الزمان والخيار الأخلاقي في علم أصول الفقه الإسلامي
- مقدمة: القانون والزمان
لم تغب عن العديد من المشرعين -من بين شواغل فقهية أخرى- المكانةُ المركزية لفهم فكرة الزمان في تعيين صلاحية القانون، وسلطته، وخبرة الأشخاص به. حيث ذُكر أن علماء القانون، خصوصًا في الدراسات النقدية والسوسيو-قانونية، كانوا قد «بدؤوا يأخذون تأثيرات الزمان في القانون والنظام الاجتماعي على محمل الجدّ»[1]. وهذا بصرف النظر عن استمرار الميل إلى "تطبيع الزمان"[2] (naturalise time)، عبر إحالته "إلى دور يكون فيه خلفيةً أو وعاءً للعمل الاجتماعي، أو على الأكثر كتجربة ذاتية تتبدل اعتمادًا على الوضع الاجتماعي أو التاريخي للفرد"[3]. وقد كانت الاستجابة لهذه الميول -بحقٍّ- هي زيادة في الدراسات التي تهدف إلى تسليط الضوء على التفاوت في الفهم التاريخي والثقافي للزمان، والأدوار الديناميكية والإشكالية التي تلعبها مفاهيم الزمان في تشكيل التقاليد القانونية والأخلاقية. فعلى سبيل المثال، أوضحت كارول جرينهاوس (Carol Greenhouse) أن فكرة «الزمان الخطي» (linear time)، التي تقول إن «الزمان ينتقل في خطٍّ مستقيمٍ من الماضي إلى الحاضر» وتهيمن على السياقات القانونية الغربية الحديثة، إنما كانت تعبيرًا عن عمليات ثقافية وتاريخية محددة، وأن أفكار الزمان حول العالم وعبر التاريخ متنوعة كتنوُّع الثقافات البشرية[4]. في حين لاحظت رينيسا مواني (Renisa Mawani) -على خلاف الافتراض القائل إن الزمان هو وعاء محايد للأفعال- أن "القانون يتعلق أساسًا بالزمان... فالقوانين تستدعي معانيها وتكتسب قوتها المُرَخَّصة من خلال المواصفات والحدود الزمانية"[5].
متشكِّكة في الميل نحو اعتبار هذا المفهوم الخطي للزمان أمرًا مفروغًا منه، أبرزت بعض الدراسات الحديثة المفاهيم المتنوعة للزمان التي يمكن العثور عليها داخل التقاليد التاريخية والمحلية. فكما يجادل لين كاي (Lynn Kaye)، كان التلمود البابلي[6] من بين التقاليد القانونية التاريخية التي طورت «تصويرًا معقدًا ومبتكرًا للزمانية (temporality)». ويعتقد كاي -معارضًا الخلفية الخاصة بالافتراض الشائع حول افتقار التشريع التلمودي القديم إلى فكرة الزمان- أن «المنطق القانوني والسردي [للتقليد التلمودي] يستند إلى الافتراضات الزمانية لمؤلفيه»[7]. وفي الآونة الأخيرة، ميَّز ويليام كونكلين (William Conklin) بين «الزمان المُبنيَن»[8] (structured time) لمفاهيم القانون المركزية الحديثة القائمة على الدولة، و«الزمان التجريبي» (experiential time) للتقاليد القانونية الأخرى، لا سيما قوانين السكان الأصليين والرُّحَّل[9]. وقد أوضح كونكلين أن الأنظمة الحديثة التي تتصور المعايير والواجبات ككيانات منفصلة، تميل إلى إنتاج «زمانها المفاهيمي» (conceptual time) الخاص بها. بينما على النقيض من ذلك، تقدِّم ثقافات السكان الأصليين تصورًا مختلفًا بشكل جذري لتوأمة القانون والزمان بطريقة تجريبية، أكثر منها مفاهيمية.
اهتمَّت الشريعة الإسلامية بالزمان اهتمامًا عميقًا، وقدَّمت مجموعتها الخاصة من التأملات حول الوقت. وسأجادل هنا بأن فقهاء المسلمين فهموا الزمان من ناحية أخلاقية، ليس كوعاء محايد أو مجرد خلفية للأفعال، وإنما كسلسلة من الفرص التي يجري التعبير فيها عن سلطة الوحي الإلهي والتفكير الأخلاقي الإنساني[10]. وهذا لا يعني أنهم لم يفهموا الزمان كوعاء للفعل، حيث انعكس هذا الفهم في فكر بعض الفقهاء بصورة أكثر وضوحًا من البعض الآخر كما سنرى أدناه، وإنما لم يكن ذلك الزمان تقدمًا خطيًّا محايدًا من الماضي إلى الحاضر وصولًا إلى المستقبل. لقد كان الزمان بالأحرى سلسلة من الفرص الأخلاقية المتصورة بشكل مختلف، والتي ترتبط بالعمل البشري وتُبصِّره، استجابةً للأوامر التي يفرضها عليه الوحي الإلهي.
إن فهم طريقة تفكير الفقهاء الكلاسيكيين في الزمان لهو أمر ضروريٌّ بالنسبة إلينا لفهم طبيعة الأوامر الشرعية، والمسؤولية، والاختيار في الشريعة الإسلامية. فمع أهميتها، لم تزل فكرة الزمان في الفكر التشريعي الإسلامي غير مستكشفة إلى حد بعيد، وذلك على الرغم من وجود بعض الاهتمام بمفهوم الزمان داخل الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. حيث قدَّم جيرهارد باورينغ[11] (Gerhard Böwering) سردًا أوليًّا لمفهوم الزمان داخل الحقول التفسيرية، والفلسفية-الكلامية، والصوفية في الإسلام، أظهر خلاله أن المفهوم الكوزمولوجي الإسلامي للزمان كان يتمركز على أفكار الخلق الإلهي ومذهب الذَّرِّيَّة[12] (atomism). ولكن سردية باورينغ لم تمتد إلى الآثار الخاصة بمثل هذه المناقشات على المستويات الفقهية الأخلاقية الأكثر عملية[13]. حيث يُظهر تحليله على المستوى الكلامي أن النقاش غالبًا ما ركَّز على زَمَانِيَّة الحياة البشرية كنقيض لأبدية الله. وبعد عدَّة سنوات، درس جون ماكجينيس (Jon McGinnis) فكرة الزمان في فلسفة أبي علي بن سينا (ت1037م)، مع التركيز على جداله بخصوص خلود الزمان، ودحضه للفهم الذري أو «المنفصل»[14] (discrete) للزمان الذي قدَّمه علم الكلام[15]. ويحدِّد ماكجينيس فهم ابن سينا للزمان باعتباره «مقدارًا»[16] (magnitude) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحركة (motion)، وهي الفكرة التي طوَّرها في مباحثته لكتاب "الطبيعيات" لأرسطو[17]. وتفترض هذه الرؤية -كما يشرح ماكجينيس- أن الزمان مستمر وقابل للانقسام بصورة لا نهائية، كنقيض للنظرة السائدة في علم الكلام، التي فُهِم فيها الزمان باعتباره سلسلة من الذرات المنفصلة، كما أوضح مؤخرًا بيتر آدامسون (Peter Adamson) في دراسته لنظرية فخر الدين الرازي عن الزمان[18].
تركِّز هذه الورقة -على عكس الأعمال المذكورة أعلاه- على طبيعة عمل أفكار الزمان داخل المناقشات التي دارت حول الأوامر والامتثال في علم أصول الفقه. وعلى الرغم من إمكانية العثور داخل الحجاج الفقهي على بعض مفاهيم الزمان الشبيهة بالمفهوم «المنفصل» للزمان في علم الكلام، فإنه لا يوجد تماثل دقيق بين المناقشات الفلسفية والكلامية حول الزمان من جهة، وبين أفكار الزمان الفقهي من جهة أخرى. ففي حين اهتمَّت النقاشات الفلسفية والكلامية بشكل مركزي بوجود وطبيعة الزمان في حد ذاته، ركَّزت نظيرتها الفقهية على الزمان باعتباره مجالًا للأوامر المعيارية والاختيار البشري والمنطق العملي. وعلى هذا المستوى، ناقش العلماء في نشاط الآثار المعيارية للأوامر والنواهي التي كانت بمعنى ما قد صدرت بالفعل، بغض النظر عن كيفية فهمهم لصناعة مثل هذه الأوامر والنواهي[19]. إذ ربما يتجادلون حول مسائل تتعلق بمجال اختصاصهم، مثل ما يرتبط بصحة الأحاديث النبوية، أو حالات النسخ، ولكن طالما اعتبر المصدر صحيحًا، فإن وقت دخوله الدقيق إلى حيز الوجود لم يكن شاغلًا كبيرًا على هذا المستوى[20]. وبدلًا من ذلك، تصدى الفقهاء لكيفية تصور الحياة البشرية باعتبارها أجزاءً زمنية لأغراض المنطق العملي والطريقة التي يستجيب بها هذا المنطق لمتطلبات الوحي الإلهي. وفي حين ينطوي التعمُّق في الزمان الفقهي كمجال للخيار الأخلاقي على تأملات حول طبيعة البُنى والذرات الزمانية، فإن مسألة ما إذا كان الزمان يمكنه أن يكون قابلًا للانقسام بصورة لا نهائية أم لا، لم يتم طرحها على هذا النحو في أصول الفقه. ويرجع هذا -كما سنرى- إلى أن توحيد الزمان، الذي نشأ من فهم مُبنيَن له، كان في نظر الفقهاء مسألة أكثر أهمية ومختلفة اختلافًا قليلًا. إذ من الممكن أن يكون الزمان موحدًا داخل وحدة زمنية معينة من وجهة معيارية، دون أن يستتبع ذلك بالضرورة موقفًا معينًا بخصوص ما إذا كان الزمان قابلًا للانقسام بشكل لا نهائي أم لا.
لقد كان السؤال الإشكالي الذي ناقشه الفقهاء الكلاسيكيون يدور حول كيفية قيامنا بواجباتنا عندما تعطي الأوامر الإلهية إرشاداتٍ عامَّة فقط فيما يتعلق بالزمان، أو عند فرضها واجباتٍ غير محدَّدة زمنيًّا على الإطلاق. فهل يستدعي مجرد الأمر الإلهي بالضرورة أداءً فوريًّا (على الفور)، أم أن ثمة مبررًا أخلاقيًّا لأداء مسترخٍ أو مُرجأ (على التراخي)؟ أزعم أن في تضاعيف هذه الأسئلة قلقًا بشأن كيفية وجوب النظر إلى الطريقة التي يقوم بها كلام الله، بوساطة من عمل الفقهاء، بالتدخل في أوقات الناس وتنظيمها أثناء حياتهم على الأرض. فهل يضع الأمر الإلهي مطالب متوالية على الخيارات الأخلاقية البشرية، أم أن ذلك ينطبق في أجزاء معيَّنة بوضوح من الزمان، يكون الوعي الأخلاقي بعدها متحررًا من مثل هذه المطالب؟ ومن ثَمَّ فإن فهم الزمان يؤدي دورًا مركزيًّا في الإفصاح عن الواجب والمسؤولية، والذي هو مهمة رئيسة في علم أصول الفقه الإسلامي. لقد قدَّم الكلام في الزمان داخل الفقه الكلاسيكي مساحةً للفقهاء والمؤمنين للتباحث حول خياراتهم الأخلاقية تجاه الأوامر الإلهية[21].
إذ كان فهم الزمان في الشريعة الإسلامية -كما اقترح إم إس شتيرن (M.S. Stern)- متداخلًا بعمق مع مفهوم الزمان على الأرض باعتبارها «ساحة للعمل الأخلاقي»[25].
تنوَّع فهم الفقهاء لكيفية تجلي المعايير والواجبات في الزمان بين وجهة نظر ديناميكية وأخرى «مُبنيَنة» (structured) أكثر، في استعارة لمصطلح كونكلين[22]. حيث استلزم فهم سلطة الشريعة باعتبارها في حالة تجدُّد مستمر إحساسًا صارمًا بالمسؤولية، يواجه خلاله الإنسان في كل وحدة زمانية خيار طاعة الله أو عصيانه. وعلى النقيض من ذلك، اقترن فهمٌ أكثر بَنْينة لتجلي الشريعة في الزمان بفهمٍ أكثر استرخاءً لوزن أوامر الشريعة في المنطق العملي. كذلك أثار دمج الأوامر الإلهية في الحياة الدنيوية للبشر شاغلًا أساسيًّا ثانيًا. فبما أن الأوامر الإلهية تميل بطبيعتها إلى إظهار درجات متفاوتة من العمومية فيما يتعلق بالزمان، كان لا بدَّ من أن تكون هناك درجة معيَّنة من المخاطرة عند تأويل الأوامر التي لا تحدِّد وقت تنفيذها على وجه اليقين. فإما أن نفترض انطباق الأمر على قطعة زمانية كبيرة، ومن ثَمَّ المخاطرة بالتراخي في أداء أمر إلهي عاجل محتمل، وإما نفترض الفورية، ومن ثَمَّ المخاطرة بإدخال معانٍ أكبر في كلام الله، بأكثر مما يسمح به التأويل الحصيف[23].
إن الرؤية الشائعة لنظريات الشريعة الإسلامية -كما تطورت في المقام الأول داخل حقل أصول الفقه- هي أنها اعتنت بصورة مركزية بإيضاح المقاربات الإبستمولوجية الصحيحة للوحي الإلهي. ومن وجهة النظر هذه، يتمثَّل اهتمام الجهود الشرعية-النظرية الإسلامية في بلوغ فهم الطرق السليمة الخاصة بالوصول إلى معرفة الشريعة[24]. وفي حين أن هذا صحيح على مستوى واحد مهم، فإن التحليل الدقيق للأسئلة التي تتناول العمل البشري في الزمان استجابة للأوامر الإلهية، يُظهر لنا أن ثمة مخاوف أخرى كانت تحرك علم أصول الفقه. إذ كان فهم الزمان في الشريعة الإسلامية -كما اقترح إم إس شتيرن (M.S. Stern)- متداخلًا بعمق مع مفهوم الزمان على الأرض باعتبارها «ساحة للعمل الأخلاقي»[25]. فمن دون هذا المعنى، يكون الفقهاء مدافعين عن لونٍ من الخضوع الجبري والأعمى للإرادة الإلهية، ناهيك عن عدم الاهتمام الراديكالي بالسعي في الأرض[26].
أقترح أن المناقشات حول طرائق الامتثال للأوامر الإلهية في الزمان كانت محاولات للتوصل إلى شكل من التوازن بين اعتبارات الطاعة لأوامر الوحي الإلهي والضرورات العملية للحياة الدنيوية للبشر[27]. وقد استندت الجهود الرامية إلى وضع مبادئ تحكم الارتباط بالآيات المنزلة لإنتاج توجيهات عملية إلى فهم محدد للمسائل الأساسية المتعلقة بالتجربة الإنسانية في هذا العالم، مثل طبيعة الزمان وعلاقته بالفعل. وعكست هذه المناقشات اهتمامًا بمسائل بالغة الأهمية بالنسبة إلى المجتمع واستقامة نظامه القانوني، مثل السلطة التشريعية والطريقة التي يمكن بها اتخاذ الخيارات الأخلاقية والتأويلية بالاقتران مع هذه السلطة. ويجب أن أوضح منذ البداية أنني لا أستخدم لفظ «السلطة» في هذا المقال بالمعنى الكلامي أو السياسي للإشارة إلى وجود أو مدى سلطة الله كخالق ومُشرّع، بما أنها مسألة تعتبر في الأساس أمرًا مفروغًا منه في علم أصول الفقه. إنما ما أعنيه هو القضية الأكثر تِقانيَّة لوزن الكلمات الناشئة عن الوحي في السيرورة الخاصة بالمنطق العملي، والافتراضات التي يضعها الفقهاء للتحديد الدقيق للطريقة التي يجب أن نتناول بها كلمات الوحي الإلهي لإدارة العمل البشري في الزمان. هذه هي مسائل «السلطة» التشريعية بالمعنى العملي، وليس الكلامي.
تركز هذه المقالة على سؤال معيَّن في علم أصول الفقه الإسلامي، هو: عندما يكون هناك أمر إلهي يخلو من الإشارة الزمانية، هل يستلزم ذلك الامتثال الفوري؟ تاريخيًّا، وقعت خلافات حول هذه المسألة داخل المذاهب الفقهية. إذ اتبع مذهبان رئيسان في الفقه السُّني -الحنفية والشافعية- مواقف فقهية مميزة عكست جانبين من النقاش، وإن اختلفوا كذلك فيما بينهم. وقد قدَّم أبو المظفر السمعاني (ت1066م) ملخصًا مفيدًا للمواقف الفقهية من هذه المسألة، حيث يقول: "اختلف أصحابنا (أصحاب الشافعي) فيه: فقال أبو علي ابن خيران، وأبو علي ابن أبي هريرة، وأبو بكر القفال، وأبو علي صاحب الإفصاح: إنه على التراخي، وهو الأصح، وهو قول أكثر المتكلمين، ونصره أبو بكر محمد بن الطيب، وقاله أبو علي وأبو هاشم... وزعم أبو بكر الصيرفي من أصحابنا والقاضي أبو حامد وأبو بكر الدقاق: أنه على الفور، وهو قول أكثر أصحاب أبي حنيفة، وذهب إليه طائفة من المتكلمين"[28]. إن المخطط الذي نحصل عليه من السمعاني يؤكِّد ما نجده في المصادر الحنفية؛ إذ يميل الشافعية نحو عدم فورية الأوامر غير المُوَقَّتة، فيما ترتبط فكرة الفورية ارتباطًا وثيقًا بالحنفية، خاصةً الموجودين منهم في العراق[29]. وسنركّز في الأقسام التالية على بعض جوانب النقاش داخل مذهب الحنفية، وفيما بين فقهاء الحنفية والشافعية. وفي حين أن أولويتنا ستكون محاولة إعادة بناء مفاهيم الزمان المضمرة داخل هذه النقاشات بدلًا من تقديم مسحٍ تاريخيٍّ مستفيضٍ للنقاشات نفسها، فإن بعض الملاحظات حول التطورات والآراء التاريخية الجديرة بالملاحظة من المذاهب الفقهية الأخرى سنضمّنها في الحواشي.
- مفاهيم متباينة للزمان الفقهي
استندت المناقشات حول وقت أداء الأفعال التي تفرضها لغة الأوامر الإلهية إلى مجموعة من مفاهيم الزمان، عكست كلها مواقفَ مختلفة تجاه الإلحاح الأخلاقي للامتثال لأوامر الوحي. فقد اتكأ الرأي الأكثر تشددًا -الذي قال إن الواجبات غير المؤقتة يجب أن تؤدى على الفور- على فهم ديناميكي للزمان. كان يُنظر خلاله بوضوح إلى الزمان باعتباره سلسلة من الآنات التي يتم فيها اتخاذ وتجديد الأوامر والقرارات الأخلاقية بصورة مستمرة. أما الرأي الأكثر تساهلًا، الذي سمح بإرجاء الامتثال للتشريع الإلهي في ظل غياب الإشارة الزمانية الدقيقة، فقد نشأ من فهم للزمان باعتباره مُرَكَّبًا من أجزاء محددة تتوافق مع البُنى الشرعية[30].
كان أبو بكر الجصاص (ت942م) مؤيدًا حنفيًّا بارزًا لفكرة وجوب طاعة الأمر الإلهي خلال أقرب وقت ممكن، عندما لا يتضمَّن هذا الأمر تحديدًا زمانيًّا. وطاعة الأوامر «في أول أحوال الإمكان»[31] تعني في اللحظة الأولى التي يُستحق فيها الواجب، ويكون المأمور قادرًا على أدائه عقليًّا وجسديًّا. وقد ارتبط الموقف القائل إن الأمر يتطلب أداءً فوريًّا أو خلال أقرب وقت ممكن، بتصور ديناميكي للزمان تتجدَّد فيه الأوامر المعيارية باستمرار. ويمكن وصف هذا التصور الديناميكي للزمان بأنه شكل من الذَّرِّيَّة القوية، بما يتماشى مع وصف آدمسون للزمان الكلامي المذكور أعلاه[32]. وقد تولَّد منح المعايير الناشئة من كلام الله وزنًا كبيرًا فوق أعمال البشر في الزمان من تصور الجصاص لحيوات هؤلاء كسلسلة من الآنات التي يُعاد فيها إنتاج المعايير والخيارات الأخلاقية في كل لحظة.
إن الزمان بالنسبة إلى الجصاص هو سلسلة من الآنات أو الذرات الزمانية التي يمكن فهم كل وحدة فيها وفقًا لشروط أخلاقية. فكل لحظة هي فرصة لاتخاذ القرار السليم والامتثال للوحي الإلهي، والأهم من ذلك أنه لا توجد لحظتان متماثلتان. فإذا كان الفعل ممكنًا في اللحظة (و)[35]، ولكن أداءه لم يحدث، فإن الأمر الإلهي يكون قد نُقِض وجُدِّد في اللحظة.
طوَّر الجصاص آراءه في مناقشة للحجج التي عارضها. وكانت الحجة الشائعة التي يرغب الجصاص في دحضها، هي التي ذهبت إلى إمكانية طاعة الأمر غير المؤقت في أي وقت. كان هذا الرأي -كما أوضح- يُبرَّر عادةً بحقيقة أن المرء «لو أخَّر الأمر المطلق حتى فعله في الوقت الثاني والثالث إلى انقضاء عمره كان مؤديًا للواجب بالأمر، فينبغي أن يدلَّ ذلك على جواز التأخير؛ لأنه قد ثبت أن فعله في هذه الأوقات مرادٌ بالأمر»[33]. في هذا السرد النقدي لموقف خصومه، يمكننا أن نعاين صياغة الجصاص لموقفه بلغة أكثر ملاءمة لأفكاره، حيث نَظَر إلى الزمان كسلسلة من الآنات المتتالية. كما يُقرّ بأنه يمكن -في معظم الحالات- اعتبار الشخص الذي يؤدي الفعل المطلوب في وقت متأخر بدلًا من القيام به «في أول أحوال الإمكان» مؤديًا لواجباته. ومع ذلك، فبالنسبة إليه، لا يعني هذا بالضرورة أن للناس حرية أداء الواجب غير المؤقت متى شاؤوا. فللتوصل إلى ذلك الاستنتاج، يتعيَّن علينا أن نفترض تصورًا للزمان يمتدُّ فيه الواجب فوق قطعة زمانية يكون فيها المأمور حُرًّا في اختيار اللحظة الدقيقة لأدائه. وهو الافتراض الذي لا يقبل به الجصاص[34].
إن الزمان بالنسبة إلى الجصاص هو سلسلة من الآنات أو الذرات الزمانية التي يمكن فهم كل وحدة فيها وفقًا لشروط أخلاقية. فكل لحظة هي فرصة لاتخاذ القرار السليم والامتثال للوحي الإلهي، والأهم من ذلك أنه لا توجد لحظتان متماثلتان. فإذا كان الفعل ممكنًا في اللحظة (و)[35]، ولكن أداءه لم يحدث، فإن الأمر الإلهي يكون قد نُقِض وجُدِّد في اللحظة (و+1)، وهكذا إلى أجل غير مسمى. ففي فقرة جوهرية، يجادل الجصاص بأن ما يعنيه [الأمر غير المؤقت] حقًّا هو "افعله في الوقت الأول، ولا تؤخِّره، فإن أخَّرته إلى الوقت الثاني فافعله فيه ولا تؤخِّره، فلا يدلُّ ذلك على جواز التأخير؛ إذ قد يكون مأمورًا بالتعجيل ثم إذا أخَّره لزمه فعله في الوقت الذي يليه... فإن لم يفعله ففي الوقت الذي يليه»[36].
إن الإحساس بأن الزمان هو سلسلة من الفرص للامتثال للوحي الإلهي واضحٌ في هذا التعليق. وفي هذا السياق، لم ينظر الجصاص إلى التقصير الأول تجاه الأمر، ثم الامتثال اللاحق له باعتبارهما متعارضين. فالإخفاق في أداء الأمر في وقته المحدَّد، مثل التأخُّر في سداد الدين، أو فوات وقت الصلاة، هو خرق مبدئيٌّ لواجب أول (هو الأداء)، ما يؤدي إلى واجب ثانٍ (هو القضاء) يُنفذ في وقت لاحق[37]. وهذا التكليف الثاني يجب أيضًا أداؤه على الفور، فإن لم يقع فإنه يُجَدَّد بدوره. لقد صُمِّمَت فكرة تتالي الآنات لتعميم هذا الشعور بالفورية في جميع الواجبات: فأداء أمر إلهي في الزمان، بغض النظر عن تعيين وقته، يقع فقط في اللحظة الأولى من الاستطاعة، بينما يكون أي وقت آخر وقتَ أداء ثانويًّا[38]. ويسمح مفهوم الزمان هذا لدى الجصاص برؤية تتجدَّد فيها الأوامر الإلهية مع كل لحظة من عدم الامتثال، حتى عندما يحدِّد الأمر مدَّة معيَّنة لأدائه[39].
طُورت نظرية الجصاص في سياق المحاورات داخل المذهب الحنفي حول فورية أو عدم فورية الامتثال للأوامر الإلهية. كان أفراد الجانب المعارض داخل مذهبه، والذين رأوا إمكانية إرجاء الامتثال، قد رسخوا وجهة نظرهم في مفهوم مُبنيَن (structured) للوقت، تُربط فيها بعناية الأجزاء الزمانية بالأبواب الشرعية الثابتة. وفي حين أدرك كلا الجانبين إمكانية تقسيم الوقت إلى وحدات أساسية، رأى البعض أن الأجزاء الزمانية المبنية شرعيًّا يمكن توحيدها داخليًّا من وجهة أخلاقية. كان شمس الأئمة السرخسي (ت1090م)، الفقيه الحنفي من بلاد ما وراء النهر، ممثلًا بارزًا لهذا الاتجاه. إذ تضمن منهجه بَنْينة (structuring) دقيقة للزمان ليتوافق مع أبواب المعايير والواجبات. وقد أوضح -فيما يتعلق بتحديد الزمان- أن الأوامر "نوعان: مطلق عن الوقت ومقيد به"[40]، وهذا يعني أن الأوامر الإلهية بما أنها تفرض الواجبات على وقتنا، إنما تتبع أبواب المقيد والمطلق. ويُنظر إلى النتائج الدنيوية للأوامر الإلهية على أنها منسجمة مع تلك البُنَى الشرعية (legal structures)، على عكس الإطار الأكثر ديناميكية للتجديد المستمر الذي شوهد أعلاه. ويعطي السرخسي مثالًا على هذه البَنْينة في قوله: "وحُجَّتنا في ذلك أن قول القائل لعبدِه: افعل كذا الساعة، يوجب الائتمار على الفور، وهذا أمر مقيد، وقوله افعل مطلق وبين المطلق والمقيد مغايرة على سبيل المنافاة، فلا يجوز أن يكون حكم المطلق ما هو حكم المقيد فيما يثبت التقييد به؛ لأن في ذلك إلغاء صفة الإطلاق وإثبات التقييد من غير دليل"[41].
وفي حين أن كلام الله، بالنسبة إلى الجصاص، يفرض واجبات فورية تضع الاستحقاقات فوق كل لحظة من حياتنا، فإن منهج السرخسي يجعل الآثار المعيارية للأمر الإلهي تتناسب مع القوالب الزمانية الفقهية المتمايزة. ومن ثَمَّ فإن الأبواب النظرية القياسية من المقيد والمطلق تساعد في تنظيم مفهوم الوقت من حيثُ صلته بالكلام الإلهي المعياري. حيث يختلف الالتزام بأداء فعل ما في لحظة معينة عن الالتزام بأدائه في أي لحظة، تمامًا مثل الاختلاف بين أن تكون مطالبًا بدفع مبلغ إلى شخص معين وبين أن تكون مضطرًا لدفع مبلغ إلى أي شخص[42]. إن مرور الوقت في نموذج السرخسي لا يغيّر معنى الواجب داخل ذلك الجزء المنظم بالطريقة نفسِها التي يؤثر بها في طبيعة الامتثال بالنسبة إلى الجصاص. فمن دون الحل الضروري لمسألة الانقسام اللانهائي المحتمل للزمان، تبنَّى كل فقيه وجهة نظر مختلفة عن دينامية الزمان وإمكانية تنظيمه في قطع يجري توحيدها من وجهة أخلاقية.
إذ يفيد تبنّي مفهوم الظرف أو القطعة الزمانية كشرط لوجود الواجب، في أن الوقت كان يُفهم في هذا السياق باعتباره فرصة أخلاقية ممتدة نسبيًّا؛ إذ إنه مرتبطٌ بمجموعة من الظروف (مثل شروق الشمس، أو رؤية القمر) التي تجعل الامتثال ممكنًا طالما كانت الظروف موجودة.
والأهم من ذلك أن فكرة السرخسي عن الأجزاء الزمانية لا تجعل الزمان خلفية خطية ومحايدة أخلاقيًّا للأعمال. وإنما تعني أن الحالة الأخلاقية للامتثال أو عدم الامتثال يمكن تقييمها على امتدادات طويلة نسبيًّا تحددها أبواب فقهية محددة، لا يختلف فيها الوضع الأخلاقي للأداء من لحظة إلى أخرى. ولا ينطوي نموذج السرخسي مفهوميًّا على رفض ما وصفناه حتى الآن بذَّرِّيَّة المقاربة «الكلامية» للزمان، وإنما بالأحرى على نهج مختلف لكيفية تنظيم الوقت فيما يتعلق بصنع القرار الأخلاقي، والذي كان هو السؤال الأكثر صوابًا من وجهة نظر فقهية. وتتجلَّى المقاربة المُبنيَنة للسرخسي حول كيفية ظهور الأوامر الإلهية في الزمان بصورة خاصة في معاملته للأوامر التي تتضمَّن إشارة زمانية. فهنا يستخدم مجموعتين أُخريين من الثنائيات المتقابلة التي تساعد في تفسير قدرة الفقيه على التأكيد باستمرار على إمكانية أداء الفعل الواجب في أي لحظة داخل قطعة ممتدَّة من الزمان. حيث يميز بين الحالات التي يكون فيها الوقت وعاءً أو شرطًا للأداء (الظرف)[43] والحالات التي يكون فيها الوقت دليلًا أو مقياسًا للأداء (المعيار)[44]. والتمييز بين الظرف/المعيار، الذي كان شائعًا في أصول الفقه ببلاد ما وراء النهر، يعكس ما يصفه بيتر آدامسون -في دراسته عن وجود الزمان في أعمال فخر الدين الرازي الفلسفية- بأنه «نظرية كلامية تقليدية عن الزمان». وفي فكرة الزمان هذه، التي ارتأى آدمسون أنها كانت مقبولة لدى الرازي، يعمل الزمان على إنشاء صلة مفقودة بين حدثين، على سبيل المثال من خلال تحديد أننا «سنلتقي عند شروق الشمس»[45].
يعكس هذا التمييز طريقة أخرى يمكن بها دمج البُنَى الزمانية داخل المفاهيم الفقهية. حيث تشتمل الطريقة الأولى التي تفرض فيها الإشارة الزمانية عملية الأداء، على حالات يصبح فيها الشيء واجبًا بحلول وقت معيَّن. على سبيل المثال، تصبح صلاة العصر واجبة، وتنفتح نافذة زمانية محددة (أي شرط)، ومع ذلك يتطلب أداؤها حيزًا زمانيًّا (هذا هو المعيار) أقصر بكثير من النافذة المحددة. والتمييز بين الوقت كوعاء أو شرط وبين الوقت كمعيار، يسمح للسرخسي بتفسير سبب عدم وجوب الأداء الفوري للواجب عند حلول الوقت المحدد؛ لأن هذا التمييز في الطريقة التي يفرض بها الزمان الأبواب المعيارية يتماشى مع تمييز آخر مألوف داخل الفقه الحنفي الكلاسيكي بين الواجب نفسه وأدائه. في هذا الرأي، ينفصل وجود الواجب (الوجوب) عن حتمية أدائه (الأداء)[46]. فقد يطلق حلول ساعة معيَّنة من اليوم الواجب، ولكن دون أن يعني هذا وجوب أدائه في هذا الوقت بالضبط[47].
وحقيقة أن الظرف يمكن فهمه باعتباره قطعة زمانية وكذلك كشرط شرعي (أي حدث يؤدي إلى وقوع واجب) توضح بصورة أبعد فكرة السرخسي عن الزمان المُبنيَن. إذ يفيد تبنّي مفهوم الظرف أو القطعة الزمانية كشرط لوجود الواجب، في أن الوقت كان يُفهم في هذا السياق باعتباره فرصة أخلاقية ممتدة نسبيًّا؛ إذ إنه مرتبطٌ بمجموعة من الظروف (مثل شروق الشمس، أو رؤية القمر) التي تجعل الامتثال ممكنًا طالما كانت الظروف موجودة. والعاقبة لهذا المفهوم المُبنيَن للزمان هي أنه لا يخلق فارقًا بين ما إذا كان أحدهم سيستغرق وقتًا أكثر أو أقل مما هو مطلوب عادةً طالما أنه يؤدي الفعل بشكل صحيح[48]. بينما ما يشكّل معيارًا هو إتمام الفعل كاملًا في غضون الجزء الزماني المحدد. وباعتباره أداء الفعل بعد الفترة المحددة باطلًا، يصبح الزمان كمقياس للأداء أيضًا معيارًا للصحة (شرط)[49].
لم يكن اجتهاد السرخسي في تنظيم الزمان وفقًا للأبواب الفقهية استجابةً للمفهوم الديناميكي للجصاص فحسب، وإنما أيضًا لبعض المقاربات الأقل بَنْينة داخل المذهب الحنفي. حيث كان بعض الفقهاء الحنفية من الذين واجهوا السؤال عن سبب السماح للمرء بتأجيل أداء فعل يقتضيه الأمر الإلهي، قد قدموا الرأي القائل إن الأداء المبكِّر مستحب فحسب، وإنه يصبح فرضًا قرب نهاية الفترة المحددة. وفي هذه الرؤية، فإن الأداء المبكِّر لفعل مستحب كانت له النتيجة العجيبة المتمثلة في إلغاء الفرض اللاحق[50]. بينما قدَّم آخرون نتيجة أكثر ابتكارًا من خلال الاقتراح بأن أداء الصلاة في أثناء الآنات الأولى من الإطار الزماني هو عمل مستحب ينقلب إلى فرض في النهاية. وبدلًا من افتراض نافذة زمانية مفاهيمية يكون فيها وقت الأداء مَرِنًا، تصوَّر أولئك العلماء الزمان بطريقة تسمح للحالة المعيارية للفعل بالتحول بأثر رجعي مع مرور الوقت. وقد عارض السرخسي بشدَّة مثل هذه المخاتلة في قوله: "هذا غلط بيِّن، فإنه لا تتأدى له هذه الصلاة إلا بنية الظهر، والظهر اسم للفرض دون النفل، ولو نوى النفل كان مؤديًا للصلاة، ولا يمنع ذلك لزوم الفرض إياه في آخر الوقت، ولا تتغيَّر صفة المؤدى إلى صفة الفرضية، وهذا لأن باعتبار آخر الوقت يجب الأداء، وليس لوجوب الأداء أثر في المؤدي، فكيف يكون مغيرًا صفة المؤدى"[51]. مرة أخرى، يتكئ السرخسي على التمايز القائم بين النَّفْل والفَرْض لرفض فكرة أن الفعل يمكن تغيُّر حالته مع مرور الوقت[52].
كان زمان السرخسي المُبنيَن في الأساس تصورًا مضادًا للمواقف الأخرى داخل مذهب الحنفية، في حين أن الوضع نفسه داخل المذاهب الأخرى قد قُدِّم بصورة مغايرة. كان هذا هو حال الفقيه الشافعي البارز أبي المظفر السمعاني. فبينما واءم السرخسي البُنَى الزمانية مع الأبواب الفقهية، فإن السمعاني فهم الزمان بصرامة من خلال عدسة التحليل السيمانطيقي (الدلالي) لنصوص الوحي. إذ رأى أن الأمر الذي لا يتضمَّن أية إشارة زمانية لا يشير بوضوح إلى أي شيء فيما يتعلق بالوقت. وفي رأي السمعاني، فإن المجال الخاص بلغة الأمر الإلهي مقصور على ما يعلنه بصورة مباشرة. فإذا كان الأمر صامتًا بشأن الوقت، فإن الواجب الناشئ عنه محايد زمانيًّا. والزمان في هذا السياق هو مجرد جانب من العمل قد تعالجه أو لا تعالجه الأوامر[53]. ويُعَدُّ هذا الرأي -من بين العلماء الذين نناقشهم في هذه الدراسة- هو الأكثر وضوحًا في إزالة أنواع المخاوف التي حفزت تحليلات الزمان داخل الجدالات الفلسفية والكلامية. وكان السمعاني مهتمًّا في المقام الأول بالتفكُّر في الزمان كمفهوم ينبع من الوحي الإلهي في سياق تنظيم السلوك البشري، بدلًا منه كمفهوم طبيعي للاهتمامات الفلسفية الحرة.
على المستوى العقدي، ومثل السرخسي، اعتقد السمعاني الرأي السائد بأنه عندما لا تتضمَّن الأوامر أية إشارة زمانية، فإن أداءه يكون «على التراخي»[54]. وهو يبيِّن أن هذا ليس معناه التغاضي عن الأداء المتأخر، وإنما فقط أن الأمر «ليس على التعجيل»[55]. وحُجَّة هذا الموقف هي أن الأمر الإلهي وحده لا يحتوي على إشارة لأية تفاصيل سوى الفعل المطلوب. ويشرح السمعاني:
حُجَّة القائلين بالتراخي وهو الأصح، فدلَّ أولًا أنه ليس في لفظ قوله افعل دليل على صفة الفور والتعجيل، فنقول قوله افعل صيغة موضوعة لطلب الفعل ولا تقتضي إلا مجرد طلب الفعل من غير زيادة كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء، فإنها لا تفيد إلا ما وُضِع لها ولا يفيد زيادة عليها، وأقرب ما يعتدّ صيغة طلب الفعل في المستعمل بصيغة الخبر عن الفعل الماضي[56].
يشير السمعاني هنا إلى فكرة «وضع اللغة» (assignment of language)، وهي النظرية القائلة إن المعاني المخصَّصة للكلمات إما تكون "توقيفية" (eternally) أو "اصطلاحية" (habitual). وقد صمّمت إشارته إلى هذه الفكرة لدفع أجندة شبه بنيوية (quasi-structuralist)[57]. فبالنسبة إلى السمعاني، ما نتعامل معه عندما نلاقي أمرًا إلهيًّا هو خصائص اللغة نفسها، ولا شيء آخر. وإن افتراض فورية الفعل يعني فهم لغة النصوص المنزَّلة بأكثر مما تحتمل.
ورغم أن موقف السمعاني كان مدعومًا في الأساس بالنفور من التأويل المفرط، فإنه لا يزال بإمكاننا الوقوف على الفهم الخاص للزمان الذي يكمُن في حجته. فبالنسبة إليه، تعني حيادية الزمان أداء الفعل في أي مرحلة من الوقت دون فارق. وبهذا المعنى، اعتقد أنه يمكن تحديد هوية الفعل بصورة منفصلة عن الزمان، وأن أداء الفعل في أي لحظة يمكنه أن يُحدِث الأداء للفعل المطلوب. ورغم أن جميع الأفعال بالضرورة يجب أن تقع في الزمان، فإن لحظة الأداء هي مجرد خصيصة واحدة من خصائص عديدة للفعل. وعندما لا يحدِّدها الآمر، يكون الأمر حياديًّا تجاه الزمان. والشيء نفسه ينطبق على اللون، أو الحجم، أو الوزن. وقد استمرَّ تأييد هذا الرأي في الفقه الشافعي اللاحق[58]. فعندما لا يُحدّد الزمان من قبل الأمر، فإن هذا يعني أن المعيار الناتج ببساطة لا يمتدُّ إلى مثل هذه الخصيصة. وعندما لا يُحدّد الأمر لحظة الأداء بالضبط، فإن أي لحظة ستفي بالغرض. وقد نشأ مفهوم الزمان كخصيصة للفعل من الاستدلال المتمحور حول الوحي، والذي اهتمَّ أساسًا بكيفية تعيين الكلام الإلهي للقيم المعيارية للأفعال البشرية. ومن ثَمَّ فإنه ليس مماثلًا لفهم الزمان كوعاء محايد.
وليس من المستغرب -إذن- أن يجد السمعاني الحجة القائلة إن الحالة المعيارية للفعل تختلف باختلاف الوقت حجةً باطلةً تمامًا:
إنما يؤخر (أداء الفعل) لا لأنه غير واجب، بل يؤخر لأنه واجب موسع عليه في وقته، والواجب على وجهين: واجب موسع على المكلف في وقته، وواجب مضيق على المكلف في وقته. فالمضيق عليه في وقته لا يجوز تأخيره، فأما الموسع عليه في وقته فيجوز تأخيره، وهذا التأخير لا يخلّ بصفة الواجبية؛ لأنه جوّز لنا التأخير عن أول أوقات الإمكان إلى وقت مثله في الإمكان وشرط عليه ألّا يخلى كل الوقت عن الفعل ولما أخلا عصى وأثم، فعلى هذا أفاد صفة الواجبية ولم يلتحق بالنافلة[59].
يسلط الجزء المائل من هذه الفقرة الضوء على جوهر آراء السمعاني في الزمان. فبقدر ما تظل الظروف البدنية والعقلية لإمكانية أداء فعل ما كما هي، وبقدر ما تسمح به لغة الوحي، لا يوجد أي فارق على الإطلاق بين أداء الفعل المطلوب في لحظة أو أخرى[60].
ونظرًا لأن الزمان هو سلسلة من حالات الاحتمال التي يتخذ فيها المرء الخيارات باستمرار، فمن الحكمة اختيار الطاعة لمشيئة الله، ما يعني اتخاذ القرار الصحيح منذ اللحظة الأولى
- الزمان والأوامر الشرعية
رأينا في القسم السابق أن المناقشات حول ما إذا كان ينبغي أداء الواجبات الناشئة عن الأوامر الإلهية على الفور، قد استندت إلى فهم مختلف للزمان من حيثُ صلته بالفعل البشري ولغة الوحي. أما في هذا القسم، فسأناقش انعكاس هذا الفهم المتباين للزمان على المخاوف بخصوص الطريقة التي يجب أن تُنظِّم بها الأوامر الإلهية الجازمة الوقت، والذي أعني به هنا الحياة الأخلاقية للبشر. إذ يثير الامتثال لأوامر إلهية عبر أداء فعل معيَّن في الزمان عددًا من الأسئلة الملغزة. فعلى سبيل المثال، عندما يستغرق الأداء فترة أقصر من المدة المخصَّصة، فهل يعني ذلك توقف وضعيتها كأفعال مطلوبة عقب إتمام الأداء؟ وإذا توقفت عن كونها واجبة عند الأداء، فكيف يمكننا القول إن الأمر يظل معياريًّا لبقية المدة؟ والسؤال الأكثر صعوبة هو: إذا لم نؤدِّ الفعل في اللحظة الأولى التي يصبح فيها واجبًا، فهل يعني ذلك أننا في إثم مستمر حتى نقوم به؟
انسجم الفهم الذَّرِّيُّ للزمان -الموصوف أعلاه- مع نظرة إلى كلام الله اعتبرته طرحًا للأوامر فوق كل لحظة من حياة البشر. ويسمح تعاقب الوحدات الزمانية بالتجديد المستمر للمعيار المنطبق كلما أُهمل الفعل. وقد اقترن مفهوم الزمان عند الجصاص بنظرة المعتزلة للأوامر كتعبير عن إرادة الآمر[61]. وهذا يعني عبر دمج الرؤيتين أن البشر يواجَهون في كل لحظة بخيار الطاعة أو العصيان للإرادة الالهية. ويفسر الجصاص ذلك قائلًا: "فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُرَادٌ فِعْلُهُ احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ إلَى دَلَالَةٍ (أُخْرَى) كَمَا احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ (رَأْسًا) إلَى دَلَالَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ صُورَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ"[62].
يمكننا في هذه الحجة أن نرى فهمًا لنشوء سلطة الآمر من إرادته الضمنية. فمعنى الأمر بالنسبة إلى الجصاص هو أن الآمر يريد تنفيذ الفعل. وأن فرض واجب من قِبَل إرادة ربّ مهيمن يعني فرض هذا الواجب على الفور. أما الحجة التالية التي يقدِّمها الجصاص لدعم فورية الأداء على أساس سلطة الآمر، فهي أقل وضوحًا بكثير. إذ يجادل بأنه «قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا قَدَّمْنَا، وَالْفِعْلُ مُرَادٌ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْحَالِ، بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فِيهَا مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ مُرَادًا بِالْأَمْرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: افْعَلْهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ، فَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ»[63]. بعبارة أخرى، فإن هذا الأداء الفوري يجب تقديره كقاعدة عامة، بما أنه في الحالات الشائعة عندما يقوم صاحب سلطان بإصدار أمر، يطيعه الأدنى منه درجة على الفور، ما يعتبر دليلًا على الامتثال.
يبدو الجصاص -في ظاهر الأمر- كأنه يرتكب مغالطة؛ لأن الأداء الفوري كوسيلة للامتثال للأمر لا يعني بالضرورة أنه الطريقة الوحيدة للامتثال. ويمكننا تخمين أن فكرة الجصاص عن الأمر كمؤشر على إرادة الآمر، قد جعلت المرجح هو الرغبة في التنفيذ الفوري للفعل ما لم يتم تحديد خلاف ذلك. وقد جادل بأن الأمر غير المؤقت يعادل قول: «"افْعَلْهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ"، فَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ، وَاحْتَجْنَا فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى دَلَالَةٍ»[64]. وأن الأوامر غير المؤقتة أيضًا تعمل بنفس طريقة الأوامر التي إذا فَرَضَت على المأمور أن «افْعَلْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُ التَّأْخِيرُ»[65].
يصبح الأمر غير المؤقت مُحددًا زمانيًّا بقوة إرادة وسلطة الآمر. وهذه الفكرة واضحة في جدل الجصاص بأنه من الشائع النظر إلى أوامر السادة من الناس في الظروف العادية باعتبارها متطلبة للأداء الفوري. ومن ثَمَّ يحقُّ لنا افتراض أن الله تعالى يخاطبنا «بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا»[66]. فعند التعامل مع أوامر السادة من الناس، يكون الأفضل للمرء: «اسْتِعْمَال الْحَزْمِ فِي الْمُبَادَرَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَلَالَةِ وُجُوبِ الْأَمْرِ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِرَامَ الْمَنِيَّةِ إيَّاهُ فَيَحْصُلُ مُفْرِطًا فِي التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَيْهِ»[67]. ونظرًا لأن الزمان هو سلسلة من حالات الاحتمال التي يتخذ فيها المرء الخيارات باستمرار، فمن الحكمة اختيار الطاعة لمشيئة الله، ما يعني اتخاذ القرار الصحيح منذ اللحظة الأولى[68]. ويعني افتراض الفورية هذا أنه بموجب قوة سلطة الآمر، يجب افتراض وقت محدد للأداء عندما لا يتم تحديده، وهي مجازفة تأويلية سوف يرفضها المجادلون الأكثر سيمانطيقية[69].
لقد دفعت الصعوبات المتعلقة بالأوامر الجازمة للوحي في حالة الإرجاء فقهاء الحنفية الآخرين إلى الادعاء بأن أداء الفعل في بداية النافذة الزمانية هو عمل جيد أو مستحب ولكنه ليس واجبًا بصرامة
كما رأينا أعلاه، كان بعض الحنفية على الرأي القائل إنه عندما تتوافر نافذة زمانية ممتدة، يكون الفعل واجبًا دون الفورية (وجوب موسع) لمعظم تلك الفترة، ثم يصبح واجبًا بصورة قطعية (وجوب مضيق) كلما اقتربنا من نهاية النافذة الزمانية المخصَّصة[70]. والسؤال عندئذ هو: إذا كان الأمر يشترط على المأمور أداء فعل ما عبر إحداث واجب في فترة ممتدة، فلماذا يكون لدى ذلك المأمور خيار الانتظار حتى الحيز الأخير من تلك المدة قبل أن يصبح الفعل واجبًا قطعًا؟ كيف يمكننا أن نلائم هذا الخيار مع تَحَكُّمية الأوامر الإلهية؟ لقد دفعت الصعوبات المتعلقة بالأوامر الجازمة للوحي في حالة الإرجاء فقهاء الحنفية الآخرين إلى الادعاء بأن أداء الفعل في بداية النافذة الزمانية هو عمل جيد أو مستحب ولكنه ليس واجبًا بصرامة[71]. ومن هذا المنظور، فإن الإرجاء لا يولد القدر نفسه من التوتر مع سلطة الأوامر، بما أن الأداء المبكّر أو الفوري مستحب فحسب.
ومع ذلك، تثير هذه المقاربة إشكالًا أكبر: إذ لنفترض -على سبيل المثال- أن أداء الصلاة قبل نهاية فترتها مباشرة هو أمر واجب وليس مستحبًا، فهذا يعني أن للصلاة وضعًا معياريًّا أعلى في هذه الدقائق الأخيرة على العكس من الساعات الأبكر. وقد أجاب أولئك العلماء عن هذا بأن الأداء المبكّر سيكون «نَفْلًا يَمْنَعُ لُزُومَ الْفُرُوضِ فِي آخِرِهِ»[72]. في هذه الحالة، لا يشكل الوقت فحسب الوضعية الشرعية للفعل، بل يحدد بفاعلية الآثار المعيارية للأمر الإلهي لبقية الفترة المحددة. وبهذا المعنى، يلعب الوقت دورًا حاسمًا مضاعفًا في تشكيل الطريقة التي تُنَظِّم بها الأوامر الإلهية أفعال البشر في الزمان. إذ يجعل الأمر الإلهي الأداء مستحبًا (نفلًا) في البداية، ثم واجبًا (فرضًا) مع اقترابنا من نهاية المدة[73]. وعلاوة على ذلك، فإن الأداء المبكّر للفعل يجعل الأداء الواجب اللاحق غير ضروري. ولا يمكن فهم هذه المقاربات الملتبسة لتأثير مرور الوقت في الحالة المعيارية للأفعال المطلوبة، إلا إذا رأيناها كمحاولات للتصدي للأسئلة الصعبة المتعلقة بسلطة الكلام الإلهي في تحديد العمل البشري في الزمان. حيث سمحت هذه المناورات لبعض الفقهاء الحنفية بالدفاع عن مواقف ثلاثة تبدو غير متوافقة في آن واحد: 1- تفرض الأوامر الإلهية عمليًّا أفعالًا لفترة زمنية ممتدة. 2- الاختيار الواعي لأداء أفعال قرب نهاية هذه المدة لا يمثل فشلًا أخلاقيًّا. 3- الأداء المبكر (النفل) وإن لم يكن ضروريًّا بصرامة، فإنه ينهي بفاعلية الواجب (الفرض) في المتبقي من الفترة المحددة[74].
يمكن معاينة مجموعة الصعوبات نفسها في فهم السرخسي الأكثر بَنْينة للوقت فيما يتعلق بالأوامر الإلهية. إذ من الممكن النظر إلى فرضيته القائلة إن الزمان يمتدُّ فوق بُنى ثابتة تتوافق مع الأبواب الشرعية، باعتبارها شكلًا من أشكال التوفيق. حيث سمحت لسلطة الواجبات الإلهية المُقدرة بالتمدُّد فوق أجزاء الزمان، بينما أباحت المرونة في وقت الأداء[75]. كما أتاح له هذا التوفيق التمسُّك بتمدُّد الواجبات الإلهية المُقدرة فوق أجزاء الزمان، دون معارضة المرونة في الأداء بمثل هذا الحيز الزماني. لقد حاول السرخسي إنشاء حجته على أساس وسط بين الآراء الأخرى داخل مذهبه من ناحية، وبين بعض عقائد الشافعية من ناحية أخرى. حيث قدَّم أحد الآراء المُغالية، الذي نسبه إلى واحد من أسلافه الحنفية: «كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: مطلق الأمر يُوجب الأداء على الفور، وهو الظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله»[76]. رأى الكرخي (ت951م) أداء الفعل في اللحظة الأولى كشعور أصليّ بالأمر غير المؤقت، ومن ثَمَّ فإن الأداء المُرجأ يمكن السماح به فحسب إذا كان ثمة دليل واضح. وهذه الحاجة الفورية لأداء الفعل في حالة وجود أمر إلهي غير مؤقت، إنما تنبع في وضعية الكرخي من افتراضه أن الأوامر الإلهية إنما تشير إلى الوجوب كمعنى أساسي لها[77]. وعلى الطرف المُغالي الآخر، اعتقد البعض داخل مذهب الشافعية وجوب تعليق الحكم حتى يكون هناك ما يشير إلى وجوب الأداء فورًا أو مُرجئًا، «لأنه ليس في الصيغة ما ينبئ عن الوقت فيكون مجملًا»[78]. والسرخسي يصرِّح بأن هذا الموقف «فاسد جدًّا، فإنهم يوافقونا على ثبوت أصل الواجب بمطلق الأمر، وذلك يُوجب الأداء عند الإمكان، ولا إمكان إلَّا بوقت، فثبت بدليل الإشارة إلى الوقت بهذا الطريق»[79].
وفي حين مالت النقاشات حول آثار الأوامر الإلهية نحو التركيز على مبلغ السلطة التي يمارسها الوحي فوق المنطق العملي في الزمان، فإن نوعًا آخر من الهاجس حول السلطة ركَّز على السلطة التأويلية للفقهاء من البشر فوق لغة الوحي. وقد ظهر هذان الهاجسان كمتعارضين: فلتبنّي رؤية شاملة للسلطة في الزمان، يجب على المرء وضع فرضيات كبرى حول معنى كلمات الوحي، وبالعكس. وقد بدا الشاغل الأساسي للسمعاني حول السلطة في التزامه بمعنى لغة الوحي. فإذا كانت هذه اللغة صامتة في تحديد الوقت، فإن المعنى السلطوي السليم لهذه الأوامر هو أن الزمان محايد. ويمكننا معاينة هذه المقاربة في حجته القائلة بأنه «لا يجوز أن يدل اللفظ على ما لا يتعرض له اللفظ وهو دليل على التقييد لا يجوز، كيف وقد جعلوا تقييد المطلق نسخًا له في كثير من المسائل»[80]. وبينما كان الجصاص ورفاقه من الحنفية منشغلين بما إذا كان بإمكاننا السماح ببعض المرونة في وقت أداء الفعل غير الموصى به صراحة، كان السمعاني أكثر اهتمامًا بإمكانية وضع افتراضات محددة زمانيًّا لا مكان لها بين كلمات الوحي الإلهي. وأن يتم التعامل مع عمومية الوقت مثل أي سمة أخرى من سمات الفعل: أي لا يجوز تقييدها تعسُّفيًّا من قبل المؤولين من البشر. وقد تناول السمعاني الاعتراض المحتمل بأن الزمان ليس مثل أي جانب آخر من جوانب الفعل. وجادل ردًّا على ذلك بأنه عندما يذكر الأمر فعلًا خاليًا من الوقت، فإن الأمر يتطلب:
إيقاع الفعل فحسب، إلا أن الزمان من ضرورته؛ لأن الفعل من العباد لا يصير موقعًا إلا في زمان، فصارت الحاجة ماسة إلى الزمان ليحصل الفعل موقعًا، والزمان الأول والثاني والثالث في هذا المعنى وهو حصول وقوع الفعل واحد، وإذا استوت الأزمنة في هذا المعنى بطل التخصيص والتقييد بزمان دون زمان[81].
يرسخ السمعاني نفوره من التأويل المفرط في القواعد الفقهية: فعندما تكون اللغة عامة، فإنها تنطبق على كل خاص داخل تلك العمومية. على سبيل المثال، ينطبق الإلزام بدفع الضرائب على كل الأفراد الذين يتمتعون بالصفة القانونية وثبت استيفاؤهم الحدود المعينة للدخل أو الثروة. ولا يجوز للفقهاء إعفاء جزء من السكان من واجبهم اعتباطًا دون وجود إشارة من الوحي. والأمر نفسه ينطبق على الزمان. فإن الأمر بفعل بمعنى غير مقيد (مطلق) يعني أنه يمكن أداؤه في أي وقت، ولا يمكن فرض أية قيود دون إشارة ملائمة من الوحي. وهذا يسمح للسمعاني باتباع نهج معتدل في مستوى الاستدلال الذي يفرضه على لغة الوحي، ومن ثَمَّ البقاء مخلصًا لمهمته في تجنُّب وضع افتراضات غير شرعية[82].
وعلى غرار الإشارات الخارجية التي تجعل من الإسراع في أداء الأعمال الصالحة أمرًا جديرًا بالثناء بشكل قاطع، فإن بعض الحالات قد تشير أيضًا إلى أن الفورية في أداء الفعل مطلوبة، مثل الأوامر التي يصدرها شخص في محنة أو في الحالات العاجلة.
إن كل موقف يتعلق بتطبيق الأوامر في الزمان ينطوي على مستوى معيَّن من المخاطر التأويلية أو الأخلاقية. ويختار السمعاني بوضوح تام تجنُّب المخاطر التأويلية، بتجنُّبه فرض الافتراض دون دعم نصيّ. ويتجلى الاهتمام الوثيق باللغة ومعناها المباشر أيضًا عندما يتناول السمعاني الاعتراض المحتمل بأنه من الحكمة عمومًا افتراض أن الأعمال الصالحة، ومن باب أولى تلك التي يأمر بها الله، من الواجب أداؤها في أقرب وقت ممكن[83]. فهنا يوضِّح السمعاني موافقته على أن المسارعة والمبادرة مطلوبتان، غير أن ذلك «بلا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة معناه، لكن بدليل أجنبي جاء من جهة الشرع استجلب المبادرة إلى كل الطاعات»[84]. إن السمعاني يميز بين الآثار المترتبة على أمر لا يتضمن مواصفات زمانية، والمعنى القاطع الذي ينبغي فيه القيام بعمل صالح عاجل وليس آجلًا. حيث تنشأ أنواع مختلفة من المعايير من الإشارات اللسانية كما تظل مرتبطة بشكل وثيق بها، دون الكثير من التفكُّر في الوحدات أو الأجزاء الزمانية التي تغطيها.
إن المفتاح لمفهوم السمعاني حول السلطة التأويلية، هو مركزته معنى الأوامر الإلهية في خصائص اللغة بدلًا من إرادة الآمر. حيث سمحت له هذه الخطوة بتجاوز العديد من الاعتراضات الناشئة عن المقارنات مع الوصايا السلطوية الصادرة في الظروف العادية. فردًّا على الادعاء بأن أمر السيد للعبد سقيه الماء يتطلب الفورية في الأداء، أوضح أن «التعجيل في ذلك الأمر بقرينة دلَّت عليه، وهي علم العبد أن السيد لا يستدعي الماء إلا وهو محتاج إلى شربه، هذا هو الأغلب ولو لم يوجد إلا في الأمر، فإنه لا يعقل ذلك»[85]. وعلى غرار الإشارات الخارجية التي تجعل من الإسراع في أداء الأعمال الصالحة أمرًا جديرًا بالثناء بشكل قاطع، فإن بعض الحالات قد تشير أيضًا إلى أن الفورية في أداء الفعل مطلوبة، مثل الأوامر التي يصدرها شخص في محنة أو في الحالات العاجلة. وقد وقفت الحجة اللسانية للسمعاني في وجه هذه الاستثناءات؛ إذ إن الأمر وحده -كمسألة لغوية الشكل- لا يشير إلى الفورية.
- الزمان والخيار الأخلاقي
لقد جادلت حتى الآن بأن المناقشات حول الآثار المترتبة على الإشارات الزمانية في الأوامر الإلهية، إنما استندت إلى مفاهيم متباينة للزمان، كما عكست مخاوف بشأن الطريقة التي ينظِّم بها كلام الله السلوك البشري حسب امتداده في الزمان. أما الجانب الآخر من هذه المناقشات حول السلطة، والذي نتحول إليه الآن، فقد كان عن الخيار الأخلاقي، أو كيف ومتى يختار المرء الامتثال للأوامر السلطوية للشرع. ويعني المفهوم الديناميكي للزمان أن كل لحظة توفر فرصًا لاتخاذ خيارات أخلاقية تتماشى مع الإرادة الإلهية، أو للتخلي عن مسار الفعل هذا. فإذا أبلغ آمر ذو سلطة كاسحة رغبته في أن يتم القيام بفعل ما، فإن شعورًا بالفورية في مثل هذه الواقعة من شأنه أن يجعل من الضروري تبرير الاختيار الواعي للامتثال في اللحظة (و+1) بدلًا من اللحظة (و). فالإرجاء يستدعي تفريطًا في اللحظة الأولى، وسيظل ينظر إليه باعتباره تفريطًا في النهاية بصرف النظر عن الأداء الثانوي اللاحق.
إن الإرجاء بحسب رغبة المرء -بالنسبة إلى الجصاص- هو إرجاء واعٍ للامتثال على الرغم من الإدراك بأن الفعل مطلوب. والإرجاء الواعي لفعل مطلوب عمله هو بالضبط النتيجة التي صُمم منهج الجصاص لتجنُّبها. وإن الدليل على فهم الأداء الفوري باعتباره نتيجة ضرورية للأوامر غير المؤقتة، هو فكرة أن الأمر يقتضي النهي عن إغفاله (كراهة الترك)، وأن هذا النهي مقتضى على الفور: «إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ (قَدْ) تَضَمَّنَ كَرَاهَةَ التَّرْكِ (وَ) كَانَ مَا كَرِهَ تَرْكَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَتْرُكْهُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِعْلُهُ»[86]. ينظر الجصاص إلى الإرجاء باعتباره امتناعًا عن أداء الفعل في اللحظة الأولى التي يكون فيها هذا الفعل مستحقًّا. فالالتزام بأداء أمر ما يعني النهي عن إغفاله. وتخبرنا هذه الحجَّة عن فهم الجصاص لطبيعة اتخاذ القرارات بأداء الفعل في الزمان. فالتراخي هو حالة طبيعية تنطبق على الفور وبصورة افتراضية[87]. وإذا كان النهي ينطوي على الإمساك عن الفعل، فإن التكاسل يشمل جميع الأوقات الممكنة، بما في ذلك المستقبل، الذي سيكون فيه متحققًا كما كان في الماضي. أما الفعل، على النقيض من ذلك، فيستلزم خيارًا مقصودًا لتعطيل التراخي في المستقبل، وبمجرد القيام به، يكفي القول بأنه كانت هناك مرحلة واحدة من الفعل في الماضي. والعودة إلى التراخي بعد أداء فعل هو أمر مقبول، بما أن المرء يصبح في حالة امتثال بعد ذلك الأداء. أما العودة إلى التراخي عن الفعل بعد ارتكاب فعل منهي عنه فهو أمر مختلف؛ إذ يصبح المرء في حالة عدم امتثال دائمة.
بَيَّن الجصاص أن من قال بإمكانية أداء الفعل في أي وقت، إنما «أَثْبَتَ تَخْيِيرًا غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ»[88]. وهو يبني هذه الحجة عبر مقابلتها بموقف الشافعية. ويساعدنا هذا التجاور بين الآراء المتعارضة على أن نرى تشاركها في المخاوف بشأن تنظيم الخيارات الأخلاقية في الزمان تلبية لسلطة الوحي. وعلى وجه التحديد، فإن حجة الأداء المُرجأ، التي ترتبط بالجصاص بدقَّة ولكن من ناحية استنكاره لها، إنما تَمُد وقت الأداء الصحيح حتى يخشى المأمور الإغفال بسبب نهاية العمر الوشيكة أو أي شكل آخر من أشكال العجز. فإذا صدر أمر غير مؤقت، فإن بعض العلماء يرى أنه «عَلَى الْمُهْلَةِ، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى الْفَوَاتَ بِتَرْكِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ»[89]. لقد كان الاعتماد على الإحساس الذاتي بالعجز الوشيك شائعًا بين العلماء الذين أقروا بأن البشر يملكون مساحة واسعة لتحديد الوقت الدقيق لأداء الأفعال عندما تسكت الأوامر الإلهية عن المسألة[90].
فعلى سبيل المثال، اتبع السمعاني نهجًا ذاتيًّا إزاء الخيار الأخلاقي في سياق أوامر لا تتضمَّن تخصيصًا زمانيًّا:
لأن الفعل يجوز أن يكون واجبًا على المكلف وإن كان مخيرًا بين فعله في أول الوقت وفعله فيما بعده، فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته إن لم يفعله، فمتى غلب على ظنه فواته إن لم يفعله حرم التأخير، فيكون هذا الأمر مقتضيًا طلب الفعل منه في مدة غيره، بشرط ألَّا يخلو زمان العلم منه فيصير واجبًا عليه بوصف التوسع لا بوصف التضييق[91].
يقرّ السمعاني بأن الاحتراس الأخلاقي يتطلب عدم إرجاء فعل واجب، إذا كان المرء يخشى ألَّا يتمكَّن من القيام به في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن تفضيل الأداء السابق لا ينبع من الأمر نفسه، ولكن من الشعور العام بالمسؤولية. وبهذه الطريقة، يحاول السمعاني الابتعاد عن الجزم بمعانٍ لم يقصدها كلام الله، ويعزو هذا التقييد بدلًا من ذلك إلى فائدته[92]. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التقييد -حتى في تلك الحالة- لا يستلزم الأداء الفوري، وإنما فقط الأداء خارج (أي قبل) الوقت الذي يُخشى أن يظهر خلاله العجز. وهذا التقييد استثنائي ويتوافق تمامًا مع سببه: حيث تمثِّل اللحظة الزمانية التي يُخشى فيها العجز بصورة ذاتية نهاية حيز الوقت الذي يجب أن يؤدى فيه الفعل.
ولا يرى السمعاني بالإجمال أية فارق في اتخاذ مثل هذه الخيارات الأخلاقية استجابة للأوامر التي تشير إلى فترة زمانية ممتدَّة، أو تلك التي تفتقر إلى مثل هذه الإشارة. ففي جميع الحالات، يكون المطلوب هو الاتباع الدقيق لكلام الله قدر الإمكان، حتى يخشى المرء ذاتيًّا عجزه المحتمل عن الامتثال. وقد أوضح أنه «لو قال السيد لغلامه: افعل كذا غدًا، أو قال: افعل في شهر كذا أو سنة كذا، ومراده أن يأتي به في أي وقت يختاره من هذه المدة بشرط ألَّا يخلى المدة منه، فإنه يكون صحيحًا غير مستبعد ولا مستنكر»[93]. ويجادل السمعاني بأن هذا شبيه بالصلوات والعبادات الأخرى، التي يمكن أداؤها في أي لحظة خلال الفترة المحددة دون أن يُحدث ذلك أية فارق في طبيعة الفعل الذي وقع أداؤه. فاختيار الوقت متروك بالكامل لكل فرد. والشيء نفسه ينطبق على الواجبات المفروضة ذاتيًّا، مثل تلك الناشئة عن العهود والأيمان، حيث لا يوجد خلاف على أن الأداء لا يلزم أن يكون فوريًّا[94]. وترتبط المسؤولية الأخلاقية في تلك الحالات بأداء فعل محدَّد، وليس بالوقت الذي يَحدُث فيه الأداء.
لقد كانت مقاربة السرخسي المُبنيَنة للزمان تعني أنه آمن على عكس أنداده بأن الأوامر الإلهية والمصالح التي تنشأ عنها إنما تنطبق بطريقة متسقة نسبيًّا داخل النافذة الزمانية المحددة. فالخيار الأخلاقي والمصالح الكامنة وراء الأوامر الإلهية هي ثوابت ضمن الأجزاء الزمانية المُبنيَنة التي نسقها السرخسي مع الأبواب الفقهية.
وقد اقترح أحد الآراء البارزة التي هدفت إلى مواءمة اعتبارات سلطة الوحي مع الخيار الأخلاقي البشري، أن الأوامر الإلهية إنما تُوَلِّدُ بالضرورة شكلًا من أشكال المصلحة، ومن ثَمَّ فإنه من الواجب طاعتها بشيء من الاستعجال. وعلى الرغم من أن النظرية المكتملة للمصلحة كمقصد من مقاصد الشريعة تُعتبر عمومًا تطورًا متأخرًا في الفقه الإسلامي[95]، فإن العلماء المبكرين من أمثال الكرخي أقاموا حُججًا من فكرة المصلحة لإيضاح سبب كون الامتثال الفوري للأوامر الإلهية هو الخيار الصحيح. ففي رواية السرخسي، يُجادل الكرخي بأن «الأمر بالأداء يفيدنا العلم بالمصلحة في الأداء، وتلك المصلحة تختلف باختلاف الأوقات؛ ولهذا جاز النسخ في الأمر والنهي، وبمطلق الأمر يثبت العلم بالمصلحة في الأداء في أول أوقات الإمكان ولا يثبت المتيقن به فيما بعده»[96]. تأخذ حُجج الكرخي مفهوم الجصاص الديناميكي للزمان إلى أعماق جديدة. فكل لحظة محتملة ليست فقط فرصة لأداء فعل جديد، وإنما الآثار المترتبة على الأداء في الزمان تختلف من لحظة إلى أخرى. وقد حاول الكرخي توسعة فكرة الأداء الفوري، ليس فقط لتشمل سلطة كلام الله فوق تنظيم العمل البشري في الزمان، وإنما أيضًا أنواع النتائج التي يمكن أن تنبع من مثل هذه الأفعال[97].
إن توسيع الحُجة القائلة بالاستعجال الأخلاقي لتشمل المُبررات القائمة على المصلحة، أثار أسئلة مهمة في سياقٍ كان الفقهاء يبحثون داخله أوامر إلهية، إما صدرت في الماضي، أو على نحو مؤبد. فإذا كان بإمكاننا فحسب تأكيد المصلحة من الامتثال للشرع في اللحظة المحتملة الأولى، فهل يعني ذلك أن الأمر يفقد فوريته بمجرد إرجائه؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى الثقل المعياري لهذا الأمر للأجيال المستقبلية؟ هل لن تعود مفيدة بالنسبة إليهم نتيجة مرور الزمان؟ لقد أبدى السرخسي اعتراضه على هذه الحُجة من المصلحة: "وبهذا تبيَّن فساد ما قال إن المصلحة في الأداء غير معلوم إلَّا في أول أوقات الإمكان، فإن المطالبة بالأداء وامتثال الأمر لا يحصل إلَّا به، ألا ترى أن بعد الانتساخ لا يبقى ذلك، فعرفنا أن بمطلق الأمر يصير معنى المصلحة في الأداء معلومًا له في أي جزء أدَّاه من عمره ما لم يظهر ناسخه"[98].
لقد كانت مقاربة السرخسي المُبنيَنة للزمان تعني أنه آمن على عكس أنداده بأن الأوامر الإلهية والمصالح التي تنشأ عنها إنما تنطبق بطريقة متسقة نسبيًّا داخل النافذة الزمانية المحددة. فالخيار الأخلاقي والمصالح الكامنة وراء الأوامر الإلهية هي ثوابت ضمن الأجزاء الزمانية المُبنيَنة التي نسقها السرخسي مع الأبواب الفقهية. ومثل السمعاني، ولكن على العكس من الكرخي، فإن مقاربته لا تفترض نوعًا من الفورية الناشئة بالضرورة من جميع الأوامر الإلهية[99].
- الخلاصة
درسنا في هذا المقال بعض المناقشات حول زمانية الأوامر الإلهية والأفعال الناشئة عنها في الفقه الإسلامي الكلاسيكي. وعلى الرغم من اعتراف الدراسات القانونية الحالية بالدور المركزي الذي يلعبه الزمان في تشكيل سلطة القانون، إضافة إلى دوره في تنظيم حياة الإنسان، فإنها لم تقدم سوى القليل جدًّا لدراسة فكرة الزمان في علم أصول الفقه الإسلامي، وهو التقليد القانوني الذي اهتمَّ بالزمان اهتمامًا عميقًا. ركزتُ في هذه الورقة على سؤال فقهي محدَّد هو: كيف يجب أن تكون استجابة البشر عندما يكون الأمر الإلهي خاليًا من الإشارات الزمانية الواضحة؟ لقد جادلت بأن هذا النقاش -بخلاف الاهتمام بالطرائق التأويلية- إنما عكس أيضًا قلقًا بشأن نوع السلطة التي يمارسها كلام الله فوق العمل البشري في الزمان، وفهم الزمان الذي يكمُن وراء هذه السلطة. وقد تجلَّت هذه الشواغل في الأسئلة المتعلقة بتبرير الفعل أو الإرجاء عندما يُعتبر المرء مُلزمًا بواجب ناشئ عن كلام الله. وقد أظهرت المناقشات أيضًا أن شكل الواجب ووجوده وحالته المعيارية غالبًا ما تعتمد على مرور الوقت وكيفية فهم هذا المرور. وفي النهاية، شاركت هذه المناقشات القلق نفسه حول الزمان كمفهوم أخلاقي، أو كمجموعة من الفرص لتشكيل سلوك المرء بطريقة تتفق مع كلام الله.
ومن النتائج الأكثر عمومية لهذه المقالة أن الشريعة الإسلامية كانت معنيَّة بأكثر من مجرد الإفصاح عن طرائق الوصول إلى حقائق الشرع، وهو هاجس تشدّد عليه الدراسات الحديثة في هذا الحقل. فعلى سبيل المثال، فإن تحليل برنارد فايس لموقف الآمدي حول ما إذا كان يجب طاعة الأوامر فورًا أم لا، يسلط الضوء على هذا التركيز على الجانب الإبستيمي-المنهجي في أصول الفقه:
اعتقد البعض أن [الأمر غير القطعي] يشير إلى أن الفعل المطلوب يجب أن يؤدى على الفور دون تأخير. وطبقًا للآمدي، سعت هذه الآراء -وغيرها مما يشبهها- إلى استخلاص أكثر ما يجوز من المنطوق افعل [أي الأمر]، بعد انتزاعه من سياقه. ويمكن للمرء أن يُقَدِّر بسهولة السبب الذي دفع بعض الفقهاء إلى الميل لاستخلاص أكبر قدر ممكن من هذا المنطوق البالغ الأهمية والمتكرر كثيرًا. فإذا كان من الممكن اعتبار المنطوق مؤشرًا ظاهريًّا، يُسوغ استنادًا إلى أحادية معناه افتراضًا مبدئيًّا (ab initio) بخصوص ما يُشكل المعنى الذي يقصده المتكلم، فإنه كلما زادت خصوصية ذلك المعنى كانت مهمة الشخص الذي ينخرط في صنعة تفسير الشريعة أسهل. أما إذا كان المنطوق لا يشير إلى شيء محدد أكثر من الدعوة إلى فعل كمعناه الحرفي الوحيد، فإن المجتهد يكون أكثر اعتمادًا على السياق؛ وبالنظر إلى اتساع السياق، فإنه كلما زاد اعتماده عليه زادت صعوبة مهمته[100].
من المؤكَّد أن تحليل هذا النقاش على أساس سهولة أو تعقيد المنطق الشرعي الذي ينشأ عن كل موقف فقهي هو أمر صائب. إذ يتناقض التزمُّت الذي يميزه فايس في مواقف مشابهة لتلك التي صرح بها أبو بكر الجصاص مع تبسيط الآمدي، وقبله السمعاني. ويتطلب موقف الأخير درجة أكبر من الانضباط التأويلي والعناية بالسياق من جانب الفقيه في تحديد خصائص الأداء الصحيح في كل حالة. وأنا أؤكد أن وراء هذا الاختلاف خلافًا أعمق يتجاوز الصرامة أو التبسيط: خلافًا حول عمق سلطة كلام الله في تبليغ القرارات الأخلاقية. إن المناقشات حول فورية أو عدم فورية الفعل استجابةً لأمر إلهي، هي في جزء كبير منها حول المنطق العملي. وهذه إحدى مظاهر الحقيقة القائلة إن الشريعة الإسلامية -بعيدًا عن صياغتها للأدوات من أجل استخلاص المعرفة القانونية- كانت تهتمُّ بشكل أساسي أيضًا ببناء مفاهيم قانونية متماسكة تتماشى مع المفاهيم المقبولة للسلطة الإلهية، والمسؤولية الإنسانية، وطبيعة الأعمال البشرية.
الهوامش
[1] Siân Beynon-Jones & Emily Grabham, “Introduction” in Siân Beynon-Jones & Emily Grabham, eds, Law and Time (Routledge, 2018) 1 at 1.
يلاحظ فريدريك بلوم أيضًا أن الزمان مفهوم غير مدروس، على الرغم من أهميته المركزية في فهم سلطة القانون: «الزمان عنصر مُهمَل رغم كونه جوهريًّا في القانون الحديث -فهو أداة للسلطة، والعقاب، والتقدُّم- ولهذا يجب أن نتخذ وجهة نظر أكثر حساسية تجاه الزمان».
Frederic Bloom, “The Law’s Clock” (2015) 104:1 Geo LJ 1 at 55.
كما أُثيرت الفكرة نفسها الخاصة بعدم حظوة الزمان في القانون بدرجة من العناية تتناسب مع أهميته في:
Rebecca French, “Time in the Law” (2001) 72:3 U Colo L Rev 663.
[2] أي الافتراض بأن الزمان ظاهرة طبيعية (natural phenomenon) تتكشف كخلفية للحياة السياسية والاجتماعية. (انظر: Siân Beynon-Jones & Emily Grabham, Law and Time, 1). (المترجم)
[3] Beynon-Jones & Grabhem, supra note 1 at 1.
[4] Carol J Greenhouse, “Just in Time: Temporality and the Cultural Legitimation of Law” (1989) 98:8 Yale LJ 1631 at 1631.
[5] Renisa Mawani, “Law as Temporality: Colonial Politics and Indian Settlers" (2014) 4:1 UC Irvine L Rev 65 at 71.
[6] Lynn Kaye, Time in the Babylonian Talmud: Natural and Imagined Times in Jewish Law and Narrative (Cambridge University Press, 2018) at 1-2.
من بين العديد من الرؤى المثيرة للاهتمام حول أفكار الزمان في الفكر التشريعي التلمودي أن المكان والصور الحركية المرتبطة به تُعَدُّ مفيدة في الوقوف على مفهوم الزمان داخل هذا التقليد.
[7] Ibid at 54-55.
[8] الزمان المُبنيَن: في مقالته المعمقة عن "الزمان القانوني" (الواردة في الهامش التالي)، قال ويليام كونكلين إن فقهاء القانون داخل التقليد التشريعي الأنجلو-سكسوني قاموا بعملية بَنْينة (structuring) للزمان من خلال تنظيمه في فترات أو مراحل يُميز كل منها صدور مفاهيم قانونية جديدة منفصلة عن تلك الصادرة في المرحلة السابقة لها، معتبرين لحظة نشوء "الدساتير" في الدول المركزية "الحديثة" بالولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، نقطة الانطلاق فيما يُعرف باسم "الزمان المُبنيَن"، أي الذي ينقسم إلى مراحل يتمايز فيها القانون مفاهيميًّا. وسوف يستعير الدكتور عمر فرحات اصطلاح "الزمان المُبنيَن" خلال البحث الحالي لتوصيف منهج الفقيه الأصولي الحنفي شمس الأئمة السرخسي في بَنْينة "الزمان الفقهي" من خلال تنظيم الزمان في مراحل لها بدايات ونهايات محددة يتمدَّد في كل مرحلة منها واجب شرعي تفرضه الأوامر الإلهية، مع ربط هذه الأوامر بالأبواب الفقهية من المقيد والمطلق. (المترجم)
[9] William E Conklin, “Legal Time” (2018) 31:2 Can JL & Jur 281.
[10] قدمت كذلك فكرة أن الزمان في الفكر الإسلامي هو أمر مركزي لفهم المسؤولية الأخلاقية للبشر في:
LE Goodman, “Time in Islam” (1992) 2:1 Asian Philosophy 3.
ويركز مقال غودمان -مثل مقالة باورينغ أدناه- على المناقشات الفلسفية والكلامية.
[11] Gerhard Böwering, “The Concept of Time in Islam” (1997) 141:1 Proceedings of the American Philosophical Society 55.
[12] مذهب الذَّرِّيَّة: هو فكرة شاعت في الفلسفات القديمة، خصوصًا اليونانية والهندية، لتفسير المركَّب الذي يتكون منه العالم والأشياء التي هي فيه، وقالت إن الأجسام في العالم إنما تتكون من ذرات ذات وضع لا يقبل القسمة مطلقًا. ثم تسربت هذه الفكرة عبر عمليات التعريب إلى مناقشات المتكلمين في الإسلام منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي حتى اقترنت بالمنهج الأساسي في أطروحات أكثريتهم. وقد عرف المتكلمون مذهب الذَّرِّيَّة باسم "الجزء الذي لا يتجزأ"، كما أطلقوا على الذرة اسم "الجوهر"، ويمكن تلخيص تعريفهم لفكرة "الجزء الذي لا يتجزأ" في قول أئمتهم: "الأجسام البسيطة الطباع مركَّبة من أجزاء صغار لا تنقسم أصلًا وقيل فعلًا، وقيل من أجزاء غير متناهية". أما عن ارتكاز فهم المتكلمين للزمان على مذهب الذرية، فيردنا إلى ما سماه الباحثون المُحدَثون في علم الكلام، وصفًا لمذهب المتكلمين في تعريف الزمان، بـ"الذَّرِّيَّة الزمانية" (Temporal atomism)، حيث أشار المتكلمون إلى الزمان باعتباره: "مجموع أوقات، والوقت عرض حادث يعرض وجود عرض آخر مع وجوده بحضور"، وهو ما يعني تركيب الزمان من سلسلة جواهر/ذرات منفصلة غير قابلة للانقسام، تمثِّل كل ذرة منها "آنًا"، أي حالة كانئة في اللحظة الحاضرة، تعقبها فور نهايتها "آن" أخرى. انظر عن ذلك: الأشعري: مقالات الإسلاميين، تحقيق: هلموت ريتر، (فيسبادن-ألمانيا: 1980م)، ص443؛ ابن سينا، الشفاء، الطبيعيات، تحقيق: سعيد زايد، (قم المقدسة-إيران)، ص148 وما بعدها؛ هاري ولفسون: فلسفة المتكلمين، ترجمة: مصطفى لبيب عبد الغني، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009م)، ج2، ص613-614؛ إحسان محمد جعفر، المذهب الذري عند المفكرين العرب المسلمين، مجلة التراث العربي، دمشق، 1994م، ص91-92؛ أرزاق فتحي أبو طه، الزمان بين الفلاسفة والمتكلمين، ص299-300. (المترجم)
[13] في خاتمته، يسلط باورينغ الضوء على المجالات التي لم تدرسها ورقته، فيقول: "لم أتحدث عن التوقيت الإشكالي للصلاة في الإسلام، والأدبيات المعقدة حول الزمان في علم الفلك الإسلامي، والعمل الكرونولوجي للبيروني، وعمل نصير الدين الطوسي حول التقويم الصيني-الأويغوري، وتأملات المؤرخين الإسلاميين حول استخدامهم للزمان في الحوليات والتراجم، أو الدور الذي يلعبه الزمان في الوزن الشعري والمزاج الموسيقي. كما أنني أهملت أيضًا جوانبَ من الزمان سلط عليها الضوء الأنثروبولوجيون والسوسيولوجيون داخل التقاليد الإثنية الوافرة للإسلام". (Ibid at 66). والعديد من المناقشات التي تُجرى في المقالة الحالية تأخذ «التوقيت الإشكالي للصلاة» وغيرها من الشعائر كأمثلة مركزية لها، على الرغم من امتدادها إلى جميع أنواع الحقوق والواجبات التي يمكن أن تنشأ بموجب الشريعة الإسلامية. للحصول على مناقشة حديثة لتاريخ الإسلام باعتباره «زمانًا أخلاقيًّا»، انظر:
Wael B Hallaq, Reforming Modernity: Ethics and the New Human in the Philosophy of Abdurrahman Taha (Columbia University Press, 2019) at 12-13.
[تُرجم الكتاب إلى العربية، ولمطالعته انظر: وائل حلاق، إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020م). (المترجم)].
[14] كما أشرت في الحاشية رقم (10)، فإن المتكلمين قالوا بتركيب الزمان من آنات غير منقسمة، لا يتصل بعضها ببعض، وإنما تتعاقب في صورة من الكون والفساد. وهذا التعريف الذي جعل الوحدة الزمانية "كمًّا منفصلًا" (discrete) أتاح للمتكلمين إثبات حدوث العالم والخلق الإلهي المستمر، بما أن "تناهي" الآن الواحدة و"حدوث" غيرها يتطلب صانعًا هو الله. (انظر المصادر نفسها الواردة في الحاشية رقم 10). (المترجم)
[15] Jon McGinnis, “The Topology of Time: An Analysis of Medieval Islamic Accounts of Discrete and Continuous Time” (2003) 81:1 Modern Schoolman 5.
[16] على النقيض من المتكلمين، قال ابن سينا بالانقسام اللانهائي للزمان. وبناءً على هذا الانقسام، سمى ابن سينا الزمان "مقدارًا" (magnitude) قائلًا إنه "الحركة من مكان إلى مكان، أو من وضع إلى وضع بينهما مسافة تجري عليها الحركة الوضعية، وهذا هو الذي نسميه الزمان" (ابن سينا: الشفاء، الطبيعيات، ص156). وقد أراد ابن سينا بهذا نقض "الذَّرِّيَّة الزمانية" لدى المتكلمين، ومقابلة الزمان/الكم المنفصل (discrete time) لديهم بالزمان/الكم المتصل (continuous time)، ولكن دون الخلوص من ذلك إلى قدم العالم وأزليته، بما أن ابن سينا قال بقدم العالم زمانيًّا (أي إنه لم يكن مسبوقًا بالعدم) وحدوثه ذاتيًّا (أي إنه يفتقر في وجوده إلى الغير) يتقدمه موجده وخالقه (أرزاق فتحي أبو طه، المرجع السابق، ص293). وبسبب هذا الاستنتاج، ذهب ماكجينيس -الذي يحيل إليه هنا الدكتور عمر فرحات- إلى أن متابعة ابن سينا للفكرة الزمانية عند أرسطو لم تخلُ من تخطي الشيخ الرئيس لهذا الأخير لتكييف الفكرة الأرسطية مع حالة الجدل الإسلامي الخاصة (McGinnis, ibid, 6). (المترجم)
[17] Ibid at 6-7.
[18] Peter Adamson, “The Existence of Time in Faḫr al-Dīn al-Rāzī’s al-Maṭālib al-ʿāliya,” in Dag Nikolaus Hasse & Amos Bertolacci, eds, The Arabic, Hebrew and Latin Reception of Avicenna’s Physics and Cosmology (De Gruyter, 2018) 65 at 67.
[19] يمكن التمييز على نحو مفيد بين الزمان الذي تصدر فيه الأوامر والزمان الذي تنشأ عنه الأحكام الشرعية، حتى وإن بقيت هذه مسائل وثيقة الصلة. إذ وقع نقاش كلامي أساسي حول ما إذا كان كلام الله -بما في ذلك أوامره- أبديًّا (قديمًا) أم مخلوقًا في زمن الوحي (حادثًا). وفي كلتا السرديتين، كان من الممكن إصدار الأوامر في زمان سابق على تحديد مدى فورية الامتثال في حالات معينة. وقد أدى ذلك في الفقه الكلاسيكي إلى خلاف حول ما إذا كانت الأوامر معانيَ أبديةً أم أنها كلمات الوحي المحسوسة. ويمكننا أن نرصد استمرارية هذه الخلافات في حقل الأحكام الفقهية، داخل بعض الأعمال المنتمية إلى ما بعد الكلاسيكية المبكرة، مثل البيضاوي (ت1282م). انظر على سبيل المثال: عبد الله بن عمر البيضاوي، منهاج الوصول إلى علم الأصول، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، (بيروت: دار ابن حزم، 2008م)، ص53-54.
[20] النسخ (Abrogation): مفهوم نوقش ودُرس على نطاق واسع داخل التفاسير الإسلامية وعلم أصول الفقه. وهو يشير بشكل عام إلى فكرة استبدال نص قرآني، أو بالتحديد الأمر الصادر عنه، بنص آخر. وقد أثارت هذه النظرية العديد من الأسئلة المتعلقة بفهم الزمان والتاريخ. يمكن العثور على دراسة لفكرة النسخ في أصول الفقه عند الحنفية في:
Rumee Ahmed, Narratives of Islamic Legal Theory (Oxford University Press, 2012) at 52-66.
[21] في فلسفة الزمان، من الشائع التمييز بين الجوانب الكوزمولوجية والشخصية للزمان. فالأولى تتعلق بالزمان كحركة تاريخية: القدوم إلى الوجود والصيرورة المستمرة للعالم. فيما تتصل الثانية بالزمان كعنصر من عناصر الوعي البشري، لا يمكن فصله عن الأخلاق. انظر على سبيل المثال:
John Panteleimon Manoussakis, The Ethics of Time: A Phenomenology and Hermeneutics of Change (Bloomsbury Academic, 2018) at xiii.
ويمكن ملاحظة انقسام مماثل داخل العلوم التقليدية الإسلامية. فمن ناحية، تمتلئ المناقشات النصية والكلامية الإسلامية التي تكمُن وراء التقليد التشريعي وتخبر عنه، بالتأملات حول زمانية العالم وخلود الله، وتكرار الظواهر الطبيعية، وأهمية الاستقامة في العبادة، وحسن التوقيت في مسائل المعاملات. حيث كان الوجود في الزمان (الحادث)، في الخطاب الكلامي، هو السمة المميزة للمحايث، أو لغير الإلهي. ومن ناحية أخرى، ففي الخطاب الفقهي، كان الزمان وحسن التوقيت معيارين ضروريَّيْن للوفاء السليم بواجبات المرء، وهو العنصر الذي لا يتجزأ من الحياة الأخلاقية للبشر. إن التمييز بين عالم الحركة والزَمَانِيَّة (temporality) التي تحيط بالوعي الأخلاقي البشري والعالم الميتافيزيقي، والذي يضعه جون مانوساكيس في قلب الفكر المسيحي والأفلاطوني، كان حقيقة أيضًا في السياق الإسلامي. وقد لاحظ شتيرن (Stern) تمييزًا في المناقشات التفسيرية والكلامية حول الزمان بين الخلود، والعهود، والحقب الزمانية: "وفقًا للبيضاوي في كتابه "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، يتكون الزمان من المدة، وهي فترة دوران الحيز من البداية إلى النهاية (أي مجمل الزمان)؛ والزمان، وهو تقسيم إجمالي للمدَّة إلى فترات زمانية طويلة (على سبيل المثال، عصور تاريخية محددة مثل عهود السلالات الحاكمة)؛ والوقت، وهو تقسيم دقيق للزمان إلى نقاط زمانية محددة أو مدد زمانية قصيرة (على سبيل المثال، أوقات محددة للصلوات الخمس المفروضة)".
MS Stern, “Time in Islam” in Helaine Selin, ed, Encyclopedia of History of Science, Technology, and Medicine in Non-Western Cultures (Springer Netherlands, 2008) 2312 at 2132.
[22] Conklin, supra note 9 at 281-284.
[23] يمكن العثور على مستوى آخر من الانخراط في مسألة الأوامر الأخلاقية الإلهية فوق حياة البشر، والتي تُشكل الزمان، داخل الأدبيات الصوفية. وعلى الرغم من خروج هذا عن نطاق هذه الدراسة، تجدر الملاحظة بأن الوقت كان يُشار إليه أحيانًا في الأعمال الصوفية كسلسلة من الحالات العقلية التي تُحَدد أساسًا من خلال طاعة الله أو عصيانه. هذا الشعور الواسع بالمسؤولية للمتعبد يتناقض مع الحقوق «الشرعية»، التي كانت أكثر مرونة وأقل إلحاحًا. فعلى سبيل المثال، نقرأ في حِكَم ابن عطاء الله السكندري (ت1309م): "حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها؛ إذ ما من وقت يرد إلا ولله عليك فيه حق جديد وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره؟ وأنت لم تقض حق الله فيه؟". انظر: عبد المجيد الشرنوبي، شرح الحكم العطائية، (دمشق: دار ابن كثير، 1989م)، ص139. وقد أوضح شارح الحِكَم العطائية عبد المجيد الشرنوبي في تعليقه "أن الحقوق التي في الأوقات المعينة لها كالصلاة والصوم يمكن قضاؤها في وقت آخر لمن فاتته. وأما حقوق الأوقات، وهي المعاملات الباطنية التي تقتضيها أحوال العبد التي يكون عليها من نعمة وبلية وطاعة ومعصية فلا يمكن قضاؤها، لكون الوقت لا يخلو من حال منها، فوقت كل عبد ما هو عليه من تلك الأحوال". انظر: المرجع السابق.
[24] انظر:
Jeanette Wakin, “The Divine Command in Ibn Qudāmah” in Nicholas Heer, ed, Islamic law and Jurisprudence: Studies in Honor of Farhat J. Ziadeh (University of Washington Press, 1990) at 44-45.
وللحصول على دراسة أخرى تلقي الضوء على هذا البعد من نظريات الشريعة الإسلامية، انظر:
Aron Zyzow, The Economy of Certainty: An Introduction to the Typology of Islamic Legal Theory (Lockwood Press, 2013).
[25] Stern, supra note 21 at 2133.
[26] Ibid.
[27] على سبيل المثال، ورغم ملاحظته السليمة بأن الزمان كان بمثابة "ساحة للعمل الأخلاقي"، فإن شتيرن توصل بوضوح إلى استنتاج خاطئ مفاده أن: "ثمة تناقضًا ضمنيًّا فيما يتعلق بالسعي وراء المعرفة العلمية والتقانية. فبقدر ما يركّز المسلم وعيه على عظمة الله وقدرته المطلقة، يمكنه بسهولة الاستسلام لقبول جبري لما يقع له. ثم إنه يؤكّد إرادة الله المطلقة وينفي السببية في الطبيعة. وبدون أسباب ونتائج لا يوجد نظام طبيعي ضروري. وبقدر ما يرى الإنسان الزمان باعتباره حيزًا لعمله، فإنه يستطيع سماع الأمر القرآني بإدراك الله في خلقه. حيث يصبح استكشاف العالم عملًا من أعمال الامتثال الأخلاقي" (Ibid).
[28] منصور بن محمد السَّمعاني، قواطع الأدلة في الأصول، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م)، ج1، ص75. وقد رسم الفقيه الشافعي سيف الدين الآمدي (ت1233م) صورة مماثلة في وقت لاحق. انظر: سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: إبراهيم العجوز، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1985م)، ج1، ص387-388.
[بدءًا من هنا، أنقل المقتبسات الواردة في البحث من المصادر الفقهية المختلفة رأسًا من أصولها العربية، بدلًا من نقل الترجمة الإنجليزية لهذه النصوص، التي قام بها الدكتور عمر فرحات لتبسيط الصياغات الفقهية للباحثين في هذه اللغة. (المترجم)].
[29] أقول «تخطيطي للغاية» لأن هناك مجموعة من الخلافات داخل كل مذهب حول تفاصيل كل من تلك المخططات. على سبيل المثال، رأى بعض الشافعية البارزين أنه على الرغم من أن الأداء الفوري غير مطلوب، فعلى المرء أن تكون لديه النيَّة (العزم) لأداء الفعل في وقت لاحق إذا اختار الإرجاء. وفي هذه الحالة، تعمل النيَّة بديلًا للأداء الفعلي حتى يتم الامتثال للأمر. يمكن الاطلاع على نقاشات الشافعية بشأن ما إذا كانت النيَّة مطلوبة في حالة الإرجاء في: البيضاوي، منهاج الوصول إلى علم الأصول، ص61-62.
[30] يمكن فهم هذا التمييز أيضًا على غرار أفكار «المرحلة الزمانية» و«المدة الزمانية» التي طُورت في:
Liaquat Khan, “Temporality of Law” (2008) 40:1 McGeorge L Rev 55.
[31] أحمد بن علي الرازي الجصاص، أصول الفقه المسمّى الفصول في الأصول، تحقيق: عجيل جاسم النشمي، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الثانية، 1994م)، ج2، ص107. تم تحليل مسألة الطاعة «في أول أحوال الإمكان» بصورة أكبر في الفقه المتأخر. حيث تساءل الزركشي (ت1392م) عما إذا كان الواجب، بالمعنى المجرد، ينشأ بمجرد حلول الوقت المحدد، أم عندما يصبح الامتثال ممكنًا فحسب. وقد تخير الزركشي موقفًا من داخل آراء الشافعية، يذهب إلى أن الواجب الذي ينشأ مع حلول الوقت، "يستقر وجوبه" مع الإمكانية، وقد يُرجأ حتى القطعة الأخيرة من الزمان المحدد. انظر: أبو عبد الله بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق: عبد القادر عبد الله العاني، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1992م)، ج1، ص216-217. وسوف يُشرح الموقف القائل إنه من المقبول استقرار الوجوب مع السماح بتأجيل أدائه في سياق أفكار السمعاني.
[32] من الجدير بالملاحظة أن الخط الفاصل بين المناقشات الفلسفية والكلامية حول الزمان، وإن لم يكن محور تركيزنا هنا، لم يتم رسمه على الدوام بطريقة موحدة. فعلى سبيل المثال، يشير التهانوي إلى أن الفارق بين السرديات الفلسفية عن الزمان، التي تأثرت بالتقاليد اليونانية، في مقابل السرديات الكلامية التقليدية، التي اتكأت على مسألة وجود الزمان، لم يكن حول رؤية خطية في مقابل أخرى ذرية. حيث أوضح التهانوي في مدخله عن (الزمان) أن الرأي السائد بين «قدماء» الفلاسفة هو أن الزمان يتكون من «جوهر مجرَّد من المادة» وأنه «واجب بالذات»، وهي بالطبع وجهة نظر غير مقبولة للعديد من المتكلمين الذين آمنوا أن الله وحده هو واجب الوجود. انظر: محمد علي التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون، تحقيق: لطفي عبد البديع، (بيروت: دار صادر، 1963م)، ج2، ص619. كما ينقل التهانوي أيضًا الفكرة الأرسطية التي قالت إن الزمان هو طريقة لقياس (مقدار) حركة، كما نفت عنه الوجود المنفصل. في مقابل ذلك، اختلف المتكلمون حول ما إذا كان الزمان طريقة لقياس الوجود (مقدار الوجود)، أم أنه مجرد شيء متخيل (موهوم) يستخدمه الناس لبناء ماضٍ لم يعُد موجودًا ومستقبل لم يأتِ بعدُ. كما أوضح كذلك أن الأشاعرة من بين المتكلمين كانوا هم من اعتقد أن الزمان له وجود ذري، وأنه في حالة تجدُّد مستمر، وهي وجهة نظر تتماشى مع بعض مفاهيم الزمان التي نجدها في الفقه. انظر: المرجع السابق، ص619-621.
[33] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص107 (التشديد من عندي).
[34] مرجع سابق.
[35] في الأصل (t) وهي اختصار (time) أو "وقت" في كلام الجصاص الوارد داخل الفقرة نفسها. ومن ثَمَّ فإن الحرف "و" يرمز إلى "الوقت الأول"، فيما يشير "و+1" إلى "الوقت الثاني"، ويشير "و+2" إلى "الوقت الثالث"...إلخ. (المترجم)
[36] مرجع سابق، ص107-108 (والتشديد من عندي).
[37] مرجع سابق، ص108.
[38] هنا يؤكد الجصاص أن الأداء في أول أحوال الإمكان فحسب، هو (الأداء) المناسب الأساسي، في حين أن الأداء في أي لحظة تالية هو شكل من الامتثال الثانوي (القضاء). والتمييز بين الأداء والقضاء هو معيار مقبول في أعمال الفقه والشريعة الإسلامية. ولا يزال بإمكاننا رؤية بعض الفروقات الدقيقة في الطريقة التي فهم بها العلماء المختلفون هذا التمييز. حيث ميز العالم اللامع أبو حامد الغزالي (ت1111م) بين أنواع ثلاثة من الأداء: «الواجب إذا أدي في وقته سُمي "أداء". وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سُمي "قضاء". وإن فُعل مرة على نوع الخلل، ثم فعل ثانيًا في الوقت سُمي "إعادة"». انظر: أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: طه الشيخ، (القاهرة: المكتبة التوفيقية، 2010م)، ص137. ينطوي هذا الموقف ضمنًا على رأي الشافعية القائل إن أداء الفعل نفسه في أوقات مختلفة يشبه القيام بنفس الفعل، ما دام المرء يؤديه داخل النافذة الزمانية المخصَّصة. وقد تابع الغزالي السمعاني في رأيه (الذي نوقش أدناه) بأن الإحساس الذاتي بالاستحالة الوشيكة للأداء هو ما يضع قيدًا على الفترة الممتدَّة التي يمكن أن يحدث فيها الأداء. (مرجع سابق). وعلى الرغم من اعتراض السمرقندي (ت1089م) على أن الأداء في أي لحظة أثناء الفترة المحددة هو الأداء، فإنه قدم حُجة مثيرة للاهتمام مفادها أنه إذا بدأت الصلاة قبل وقت قصير من انتهاء مدتها لتمتد بذلك إلى فترة الصلاة التالية، فإن جزءًا منها يكون "أداء" والآخر "قضاء". ويبدو أن السمرقندي هنا يوسع طريقة السرخسي التي توازي الفعل في الزمان مع الأبواب المعيارية للفقه. انظر: علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول (المختصر)، تحقيق: محمد زكي عبد البر، (الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1984م)، ص215-216.
[39] لا تتماشى وجهة نظر الجصاص بشأن هذه المسألة إلا جزئيًّا مع سلفه البارز أبي الحسن الكرخي (ت952م). ففي حين قيل إن الكرخي يرى وجوب الطاعة الفورية للأمر غير المؤقت، وأشار إلى الزمان باعتباره سلسلة متتالية من الآنات، فإنه لم يَرَ بأن الالتزام الثانوي سيظل يتجدد إلى أجل غير مسمى طالما لم يتم الوفاء به كما فعل الجصاص. وقد جُمعت بعض حجج الكرخي من قبل حسين خلف الجبوري الذي نقرأ عنده: "مسألة: الأمر المطلق إذا لم يفعل المكلف مأموره في أول أوقات الإمكان، هل يجب فعله فيما بعد أم يحتاج إلى دليل؟ قال أبو الحسن الكرخي: إن الأمر لا يقتضيه بل يحتاج المكلف إلى دليل. وقد استدل الكرخي بالأدلة التالية، وهي: أولًا: بأنه ثبت أن مطلق الأمر يفيد إيقاع الفعل في الثاني، فلم يتناول فعله في الثالث. لأن أفعال العباد لا يجوز عليها التقديم والتأخير. ثانيًا: بأن الأمر المطلق يختص في أول أوقات الإمكان من جهة الوجوب والفور، كما يختص المؤقت بالوقت من جهة اللفظ. فإذا لم يتناول في المقيد ما بعد الوقت، كذلك في المطلق لا يتناول ما الوقت الأول". انظر: حسين خلف الجبوري، الأقوال الأصولية للإمام أبي الحسن الكرخي، (د.ن، 1989م)، ص47-48.
[40] محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، (حيدر آباد: لجنة إحياء المعارف العثمانية، 1993م) ج1، ص27. وقد قدَّم برنارد فايس شرحًا لفكرة المطلق في رأي الآمدي. حيث فسَّر (المطلق) جنبًا إلى جنب اصطلاح (العام) الذي دُرس على نطاق واسع. يقول: "من بين المهام القائمة التي كان على المجتهد التصدي لها، كانت واحدة بالغة الأهمية تتعلق بتحديد نطاق أو مدى تطبيق الأحكام. وقد تطلبت منه التعاطي مع نوعين مهمين من الاصطلاحات: اصطلاح "العام" واصطلاح "المطلق". فمن الأمثلة الجيدة على "العام" لفظة "السارق" في الآية القرآنية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] بينما المثل المناسب على "المطلق" هو لفظة "رقبة" (slave) في الآية القرآنية {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3].
Bernard G Weiss, The Search for God’s Law: Islamic Jurisprudence in the Writings of Sayf al-Din al-Amidi (University of Utah Press, 2010) at 382-83.
ويمكننا أن نعتقد من هذه الأمثلة أن العمومية تميل إلى وصف نطاق الأفراد أو الأفعال التي تفرض الأحكام عليها، في حين أن المقيد أو المطلق يتعلق بنطاق الرُّخَص أو الاحتمالات التي قد يتخذها الشخص أثناء امتثاله لأمر إلهي، الأمر الذي يُدخِل مسألة الزمان في نطاق المطلق/المقيد في مقابل العام/الخاص.
[41] السرخسي، أصول السرخسي، ص27.
[42] مرجع سابق.
[يشير الدكتور فرحات هنا إلى قول السرخسي: "فإن من قال لعبده: تصدَّق بهذا الدرهم على أول فقير يدخل، يلزمه أن يتصدَّق على أول من يدخل إذا كان فقيرًا، ولو قال: تصدق بهذا الدرهم، لم يلزمه أن يتصدَّق به على أول فقير يدخل، وكان له أن يتصدَّق به على أي فقير شاء؛ لأن الأمر مطلق، فتعيين المحل فيه يكون زيادة". انظر: أصول السرخسي، ص27. (المترجم)].
[43] أوضح التهانوي أن "الظرف" كان يُستخدم للإشارة إلى جملة معانٍ، بما في ذلك "شرط صحة الفعل، سواء في الزمان أو في المكان". انظر: التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون، ص933. وعندما يُستخدم "الظرف" للإشارة إلى مدة زمانية يمكن فيها أداء فعل ما بشكل صحيح، فإنه كان من الممكن تقسيم هذه المدة إلى أجزاء من بدايات ونهايات محددة، إضافة إلى تلك التي تكون غير واضحة أو غامضة. وتدلُّ مناقشة قطعة زمانية كشرط لصحة الفعل على التحول المهم الذي وقع بين المناقشات المتعلقة بالمفهوم المحض للزمان، والتي كانت سائدة في المحاورات الفلسفية، في مقابل المناقشات المتعلقة بالزمان الفقهي، والتي كانت معنية أساسًا بصحة الأفعال ووضعها الأخلاقي. انظر: التهانوي، مرجع سابق، ص933-936.
[44] السرخسي، أصول السرخسي، ص30.
[45] Adamson, supra note 18 at 67.
[الإشارة هنا إلى عبارة الفخر الرازي التالية: «إن مجيء الرجل مجهول، وطلوع الشمس معلوم، فيقرن هذا المجهول بذلك المعلوم ليصير ذلك المجهول بسبب هذا الاقتران معلومًا». انظر: فخر الدين الرازي، المطالب العالية من العلم الإلهي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، (بيروت: دار الكتاب العربي)، ج5، ص47. (المترجم)].
[46] ثمة خلفية مهمة لهذا التمييز، هي مناقشة أكثر جوهرية حول ما إذا كانت الواجبات المفروضة إلهيًّا لا يمكن العثور عليها إلا في كلام الله. فبالنسبة إلى بعض علماء بلاد ما وراء النهر، مثل أبي زيد الدبوسي (ت1038م)، فإن الحوادث غير المنصوص عليها، مثل دخول وقت الصلاة، تؤدي عمليًّا إلى الوجوب. وقد ناقش آرون زيسوف (Aron Zysow) هذا الجدل أثناء تحقيقه حول الجذور الكلامية لبعض المواقف الفقهية للحنفية، مشيرًا إلى التمييز بين شرط الأداء و«وجوب الأداء» في أصول الفقه لدى حنفية ما وراء النهر. وكان رأي زيسوف، الذي يؤكِّد تحليلي أعلاه، هو أن التمييز في بلاد ما وراء النهر بين الوجوب والأداء قد جرى تطويره استجابةً لبعض أنصار نظرية السبب (occasionalists) الذين جادلوا بأن تكرار الوقت يجلب معه تكرّر الوجوب بطريقة ذرية. لقد اعتقد الحنفية أن "أداء الواجب وحده هو ما يستند إلى خطاب الله. في حين أن وجوب الأداء على النقيض من ذلك، لا يصدر عن خطاب الله، كما هو الحال مع الغزالي. بل هو مبنيٌّ في داخل النظام الطبيعي للزمان والمكان، إذا جاز التعبير، وهذا على الرغم من أن معرفتنا بماهية الأزمنة والأمكنة التي أنشأها الله كأسباب يجب أن تستمدَّ في الحقيقة من مصادر نصيَّة. كان هذا هو جوهر نظرية آسيا الوسطى لأسباب الشرائع، مُجردًا من التفصيلات ودون الرجوع إلى الخلافات الداخلية".
Aron Zysow, “Muʿtazilism and Mātūrīdism in Ḥanafī Legal Theory” in Bernard Weiss, ed, Studies in Islamic Legal Theory (Brill, 2001) 235 at 259.
ويمكن معاينة رأي الحنفية في بلاد ما وراء النهر داخل نقاش الدبوسي للمصادر غير النصيَّة للحقوق والواجبات. حيث كانت وجهة نظره أن وجود شروط ملموسة للواجبات، مثل وقت الصلاة ودخول شهر رمضان، تُعَدُّ أسبابًا للواجبات، تؤدي إليها بصورة مستقلة عن الأمر الإلهي. انظر: أبو زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، تحقيق: خليل محيي الدين الميس، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2001م)، ص418.
[نظرية السبب: "السبب" في التعريف الذي اعتمدته الأكثرية من الأصوليين، هو "الوصف الظاهر المنضبط الذي دلَّ الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي". ومن الأمثلة عليه: "حصول النصاب، فإنه سبب في وجوب الزكاة؛ والزوال، فإنه سبب في وجوب الصلاة؛ والسرقة، فإنها سبب في وجوب القطع…إلخ". وقد سعى الحنفية -خصوصًا المنحدرين من بلاد ما وراء النهر- إلى تطبيق نظرية السبب على الزمان، كما تبيَّن من رأي الدبوسي الذي أبرزه الدكتور عمر فرحات في الحاشية السابقة، لاستنباط الحكم الخاص بالأوامر غير المؤقتة. (عن نظرية السبب، انظر الفصل المعقود للتعريفات الخاصة بـ"السبب" والفرق بينه وبين العلة في أصول الفقه، في: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن علي الربيعة، السبب عند الأصوليين، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، ج1، ص161-188). (المترجم)].
[47] يمكن أن يُعزى التمييز بين وقت نشوء الواجب وأدائه إلى المناقشات التي دارت داخل الفقه الحنفي ببلاد ما وراء النهر، لا سيما من جانب الدبوسي، حول الفرق بين الواجبات التي تفرضها الأحداث الطبيعية، والأوامر التي تفرض ضرورة الفعل. انظر:
Zysow, supra note 49 at 259-60.
ولن يعنينا هنا كثيرًا التمييز بين الأصول النصيَّة وغير النصيَّة للواجبات، على الرغم من أنه تجدر الإشارة إلى تخصيص السمعاني قسمًا مطولًا لدحض رأي الدبوسي القائل إن خطاب الله يفرض ضرورة الفعل، في مقابل الواجب نفسه. انظر: السمعاني، قواطع الأدلة في الأصول، ص292-301.
[48] السرخسي، أصول السرخسي، ص30.
[49] يكمُن وراء هذا التمييز بين الأوقات التي تؤدي إلى نشوء الواجبات وتلك التي هي معيار صحته، السؤال الأكبر حول ما إذا كانت المعايير يمكن أن تنشأ من الظروف الطبيعية بدلًا من كلام الله. ويظهر هذا الارتباط بوضوح أكبر لدى الفقيه العثماني الحنفي شمس الدين الفناري (ت1431م). فبعد التمييز بين الواجبات التي يتم تقييدها بالوقت وتلك التي ليست كذلك، يمضي الفناري للتمييز بين الوقت الذي يُمثل "ظرفًا" والوقت كـ"معيار". فالأول يميل إلى أن يكون أطول من مدَّة الأداء، في حين يتساوى الثاني مع هذه المدَّة بالتمام. انظر: محمد بن حمزة الفناري، فصول البدائع في أصول الشرائع، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006م)، ج1، ص218. وعند هذا الحد، لا يختلف الفناري عن رأي السرخسي. ويكمُن الجدل، بالنسبة إلى الفناري، في مسألة ما إذا كان دخول وقت معيَّن يتسبَّب في وجود الواجب أم لا. ويبدو أن الفناري هنا يتخذ موقفًا أكثر مساومة من سلفه الدبوسي من بلاد ما وراء النهر. حيث يؤكِّد أن "معنى سببته هنا أن الموجب وهو الله تعالى رتب الحكم الاصطلاحي وهو تعلق الإيجاب لا الحقيقي وهو نفسه، فإنه قد تم عليه لظهور تيسيرًا كما رتب الملك على الشراء والإحراق على النار عندنا، ونسبته أن حضور الوقت الشريف والبقاء إليه يصلح داعيًا إلى تعظيم الله بهيئة وضعت له أو دافعة لطغيان النفس بمنع سؤالها أو بذل شقيقها أو بالجمع بينهما" (الفناري، ص219). إن هذا، بالنسبة إلى الفناري، هو وسيلة لجعل الامتثال للأوامر الإلهية أيسر. وهذا لا يعني "حرفيًّا" أن هذا الوقت هو السبب الفعلي لوجود الواجب. (انظر: الفناري، ص218-219).
[50] السرخسي، أصول السرخسي، ص31.
[الإشارة هنا إلى قول السرخسي في المصدر المذكور: "ثم اختلف هؤلاء في صفة المؤدِّي في أول الوقت فمنهم من يقول: هو نفل يمنع لزوم الفرض إياه في آخر الوقت" (التشديد من عندي). (المترجم)].
[51] السرخسي، مرجع سابق.
[52] يشير استخدام «الفرض» هنا إلى أن هذا واجب لا لبس فيه، سواء في تفصيلاته المحددة أو في حُجية فرضه. فيما يتعلق بمفهوم "الفرض" في الفقه الحنفي، انظر:
Kevin Reinhart, supra note 39.
[53] يمكن معاينة الارتباط الوثيق بين فهم الزمان ولغة الوحي في آراء الفقيه الشافعي المتأخر سيف الدين الآمدي، الذي جادل بأن "المختار أنه مهما فعل، كان مقدمًا أو مؤخرًا، كان ممتثلًا للأمر، ولا إثم عليه بالتأخير... والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير، فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان، مقدمًا أو مؤخرًا، كان آتيًا بمدلول الأمر، فيكون ممتثلًا للأمر ولا إثم عليه بالتأخير، لكونه آتيًا بما أُمِرَ به على الوجه الذي أمر به". انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص388.
[54] السمعاني، قواطع الأدلة في الأصول، ص78.
[55] مرجع سابق.
[56] مرجع سابق، ص81 (التشديد من عندي).
[57] يناقش رومي أحمد (Rumee Ahmed) فكرة "الوضع" في الفقه الحنفي. ويصف الكلمة بشكل صحيح على أنها تعني "المدلول" (referent)، وذلك على الرغم من أنني اخترت لها هنا ترجمة مختلفة (assignment = التخصيص) بما أن السمعاني -على خلاف الفقهاء الحنفية الذين ناقشهم أحمد- كان قد قام بمركزة تحليلاته على الكلمات نفسها وإشاراتها الوضعية، كما فصلها عن أي فكرة محتملة حول النيَّة. انظر:
Ahmed, supra note 15 at 37-38.
كذلك التقط برنارد فايس فكرة التخصيص الوضعي أو الاصطلاحي لمعاني اللغة، مشيرًا إلى "الوضع" باعتباره "اللحظة الأولية في اختراع" المعاني اللسانية (Weiss, supra note 34 at 433). وفي مكان آخر، يستخدم فايس أيضًا مصطلح "التخصيص"، كما فعلت أنا، للإشارة إلى "الوضع". انظر:
ibid at 323.
وفي مقالة عن "الوضع" داخل العلوم الفيلولوجية الإسلامية، يوضِّح فايس أنه في حين أن الطريقة التي تصبح بها اللغة «موضوعة» أو «مخصصة» للمعاني قد نوقشت في هذه العلوم الكلاسيكية، فإن هذه المسألة لم يتم تسويتها أبدًا. انظر:
Bernard G Weiss, “ʿIlm al-waḍʿ: An Introductory Account of a Later Muslim Philological Science” (1987) 34:3 Arabica 339.
وقد أشير إلى هذه المناقشات أحيانًا في الأعمال الفقهية. فعلى سبيل المثال، أوضح السمرقندي بإيجاز أن البعض -خصوصًا من ذوي الميل المعتزلي- قد اعتقدوا أن اللغة هي بنية اجتماعية "أي اصطلاحية"، فيما رأى آخرون أن المعاني كلها قد حُدِّدَت في الأصل من قِبَل الله "أي توقيفية". انظر: السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، ص388-391.
[يشير الدكتور عمر فرحات بكلامه عن "وضع اللغة" إلى خلاف علماء المسلمين حول أصل اللغات. حيث يقول السمرقندي إن عامَّة المعتزلة وبعض الفقهاء وصفوا اللغات بأنها "اصطلاحية"، أي اصطلاحات وأسماء "مُحدَثة" وضعها البشر للدلالة على كل الأشياء المحسوسة في العالم، وذلك في مقابل عامَّة المتكلمين من أهل الحديث، وعامَّة أهل الحديث من الفقهاء وأهل التفسير، الذين وصفوا اللغات بأنها "توقيفية"، أي "قديمة/أزلية" وضعها الله تعالى قبل الخلق نفسه، وعلَّمها للإنسان فور إنشائه وتكوينه. انظر: السمرقندي: ميزان الأصول في نتائج العقول، ص388-389. (المترجم)].
[58] يبدو أن الرأي القائل إن الزمان ليس بالضرورة حاسمًا لطبيعة الفعل، قد ظل باقيًا في الأعمال المتأخرة، كما رأينا في "الإحكام" للآمدي، حيث كتب أن "الزَّمَان وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ مِنَ الشَّيْءِ أَعَمُّ مِنَ الدَّاخِلِ فِي مَعْنَاهُ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْآلَةُ فِي الضَّرْبِ، وَلَا الشَّخْصُ الْمَضْرُوبُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ." (الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص388). ومن الواضح أن الآمدي قد واصل التمسُّك بمقاربة السمعاني حول إمكانية فهم الزمان من خلال القياس على شروط الفعل الأخرى، مثل الأدوات المستخدمة لأداء الفعل. مع إضافته إلى هذا الرأي فهمًا أكثر تفصيلًا لطبيعة المعايير المفروضة إلهيًّا؛ إذ هي بالضرورة توجيهات عامَّة. ولا يمكن لأي معيار عام أن يُحدد جميع التفصيلات المطلوبة في أداء الفعل. ومن ثَمَّ فإن كل هذه التفاصيل متروكة لاجتهاد المأمور (مرجع سابق). وفكرة أن معظم التفاصيل المحددة للفعل إنما تفلت من الحيز المعياري لأوامر الشرع، قُدمت بصورة أكثر مباشرة من قِبَل بدر الدين الزركشي الذي قدَّم الحجج بأن "مُعْظَم الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ عَلَى التَّخْيِيرِ، إلَّا مَا شَذَّ وَنَدَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَيِّ مَاءٍ شَاءَ، وَيُصَلِّي فِي أَيِّ مَكَان مَعَ أَيٍّ لَبُوسٍ شَاءَ؟ وَمَنْ لَزِمَهُ عِتْقٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ مِنْ أَيِّ الرِّقَابِ الْمُجْزِئَةِ؟ وَمَنْ لَزِمَتْهُ الصَّدَقَةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَعْيَانِ الدَّرَاهِمِ". (الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ص202).
[59] السمعاني، قواطع الأدلّة في الأصول، ص84 (التشديد من عندي).
[60] لاحظت جانيت واكين (Jeanette Wakin) وجهة نظر مماثلة في عمل الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "جادل خصوم ابن قدامة بأن الأمر {أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] يجب أن يكون قابلًا للتطبيق بشكل عام في جميع الأوقات؛ لأنه مُضاهٍ لاستخدام تعبير جمعي للتطبيق على جميع الأفراد في فئة معينة. ويجيب ابن قدامة أن الأمر لا يقدم إشارة إلى الزمان، وإنما الزمان -على شاكلة المكان- هو إحدى الصفات البدهية للأمر (ضروراته). ومثلما لا يستطيع الإنسان أداء فعل ما في كل الأماكن، فإنه لا يستطيع أن يؤديه في كل الأوقات" (Wakin, supra note 18 at 44). إن التشابه في التعاطي مع الزمان كواحد من بين العديد من الصفات المحتملة للفعل يُعَدُّ أمرًا واضحًا. والأهم من ذلك أن واكين تربط هذه الحجة بالإيمان بـ"تحررنا الأصلي من المسؤولية المجردة"، والتي جادلت بأنها "فكرة مهمة في مذهب الحنابلة" (ibid at 45)، أو بعبارة أخرى، فإن الحنابلة من أمثال ابن قدامة اعتبروا عدم المسؤولية في الزمان ظرفًا إنسانيًّا ضمنيًّا لا يمكن تغييره إلا بصورة استثنائية وبطرق محددة من خلال الوحي الإلهي. انظر:
ibid at 44-45.
[61] حول الارتباط الوثيق بين المعتزلة وحنفية العراق بشكل عام، انظر:
Aron Zysow, supra note 49 at 235-236.
وقد ضمَّ زيسوف الجصاص إلى حنفية العراق الذين كانوا "معتزلة، وإن لم يكونوا من مشاهير المتكلمين الذين حُفظت آراؤهم في علم الكلام داخل التراث المعتزلي" (Zysow, Ibid at 236).
[62] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص108 (التشديد من عندي).
والرأي المعاكس، الذي قدَّمه على سبيل المثال سيف الدين الآمدي، يفترض أن أداء الفعل لا يستلزم في حد ذاته الأداء خلال وقت محدد: "يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي، ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين، والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل؛ لأن الأصل عدم ما سواه، فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين، دون ما به الاقتران من الزمان وغيره نفيًا للتجوز والاشتراك عن اللفظ". (الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص388). والآمدي، مثل السمعاني، يلحق الآثار الزمانية لكلام الله بفئات لغوية محددة. والجدير بالذكر أن كلًّا من الآمدي والجصاص قد طورا مواقفهما كإشارة إلى المعنى الضمني. بالنسبة إلى الجصاص، فالمعنى الضمني هو الأداء الفوري، وبالنسبة إلى الآمدي، فهو مجرد أداء بغض النظر عن الوقت. ويبدو أن هذا الاختلاف يعتمد في النهاية على المفاهيم المختلفة للزمان عند كليهما: فواحد كان الزمان لديه سمة من سمات الفعل التي لا تغيّر بالضرورة طبيعته، والآخر كان الأداء في وقت مختلف يعني بالنسبة إليه القيام بعمل مختلف تمامًا. انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص388. والفكرة القائلة إن مجرد الأمر يشير فقط إلى أداء الفعل نفسه كان قد عبّر عنها أيضًا تاج الدين السبكي. انظر: تاج الدين السبكي، جمع الجوامع في أصول الفقه، تحقيق عبد المنعم خليل إبراهيم، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002م)، ص42.
[63] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص107. كانت فكرة أن الله يأمرنا بطاعة أوامره راسخة على نطاق واسع في علم كلام المعتزلة وأصول الفقه. انظر: مانكديم، [تعليق على] شرح الأصول الخمسة [للقاضي عبد الجبار]، تحقيق: عبد الكريم عثمان، (القاهرة: مكتبة وهبة، 1965م)، ص533. (حُذفت الأجزاء الموضوعة بين معقوفتين من عنوان هذه الطبعة بشكل خاطئ). أما في الفقه المعتزلي، فيمكن العثور على هذا الموقف في أعمال أبي الحسين البصري (ت1044). انظر: أبو الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي، كتاب المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: محمد حميد الله ومحمد بكر وحسن حنفي، (دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1964م)، ج1، ص49.
[يمكن الاستفادة في هذا الباب من تحليل أبي الحسين البصري للفظة "أمر"، ونقاشه الموسع للفكرة القائلة "إن الله يأمر بالطاعة" ولا "يريدها" في: كتاب المعتمد في أصول الفقه، ج1، ص50-56. (المترجم)].
[64] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص107.
[65] مرجع سابق.
[66] مرجع سابق، ص109.
[67] مرجع سابق.
[68] إحدى الصعوبات في هذه الحُجة، التي تتعامل مع فورية الأمر الأعلى كنوع من الحقيقة الاجتماعية الواضحة، هي أن الروايات الخاصة بما هو صحيح اجتماعيًّا أو عُرفيًّا يمكن أن تختلف من دون إمكانية التحقق. فعلى سبيل المثال، قال سيف الدين الآمدي ببساطة، ردًّا على هذه الحجة، إنه يسلم بـ"صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة دون المطلق، والأمر فيما نحن فيه مقيد، ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر العبد بقوله: (إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعوى حاجته إليه في الحال)، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر". الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص391. أما ما يتعلق بالادعاء بأنه من "الحكمة" طاعة الأوامر الإلهية على الفور، فإن الآمدي يجيب عنه بطريقة أعادت ترديد آراء السمعاني ضد التأويل المفرط: "قَوْلُهُمْ: الْقَوْلُ بِالتَّعْجِيلِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ، قُلْنَا: الِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ الْمُكَلَّفِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ: فَإِنْ ظَنَّ الْفَوْرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ ظَنَّ التَّرَاخِي، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّرَاخِي، فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّعْجِيلِ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، يَكُونُ حَرَامًا وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ يَكُونُ إِضْرَارًا، فَلَا يَكُونُ احْتِيَاطًا". (مرجع سابق).
[69] أي أولئك الذين يؤثرون اتباع الدلالات الظاهرة والمباشرة لألفاظ الوحي القرآني وفقًا للمنهج السيمانطيقي (الدلالي)، على غرار السمعاني في هذه المقالة. (المترجم)
[70] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص123. هناك موقف آخر بشأن الواجب المقيد والموسع يتعلق بالفقيه الشافعي المتأخر الزركشي، الذي يرى أنه يمكن تأجيل الأداء خلال النافذة الزمانية المحددة بشرط سلامة الحالة العقلية الداخلية للشخص أو وجود نيته للأداء (العزم) في أثناء اللحظة اللاحقة من الزمان. ويبدو أن هذا الموقف الذي يظهر بشكل أكثر بروزًا في النصوص المتأخرة، إنما يسعى إلى التوصل لحل وسط بين المعنى الواضح للواجب الممتد والآثار الأخلاقية الذاتية للإرجاء الواعي لفعل أمر به الله. وقد بدا الزركشي مُدركًا انحراف هذا الموقف عن بعض الحجج التي قدمها بنفسه. انظر: الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ص209-210.
[71] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص124.
[72] مرجع سابق.
[73] تؤكد الأدبيات الشافعية المتأخرة أن الحجة التي تفيد بأن الفعل لا يصبح واجبًا إلا عندما نقترب من الموعد النهائي، هي أكثر شيوعًا في الفقه الحنفي. فقد عزا الزركشي هذا الرأي في المقام الأول إلى الحنفية، ولكنه لاحظ أيضًا أن هذا هو موقف الفقيه الشافعي/الأشعري البارز إمام الحرمين الجويني (ت1085م)، إلى جانب العديد من الفقهاء الذين يحملون آراء المعتزلة. كما أكَّد الزركشي أيضًا -كما سنرى- أن الكرخي والسرخسي والعديد من الشافعية قد رأوا أن الأداء يُستحق طوال الفترة الزمانية بطريقة موسعة. انظر: الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، ص214.
[74] يؤكّد الجصاص على أن الأمر هو تعبير عن الإرادة الإلهية التي تخلق ضرورة الفعل في أول لحظات الإمكان، معتبرًا كل هذه الحجج غير كافية. انظر: الجصّاص، الفصول في الأصول، ص124.
[75] كما رأينا، اعتقد السرخسي أن الواجب موجود بطريقة مستقرة على مدى فترة زمانية محددة: "الذي يصحُّ عندي فيه من مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي، فلا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر". (السرخسي، أصول السرخسي، ص26).
[76] مرجع سابق.
[77] مرجع سابق، ص27.
[78] مرجع سابق، ص26.
[79] مرجع سابق.
[80] السمعاني، قواطع الأدلّة في الأصول، ص81.
[81] مرجع سابق.
[82] يبدو أن برنارد فايس قد فهم أيضًا موقف الآمدي، الذي يتبع فيه السمعاني إلى حد كبير، باعتباره محاولة لقصر معنى الأمر على مجرد أداء الفعل دون وضع الكثير من الافتراضات عليه: "إن صيغة الأمر (افعل) -كما يجادل- هي إشارة ظاهرية على الدعوة إلى فعل ولا شيء آخر. ولما كان الأمر كذلك، فعلينا كلما واجهنا صيغة الأمر (افعل) أن نفترض من حيث المبدأ -في غياب دليل سياقي يناقض ذلك- أن المتكلم لا يقصد أمرًا بَرّانِيًّا بهذا المعنى البسيط... وعلاوة على ذلك، يجوز تمامًا... أن يستخدم المرء الصيغة (افعل) ليأمر إما بالقيام بعمل ما على الفور أو القيام به في وقت فراغ المأمور. وبما أن السياق هو الذي سيشير إلى أيٍّ من هاتين الحالتين المقصودتين، فيجب علينا أن نعتبر الصيغة (افعل) إشارة في حد ذاتها إلى ما هو مشترك بين هاتين الحالتين فحسب، أي المفهوم البسيط للدعوة إلى فعل بمعزل تام عن مسألة التوقيت".
Weiss, supra note 34 at 370-371.
[83] السمعاني، قواطع الأدلّة في الأصول، ص82.
[84] مرجع سابق.
[85] مرجع سابق، ص83. لحجة مشابهة، انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ص391.
[86] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص112.
[87] قدَّم الدبوسي ردًّا مباشرًا على حجَّة الجصاص، دحض خلاله الرأي القائل إن مجرد الأمر الإلهي يستلزم الامتثال الفوري، وموضحًا أن الجصاص كان مخطئًا في اعتقاده أن الواجب يؤدي بشكل قطعي إلى النهي عن الإغفال في جميع الأوقات: "وأما أبو بكر الجصاص فقد ذكر في "أصوله" أن الأمر المطلق على الفور؛ لأن الأمر اقتضى نهيًا عن ضده، والنهي عن مطلق الفعل يوجب موجبه على الفور، فكأنه ذهب إلى أن الفعل إذا وجب الإتيان به حرم تركه ضرورة واقتضاء، والحرمة حكم النهي فيثبت النهي عن ضده اقتضاء. وأما الثالث فوجهه: أن وجوب الفعل يدل على حرمة الترك ضرورة، كما قاله أبو بكر، إلا أن الحرمة التي تثبت ضرورة لا تكون كالتي تثبت بالنص عليها بالتحريم أو النهي... لأن الثابت بالنص يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة، والثابت بالضرورة يثبت بقدر ما ترتفع به الضرورة، والضرورة ترتفع بكون ضده مكروهًا لقبح في غيره، وإن كان في نفسه حسنًا كالصلاة في أرض مغصوبة، إلا أنا نقول إن الثابت بهذا الطريق يكون بالاقتضاء دون الدلالة". انظر: الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، ص48.
[88] الجصّاص، الفصول في الأصول، ص108.
[89] مرجع سابق، ص105.
[90] قدَّم السمرقندي حجَّة لترخيص "التخيير" خلال الوقت المحدد، مُجادلًا بأن الأدلة النصيَّة على فرض الصلوات تُظهر أن الفعل مطلوب طوال الفترة الزمانية، التي تستمر في العادة لعدة ساعات. وبما أن الصلاة تستغرق بضع لحظات، فسيكون لنا ما يبرر اختيار اللحظة المناسبة للأداء في غضون النافذة الزمانية. فيما يصبح الأداء مستحقًّا على الفور قرب نهاية الفترة الزمانية (وليس -كما اعتقد السمعاني- عندما يشعر المرء ذاتيًّا بإمكانية عجزه عن الأداء). انظر: السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، ص219-220.
[91] السمعاني، قواطع الأدلّة في الأصول، ص82.
[92] مرجع سابق.
[93] مرجع سابق.
[94] مرجع سابق.
[95] أوضح فيليسيتاس أوبويس (Felicitas Opwis) أنه حتى في زمن الجصاص، كانت "المصلحة" لا تزال مفهومًا مثيرًا للجدل إلى حد كبير، بما في ذلك داخل المناقشات الحنفية. انظر:
Felicitas Opwis, Maṣlaḥa and the purpose of the law: Islamic discourse on legal change from the 4th/10th to 8th/14th century (Brill, 2010) at 17-18.
وانظر أيضًا في مكان آخر من الكتاب نفسه، خصوصًا الفصل الأول، للحصول على دراسة مستفيضة لتاريخ مفهوم "المصلحة" في علم أصول الفقه. وعن تطوير نظرية "مقاصد" الشريعة في القرن الثامن الهجري، انظر:
Wael B Hallaq, A History of Islamic Legal Theories: An Introduction to Sunni Usul al-Fiqh (Cambridge University Press, 1997) at 163-203.
[96] السرخسي، أصول السرخسي، ص27.
[97] تجدر الإشارة إلى أن الجصاص جادل أيضًا بأن معظم الواجبات التي يفرضها الله إنما ترتكز على فكرة المصلحة البشرية، على الرغم من أنه لم يُقدم ذلك كعنصر أساسي في مناقشته لضرورة أداء الأوامر على الفور. وفي سياق مناقشته للمعايير المفروضة إلهيًّا والتي يمكن تغييرها أو نسخها، أوضح الجصاص أن بعض الأوامر والنواهي قد لا تتغير بحكم كونها جيدة أو شريرة بصورة قطعية: «كَتَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ». وعلى العكس من ذلك، فإن هناك العديد من الأفعال التي يمكن أن يُدرك بالعقل أنها قد تكون مفيدة في بعض الأحيان وألا تكون كذلك في أحايين أخرى. وتندرج معظم الواجبات في هذا الباب؛ ولذا فمن الجائز أن ينسخ الله جميع واجبات العبادة إذا أصبحت -نتيجة أي سياق معين- غير مفيدة للبشرية. انظر: الجصّاص، الفصول في الأصول، ص203-204.
[98] السرخسي، أصول السرخسي، ص27.
[99] استمرت هذه الفكرة القائلة إن الواجب بمعناه الحقيقي يمتدُّ على فترة زمانية كبيرة في رأي الحنفية ببلاد ما وراء النهر. وذلك كما نرى -على سبيل المثال- في كتابات السمرقندي. وتجدر الإشارة بشكل خاص في معالجة الأخير لمسألة الزمان في الأوامر الإلهية إلى رؤيته للزمان كواحد من «أقسام» الأمر. حيث يبدو أن القلق الحنفي العميق بشأن الآثار الأخلاقية للأداء الفوري أو المُرجأ، قد تطور إلى بنية محددة للنقاش حول الأوامر الإلهية التي أدرجت الوقت كقسم مركزي. وعلاوة على ذلك، يؤطر السمرقندي حجته بالكامل تقريبًا باستخدام لغة المسؤولية الأخلاقية: "والصحيح مذهب عامة المشايخ رحمهم الله؛ لأن الأمر مطلق عن الوقت، وليس البعض بأولى من البعض، فيجب على الفعل في مطلق الوقت، ولا يجوز التقييد إلا بدليل. ولا يقال: إن التقييد ثبت بدليل، فإن الواجب ما يأثم بتركه ولا يباح تأخيره." انظر: السمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول، ص210-213 (التشديد من عندي).
[100] Weiss, supra note 34 at 341-42.