجل إثبات ما تبنَّته المدرسة ابتداء، فهذا ما ساعد على استمرار الخطأ وتراكمه واستمراره، وإن كان لا يخضع للقواعد الموضوعية، أو لا يصدقه الواقع.
فقد أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى قابلة للقبول بوساعة، حتى لو كان هناك دليل يكذبها، طالما له قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى[50]. وبطريقة التفكير هذه نجد أن "الخاصية النقدية في الفكر الإسلامي آلت إلى الانحلال شيئًا فشيئًا، ولم يبقَ منها آخر الأمر إلا أثر قليل، فقد ظهرت بوادر الحجر على الرأي المخالف مستهدفة بداية الرأي المخالف للإسلام من المذاهب والأديان، ثم امتدَّ الزمن إلى الرأي المخالف في نطاق الدائرة الإسلامية نفسها، وتمثل ذلك في المنهجية العقدية والفقهية الضيقة التي تلغي أو تكاد الرأي الآخر، وتنطوي على الرأي الوحيد في تعصب وانغلاق، فضعفت بذلك كثيرًا الخاصية النقدية، وغدا الفكر الإسلامي كما انتهى إليه أمره في العصر الحاضر أقرب إلى الفكر الخطي منه إلى الفكر النقدي"[51].
وهذا ما جعل العقل يغيب عن الحقيقة، ويبتعد عن منطقة التجديد والتفعيل، ولم يُدرك واقعه ويعمل عليه؛ "لأن حضور الأيديولوجيا ومن ثم تغييب النقد الذاتي قد أسهم في جعل المذاهب عاجزة عن إدراك حقيقة ما تحمله من قيمة معرفية، فضلًا عن إدراك الواقع المعرفي لغرمائها من المذاهب الأخرى، ما جعل الصراع يتحول إلى أشبه ما يكون بحوار الصم"[52]. وعليه، "فإنَّ أولَ المبادئ التي ينبغي اتخاذها للتحقيق في الفهم الديني هو مبدأُ المراجعةِ المتواصلةِ، بعيدًا عن الاعتبارات المذهبية والأيديولوجية"[53]. ومع هذا أيضًا ممكن تسطير أهم المشكلات إجمالًا:
إن العقل الفقهي مسكونٌ بجملة من المشكلات المنهجية الخفية التي تحركه إلى إنتاج الأفكار وترجيح المسائل. والتأكيد على المشكلات المنهجية يصبُّ في تنمية الفكر وتحريك عجلة الاجتهاد. فالإغراق الجزئي والغياب الواقعي أضعف المعرفة، وجعل القبليات التكوينية تتحكَّم بمخرجاتها. فملاحظة المنهجية التي ولدت منها الآراء تعمل على ترشيد الفكر وتسديد القول، وتقلل من الأخطاء المنهجية. والتعامل مع التراث وفق منهجه الذي أنتجه يعمل على تنزيل الآراء برؤية علمية وأكثر واقعية. والتأكيد أن التكوين المنهجي والتأسيس العلمي يحرر العقل الفقهي من الانزلاق الخفي في بوتقة المدارس والمشارب والمنافع.
ثانيًا: معالجة إشكالية التمدرس
التمدرس صورة من صورة التكوين المجتمعي الذي تتكرس في جيناته ثقافة الانقسام، وهذا النوع من التمدرس الذي تمارسه المدارس الفقهية أحدث إشكاليةً في تحديدِ الفهمِ الديني، وانفتاح القراءات الصحيحة منها والمستنكرة، وأسهم في تكوين خطابٍ يمثل الفهم الديني بحسب قوة ظهور المدرسة، فتعددت الفهوم، وتضاربت أحيانًا. وهو بوجه آخر عامل في طياته البيئة المجتمعية.
وقد تقرر عند علماء الاجتماع أن المبدأ العام ينهزم أمام التكتلات والانقسام، وهذا ما تحدثه صورة التمدرس المعاصر المنقسمة من ضمور وضعف لاعتبار المبدأ الشرعي العام، شعرت بذلك تلك المدارس أو لا. ومن أخطرها أنها حوَّلت بعضَ الآراء العقدية الفروعية والفقهية الظنية إلى معتقدات قطعية، وهو المسار الأخطر الذي تغذيه ظاهرةُ التمدرس، فمن الخطأ الجسيم ما يرتكبه البشرُ عندما يحولون الرأي إلى عقيدةٍ من دونِ توسطِ المعرفةِ الدقيقةِ المحققة يقينًا بلا أدنى شك، وهنا تتشكَّل العقليةُ الأحاديةُ الإقصائية؛ لأنها تبني افتراضاتها على أسسٍ قطعية -كما تعتقد هي- وهذه الافتراضاتُ التي ما برحت تتناقلها الأجيالُ جيلًا بعد جيل تكتسب وزنًا إضافيًّا، من تأييد الثقات لها، إلى أن تُقبلَ آخرَ الأمرِ حقائقَ أساسيةً حتى من جانبِ العباقرة. وذلك لأنَّ الناسَ ومن حيث اللاشعور لا ترغب أن ترى الحقائقَ الاجتماعية والدينية كما هي، وما يهمها هو إرضاءُ ما ترسب لديها من قضايا تألفها، فتُحب وتغضب لهذه الرواسب الصنمية، دون أن يكون لذلك علاقة بالبحث عن الحقيقة الموضوعية[54].
وحتى مَن أراد التعامل مع النصوص يستعين بالمنظومة التفسيرية المقررة، وهي تشكيل المفسر نفسه الخاضعة للاعتبارات الواقعية والرؤية الاجتماعية. وهو مما لا يخلو منه أحد، فالمفسر عادة يسير باتجاهين والفقيه كذلك: اتجاه نحو النص، واتجاه نحو الواقع وإكراهاته. "وبهذا اختفى التمييز بين الأحكام التي وردت بها النصوص في الشريعة صريحة في دلالاتها لا تحتاج إلى تفسير، ولا مجال فيها للتأويل، وبين الأحكام التي أقرها الأئمة المجتهدون عن طريق تفسير نص يحتمل أكثر من دلالة، أو قياس عليه، أو أعلنوها دون إسنادها إلى نص معين، أو قياس عليه، وأصبحت جميع الأحكام بنوعيها -النصية والاجتهادية- تحمل وصفًا واحدًا هو أحكام الشريعة أو أحكام الله في جميع المجالات التي تتداول فيها، ثم رفعت عبارات التفسير إلى درجة النص المفسر"[55]. وعليه، "فإنَّ أولَ المبادئ التي ينبغي اتخاذها للتحقيق في الفهم الديني هو مبدأُ المراجعةِ المتواصلة، بعيدًا عن الاعتبارات المذهبية والأيديولوجية"[56].
وإذا كانت جزئيات البحث في العلوم الطبيعية والتقنية تجبر العقل المادي المعاصر على التزام بعض جوانب العلمية والموضوعية في ميدان هذه العلوم، إلا أنَّ هذا العقل قد يضل في ميدان العلوم الإنسانية الاجتماعية؛ لقابلية التحيز والتعذر منه صعب، ويتحول في كثير من الأحيان إلى شيطان مريد، لا يبحث عن الحقيقة الموضوعية، ولا بدَّ من الحق الموضوعي في كيان الإنسان وفطرته وعلاقاته وغاياته ونظامه الاجتماعي، وما يقتضيه الحق وتقتضيه الحقيقة الموضوعية في هذا الوجود؛ ولكنه ينطلق من منطلق الهوى والنزوة، وجهل الغاية والمقصد، لينظر وينتقي ويبرر ويضل، ويسعى لتبرير الانحرافات باسم العلم وباسم البحث العلمي؛ فنرى كل يوم مدارس تقوم ومدارس تسقط، ونظريات تعلن ونظريات تفشل، والمجتمع في حيرة وغم وتخبُّط وقلق، لا يجد لآفات حياته وتمزق عرى أواصره، وانتشار الجرائم والفواحش والآفات في جنباته من مخرج، ولا إلى إجابة شافية مقنعة من سبيل[57].
وبهذا فإنَّ "كثيرًا من الدعوات السالفة تجاوزها الزمنُ، لا لأنها فشلت في علاج قضايا عصرها، ولكن لأنها نجحت نجاحًا حاسمًا في علاج تلك القضايا، وكان لها بذلك فضل عظيم"[58]. "وذلك أنَّ تفكيرَ أيِّ جماعةٍ من الجماعات إنما يصدرُ أولًا وبالذات عن ظروف معيشتها، وأوضاع حياتها، وحاجاتها الاجتماعية والعقلية"[59].
وعلى ذلك "فإن أزمة الفكر المسلم كما هي اليوم هي أزمة المنهج العلمي الاجتماعي وبناء العلوم الاجتماعية التي تمدُّ الأمة -إلى جانب المعرفة بدلالات النصوص- بالمعرفة بالطبائع والفطرات والوقائع والأحوال في الزمان والمكان، حتى تتمكَّن الأمة من بناء فكرها ونُظُمها ومؤسساتها وسياساتها التي تحقق غايات الإسلام وقيم الإسلام ومبادئ الإسلام. وإذا كنا نتحدَّث عن العلوم الاجتماعية، فإننا نعني هنا الميادين والحقول التي تتوجه إليها الدراسة المنهجية، وليس بالضرورة الصيغة الغربية أو الشرقية سواهما في هذه الميادين والحقول، فلا شكَّ أن العقل المسلم -انطلاقًا من مصادره المعرفية الأشمل والأكمل- سوف يضفي خلال مسيرته على الدرب صيغته التي تناسبه، وتحقق غاياته على الوجه الأكمل. إن الحديث عن تفصيلات قضايا العلوم والمعارف الاجتماعية الإسلامية ومسمياتها أمر مبكر وسابق لأوانه، وسوف تكشف الأيام والجهود تدريجيًّا عن معالمها وتفصيلاتها، فأيًّا كانت الصيغة التي نبدأ منها اليوم فإنما المقصود البدء من نقطة المعلوم للاستفادة مما حقَّقته الإنسانية من إنجازات. والأمر المهم أن نقطة الانطلاق يجب أن تتميز بالأصالة والنضج والتفتح حتى يمكن للمسيرة أن تنطلق بعيدًا عن التقليد الذي وقعنا في حبائله ونبغي الفكاك من إساره"[60].
ثالثًا: الحضور المقاصدي وأهميته في المعالجات المنهجية الواقعية
إنَّ الأصل من قيام الشريعة تطبيقها وإعمالها، وإعمالها يُمثِّل المحطة التي تتجلَّى فيها قيم الشريعة وحقائقها، وذلك لا يتأتى إلا برؤية كلية تحافظ على أهداف الشريعة وغاياتها، وهذا يتمثَّل بمقاصد الشريعة، فالتأكيد على أهمية المقاصد واستحضارها في العلوم الشريعة يُضعف عامل المؤثرات الخارجية وحضورها السلبي، على المستوى الفكري والمنهجي، وفي الوقت نفسه يضمن سير الأحكام الجزئية تحت سقف الشريعة، مع تلبية مطالب الوقائع والمستجدات، وتحصين الفكر من الأهواء والشبهات، والسير نحو التقدُّم والعمران، فالمقاصد تسير مع الواقع وتكيِّفه ولا يكيفها، وتوجِّهه ولا يوجهها، وتفتح له مجالات التقدُّم والبناء والعطاء.
وللشريعة مقاصد وغايات ومعانٍ وحِكَم وأسرار تُعين المجتهد في عملية تطبيق الأحكام، وهذا يتسنَّى من خلال ضوابط وقواعد وآليات مساعدة لذلك، والعلوم الشرعية تعمل على وضع ضوابط وقواعد معيارية، تحفظ تناسق الشريعة وربطها بمقصدها وجزئيِّها بكليِّها.
وإن كان هناك وجود لقواعد التأويل وغيرها إلا أن هذه القواعد لا تكون محايدة بشكل قطعي، بل قابلية التحيز والاستخدام واسعة.
إنَّ صناعة خطاب مقاصدي يمثِّل إحدى المعالجات المهمَّة في انحسار فعل المجتمع السلبي وضموره، والتوصُّل إلى رؤية إسلامية معاصرة ومتجانسة تُقدِّم حلولًا واقعية، وتتحرَّك مع الواقع وتكيِّفه، وتعمل معه، وتسيِّره بما يتناسب والواقع المعاصر، من غير إحداث أزماتٍ بين الدين والتدين من جهة، وبين الدين والواقع من جهةٍ أخرى. وتُراعي التغيرات المجتمعيَّة والأمميَّة وتقلبات المجتمعات، وتتسم بطرح خطابٍ مقاصدي، وتوليف رؤية تكامليَّة، تلاحظ العمران والتقدُّم على جميع الأصعدة، وتتكفَّل بفتح مجالات التطور، بما يتناسب وقواعد الشريعة الكليَّة وقواعدها المرعيَّة، واستلهام النصوص المؤسسة، من أجل تخفيف وطأة الاستبداد وتجاوز الخطابات المستهلكة والمسيَّسة والمتحيِّزة.
لقد تبيَّن من خلال ما تقدَّم أن مشكلات الخطاب الفقهي أثرت بشكل سلبي، وأنتجت مشاكل منهجية، أضعفت الحضور الشرعي في الواقع؛ نتيجة التشتُّت والتمزق والانقسام المنهجي. فالعمل على إذابة تلك المشكلات وتصحيح النظر المنهجي يتأتى من خلال اتباع المنهج التقصيدي، أي حضور سؤال المقاصد في مساحة العلوم الشرعية، وعدم حصره في باب الفقه أو الأحكام فقط، بل القصد تعميمه، وإعادة تفعيله وفق ذلك.
وقد جرت العادة في المسائل الفقهية الموسمية والنوازل الواقعية أن يبدأ النقاش بين طلبة العلم ببيان حكم المسائل، وهو أمر حسن. إلا أن الأمر الذي يمكن أن ينظر إليه هو أننا لم ننتهِ في هذه المسائل إلى رؤية تشكِّل اتفاقًا عامًّا من حيث المنهج، لا من حيث مخرجات المنهج، بل الأمر كعادته ينتهي إلى تقاطعات وتشنجات، ويبقى كل فريق متمسكًا برأيه المعروف سلفًا وقبل أن يحرر. وهذا يؤشر إلى مؤشر منهجي خطير يؤدي إلى ضعف المعرفة عمومًا، ويصيب العقل الفقهي في مقتل، ويجعل المؤثرات والقبليات هي التي تتحكَّم بالترجيح وعدمه؛ لأن الإغراق بالتفاصيل الجزئية يضعف المعرفة ويجعل القبليات التكوينية والبيئية والنفسية والأيديولوجية هي التي تتحكَّم بالمخرجات. وإن كان هناك وجود لقواعد التأويل وغيرها إلا أن هذه القواعد لا تكون محايدة بشكل قطعي، بل قابلية التحيز والاستخدام واسعة.
ولو تجاوزنا المسائل إلى السؤال المهم، وهو ما السبب الذي أدى إلى هذه الآراء مع أن النص واحد؟ فبهذا السؤال نحن ننفذ إلى الرؤية المنهجية والأدوات التي أنتجت هذه الآراء، وبهذا ننتقل بالتفكير المنهجي التأسيسي، وما هي مساراته وأدواته؟ وكيف تعمل؟ وهل تحتاج إلى تجديد وتفعيل؟ وبذلك نحن ندور حول المنهج وتفعيله وتشغيله من غير مصادرة وإلغاء للآراء الأخرى، وننفذ إلى قراءة آراء الفقهاء من خلال الرؤية المنهجية المكونة لاجتهاداتهم ومخرجاتهم الفقهية.
وهذا الرؤية تحقق إيجابيات مهمة، أهمها:
- تحريك عجلة الاجتهاد وتفعيل الأدوات المنهجية وتطويرها.
- توسيع دائرة النظر وموضوعية مسالك الترجيح ودقتها.
- تقليل التحكُّم الأيديولوجي والتوظيف النفعي المصلحي.
- القضاء على التعصُّب والجمود الفكري، وتحرير العقل من الركون إلى التفكير بعقل غيره.
وعادة المسائل لها في معالجتها -من حيث العموم- شقان: الأول: النصوص وتأويلها، وهذا شأن الأدلة والقواعد الأصولية والرؤية المقاصدية الكلية. والثاني: البعد الواقعي المجتمعي (الممارسة الاجتماعية)، وهذا تشتبك فيه جملة من الاعتبارات. وإعمال أحد الشقين دون الآخر مكمن الإشكال. ففي كل مشكلة واقعة يهتمُّ الخطاب الشرعي بمعالجة النوازل الطارئة وهو حسن، إلا أن الاختلاف الحاد بين التوجهات والمؤسسات والتيارات الإسلامية يُشكِّل ضعفًا عميقًا دينيًّا.
ففي كل مرة نجد أزمة فكرية في التعاطي مع النوازل، على مستويات متعددة، وعادة ما يبدأ النقاش في ظواهر الأمور ويستمر حول ذلك، مع التماهي مع ظاهرة التمدرس، من غير النظر إلى الأسباب المولدة للتفكير، فما نراه من نقاشات وتناقضات بعيدة عن الموضوعية هي كامنة في بيئة مولدة لهذا التفكير، ووفق مرجعيات مستبطنة. وتتمحور طريقة التفكير في كيفية استثمار المسائل، وتحريك عاطفة الجماهير والأتباع المخدَّرين الذين ينتظرون الوصفات الجاهزة، بعيدًا عن إعمال العقل والمنطق والموضوعية والرؤية المقاصدية.
فنحن أمام مشكلة منهجية، إعراضنا عنها قد ينتج مشاكل أخرى أشد فتكًا، وما ذاك إلا من قبيل ذلك التفكير والفهم الذي أنتج مقولات خطيرة، من خلال تراكمات فكرية وترسبات منهجية خاطئة. وقد سار هذا التفكير حتى استحكم في مخرجاتنا، حتى إننا لم نعُد نُدرك أن المشكلاتِ لم تعُد في السطحِ بقدرِ ما هي في العمق، أو أنَّها لم تعُد في المسائلِ المعروضةِ أو التي تمَّ عرضُها، وإنما في طريقةِ التعاطي مع المسائل، ومنهجية التفكير، والنظرة الضيقة الأحادية، والبيئات المجتمعية وضغطها، التي تتحيز للأقرب وللدوائر القريبة، فيَنْتُجُ الصراع حول المسألة لا في ذاتها، فيتعذر العلاج.
إن نقد الأفكار ليس كنقد آلة إنتاج الأفكار. فالأول: يمثل المراوحة في دائرة الافكار، والثاني: المسارعة في تطوير الأفكار وحسن بنائها. ولا شكَّ أن هناك مشكلة في تصوراتنا عن الشريعة ومقاصدها، وهنا تتولد المخاطر المزعجة للتفكير. وتتولد هذه المخاطر عندما: لم نمارس النقد الذاتي. وعندما نقطع النظر عن الاعتبارات الواقعية، وتأثيرها في بناء الرؤية الصحيحة، فالتنزيل ملاصقٌ للواقع، فما صحَّ تنزيلُهُ في وقت، ليس بالضرورةِ أن يصحَّ في آخر، وغالبًا لا يصح، لاختلاف محال تطبيقها.
وكذلك التفكير ضمن الأطر الضيقة. فالاستدعاءات الجزئية للنصوص وتصويرها، وفق القراءة العِضينية، من غير انضمامها إلى سقفها الكلي لقراءتها في هذا الفضاء. تحت تلك المخاطر من التفكير تشكَّلت كثيرٌ من المجازفات، وتخللت جملةٌ من الإشكاليات العلمية في بيئة الشرعيين. فهذه المشاكل بحاجة إلى إعادة طرحها، وبنائها بصورة لا تتناقض والأسس الكلية.
وأخيرًا، فإذا كان بناءُ الفكر ينشأ من تساؤلات عدَّة تدور حول سؤال (لماذا)، فالمنهج المقاصدي يُشكِّل الإجابة عن سؤال لماذا. وتقصيد العلوم مهمة واقعية، وفيها إسقاط لكثير من المباحث التي اقتضتها الظروف الواقعية أو الاجتماعية أو السياسية. ومن ثم إعادة قراءة العلوم وفق النظر المقاصدي، وسؤال المقاصد واستحضارها جانب مهم من جوانب التفعيل الكبير للعلوم الشرعية وبنائها.
الخاتمة
- التراث الفقهي الكبير لم يخضع للدراسات الإنسانية، كعلوم الإنسان وعلوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد.
- عملية التفكير والتوليد وإنتاج الآراء ليست عملية محايدة بدرجة كبيرة، مع اعتمادها على النص أساسًا للتفكير والتفسير؛ لأن المحددات القَبْلِية، والاعتبارات الواقعية، مع التنشئة البيئية، تسير مع عملية الاختيار والترجيح، وهي تسكن في مناطق اللاشعور غالبًا.
- الفقيه ليس منبتًّا عن واقعه، فهو يفكر بما يفكرون، ويتكلم بما يتأثرون، ويعالج ما منه يمرضون. إلا أنه أحيانًا تكون تلك الاعتبارات غلابة، فمن الصعب تمريرها في واقع آخر.
- التأثير البيئي والاجتماعي يعمل على إنتاج الفهم عن النص، ومن ثم الفهم لا يساوي النص كما هو، بل يقترب من معنى النص أو يبتعد، وذلك يعتمد على مدى تأثير هذه المؤثرات في التفكير قوة وضعفًا.
- اجتهاد الفقيه ذو اتجاهين: الأول: اجتهاد فقيه، والثاني: اجتهاد نابع من طبيعته الجبلية.
- أنَّ عوامل البيئة الاجتماعية والطبيعية والجغرافية تُعَدُّ أحد الحجب التي تقف وراء سلوك الفقيه وانتخابه واختياره.
- رؤية علماء التخصص (علماء الاجتماع) اتفقت على أنَّ للبيئة تأثيرًا كبيرًا في الإنسان وتكوينه.
- البيئة الاجتماعية التي تمتدُّ جذورها بعيدًا تاريخيًّا ونفسيًّا تصنع العادات والأعراف، فتكون هذه العادات حجابًا قويًّا، فتترك الخطاب الفقهي لا يُعبِّر عن صورته الصحيحة.
- أنَّ شخصية الفقيه شخصية تعتريها ما يعتري الإنسان من ميولات نفسية عاطفية، وأُخرى بيئية مجتمعية، وسلطوية سياسية؛ فهذه وغيرها لها تأثير كبير في العقل الفقهي.
- أنَّ الاجتهاد الفقهي لم يُشكِّله الفضاء النخبوي فقط، بل الفضاء العام فاعل كبير ولاعب أساسي في مخرجات الاجتهاد الفقهي.
- التراث الفقهي مثلما تشكَّل من النصوص وأدوات فهم النصوص وقواعد الاستنباط، تشكَّل أيضًا وفق سياقات متعددة وبيئات مختلفة وسياسات وصراعات واقتصاديات.
- المنهج المقاصدي يُشكِّل الإجابة عن سؤال لماذا. وتقصيد العلوم مهمة واقعية، وفيها إسقاط لكثير من المباحث التي اقتضتها الظروف الواقعية أو الاجتماعية أو السياسية.
- المراجع
-
- ابن حنبل، حياته وعصره - آراؤه وفقهه، تأليف: محمد أبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي، 1947م.
- أدب الدنيا والدين، تأليف: أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (د.ن، د.ط، د.س).
- أزمة العقل المسلم، تأليف: أ.د. عبد الحميد أبو سليمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
- الأنكحة المنهي عنها في الشريعة الإسلامية، تأليف: تحسين بيرقدار، إشراف: د. محمد حسن عوض، السعودية: دار الفجر، ط1.
- الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة، تأليف: فرنسيس بيكون، ترجمة: مصطفى عادل، القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2013م.
- البرهان في أصول الفقه، تأليف: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، الملقب بإمام الحرمين، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ/1997م.
- تجديد الفكر الإسلامي، تأليف: حسن الترابي، قسنطينة، الجزائر: دار الهداية.
- التحيز وضرره على الفقه والمعرفة: رسالة الحجاب للطريفي أنموذجًا، تأليف: أحمد سالم وعمرو بسيوني، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2016م.
- جمود الدراسات الفقهية: أسبابه التأريخية والفكرية ومحاولة العلاج، تأليف: أ.د. أحمد الخمليشي، مصر: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط1، 2010م.
- حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، تأليف: عبد الله بن رفود السفياني، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2014م.
- الخلاصة في فقه الأقليات، جمع وإعداد: الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (د.ن، د.ط، د.س).
- زواج المسيار حقيقته وحكمه، تأليف: الدكتور يوسف القرضاوي، القاهرة: مكتبة وهبة.
- شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، تأليف: تقي الدين أبي الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: محمد خلوف العبد الله، سوريا: دار النوادر، ط2، 1430هـ/2009م.
- الطبقات الكبرى، تأليف: محمد بن سعد بن منيع أبي عبدالله البصري الزهري، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط1، 1968م.
- علم الطريقة: علم منهج الفهم الديني، تأليف: يحيى محمد، بيروت: مؤسسة العارف للمطبوعات، ط1، 2016م.
- عوامل الشهود الحضاري، تأليف: الدكتور عبد المجيد عمر النجار، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، 2006م.
- الفقه الميسر، تأليف: أ. د. عبد الله بن محمد الطيار، أ. د. عبد الله بن محمد المطلق، د. محمد بن إبراهيم الموسى، الرياض: مدار الوطن للنشر، 1432-1433هـ/2011-2012م.
- قراءة في كتاب "حجاب الرؤية"، تأليف: عبد الله السفياني، قراءة: أحمد مرعي المعماري، مركز نماء للبحوث والدراسات.
- القطيعة بين المثقف والفقيه: دراسة معرفية تستهدف إبراز جوانب القطيعة بين البنيتين العقليتين: المثقف الديني والفقيه، تأليف: يحيى محمد، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، ط1.
- قيمة العلم، تأليف: هنري بوانكاري، ترجمة: الميلودي شغموم، بيروت: دار التنوير، ط1، 1982م.
- مجلة البحوث الإسلامية: مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، معها ملحق بتراجم الأعلام والأمكنة، عدد الأجزاء: 79 جزءًا، موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء .http://www.alifta.com
- مقال بعنوان "ما الذي يحدث عندما يشتغل الفقيه التراثي في أفق حداثي؟"، تأليف: ياسر المطرفي مدير مركز نماء للبحوث والدراسات - بيروت والمحاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، نُشر المقال في 31 مايو 2016م.
- مقدمة ابن خلدون، تأليف: عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، بيروت: دار القلم، ط5، 1984م.
- من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، تأليف: الدكتور عبد الرحمن مرحبا، بيروت: دار منشورات عويدات، 1970م.
- موسوعة الفقه الإسلامي، تأليف: محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري، بيروت: بيت الأفكار الدولية، الطبعة الأولى، 1430هـ/2009م.
- موقع سما الإبداع (www.s-m-a.ibda3.org)، مقال نشره الدكتور السكتاني عمر، بعنوان "فقه الواقع ودوره في مجال التشريع وسلامة العمل بالأحكام".
- فتاوى موقع الألوكة (http://www.alukah.net)، رقم الفتوى (639).
- الهوامش
-
[1] عبد الله بن رفود السفياني، حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، ص9.
[2] المرجع نفسه.
[3] يُنظر: يحيى محمد، علم الطريقة: علم منهج الفهم الديني، ص87.
[4] أحمد مرعي المعماري، قراءة في كتاب "حجاب الرؤية"، موقع مركز نماء للبحوث والدراسات.
[5] السكتاني عمر، فقه الواقع ودوره في مجال التشريع وسلامة العمل بالأحكام، موقع سما الإبداع (www.s-m-a.ibda3.org).
[6] ينظر: نور الدين الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، ص181.
[7] ينظر: عمر عبيد حسنة، على طريق الشهود: ملامح وآفاق، ص47.
[8] أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص348.
[9] عبد الله بن رفود السفياني، حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، ص35.
[10] ابن خلدون، المقدمة، ص35.
[11] المرجع نفسه.
[12] عبد الله بن رفود السفياني، حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، ص44.
[13] المرجع نفسه، ص6.
[14] البيهقي، مناقب الإمام الشافعي، ج1، ص77.
[15] عبد الله بن رفود السفياني، حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، ص6.
[16] الماوردي، أدب الدنيا والدين، ج1، ص13.
[17] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج4، ص167.
[18] ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1، ص528
[19] ينظر: أحمد غاوش، الاجتهاد عند الأصوليين من النظرية إلى التطبيق، ص91.
[20] رشيد سلهاط، الحكم الشرعي بين منهج الاستنباط وفقه التنزيل، ص260.
[21] المرجع نفسه، ص259.
[22] المرجع نفسه.
[23] الفواكه الدواني، ج2، ص344.
[24] البهجة في شرح التحفة، ج2، ص653.
[25] رشيد سلهاط، الحكم الشرعي بين منهج الاستنباط وفقه التنزيل، ص260-261.
[26] محمد أبو زهرة، ابن حنبل: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، ص355.
[27] الجويني، البرهان في أصول الفقه، ص192.
[28] ابن خلدون، المقدمة، ص336-337. ينظر: يحيى محمد، القطيعة بين المثقف والفقيه، ص41.
[29] هنري بوانكاري، قيمة العلم، ص19.
[30] أحمد سالم وعمرو بسيوني، التحيز وضرره على الفقه والمعرفة: رسالة الحجاب للطريفي أنموذجًا.
[31] ابن دقيق العيد، شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، ج2، ص421.
[32] فاطمة ناعوت، الأصنام الأربعة التي تعوّق العقل العربي، موقع 24.
[33] عبد الله بن محمد الطيار، عبد الله بن محمد المطلق، محمد بن إبراهيم الموسى، الفقه الميسَّر، ج11، ص45.
[34] ينظر: زيجمونت باومان، الحب السائل، ص10.
[35] محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري، موسوعة الفقه الإسلامي، ج4، ص28.
[36] ينظر: ياسر المطرفي، ما الذي يحدث عندما يشتغل الفقيه التراثي في أفق حداثي؟ موقع مركز نماء للبحوث والدراسات.
[37] مجلة البحوث الإسلامية، موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء (http://www.alifta.com).
[38] تحسين بيرقدار، الأنكحة المنهي عنها في الشريعة الإسلامية، ص550.
[39] يوسف القرضاوي، زواج المسيار: حقيقته وحكمه، ص9.
[40] ينظر: البحر الرائق، ج3، ص116؛ شرح فتح القدير، ج3، ص249.
[41] ابن قدامة، الشرح الكبير، ج7، ص540.
[42] مصنف ابن أبي شيبة، في تزويج النهاريات، ج3، ص508، رقم 16559.
[43] ينظر: علي بن نايف الشحود، الخلاصة في فقه الأقليات، ج1، ص277؛ فتاوى موقع الألوكة، رقم الفتوى (639).
[44] تحسين بيرقدار، الأنكحة المنهي عنها في الشريعة الإسلامية.
[45] ياسر المطرفي، ما الذي يحدث عندما يشتغل الفقيه التراثي في أفق حداثي؟ موقع مركز نماء للبحوث والدراسات.
[46] معنى مقتبس من محاضرة فكرية للدكتور معتز الخطيب.
[47] محمد أبو زهرة، ابن حنبل: حياته وعصره - آراؤه وفقهه، ص355.
[48] القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص136.
[49] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص1.
[50] يحيى محمد، القطيعة بين المثقف والفقيه، ص١١٦.
[51] عبد المجيد النجار، عوامل الشهود الحضاري، ص176.
[52] يحيى محمد، علم الطريقة: علم منهج الفهم الديني، ص36.
[53] المرجع نفسه، ص467.
[54] المرجع نفسه، ص263.
[55] أحمد الخمليشي، جمود الدراسات الفقهية: أسبابه التأريخية والفكرية ومحاولة العلاج، ص105.
[56] يحيى محمد، علم الطريقة: علم منهج الفهم الديني، ص467.
[57] عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ص206.
[58] حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص40.
[59] عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص45.
[60] عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ص80.