مسالك الحجج الدستورية
لم تكن أساليب الحجة الدستورية[1] -التي يمكن تسميتها: تاريخية أو نصية أو عقدية أو بنيوية أو تحوطية أو أخلاقية- مدبرةً سلفًا. لقد نمت هذه الحجج في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تاريخنا وتقاليدنا، وطبيعة الناس الذين كانوا وما زالوا. وإلى هذا الحدِّ لا تزال هذه الحجج تعسفية واختيارية، كما أنها ليست في جميع الثقافات على حدٍّ سواء. وسأبدو مندهشًا إذا كانت مختلفة جدًّا في كندا؛ لأن الكنديين والأمريكيين يشتركون في كثيرٍ من التقاليد القانونية.
وعلى أية حال، من السهل أن يتخيل المرء ثقافاتٍ حول العالم ليس لمثل هذه الحجج القانونية فيها القوة القطعية أو شيء يُذكَر. بل إن المرء ليتخيل بعض الحجج ليس لها أيُّ صدى في نظامنا القانوني، ولكنها مشروعة أو مُقنعة في أنظمة أخرى. إن الحجة الدينية للقرآن -على سبيل المثال- لها سلطة حاسمة في إيران حاليًّا بخلاف خمس عشرة سنةً خلت، وليس لها ذلك مطلقًا في المحاكم الأمريكية والكندية.
كل مجتمع لديه دستور، حتى لو لم تكن كل المجتمعات دولًا. كل المجتمعات، بما في ذلك الإمبراطورية الرومانية، والكشافة، والمافيا، ونادي لعب الورق، ونزلاء السجن، كل هؤلاء لديهم دستور، ولكن القليل منهم لديه دستور مكتوب. ولكن لماذا؟
عندما وقَّع المهاجرون على اتفاقية ماي فلاور (Mayflower compact)[2]، كان توقيعهم على دستور مكتوب. والمثال الأكثر تأثيرًا الذي يمكنني التفكير فيه هو عندما أعطى القديس فرنسيس (Saint Francis) لكلير دي شيفي (Clare de Scifi) "شكلًا من أشكال الحياة" لطلبها أن تكون راهبة، وكان هذا دستورًا مكتوبًا. ولكن، لماذا طال الزمن بالدول حتى دوَّنت تنظيماتها؟ أظن أن لهذا علاقة بـ"أغراض" الكتابة القانونية، أو بعبارة أدقَّ: الغرض من تقليص التنظيم إلى الكتابة.
وكما يعلم أيُّ محامٍ، فإن وظيفة الوثيقة المكتوبة هي حصر حرية إرادة الأطراف. فالعقود تُحدِّد السعر بدقَّة؛ لأن السعر متقلِّب في السوق ونحوه في نهاية المطاف، والأطراف لهم الحرية في متابعة السعر. ولهذا جرى الافتراض طويلًا أن الدستور المكتوب يتعارض مع فكرة سيادة الدول. فمثل هذه الدول لن تصبح ذات سيادة إذا وافقت على وثيقة عُليا مكتوبة. وكان المستقر عالميًّا أن أيَّ دولة يمكنها التخلي عن أيِّ معاهدة أبرمتها بغض النظر عن أي شروطٍ تمنع التنازل. لأن أيَّ دولة تحدِّد التزاماتها على نحوٍ لا رجعة فيها، وتضع حدودًا دائمة على ممارسة سلطاتها، ستجعل من نفسها ناقصة السيادة، وستصبح موافقتها على المعاهدة حينئذ غير صالحة.
لم يكن الابتكار الأمريكي كتابة الدستور بذاته؛ بل النظرية السياسية التي تمَّ بموجبها تجسيد الدولة، وجعلها -من ثَمَّ- مجرَّد أداة لسيادة منفصلة. إن السيادة تكمُن في الشعب الذي جعل من الدستور المكتوب أمرًا ممكنًا. ومن ثَمَّ فإن السلطة التي في يد الدولة تابعةٌ لأنها بواسطة القانون. وحتى تتضح الفكرة بشكل قانوني أكثر، فإن الدستور المكتوب عبارة عن سند ائتمان. فهو يحدِّد السلطة التي يملكها الأمناء، ويمنح الوكلاء سلطة معيَّنة مُفوَّضة من قِبَل الواهب الذي أسَّس الصندوق. ولكن لو كان الأمناء هم أنفسهم الواهبين، فربما يعيد "الوكلاء" النظر في البنود المتعلِّقة بسلطتهم.
إذن، الدستور المكتوب ليس مجرَّد مجموعة من القواعد فحسب، بل هو أيضًا طريقة تعبير عن كيفية إنشائها. ويعتمد هذا الأخير على الفصل بين صاحب السيادة (الممنوحة من قِبَل المؤسس) وأجهزة الدولة (الوكلاء)؛ ولهذا كتب جفرسون (Jefferson): "إن أمننا المميز في الولايات المتحدة يعتمد على وجود دستور مكتوب"[3].
من خلال الاعتماد على وثيقة مكتوبة لحماية المشروع وإتمامِه، أدخل المؤسسون طرائق الحجج الدستورية في السياسة الأساسية لدولتنا. لقد كان هذا هو الابتكار الأمريكي: أخذ أساليب القانون العام في الحجج التي كانت تُستخدم حتى الآن لتفسير الأفعال والوصايا، وتسويات الملكية، والائتمانيات، والعقود، وتطبيق هذه الأساليب على الثقة الكبيرة التي أنشأها الشعب: الحكومة التابعة.
ونتيجةً لهذا الانتقال، طوَّرت التقاليد القانونية في الولايات المتحدة هذه الأساليب من الحجج عن طريق أخذها من القانون العام. ومن نتائج خضوع الدولة لوثيقة مكتوبة أيضًا: الاعتماد الحتميّ للمراجعة القضائية، أي مراجعة المحاكم لأعمال الحكومة للتأكُّد من دستوريتها. وحين تخضع المحاكم أيضًا لدستور مكتوب، فإن السلطة الوحيدة التي تملكها هي تطبيق القوانين الدستورية.
ولتحقيق التوازن في هذه الورقة، سأوصّف أنواع الحجج الدستورية مع التمثيل لها: الطريقة الأولى التي سأتحدَّث عنها هي الحجة التاريخية[4]، التي قد تُعَدُّ الأكثر تداولًا لكونها تتبوَّأ الموقع المركزي في نقاشاتنا الدستورية.
الحجة التاريخية عبارة عن الرجوع إلى نوايا واضعي الدستور والمصدقين عليه. إن تأكيدي على المصدقين لأنهم الطرف الحاسم هنا. فقد كان واضعو الدستور الأمريكي مجرَّد محامين. فلم يكن لديهم أيُّ سلطة سياسية لصياغة دستور أو اقتراحه؛ فضلًا عن أن يكونوا مُخوَّلين لتبني دستور. تكمُن أهمية تصريحات المصدقين -خاصةً تصريحاتهم في الأوراق الفيدرالية[5] لا في المؤتمر- في كونها بمثابة إعلان للمصدقين الذين وقَّعوا على الاتفاقية. ما ظنَّه المصدقون أنهم سيأخذون، هو ما يجعل نوايا واضعي الدستور أمرًا مهمًّا من الناحية القانونية.
تلتبس الحجة النصية مع الحجة التاريخية بسهولة. فغالبًا ما يتفوَّه الساسة بإيمانهم بأن التاريخ والنص، أو بعبارة أخرى، بأن التاريخ والنص والبُنية القانونية هي المسالك الشرعية لصنع القرار الدستوري. ولكن هذه الأشكال من الحجج في واقع الأمر متباينة. وتجلّي القصة الآتية الفروقَ بينها.
أكَّد المصدقون في الأوراق الفيدرالية[6] على امتناع رفع دعوى على ولاية ما في المحاكم الفيدرالية. يمكن للمرء أن يتخيل كيف كانت هذه المسألة محلَّ اهتمام للولايات، لا سيما بعد إصدارها عملاتٍ أصبحت في ذلك الوقت عديمة القيمة، وأخذها ديونًا كبيرة خلال فترة الثورة، وهي ديون متضخمة تريد الولايات الخروج منها.
في قضية تشيزولم ضد جورجيا (Chisolm v. Georgia)[7]، قبلت المحكمة العليا قضية مرفوعة على ولاية جورجيا من مواطنين ليسوا من أهلها. وقد اشتاطت الولايات غضبًا لمثل هذا. ونتيجة لذلك، تم تمرير التعديل الحادي عشر "بسرعة شديدة"، حسب تعبير القاضي فرانكفيورتر (Frankfurter)[8]. وردًّا على ذلك، أصدر المشرعون الغاضبون في ولاية جورجيا قانونًا مفاده أن أيَّ شخص يحاول تطبيق هذا التعديل من قضية تشيزولم سيُطرَد، ولن يكون في جنازته شعائر دينية[9].
ينصُّ التعديل الحادي عشر على أن مواطني ولايةٍ ما ليس بمقدورهم رفع دعوى على ولاية أخرى في محكمة فيدرالية[10]. ولكن مثل عديد من الأمور التي تم وضعها بشيء من السرعة، كان تشريع التعديل الحادي عشر غير مبالٍ به. وفيما بعد، رفع مواطن دعوى ضد ولايته في محكمة دستورية؛ ولم يكن هذا الأمر بجلاءٍ من مقاصد الدستور. وقد تعاملت المحكمة مع هذا الوضع عن طريق اللجوء إلى الحجة التاريخية. وبغضِّ النظر عن طريقة قراءة النص، فقد كان ما يقصده واضعو الدستور والمصدقون أمرًا معلومًا. ولا يزال هذا الموقف هو المعمول به حتى اليوم.
كانت الحجة البنيوية أمرًا مهمًّا في الولايات المتحدة أثناء الصراع الدائر حول الفيدرالية في السنوات الستين الأولى من توحيد الولايات المتحدة، وعادت من جديد لقائمة الصدارة في العقد الأخير. وتُعَدُّ أفضل الأحكام البنيوية تلك التي كتبها القاضي مارشل. ج (Mar-shall. J)، وسيطلع أولئك الذين باستطاعتهم قراءة قضية ماكولوش ضد ميريلاند (McCullouch v. Maryland) [11]على نماذج مبهرة من الحجج البنيوية.
يعتمد هذا النوع من الحجج على الاستنباط المباشر لبنية الدستور مع سياق مواده اللازمة. سأعطي مثالين لهذه الحجَّة: الأول مأخوذ من قضية كارينجتون ضد راش (Carrington v. Rash)[12]. كان لدى ولاية تكساس -الولاية التي وُلِدت فيها وترعرعت- قانونٌ ينصُّ على أن الأشخاص في القوات المسلحة الذين عاشوا في الولاية لمدَّة تقلُّ عن عامين لا يمكنهم التصويت في الانتخابات المحلية[13].
إن امتلاك القدرة على تحديد التخصيص المالي للموظفين والسلع والخدمات أمر بالغ الأهمية للولاية من حيثُ كونها ولاية. وهذا هو محلُّ النزاع بلا ريب.
ومع عقلانية هذا القانون، كما يمكن للمرء تخيله، فإن العديد من مؤسسات الدفاع تقع في المناطق الريفية من ولايتي (تكساس)، حيث توجد مدن صغيرة محافظة، ويمكن للمرء أن يتخيل أيضًا أنواع القوانين البلدية التي قد يرغب خمسة آلاف رجل في الثامنة عشرة من العمر في صياغتها.
ومع ذلك، فقد أُلغي القانون لأسباب بنيوية: فلا يمكن ربط عقوبة بالخدمة الفيدرالية. وكان الاستدلال يسير على النحو التالي، ويوضِّح النمط المميز للحجة البنيوية:
- إذا كانت الحكومة الفيدرالية هي العليا، فلا يمكن للولايات أن تتصرف في سلطاتها المذكورة.
- الخدمة في القوات المسلحة هي إحدى هذه السلطات.
- إن حرمان الجنود من حقوق التصويت نتيجةً لخدمتهم يفرض عقوبةً على أداء قانون فيدرالي.
لاحِظ أنه على النقيض من المقدمات الكبرى والصغرى، فإن المقدمة الواقعية هي التي يمكن أن نتناقش حولها. يمكننا القول إن التصويت ليس في الواقع بهذه الأهمية بالنسبة إلى المجند ذي الثمانية عشر عامًا، الذي قد يقضي شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر في بلدة صغيرة. الجدل دائر في هذه القضية.
ولكن فيما يتعلق بالنقطتين الأُوليين، أعتقد أننا نتفق جميعًا على أنه لا يوجد في الدستور ما يشير بذاته إلى ذلك، ولا توجد إشارة إلى التاريخ؛ هناك إشارة فقط إلى العلاقة بين بنية الدستور. هذه المقدمات محكمة.
يتضمَّن المثال الثاني قضية الرابطة الوطنية للمدن ضد يوزري (National League of Cities v. Usery)[14]. كانت هذه القضية قضية متنازعًا عليها بشدَّة في الولايات المتحدة. وتدور القضية حول ما إذا كان الكونجرس يستطيع فرض قوانين تُعيِّن الحدَّ الأدنى للأجور والحدَّ الأقصى لساعات العمل على موظفي الدولة أم لا. وكان استدلال رأي المحكمة العليا في البتِّ في الأمر على النحو التالي:
أولًا: في النظام الفيدرالي، يجب أن يكون هناك شيء واحد على الأقل يمكن للولايات أن تفعله ولا تستطيع الحكومة الفيدرالية أن تخبرها كيف تفعله. أعتقد أن هذا أمرٌ غير متنازع فيه. ولو لم يكن الأمر كذلك، لَما كانت لدينا ولايات؛ بل سيكون لدينا مناطق. وثانيًا: من بين الأشياء التي تفعلها الولايات، هناك على الأقل بعض الأشياء التي تُعَدُّ مهمَّة بالنسبة إلى كونها ولايات، وهذا أمر متعلق بالتالي. ثالثًا: إن امتلاك القدرة على تحديد التخصيص المالي للموظفين والسلع والخدمات أمر بالغ الأهمية للولاية من حيثُ كونها ولاية. وهذا هو محلُّ النزاع بلا ريب.
فمن ناحية، قد يجادل شخص ما بأنه إذا تمكَّن الكونجرس من تحديد الحدِّ الأدنى للأجور والحدِّ الأقصى لساعات العمل للمزارعين على سبيل المثال، فإنه لم يتمكَّن من التحكُّم في رأي الولاية بشأن مقدار أجور المعلمين أو رجال الشرطة، وذلك أن تحديده لهذه الأعمال يؤثر في جزء مهم من أجندة الولاية، ويمكن أن يحدِّد بدرجة كبيرة خيارات السياسة الفعلية للولاية.
ومن ناحية أخرى، قد يجادل شخص ما بأن السيطرة على هذه الجزئية من الأعمال ليست أحد العناصر المؤثرة لاستقلال الولاية. ربما يكون معيار رأسمال الولاية هو العنصر الصحيح. ينتخب المواطنون القضاة في تكساس، ويُعيَّنون بطريقة أو بأخرى في معظم الولايات. يمكن للمرء أن يقول إن الاختيار أمر بالغ الأهمية للولاية من حيثُ كونها ولاية. أنا لا أعلم، والمحكمة العليا لم تعلم كذلك؛ لأنها نقضت حكمها في العام الماضي فقط.
وعلى أية حال، فإن البصمة الأساسية للحجة البنيوية هي أنها لا تتحدَّث عن التاريخ أو النص في حدِّ ذاته، بل العلاقة البنيوية التي يؤكدها النص (الدستور).
إن أغلب الناس في هذا القرن على دراية بالحجة التحوطية، وعلى وجه من الدقَّة في الآونة الأخيرة فقط. وقد أصبحت هذه الحجة شكلًا شرعيًّا من أشكال الحجج التي يمكن العثور عليها في الآراء الدستورية. والحجة التحوطية هي حجة حول التكاليف والفوائد.
إنها حجة عملية. فعندما يذهب القضاة إلى غرف ملابسهم، ويقول أحدهم للآخر: "حسنًا، لا أعرف ما هي الاحتمالات في هذه القضية، لكن يمكنني أن أخبرك أنني متأكد تمامًا من أنني لن أحكم بـكذا"، فإن القاضي يشير عادةً إلى نتيجة الحكم التي هي ببساطة مستحيلة لأسباب عملية.
والحجة التحوطية تحسب التكاليف التي تتحملها الولاية، أو الأفراد، لنتيجة معيَّنة. والمثال الذي سأقدِّمه في هذا الصدد هو قضية تأجيل الرهن العقاري من ثلاثينيات القرن التاسع عشر[15].
يحتوي الدستور الأمريكي على بند يحظر على الولايات تعديل التزامات العقود[16]؛ ولكن مع هول الكساد الاقتصادي، أصدرت العديد من الولايات قرارًا محبطًا حول تأجيل الرهن العقاري[17].
إن المحكمة العليا الأمريكية، حتى في مواجهة النص الجلي والتاريخ الذي أظهر أن هذا هو بالضبط نوع الموقف الذي كان في ذهن واضعي الدستور بموجب هذا البند، لم تكن ببساطة تنوي قَلْبَ كل قوانين هذه الولايات والدفع بمجتمعٍ يعاني بالفعل من فوضى سياسية هائلة إلى مزيدٍ من النقاش حول السلطة القضائية. لقد كانت الحجج التحوطية تدور لفترة طويلة حول السلطة القضائية، وقد أدخلها في فقهنا القانوني أحدُ أعظم قضاتنا: لويس برانديز (Louis Brandeis).
لقد بدأ القضاة خلال حياتي في الإعراض عن التكاليف والفوائد المترتبة على وجود سلطة قضائية منفصلة ومستقلة إلى التكاليف والفوائد المترتبة على بعض السياسات الخارجية. وقد يبدو مستهجنًا الآن أن نرى قاضيًا يتحدَّث عن الإيجابيات والسلبيات حول نتيجة معينة في حكمه.
إن الحجة العقدية هي الحجة التي يألفها المحامون أكثر من غيرهم، وفي مجتمع دستوري بلغ أوج نضجه مثل الولايات المتحدة، سيكون معظم القانون الدستوري عقديًّا. وهذه هي السوابق القضائية التي نعتمد عليها.
هناك قصة رائعة رواها القاضي ليرند هاند (Learned Hand) عن القاضي هولمز (Holmes). حيث تناولا الغداء ذات يوم في واشنطن، وكان القاضي هاند يعيد القاضي هولمز إلى المحكمة. عندما خرج هولمز من السيارة وكان يسير مبتعدًا، قال له هاند: "حسنًا سيدي، إلى اللقاء. احكم بالعدل"! التفت هولمز نحو هاند وقال: "هذه ليست وظيفتي. وظيفتي هي ممارسة اللعبة وفقًا للقواعد". هذا هو حجر الزاوية للقاضي العقدي. فهو يحاول الالتزام بأكبر قدر ممكن من الضمير بالمبادئ المحايدة (من غير القول إن نتائج هذه المبادئ ستكون عادلة بالمطلق أو حتى في قضية بخصوصها).
ربما تكون الحجة الأخلاقية الأكثر تملصًا والأكثر جدلًا بلا ريب، لكنني أعتقد أنها العنصر الذي لا مفرَّ منه في فقهنا القانوني. وهنا سأحكي قصةً أخرى. ففي قضية براون ضد مجلس التعليم (Brown v. Board of Education)[18]، التي رفعتها المحكمة العليا في الولايات المتحدة، هناك حاشية تشير إلى دراسة أجراها كينيث كلارك (Kenneth Clark)[19].
ليس بالضرورة ما نحن عليه "الآن"، ولكن ربما ما نعتقد أننا عليه، ومن ثَمَّ كيف نفكِّر في أنفسنا ومجتمعنا؛ أي ما نودّ أن نكون عليه، أو في بعض الحالات ما نعرفه وما لم نعُد على استعداد للالتزام به.
ربما يكون الناس قد قرؤوا الحكم بيُسْر ولم يتنبهوا للحاشية مطلقًا[20]، أو إذا رأوا الحاشية ربما لم يعرفوا المقصود من التنبيه عليه. لقد كان ذلك جزءًا مؤثرًا من الحكم، وكما هو الحال أحيانًا مع القرارات المهمة للغاية، فإن النتيجة في قضية بروان ليست هي كل فحوى الحكم.
يتحدَّث الحكم عن التعليم، ويظهر من مقدمته أن الحقوق الأساسية لا بدَّ أن تكون قسمة عادلة. ومع ذلك، على أساس الدعوى في قضية براون، أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكمًا يقضي بإلغاء الفصل العنصري في ملاعب الجولف وحمامات السباحة[21]، وهي أشياء لا علاقة لها بالتعليم أو الحقوق الأساسية. كانت هذه الأحكام -في رأيي- مبناها على دقَّة في الإدراك والاستدلال.
أجرى عالم النفس الأمريكي كلارك سلسلةً من الدراسات مع الأطفال السود والبيض في المدارس المنفصلة. فقد جعلهم يرسمون شخصياتٍ لأنفسهم وللآخرين. وعندما رسم الأطفال السود صورًا لأنفسهم، كانوا يرسمون شخصياتٍ مُشوَّهة جزئيًّا، مع فقدان أحد الأطراف أو بأيدٍ كبيرة.
لا يوجد مجتمع مثل مجتمعنا -الذي وضع القانون جوهر العلاقة بين الأفراد- يمكن أن يتسامح مع هذا. إن هذه الرسومات تمثّل مثالًا قويًّا على مناشدة الروح الأمريكية: ليس بالضرورة ما نحن عليه "الآن"، ولكن ربما ما نعتقد أننا عليه، ومن ثَمَّ كيف نفكِّر في أنفسنا ومجتمعنا؛ أي ما نودّ أن نكون عليه، أو في بعض الحالات ما نعرفه وما لم نعُد على استعداد للالتزام به.
إن أشكال الحجج الدستورية هي المسارات التي يتم بها تقييم المقترحات القانونية. ولا توجد حجة قانونية دستورية في الولايات المتحدة خارج هذه الأشكال. يمكن أن يكون أيُّ اقتراح حول الدستور واقعيًّا، ويمكن أن يكون بليغًا، ويمكن أن يكون مؤثرًا، ويمكن أن يكون ممتعًا، ويمكن حتى أن يكون شعريًّا، لكنه ليس قانونيًّا؛ وليس له أهمية بوصفه حجة إلا إذا اتبع أحد هذه الأشكال.
قد تكون الاعتبارات من النوع الذي ذكرته للتو خارج الأشكال المقررة بمثابة تعبيرات قانونية في عالم قانوني محتمل أو في ثقافة أخرى، ولكن ليس في العالم الدستوري الأمريكي. والحكم في قضية ميزوري ضد هولاند (Missouri v. Holland)[22] هو رأي مليح ومختصر وبديع، وأضربه مثلًا على حكم وجيز ومبهر، وأضربه مثلًا "كذلك" لقاضٍ عظيم يعمل بإيجاز مبهر. إذا أخذ المرء قلمًا متعدِّد الألوان وبدأ أثناء قراءته للحكم يمرُّ بها مع إرفاق لون مختلف لكل من هذه الأشكال من الحجج، فلن يجد شيئًا في غير محله. هذه علامة القاضي العظيم. لا يوجد أيُّ تباطؤ في الجهاز القضائي، ولا يوجد أخذٌ وردٌّ بين الحجج التي لا تؤدي إلى نتيجة. لن أعرض هنا الحكم كاملًا، لكنني سأصف ما حدث في المرافعة الشفهية:
كان هولاند مشرفًا فيدراليًّا بيئيًّا في الولايات المتحدة، رفعت ولاية ميزوري دعوى قضائية ضده في محكمة فيدرالية لأمره بتنظيم رحلة صيد في منطقة تابعة لولاية ميزوري خاضعة لمعاهدة مشتركة بين كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك تحت قانون معاهدة الطيور المهاجرة[23]، وقد تم اعتماد القوانين المعنيَّة وفقًا لهذه المعاهدة[24].
ادعت ولاية ميزوري -وحكمت المحكمة الابتدائية لصالحها[25]- أن الكونجرس تصرف بشكل غير دستوري في محاولته التشريع فيما يتعلق بموضوع خارج سلطته، ومن ثَمَّ كان من المفترض أنه متعلقٌ بصلاحية كل ولاية. في أمريكا، تتمتع الولايات بالسلطة على رحلات الصيد[26]. هنا أجاز الكونجرس قوانين بموجب معاهدة لم يكن له من حيث الأصل إجازتها.
جمعت الحجج الدستورية التي استعملها المحامي أثناء العرض الشفهي المسالكَ المتنوعة. جادل المدَّعي العام من ولاية ميزوري بأن النظام الفيدرالي بأكمله يعتمد على أن كلتا السلطتين الفيدرالية والمحلية لها اليد العليا في نطاقها. وكانت هذه حجة بنيوية شائعة في نهاية القرن الماضي. ثم قال "المدعي العام" إن واضعي الدستور لم يقصدوا قطُّ تجريد الولايات من سيادتها على الصيد. كانت هذه حجة تاريخية، وتم تقديم أمثلة تاريخية مثل الخطب التي أُلقيت في المؤتمر (اجتماع فيلادلفيا) والاجتماع الأوَّلي للكونجرس لدعم هذا التأكيد.
وبالإضافة إلى ذلك، قال إنه بموجب القانون العام في إنجلترا، فإن السيطرة المطلقة على رحلات الصيد تُعَدُّ سمةً من سمات سيادة الدولة. وكانت هذه حجة عقديَّة. بعد ذلك أشار إلى أن نصَّ التعديل العاشر يحتفظ صراحةً للولايات بتلك السلطات غير المفوضة للحكومة الفيدرالية. وكانت هذه حجة نصيَّة. وعلاوة على ذلك، قال إن نصَّ المادة الأولى يعدِّد على وجه التحديد صلاحيات الكونجرس ولا يذكر الولاية القضائية على الصيد. وكانت هذه حجة نصيَّة أخرى.
فإن هذه المناهج والحجج التي تعتمد عليها لا تعفي القاضي عادةً من واجباته الأخلاقية.
وجادل المحامي العام، الذي مثَّل الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة، بأن نصَّ المادة الأولى يمنح الكونجرس السلطة اللازمة والمناسبة للقيام بمهامه، بما في ذلك تنفيذ المعاهدات. وكانت هذه حجة نصيَّة. ثم استشهد بقضيتَيْن تم البتُّ فيهما: كوهينز ضد فرجينيا (Cohens v. Virginia)[27]، وقضايا العطاءات القانونية (the Legal Tender Cases)[28] التي حدَّدت للكونجرس سلطة اعتماد التشريعات وفقًا للمعاهدات. وكانت هذه حجة عقديَّة. وأخيرًا، قال إن سلطة الولايات على الصيد كانت مقيدةً بالمعايير الفيدرالية ومعايير ميثاق الحقوق[29]. وكانت هذه حجة أخلاقية.
تم تقديم هذه الحجج إلى المحكمة العليا في الولايات المتحدة في 2 مارس 1920م، ولا تختلف هذه الحجج عن أنواع الحجج الشفهية التي سنستمع إليها عندما تبدأ المحكمة العليا فترتها القادمة.
لا تفصل هذه الأشكال من الحجج في القضايا، بل يفصل البشر فيها. وتكمُن المرحلة التالية في البحث الدستوري الأمريكي في تحديد ما يستطيع القاضي أو الرئيس أو المواطن أن يفعله عندما تتعارض هذه الأنواع. ومن أهم ما في هذه النماذج أنها ليست مملوكةً للقضاة والمحامين؛ فهي في متناول أي شخص. ولا يتعيَّن على الشخص أن يكون على درايةٍ بأحدث السوابق القضائية حتى يتمكَّن من اللجوء إلى هذه المناهج والتعرف على ما ينص عليه الدستور.
إن المرحلة التالية -كما أقول- ستحدِّد ما سنفعله عندما تتصادم المناهج. سأروي قصة أخيرة، وتتعلَّق هذه المرة بالقاضي فريندلي (Friendly) والقاضي هاند (Hand). كان القاضي فريندلي قاضيًا جديدًا في ذلك الوقت في الدائرة الثانية، وكان القاضي هاند هو القاضي العقدي الأول. وكان أمام القاضي فريندلي قضية صعبة، فذهب إلى غرفة القاضي هاند لطلب النصيحة، وعرض عليه الحقائق بطريقة بارعة للغاية وطلب رأيه. وقد أجابه القاضي هاند قائلًا: "هنري، قرّر ذلك فحسب. هذا هو أَجْرُ عملك". وبعبارة أخرى، فإن هذه المناهج والحجج التي تعتمد عليها لا تعفي القاضي عادةً من واجباته الأخلاقية.
وفي الختام، أودُّ الحديث قليلًا عن التجربة الكندية التي بدأت للتو، وكم نحن في الولايات المتحدة نغبطكم على هذه التجربة الرائعة. يذكّرني عنوان المؤتمر "فقدان البراءة" بملاحظة سمعتها ذات مرة في واشنطن على لسان سياسي أجنبي، فقد زعم أنه عندما أُخرج آدم وحواء من جنة عدن، قال آدم لحواء: "لا تقلقي يا عزيزتي، هذه مجرَّد فترة انتقالية".
- الهوامش
-
[1] لمناقشة هذه الأساليب، انظر:
Philip Bobbitt, Constitutional Fate, (New York: Oxford University Press, 1982).
[2] اتفاقية وقَّع عليها القادمون من أوروبا لإنشاء حكومة عند وصولهم الأرض الجديدة. (المترجم)
[3] "Message to Congress on the Purchase of Louisiana" (1804) in Messages and Papersof the President .
[4] أي تشديد في هذه الورقة هو من المترجم.
[5] FederalistPapers (Tudor ed., 1937).
[6] The Federalist,No. 8r (A. Hamilton) (Bourne ed., 1937) at 119, 125-6.
[7] L. ed. 44o (1793).
[8] Larsen v. Domestic & Foreign Commerce Corp. 377 U.S. 682 (1949) at 708 (Frankfurter J., dissenting).
[9] G. Gunther, Constitutional Law Cases and Materials, 9th ed., (Minneola,
N.Y.: The Foundation Press, 1975) at 49.
[10] نصُّها: "لا تمتدُّ السلطة القضائية التي تتمتع بها الولايات المتحدة إلى أية دعوى قانونية أو دعوى إنصاف، سبق أن شرع في إقامتها أو الادعاء فيها، ضد إحدى الولايات المتحدة، مواطنون من ولاية أخرى أو مواطنو أو رعايا أية دولة أجنبية".
[11] 4 L. ed. 579 (1819).
[12] 380 U.S. 89 (1965).
[13] Texas Constitution, Art. VI, s. 2.
[14] 426 U.S. 833 (1976).
[15] Home Building & Loan Association v. Blaisdell 290 U.S. 398 (1934).
[16] Art I, s. 10.
[17] على سبيل المثال:
the Minnesota MortgageMoratorium Law, Laws of Minnesota 1933, c. 339, upheld in Blaisdell, supra, note 14.
[18] 347 U.S. 483 (1954).
[19] Ibid. at 494n.
[20] كتبتُ عن هذه الحاشية مقالة بعنوان "الحاشية التي غيرت من تاريخ حقوق السود في أمريكا" في موقع أثارة. (المترجم)
[21] Holmes v. Atlanta 350 U.S. 879 (955); St. Petersburgv. Alsup 353 U.S. 922 (957).
[22] 252 U.S. 416 (1920).
[23] c. 128, 40 Stat. at L. 755, s. 8837a.
[24] 40 Stat. at L. 1812, 1863.
[25] 258 Fed. 479.
[26] المادة العاشرة من الدستور الأمريكي.
[27] 5 L. ed. 257 (1821).
[28] 2o L. ed. 287 (1870).
[29] التعديلات من الأول إلى الثامن على دستور الولايات المتحدة.