موجز تاريخ الإسلام

ترجمات - موجز تاريخ الإسلام

تقف[1] عقبتان اثنتان أمام مؤرخ الأديان: غياب المصادر الخارجية بشأن أصول الحركة، وما تتمتع به المصادر المتحيزة والموالية -التي نشأت عادةً عقب وقوع الأحداث- من وفرة، سعيًا إلى بناء تاريخ مقدَّس حول هذه الأصول. وهذه الوفرة ]من المصادر المتحيزة[ مُبررة من النصوص ذاتها؛ إذ تجعل من هذه المرحلة امتيازًا ظهرت في أثنائه أزليةُ الله -من خلال كلامه ووحيه- في زمن الإنسان. كما أن العمل التاريخي الذي يقوم عادةً على مقارنة المصادر المعاصرة والمتضاربة بعضها ببعض، لا بدَّ أن يستعين "بالعلوم المساعدة على التأريخ" (علم الآثار والأنثروبولوجيا وعلم الأعراق والعلوم اللغوية) والتخصُّصات المتعدِّدة وما بينها من صلات؛ كي يفرق بين ما هو من حقائق تاريخية وما أُدخل عليها من الوقائع بعد ذلك.

وفيما يخص الدين الإسلامي، فإن الأعمال التأريخية التي ابتدأها المسلمون أنفسهم عقب وفاة النبي محمد[2] لجعل الإسلام جزءًا من التاريخ الإنساني، قد نظر إليها باحثو الغرب وعلماؤه منذ القرن التاسع عشر من منظور مباين. وجعلوا من هذا العمل تحديًا لهم، فكان على المؤرخين أن ينظروا إلى المصادر النصيَّة على أنها مرآةٌ وتمثيلٌ للحياة العقلية والمجتمعية التي ظهرت خلاله، أي بعد الزمن الأصلي، وأنها ليست نصوصًا عاصرت نشأة الإسلام.    

وإضافةً إلى ما سبق، فإن عاملين اثنين يمنعان من جعل بعض السمات الدينية صفاتٍ أساسية صالحة في ذاتها مهما كان الزمان والمكان، وذلك نظرًا للتغيرات التاريخية الكبيرة التي تطرأ على العقائد والممارسات الدينية والفكر والنُّظُم السياسية، ولاختلاف السياقات وتنوُّع المجتمعات والتشريعات الوطنية والهياكل الاجتماعية والأسرية.

ومهما يكن من شيء، فإن الطريقة التي تطور بها تاريخ الإسلام جعلت له هُوية فريدة.           

ميلاد دين جديد

فضلًا عمَّا بين المؤمنين من بعض الاختلافات، يظلُّ العامل المشترك بين جميع المسلمين في العالم هو عددٌ من الممارسات المتماثلة، أيًّا كان الأصل الجغرافي أو العرقي أو الاجتماعي، وذلك في شعور ]منهم[ بالمشاركة في بناء تاريخٍ واحدٍ قد بَدَأَ في مطلع القرن السابع في شبه الجزيرة العربية. ونرى الدين المحمدي، الذي جاء بالعربية موجهًا إلى أفرادٍ من قبيلةٍ عربيةٍ، ينشر رسالتَهُ تدريجيًّا إلى جميع بني الإنسان. وعلى خلاف ما جاءت به أصول الدين اليهودي، فإن الدين الإسلامي فرض نفسه عالميًّا، كما كان الحال في الدين المسيحي. وفي بيئة استفحلت فيها الروابطُ القَبَلية والانقساماتُ العشائرية، جاءت دعوة الإسلام طوْلًا، فشملت الرجال والنساء من كل الأصول، والأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد. ويتجلَّى ذلك في فعل الرسول عندما عهد إلى عبد أسود مُعْتَقٍ -يُقال له بلال- برفع الأذان فكان أولَ مؤذن ]في الإسلام[. إن ما يتسم به الإسلام من عالمية في دعوته كان من شأنه أن يجعل العلاقةَ بين الله وعباده، بالنسبة إلى عدد كبير منهم على الأقل، علاقةً مباشرةً، وهذه العلاقة المباشرة غمرها شعورٌ مطلقٌ بكمال الفضل الإلهي.           

المصادر

على الرغم من أن نبي الإسلام محمدًا (٥٧٠-٦٣٢م) هو شخصية تاريخية شهدت على وجوده النصوصُ الإسلامية -حتمًا- والمسيحية والبيزنطية والأرمينية، فإن ما نعرفه عن تفاصيلِ حياته يُعَدُّ قليلًا. وما وصَلنا من المصادر غير الإسلامية الأكثر قدمًا هي روايات يونانية أو سُريانية، تعود إلى زمن الفتوحات العربية، أي عقب وفاة محمد. وليست تعطينا ]هذه المصادر[ سوى لمحات مقتضبة عن حياته، فتجعله حينًا قائدًا حربيًّا وحينًا ملكًا للعرب وفي الحالات الأكثر ندرة إمامًا دينيًّا. فلم نتعرف -إذن- إلى حياة نبي الإسلام إلا من طريق السُّنة، بيد أن هذه النصوص تعود إلى القرن الثالث الهجري (القرن الحادي عشر الميلادي)، وتكون أشبه بسيرةٍ مناقبية (Hagiographie) أكثر من كونها سيرةً تاريخيةً (ببليوجرافيا). فكان لا بدَّ من معرفة السياق الذي شهد مولده؛ حتى نتمكَّن من التعرف إلى حقيقة هذه الشخصية التاريخية.              

الظروف الاجتماعية والأنثروبولوجية والثقافية في مهد الإسلام

لعب الإسلام دورًا حاسمًا من خلال التغييرات التي أحدثها في العديد من المجتمعات. كما يُعَدُّ أيضًا الإنجازَ العاملَ على بقاء ]العرب[ ووحدتهم، مقارنةً بما كان عليه سكان شبه الجزيرة العربية ومجتمعاتها في مطلع القرن السابع.

نعم، إن معرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأنثروبولوجية أمرٌ ضروريٌّ لفهم نشأة ثالث أكبر دين يدعو إلى التوحيد. فقد وُلِدَ محمد -قرابة العام ٥٧٠ ميلاديًّا- في مجتمع قبلي عربي مُشرِك أو إحيائي، خاضع بشكل كبير إلى التأثيرات الخارجية البيزنطية والفارسية وحتى الهندية والإفريقية والمسيحية واليهودية والمانوية. وكان في هذا المجتمع مَن يتحمل عبئًا روحيًّا يكمُن في ]نشر[ التوحيد، وفي السعي وراء فكرة الإصلاح الديني، هم الحنفاء، هؤلاء الدعاة الأتقياء الزهاد الداعون إلى التوحيد على دين إبراهيم أو إلى تقديس إله واحد من آلهة العرب (هو غالبًا الرحمن). فنرى بذلك الجزيرة العربية مقسمةً إلى شرذمة من القبائل، ليس لها وحدة لغوية، حتى وإن كانت العربية -بلهجاتها المختلفة- لها اليد العليا، فإن هناك لغات أخرى كالعربية الجنوبية. كما شهدت أيضًا وجود رعاة الإبل الذين عُرفوا ببداوتهم في المناطق الصحراوية الشاسعة، جاعلين من أنفسهم صلةً بين مواطن الحضر في الواحات التي تقوم حولها مدائن صغيرة متعدِّدة الوظائف (تجارية وزراعية ودينية).

ولنا أن نقول هنا إن الإيمان بصحة هذه الرسالة واجب للدخول في زمرة المسلمين. وبعد هذا الوحي الأول، صار محمد يتلقى كلامَ الله الذي ظل "يَتَنزَّل" عليه خلال اثنتي عشرة سنةً.

ودون هذا التكامل بين البداوة والحضر، الذي مكَّن المجتمعاتِ من التكاثر بل وربما التطور بشكل مطرد في بيئة مُناخها قاسٍ وتربتها جدباء، ودون هذه الزيادة السكانية التي هي مصدر الحركات الكبرى من الهجرة خارج الجزيرة العربية، لاتسمت نشأة الإسلام بالغموض، ولأصابنا أيضًا ضربٌ من الإبهام حول هذه النشأة إنْ لم تكن -أي جزيرة العرب- موضع الالتقاء بين المناطق المتوسطية والآسيوية والهندية والإفريقية.   

وفي قرابة العام ٦١٠ من الميلاد، كانت مكةُ الواقعة في قلب جزيرة العرب -المعروفة بقوافلها التجارية ومكانتها الدينية- تتزعمها قبيلة قريش المقسمة إلى فرعين: بني أمية، وهم الأكثر نفوذًا؛ وبني هاشم، وهم من ينتسب إليهم محمد التاجر الذي أكَّد تلقيه رسالةً من الإله الواحد الأحد، المعروف عند العرب باسم الله. وحَسَب ما جاءت به أيضًا آياتُ القرآن، فإن الروح[3] (جبريل) هو مَن حمل إليه هذه الرسالة. ولنا أن نقول هنا إن الإيمان بصحة هذه الرسالة واجب للدخول في زمرة المسلمين. وبعد هذا الوحي الأول، صار محمد يتلقى كلامَ الله الذي ظل "يَتَنزَّل" عليه خلال اثنتي عشرة سنةً. ومن المفترض إذن أن يكون القرآن هو جملة الوحي -المنزل من عند الله على محمد- في هيئته المكتوبة، أي إنه في جوهره كلام الله. 

الوحي المحمدي

لقد حدَّدت السُّنة المعالم الكبرى من حياة الرسول، فنراه يدعو أقاربه في مكة ]إلى الدين الجديد[ خلال اثنتي عشرة سنةً، وخاصةً زوجه الأول خديجة التي كانت أرملة ثرية تعمل بالتجارة وتكبره بخمس عشرة سنةً، وابن عمِّه علي الذي سيصاهره ويتزوج ابنته فاطمة. ولمّا لقي النبي من المعارضة الشديدة من زعماء قريش المشركين، وكان -في عام ٦١٩ ميلاديًّا- وفاة زوجهِ وعمِّه أبي طالب، زعيم قبيلة قريش الذي كان يتعهده بالحماية بصورة نسبية، قرَّر محمد الهجرة. فيخرج النبي مهاجرًا مع المسلمين الأولين من مكة -عام ٦٢٢ ميلاديًّا- متجهًا إلى يثرب على بعد ٢٠٠ كم شمالًا: إنها الهجرة. وجُعل من هذا التاريخ -بعد قرابة العشرين عامًا- أساسًا للتقويم الإسلامي الجديد. وفي يثرب التي اتخذت فيما بعد اسم المدينة (مدينة النبي)، تبدأ مرحلة لا يتحمل محمد خلالها فقط عبء إدارة العلاقات بين القبائل المتعادية، بل كان يسعى أيضًا إلى أن يضمَّ القبائل المشركة أو اليهودية إلى دعوته، وأن يربط بين مهاجري مكة وأنصار المدينة برباط المؤاخاة، وأن يؤلِّف بين مكة والمدينة. الرسول إذن قائدٌ سياسي وإمامٌ ديني، يتمكَّن من هزيمة قريش بعد العديد من الغزوات، ويفرض عبادة الله الواحد الأحد في الحرم المكي من خلال هدم الأصنام التي كان يَحُجُّ الناسُ إليها كلَّ عام، والإبقاء على الكعبة التي هي الميراث الإبراهيمي التي كان يدعو إليها بعضُ العرب قبل الدعوة المحمدية. وبعد ذلك بفترة قصيرة، يموت محمد في العام ٦٣٢ ميلاديًّا وينتهي بذلك العصر النبوي.

النصوص المؤسسة

وبعد مرحلة أولى من نقل الوحي شفاهًا وإثر الموت (الطبيعي أو حتى خلال الحروب) لحَفَظة القرآن، اتُّخِذَ القرار بإثبات الوحي المحمدي كتابةً، وربما أيضًا لإضفاء الطابع القدسي ]على القرآن[ الذي حظيت به كتب اليهود والنصارى. ومن الوارد أيضًا أن تكون بعض أجزاء الوحي قد كُتبت في حياة الرسول على أكتاف عظام الإبل أو القراطيس أو الألواح، ولكن الجمع الدقيق للقرآن لم يكن إلا خلال القرن الأول الهجري (القرن السابع الميلادي) وذلك تزامنًا مع انتشار اللغة العربية و]السعي إلى ضبطها[: فوُضعت أولًا الضوابط الإعرابية، ثم حُددت نقطُ الحركات الإعرابية (أعلى الحروف أو أسفلها)، وأُبينت أخيرًا حروف المدّ لسلامة النطق. وهذه العملية التي أسهمت في ضبط اللغة وإضفاء الطابع الرسمي عليها، تنتهي في القرن العاشر الميلادي. وفي ذلك أيضًا تفسير لوجود نسخ متباينة من المصاحف -حتى ذلك الوقت- تستغلها المجموعات الحاكمة المتعادية كلّ إلى صالحها.     

وفي هذه الأثناء، ظهرت عملية لجمع الأخبار (وغالبًا ما تكون شفاهًا) حول عصر النبي وأفعاله وأقواله (الحديث). ومن هذه الأخبار ما جاء كثير منها متعارضًا، فجعل بعض العلماء يذهبون إلى تنقيحها. وإضافة إلى ما سبق، فقد وضع العلماء -نظرًا لظهور الأحاديث الموضوعة- طريقةً للتحقُّق من صحتها من خلال مراجعة الإسناد (وهو النقد الخارجي) والمتن (المعروف بالنقد الداخلي). وهذه المصنفات التي جمعت الأحاديث المُكوِّنة للسنة جاءتنا ببعض الشروح حول ما ]بدا[ متعارضًا من النص القرآني (مثل تحريم الخمر أو حول كيفية معاملة غير المسلمين). وتفسير ذلك يكمُن في ترتيب النزول كما أشارت حتى آية من آيات القرآن في سورة البقرة (الآية ١٠٦)، وهو أن الوحي المتأخر ينسخ الوحي المتقدم، وتلك هي قاعدة الناسخ والمنسوخ. ولمعرفة التسلسل الزمني لآيات القرآن كان لا بدَّ من معرفة تاريخ "نزولها"، فكان من الإلزام إذن أن نعرف خطوات حياة رسول الإسلام تفصيلًا. وبذلك يظهر لون "أدبي" جديد، أَلَا وهو سيرة النبي، وسيرة ابن هشام (ت٨٣٤م) هي الأقدم في هذا الميدان، وهي أشبه بسيرةٍ مناقبية (Hagiographie) أكثر من كونها سيرةً تاريخية (ببليوجرافيا). وكل هذه الكتب والمصنفات (القرآن وكتب الأحاديث الستة المعتمدة عند أهل السُّنة وسِيَر الرسول) لم توضَع بشكل تام إلا بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديَّيْن، أي بعد وفاة محمد.

وفي ذلك العصر أيضًا ظهرت التفاسير الكبرى التي أسست القراءة الشرعية للنص القرآني (النطق وأصول الكلمات ومعاني المفردات وبناء الآيات). ويشير المؤرخ المعاصر محمد أركون إلى هذا الجمع من النصوص المؤسِّسة بـ(Corpus Officiel Clos) "النص الأصلي الذاتي" الذي يُعَدُّ ثمرة عمل من الانتقاء والفرز والنسيان وإعادة البناء. وننتقل بذلك من هياكل [نصيَّة] مفتوحة إلى قراءات وتفسيرات متعدِّدة، صارت بعد ذلك النصوص المرجعية التي يحيط بها ويقتصر على تفسيرها مجموعةٌ من المتخصِّصين وهم العلماء، الذين استأثروا بأنفسهم ]في هذا الميدان[. وفي نهاية هذه العملية، تتولد فكرة الإعجاز القرآني (أي إنه لا مثيل للنص القرآني)، وذلك تماشيًا مع الطابع الإلهي للرسالة المنزَّلة.   

التاريخ السياسي والديني في "دار الإسلام"

إن الصلات بين الإسلام والعروبة صلاتٌ معقَّدة تعود إلى زمن قديم. فإن الأصل الإلهي للرسالة المنزلة باللغة العربية يمنح هذه اللغة ومَن تلقوه من الناس طابعًا استثنائيًّا. ولم يكن قد تأكد تمامًا -في أنحاء الجزيرة العربية في بداية القرن السابع- هذا الشعورُ بالانتماء إلى المجموعة الثقافية واللغوية والعرقية نفسها. وما إن توفي الرسول، حتى قام الناسُ ينتسبون إلى عرق واحد، ويستخدمون اللغةَ ذاتها التي بدأت تأخذ صورةً مُوحَّدةً. نرى كثيرًا من الناس قد أسلموا، وأن الانتماء إلى الدين الجديد جعل يُتمم ]عمليةَ[ الوحدةِ بين القبائل والشعوب المختلفة في شبه الجزيرة العربية. وبناءً على ما سبق، لنا أن نؤكِّد على أن الإسلام هو الذي أسهم في صنع اللغة والشعب العربي، أكثر من كونه نتاجهما. وإذا كان الدين الإسلامي -في القرن السابع- ما زال يتزيَّا بزيِّ العرب لكون المسلمين من غير العرب هم الأقلية الشديدة، فإن هذا التعريف لن يكون صالحًا خلال عدةِ عقود -وهي فترة وجيزة- إثر اندماج الشعوب غير العربية بأعداد ضخمة في الإسلام واعتناقهم له.

وبدايةً من القرن التاسع الميلادي، تُرجم الإنجيلُ وأضيفت إليه التعليقات بالعربية على يد بعض رجال الدين المسيحي في الأندلس، غير أن بعض الباحثين أجمعوا على أنه لا بدَّ -على سبيل المثال- أن ننتظر القرن الحادي عشر الميلادي حتى يكون معظم المصريين قد دخلوا الإسلام.

الانتشار البطيء للدين الإسلامي

إن الغزوَ الحربي والهيمنةَ السياسية لا يعنيان بالضرورة تعريبَ الشعوب واعتناقها الإسلام. وهذه ظواهر حتمًا متصلةٌ، ولكنها تتم بوتائر مختلفة، متباينة في سرعتها. وفي خلال قرنٍ واحدٍ تقريبًا، يفرض الحكام المسلمون سيادتَهم على إمبراطورية عظيمة تمتدُّ من جبال البرانس إلى تخوم الصين. والأطرُ العامة أو حتى الحاكمة -التي تقود العملياتِ وتدير الإمبراطورية- كانت عربية مسلمة، والقوات تضمُّ السكانَ المحليين (من الفرس والبرابرة والأتراك) -تدريجيًّا- كلما تقدَّمت. وكان الغزو مصحوبًا باستعمار من قِبَل العرب، الذين أفادوا من ذلك بأن زاد التعداد السكاني زيادةً كانت لصالحهم، كما أنشؤوا مدنًا حاميةً، صاروا يتمركزون من خلالها. وأحيانًا كانت الصفوة من الأقاليم تذهب إلى المدن الموجودةِ بالفعل لتقطنها، ولنا في دمشق مثل على ذلك. وإن السكان المحليين غالبًا ما كانوا يُبقون على دينهم: اليهودية أو المسيحية (القبطية والنسطورية[4] والمونوفيزية[5] والخلقيدونية[6] والقوطية الغربية[7]...إلخ) أو المازدية (أو الزردشتية)[8].

وتجدر بنا الإشارة إلى أن الزواج بالصفوة من النساء المحليين، وثراءَ الفاتحين الذي كان خليقًا بجذب الأبصار، والحوافزَ الضريبية، وأجواءَ الانبهار التي خلقها الدين الجديد، والانضمامَ التدريجي لغير العرب إلى دوائرِ السلطةِ الإداريةِ وإلى التيارات التجارية التي عمل ظهورُ الإمبراطورية وبعضُ الإجراءات السياسية -وخاصة استخدام اللغة العربية- على إرساء قواعدها، كلها أمور كانت من شأنها أن تحثَّ السكان المحليين على اعتناق الإسلام واستخدام اللغة العربية، بأعداد لا تنفكُّ عن الزيادة بشكل كبير. ولم يكن التعريب واعتناق الإسلام يَحدثان بشكل منتظم، ولكن في صورة أجزاء، حَسَب السياقات، ربما بانتهاء أزمات تتعلق بالهوية أو انتهاء الصراعات أو مرور فترة من التشدُّد في الحكم. كما أن بعض السكان كانوا قد أسلموا وحافظوا على لغتهم (الفرس والأتراك والبرابرة)، بيد أن غيرهم قد دخلوا تحت لواء العرب دون اعتناق الإسلام (المسيحيين واليهود في الشرق أو في الأندلس)، مشاركين جميعًا فيما اصطُلح عليه بالحضارة الإسلامية. وبدايةً من القرن التاسع الميلادي، تُرجم الإنجيلُ وأضيفت إليه التعليقات بالعربية على يد بعض رجال الدين المسيحي في الأندلس، غير أن بعض الباحثين أجمعوا على أنه لا بدَّ -على سبيل المثال- أن ننتظر القرن الحادي عشر الميلادي حتى يكون معظم المصريين قد دخلوا الإسلام. وجديرٌ بالذكر أن في عام ١٨٥٧م -قبل الاحتلال البريطاني وبعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي في شبه القارة الهندية- كان ٢٠٪ فقط من مجموع السكان مسلمين.

أمة المؤمنين ودارها

إن تعريف "الأمة" هو الذي يرسم الحدود الإقليمية الإسلامية، أو ما يُعرف "بدار الإسلام"، وفيها كلٌّ خاضع إلى القانون، الذي يُعَدُّ بطاقة الأمان للناس على أنفسهم وأملاكهم، مسلمين كانوا أو ذميين أو مؤمَّنين قادمين من الخارج.

وانطلاقًا من المبدأ بأن الحقبة الأولى ]للإسلام[ هي النموذج المُتَّبع في كل السلوكيات والنُّظُم المعيارية والتشريعات، حاولَ الكتَّاب المسلمون -بعد ذلك- وضع نظريات حول القرارات العملية التي اتخذها الحكام المسلمون وقت الغزو. وكان ذلك مبنيًّا على أساس مقتضاه أن الله هو الذي وضع -بشكلٍ نهائيٍّ من خلال رسوله محمد- إطار القانون الإلهي الذي من شأنه أن ينظم جميع أنشطة الإنسان.

وإن حالات الحرب -خلال التوسُّع العسكري الأول في القرن السابع- دفعت العلماء في القرون اللاحقة إلى تسمية الأمصار غير المسلمة "بدار الحرب". ولما توقفت الفتوحات، كان لا بدَّ من استحداث فئات قانونية جديدة، فظهرت بذلك "دار الصلح" و"دار العهد" اللتان تضفيان طابعًا شرعيًّا على التوقف المؤقت للغزو. وكان الوضع القانوني للأرض يُحدَّد حسب حال السكان فيها وشكل الضرائب المدفوعة. ففي "دار الإسلام" كانت تُجمع "الزكاة" من المسلمين، و"الجزية" من "الذميين" أو "المؤمَّنين"، وذلك بالإضافة إلى "الخراج" الذي كان يُضرب على الأراضي المفتوحة خارج شبه الجزيرة العربية. وخارج هذه الأراضي، كانت الجزية تُفرض على الذين وقَّعوا الهدن والمعاهدات مع الدولة الإسلامية، وأما الغنائم فكانت تؤخذ في "دار الحرب". ولمَّا تراجعت ]هيمنة المسلمين[ في شبه الجزيرة الأيبيرية وصقلية وبصورة مؤقتة في المغرب العربي، وجب على القضاة أن يبتّوا في الوضع الجديد: وهو أن جماعات من المسلمين يعيشون تحت سلطان حاكم "كافر". وعادةً ما كان القضاة يوصون المسلمين بالرحيل، ولكن هذا الرأي لم يكن متفقًا عليه. وما إن جاء الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهاجر الناس إلى الدول الصناعية أو إلى التي في طريقها نحو التصنيع، وظهرت أخيرًا العولمة الحديثة، صار العملُ بهذا الإطار القانوني الذي يختصُّ بوضع الأراضي والأشخاص لاغيًا.   

الطابع الفردي للشريعة بغض الطرف عن التسامح أو التعصب    

اتبع الفاتحون الأولون نهجًا عمليًّا في الأراضي المفتوحة؛ إذ إنهم كفلوا لغير المسلمين -وهم الغالبية العظمى من حيث التعداد- حرية المعتقد. وقد تأثروا في ذلك سيرة النبي -التي ما زالت في مرحلة التدوين- والسُّنة؛ لإضفاء الطابع الشرعي حول هذا السلوك، وبذلك قد حدَّدوا أُطر العلاقات بين السلطات المسلمة والأمم التي لا تدين بالإسلام. هذا الأساس في العلاقات -وإن كان قد عفا عليه الزمان- الذي قد تُصدم منه الجمهورية الشاملة (universalisme républicain)[9] المنبثقة عن عصر التنوير، لم يكن يحمل المثالب فقط؛ إذ مكَّن الأمم غير المسلمة من التماسك والاستمرار إلى يومنا هذا في بيئة إسلامية، وهذا المبدأ هو ما يُعرف بالطابع الفردي داخل الشريعة الإسلامية. وذلك شريطة أن يُحترم الدين المهيمن وأن تَدفع كلُّ جماعة الضرائبَ المذكورة، ويكون جمعها من خلال قادة هذه الجماعات، وعادةً ما تتولاه السلطة الكنسية، ثم تَرُد المال إلى السلطة المسلمة. وامتازت الجماعات الدينية بالاستقلال القانوني، فنرى أي نزاع بين أفراد الجماعة نفسها يَبُتُّ فيه قاضي هذه الجماعة (الحاخام أو الأسقف أو أي سلطة أخرى). وإذا كان النزاع بين فرد من المسلمين وآخر من غير المسلمين، فإن قاضي المسلمين كان هو المنوط بالبتِّ في المسائل، وفي ذلك ضمان للسيادة الرمزية للشريعة الإسلامية، وهي رمزية لأن عددًا من الأخبار قد وصلتنا تفيد بأن المسلمين لم يكن لهم دائمًا اليد العليا. وكانت هذه القواعد التي صارت أطرًا قانونية -في شرق المتوسط- تُدار من خلالها المراكز التجارية الإيطالية والموانئ الشامية، قد أتاحت أيضًا ضمَّ الجماعات اليهودية التي طُردت من قشتالة وأراغون على يد ملوك الكاثوليك في نهاية القرن الخامس عشر وولدت -داخل الدولة العثمانية- الشكل المؤسسي المعروف بـ"الملل"      

الإسلام ونقل المعارف

إذا لم يمنع هذا الإطار القانوني بعض الاضطهادات العرضية التي كان غيرُ المسلمين عرضة لها، ولم يمنع من سوء استخدام السلطة، فإنه جعل من تعايش الجماعات الدينية ذات التقاليد والثقافات المختلفة أمرًا ممكنًا. ونرى أن بعض العلاقات التبادلية المثمرة التي كانت لأغراض جدلية أحيانًا -منذ القرن الثامن- قد مهدت السبيل لنقل النصوص اليونانية والرومانية -التي ترجع إلى عصور قديمة- من خلال ترجمتها إلى العربية، وأحيانًا ما تكون هذه الترجمة من خلال السُريانية (الصورة المكتوبة من الآرمية)، وخاصةً بعض المصنفات اليونانية في الجغرافيا والفلك والرياضيات أو الفلسفة؛ لإخصاب الدين الجديد بالمعارف القديمة. وقد لعب المسيحيون في الشرق -الذين جمعوا بين الثقافة الهلنستية واللسان العربي- دورًا مهمًّا في نقل هذه المعارف. ونشأ مبكرًا (القرن التاسع) -في العالم الإسلامي- مناظرات لاهوتية محتدَّة بشأن تغليب العقل أم الوحي (النقل)، فيتعارض أنصار العقلانية الأرسطية وأنصار الأفلاطونية الجديدة أو الحَرفانية (وهو تيارٌ لا يقبل البحث في المعاني الخفيَّة في نصوص الوحي)، وأُثيرت بذلك استفهاماتٌ أسهمت في نشوء الفكر الإسلامي (la doxa islamique ).  

إن السلطة الحاكمة، وانتشار اللغة العربية بين الصفوة، وإنشاء المؤسسات المشتركة في جميع المناطق وخاصةً القانونية، بل وأيضًا السياسية والتعليمية وربما الدينية، وتنقُّل العلماء على طرق القوافل التابعة للإمبراطورية، وطلب العلوم الدينية والعلمية معًا أو إحداها، كلها عناصر عززت التواصل بين التعاليم الدينية والتقاليد الأدبية والثقافية شديدة التباين. كما مكَّن هذا التواصل من صياغة جديدة للفلسفات وظهور المذاهب المختلفة التي أسهمت بصورة حاسمة ليس فقط في تشكيل ما تعارف عليه الباحثون الأوربيون بـ"الحضارة الإسلامية الكلاسيكية"، ولكن أيضًا في ظهور التيارات المتصوفة أو الباطنية أو العقلانية، كانوا ما كانوا من أهل السُّنة أو الشيعة أو الخوارج.           

التعريف التدريجي للعقيدة والممارسات والفقه

للأديان تاريخ، تكوَّنت كلها تدريجيًّا، ولا تنفكُّ عن التطور. وكلٌّ من العقيدة والشعائر والممارسات ]المرتبطة بكل دين[ لا يقوم بها كل المؤمنين بصورة متطابقة. ولم يُستثن الإسلام من هذه القاعدة، فالصلاة مثلًا، وهي ليست بالشيء الذي يُستهان به، لا يقيمها المسلمون جميعًا بالطريقة نفسها، سواء كانوا من السُّنة أو الشيعة. وحتى بين أهل السُّنة أنفسهم، نرى المالكية (المغرب العربي وإفريقيا السوداء) مختلفين عن المذاهب الفقهية الأخرى (الحنابلة والشافعية والحنفية). فما إذن شعائر (أركان) الإسلام الأساسية؟ جاءتنا السُّنة بخمسة فروض يقوم بها كل فرد من المؤمنين، ويُطلق عليها "أركان الإيمان" ]أركان الإسلام[.

"أركان الإسلام"

الركن الأول هو نطق "الشهادة": "أشهد ألا إله ألا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله". وهي تمثل الاعتناق الرسمي للإسلام، على أن تُنطق بصوت عالٍ ملؤه الصدق أمام شاهدَيْن بالغَيْن. وهي تُنطق كاملةً خمس مرات يوميًّا عند رفع الأذان للصلاة. كما على المسلم أن ينطقها قبل وفاته وهو يرفع السبابة في إشارةٍ إلى توحيد الله.  

والركن الثاني هو "الصلاة"، ولكنه يشمل الركن الأول "الشهادة" لأنها تُنطق في أثنائها. ومصطلح "الصلاة" ذو الأصل الآرامي ("السجود"، "التحيات") انتقل إلى العربية لوصف شعيرة الصلاة، وهو مصطلح ذُكِر عشرات المرات في القرآن. وهذه الصلاة تتجلَّى من خلالها الصورة الأكثر وضوحًا لاعتناق الإسلام. والصلوات المفروضة خمس، ولم تُذكَر جميعها في القرآن الذي لم يشر إلا لثلاث منها، بل وصلت إلينا جميعها من طريق السُّنة (الحديث). وحتى تصح الصلاة، يصبح لزامًا على المؤمن أن يكون على طهارة (الوضوء). وحالة الطهارة هذه تزول بالنوم أو الْتِقاء الختانين أو ما خرج من السبيلين أو ملامسة المخلوقات النجسة. وتكون الطهارة من خلال الوضوء أو التيمُّم برمال الصحراء، إن لم يتوافر الماء. والوضوء (لرفع الحدث الأصغر) يكون في أحواض الوضوء (الوجه والفم والأنف والأذن والأيدي إلى المرافق والأرجل)، بيد أن بعض الحالات تُلزم الغُسْل (لرفع الحدث الأكبر)، وهي الجنابة التي تقع عند التقاء الختانين أو عند النساء في حالات الحيض والولادة. إذْ لا بدَّ في هذه الحال من أن يُغسل الجسد كله في "الحمامات". حتى إذا انتهت عملية الطهارة، يصبح المسلم قادرًا على الصلاة.

وصلاة الجمعة صلاة استثنائية؛ إذ لا بدَّ أن تؤدى في جماعة في المسجد الكبير "الجامع". وهي فريضة على الذكور ]دون الإناث[ (الجمعة: ٩)، يعمل فيها "الإمام" عمل المرشد، وهو رجل مسلم حسن السُّمعة، ]يتقدَّم[ ليقف في واجهة "المحراب"، وهو الركن الذي يحدِّد "القبلة"، أي الذي يشير إلى مكة. ويصطفُّ المؤمنون خلفه ثم يردِّدون ما يقوم به الإمام من حركات شعائرية وأقوال. و"الإمام" ليس براهب، فاسمه يشير إلى مكان ]وقوفه[ وهو "الأمام"، أي ]يقف[ أمام المؤمنين، وهو الذي يقتدي الناس به ]في الصلاة[. ولنشِر إلى شخصية أخرى ذات أهمية في صلاة الجمعة: "الخطيب" وأحيانًا ما يكون غيرَ الإمام، وهو الذي يصعد "المنبر" ويلقي "الخطبة"، وهي خطاب وعظي مقسَّم إلى جزأين، يتطرق ]الخطيب[ في الجزء الأول منه إلى المناحي السياسية أو الاجتماعية، وفي الجزء الآخر إلى البُعْد الديني، وغالبًا ما يكون تعليقًا على سورة من سور القرآن. 

و"الزكاة" هي الركن الثالث، وأساسها (وهو أساس مُشترك بين المسلمين واليهود) أن متاع هذا العالم متاع دَنِس. وعلى الرغم من ذلك، فإن تملُّكه والتمتُّع به أمر مباح، شريطة أن يُطهَّر، بأن يعود جزءٌ منه إلى الله. و"الزكاة" كلمة ذات أصول آرامية تعني التطهير. وهي-تاريخيًّا- أول ضريبة تُفرضُ على المسلمين. ونرى القرآن يحثّ عليها، وإن كانت لم تُفرض ]على المسلمين[ بشكل رسمي[10] (آل عمران: ٩٢)، وبذلك يُعفى الفقراء من دفعها. ولم يكن هناك أيُّ سلطة قانونية أو إدارية تُعنى بالإشراف على "الزكاة"، بل كلٌّ متروك حسب ما تفرضه عليه نزاهته. وقد فرضها محمد على أنها ضريبة تضامنية، فيأخذها الفقراء والمساكين والمسافرون ]ابن السبيل[ ويُنفق منها لرعاية المؤسسات التقية ]الوقف [.

أما عن الركن الرابع، فهو صوم "رمضان". وهو -بالنسبة للمسلمين- من أكبر المظاهر الجماعية التي تبرز انتماءهم للإسلام. وقد شُرع الصيام في القرآن (البقرة: ١٨٤-١٨٧)، ثم جاءت السُّنة لتكمل ما جاء به القرآن. فعلى كل مسلم أن يصوم الفترة من شروق الشمس إلى غروبها[11] من أول يوم في شهر رمضان حتى آخر يوم فيه، وخلال هذه الأيام يمتنع الصائم عن الطعام والشراب والجِماع. وهذا الصيام يسبقه "السحور"، ويُقطع بوجبة "الإفطار". وينتهي ]صيام الشهر[ بقدوم عيد الفطر (عيد التوقف عن الصيام) الذي يكون في أول يوم من الشهر التالي. ولكن لِمَ كان لرمضان هذه الخصوصية؟ إنه الشهر الذي كانت فيه ليلة القدر -بين يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين ]أي ليلة السابع والعشرين]- التي نزل فيها القرآن أول مرة على الرسول (البقرة: ١٨٥). وقد نزلت سورة حاملةً اسم هذه الليلة، وهي سورة القدر، ووصفتها بأنها "خيرٌ من ألف شهر". كما أن هذا الشهر -بالإضافة إلى ما سبق- قد وُسم بالعديد من الذكريات المهمة في الإسلام: كموت خديجة، زوج محمد الأولى، والانتصار على المكيين في غزوة بدر (٦٢٤م)، ويوم فتح مكة، ويوم أن مات علي، صهر النبي وابن عمه وآخر الخلفاء الأربعة.      

وصوم رمضان فريضة على كل مسلم صحيح بالغ عاقل، ومعفيٌّ منه الأطفال والعجائز والمريض والحامل والحائض والمسافر. وقطع الصيام ]في أحد أيام الشهر[ يلزم قضاءً في أقرب وقت ممكن، وفي كل الأحوال قبل رمضان الذي يليه. ولا وجه لإنكار التأثيرات المسيحية واليهودية والمانوية لتفسير الصوم في شهرنا هذا، ولكن ما يجب أن نتذكَّره دائمًا هو أن هذا الشهر كان يعرفه العرب في الجاهلية، فقد كان للأعراب أشهرٌ حرمٌ يُحظر خلالها الحروب القَبَلية ويُنظم خلالها أسواق ويحج في أثنائها الكفار إلى الأماكن المقدَّسة كالكعبة.

والحج إلى مكة هو الركن الخامس والأخير. وهو فرض على كل مسلم حُر مستطيع، جسديًّا وماديًّا (البقرة: ١٩٦-١٩٩)، يُتمه (على الأقل) مرةً واحدةً في العمر بين الثامن والثالث عشر من ذي الحجة. وتتم مناسك الحجِّ حَسَب ما جاءت به السُّنة ("الحديث" و"السيرة")، بالصورة التي حدَّدها محمد في "حجة الوداع" عام ٦٣١م. ولكن لِمَ حظيت مكة بهذه الخصوصية؟ لأنها بكل تأكيد مسقط رأس رسول الإسلام، وهي -قبل كل شيء- البقعة الأصلية التي نزل فيها الوحي، والمكان الذي يضمُّ الكعبة الموجودة داخل المسجد الحرام.

وحَسَب ما جاءت به السُّنة، فإن موضع الكعبة قد حُدِّد قبل خلق أي موضع آخر على الأرض، فعلى هذا المكان بَنَى إبراهيم "بيت الله" -وهو اسم آخر "للكعبة"- بأحجار كان ابنه إسماعيل يحضرها إليه. واحتاج إبراهيم لحجر الزاوية لإتمام البناء، ولمَّا لم يستطع إسماعيل أن يهتدي إليه، نزل به جبريل، وهو معروف بالحجر الأسود. والأصل فيه أنه كان أبيض اللون، ولكنَّ ذنوب الناس صيرته أسود. وهذا الحجر المتصدع المحاط بحلقة من فضة يجب على الحجاج لمسه وتقبيله. وكانت مكة -في الجاهلية- مركز الحج وموضع عبادة العديد من الآلهة، فاقتبس محمد هذه الشعيرة وأضفى عليها صبغة إسلامية[12].

نشوء الفقه وما أفضى إليه من توافق إقليمي

يرى المسلمون -في يومنا هذا- أن الفقه وما يشتمل عليه من "فتاوى" و"نوازل" لا بدَّ أن تقوم على أساس من القرآن والسنة النبوية ("و]آثار[ الأئمَّة" عند الشيعة)، التي جاءت في الكتب الستة عند أهل السُّنة (والأصول الأربعة عند الشيعة). بيد أنا لو نظرنا إلى هذا الأمر من منظور تاريخي بحت، لوجدنا العديد من القضاة في الإمبراطورية قد جاؤوا قبل أن توضعَ هذه المصنفات ويُوحدَ القرآن في صورته النهائية. فأصبح البحث في السوابق القضائية ]الفتاوى[ يتزامن مع النظر في النصوص المؤسسة لها. ولمَّا أن وجب تحقيق العدالة تبعًا للمعايير الإسلامية التي لم تُحدَّد بعدُ، جعل القضاة يذهبون إلى استخدام كل الأدوات التي بين أيديهم من نُسَخ -تختلف اختلافًا بسيطًا أحيانًا- من الوحي المحمدي والقانون العرفي والعادات والقانون الروماني في منطقة البحر المتوسط والتقاليد الساسانية في بلاد فارس والفتاوى الأولى الصادرة عن الأتباع الأوَّلين للرسول. ونرى علماء المسلمين حين وضعوا النصوص الفقهية قد لجؤوا -فيما بعد- إلى المواءمة بين الممارسة التجريبية للحكام الأوائل وبين أفعال الرسول؛ لأن في ذلك إضفاء للطابع الشرعي على أحكامهم، مع استبعاد ما لم يكن مناسبًا لهم. فكان تدوين القوانين والتطبيق ]الفعلي لها[ يسيران في توازن، متأثر كل منهما بالآخر. وفي ذلك تفسير للتنوع الإقليمي للفقه الذي يعود جزءٌ منه إلى الأعراف القانونية المحلية.   

ويعني ذلك أن الفتح الإسلامي لا يفرض معايير موجودة بالفعل على إقليم شاسع من الأراضي، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ كانت كل منطقة -وما بها من تنوع- يوضع الفقه فيها بناءً على أعرافها القانونية. وفي نهاية هذه العملية (بين القرنين التاسع والعاشر)، كانت قد وضعت قواعد عمل الفقه ]وهذه القواعد تُسمَّى أصول الفقه[، دون أن يُتْبع ذلك بتطبيق منتظم للأحكام نفسها أيًّا كان المكان والزمان. فالفقه -إذن- يتمتع بقدر كبير من المرونة، ويترك بذلك مساحة كبيرة للاجتهاد الفردي ولنظر المتخصصين (المفتي والفقيه والقاضي) المسؤولين عن الدفاع عن السيادة الرمزية للإسلام، أكثر من السعي إلى تطبيق الشريعة بشكل حرفي أو إدارة شؤون المجتمع.      

تأثير الشعوب الأخرى: مثال "المدرسة"

لقد أسهم كل شعب وإقليم تابع للإمبراطورية في بناء الدين الإسلامي، فمنها ما جاء بمؤسساته، ومنها ما أورثه روحانياته، ومنها ما أدخل عليه عبادة القديسين[13]، ومنها ما أكسبه صلابة، وأخرى أمدَّته بالقوة العسكرية وغيرها بالتقاليد الإدارية والأدبية والشعرية. سواء كانوا من الفرس أو الأتراك أو البرابرة أو المغول أو الأفارقة السود أو الهنود، كل قد أسهم في تشكيل الإسلام بأوجهه المختلفة، وهم جميعًا متأثرون به ]في آن واحد]. والإسهاب في هذا الأمر لن يستوي في مقامنا هذا ولكن سنكتفي بذكر مثال على ذلك.

عندما دخل الصليبيون فلسطين واستولوا على القدس عام ١٠٩٩م، كان الشرق الأوسط آنئذ تسيطر عليه أسرٌ حاكمة تركية سُنية تابعة إلى السلاجقة، تحكم إمارات متعادية، خاضعة لسلطة الخليفة الرمزية الذي مقره بغداد، رغم ما كان قائمًا في مصر والقاهرة من حكم "أئمة" الشيعة الإسماعيلية (أو السبعية)، وهم الفاطميون (٩٦٩-١١٧١م). ومن ثَمَّ ظهرت مؤسسة -لها مستقبل باهر ستُعنى به الصفوة التركية- كي تتصدى للنفوذ الشيعي ولتحدّ من سيطرة الصليبيين، أَلَا وهي "المدرسة". ولم يكن للجنود والفرسان من غير العرب -الذين هم حديثو عهد بالإسلام- والقادة الأتراك أيُّ شرعية، وعوضوا هذا النقص من خلال إنشاء العديد من المدارس. و"المدرسة" صرح يضمُّ مُعَلِّمًا مدفوع الأجر، وما يقرب العشرين تلميذًا الذين تحمل المدرسة على عاتقها حمل إيوائهم وإطعامهم. وكان أساس هذا التعليم -في بداية الأمر- يقتصر على العلوم الدينية ودراسة أحد المذاهب الأربعة، وهو المذهب الحنفي. وهذا السخاء -الذي انتشر تدريجيًّا- كان له أثر بارز وكبير في الشرق الأوسط، فنرى أنه قد حدثت طفرة في شكل المدن؛ إذ لم يندر أن نجد في الأمصار الكبرى كسوريا ومصر وبلاد ما بين النهرين المئات من المدارس. وأسهمت هذه المدارس التي كانت تقوم بتَهْيئة الصفوة الحاكمة من أهل السُّنة وبإخماد نفوذ رجال الدين من الشيعة في "إعادة التسليح الأخلاقي والديني" في الشرق الأوسط وتطوير فكرة الجهاد لمحاربة الصليبيين.

الخلافة الفاطمية

الدين والسلطة في الإسلام

إن "عدم التفرقة بين الدين والسياسة" في الإسلام غالبًا ما كان يبدو على أنه العائق المثبط للحداثة. ولكن هل هذا التفسير صحيح؟ أليس هذا التفسير موسومًا بما يُعرف بالمركزية الأوروبية (occidento-centrisme) التي جعلت لأوروبا تميزًا مبالغًا فيه لم يظهر في الواقع إلا مؤخرًا؟

الخلافة والإمامة

لما مات الرسول بالمدينة عام ٦٣٢م، ولم يكن له وريثٌ من الذكور وكان هو حاكم "الأمة"، انقسم المسلمون حول كيفية انتقال السلطة. وخلال ٣٠ عامًا -سادت فيها الاضطرابات وتنقلت أثناءها ]السلطة[ بين أربعة خلفاء: أبو بكر (٦٣٢-٦٣٤م)، وعمر (٦٣٤-٦٤٤م)، وعثمان (٦٤٤-٦٥٦م)، وعلي (٦٥٦-٦٦١م) الذين قُتل ثلاثة منهم غِيلةً- طُرحت خياراتٌ عدَّة لاختيار حاكم الأُمَّة: المجلس الانتخابي وتسمية ]الحاكم الجديد[ قبل الوفاة والوصية. إن الإدارة الفعلية للمشاكل الطارئة -كإدارة الإرث النبوي وثورات القبائل العربية والتوسُّع العسكري الأول خارج شبه الجزيرة العربية وإدارة الإمبراطورية الناشئة- ستُسهم لاحقًا في إضفاء الطابع الرسمي على الهياكل والمؤسسات السياسية والدينية والعقدية في الإسلام.

ومنذ عام ٦٦١م، كان نظام الأُسر الحاكمة المتمثل في الخلافة الأموية في دمشق (٦٦١-٧٥٠م)، هو النظام السائد في حكم الأُمَّة. ونرى أيضًا أنه قد تكوَّنت نماذج مناهضة تزامنت مع الخلافة الأموية، والخلافة العباسية (٧٥٠-١٢٥٨م) التي جاءت بعدها في بغداد. ولم تكن هذه النماذج ذات طابع سياسي فقط، بل تحمل في ثناياها اتجاهات ونُهُجًا مختلفة للدين الجديد، مثل الخوارج، وهم أنصار علي (ابن عم النبي وصهره)، الذين تفرقوا عنه عام ٦٥٧م وأكَّدوا على أن حاكم الأُمَّة لا بدَّ أن يكون أخيرها من جميع المسلمين و"إن كان عبدًا حبشيًّا". 

إن انتصار بني أمية المؤدي بصورةٍ بديهيةٍ إلى انتصار القرشيين الذين يؤكدون على أن الانتساب إلى قبيلة الرسول فقط ضروري وكافٍ ]لتولي الخلافة[، أدى إلى الظهور التدريجي لمذهب أهل السُّنة، الذي سيحمل هذا الاسم بداية من القرن العاشر (وذلك نسبة إلى سنة النبي)، بيد أن أنصار علي وذريته الذين يرفضون الإقصاء عن الحكم أسَّسوا " المذهب الشيعي" (أي "حزب" علي أو "شيعته") الذي سيدخل في معارضة سياسة ودينية مع سلطة الخلافة الجديدة. وترى الشيعة -وهم "الحاكم الشرعي للإسلام" (H. Laoust)- أن حكم الأُمَّة لا بدَّ أن يرجع إلى فرد من عائلة الرسول بصورة مباشرة، وغالبًا ما يكون من ذرية "علي" و"فاطمة". إن نظرية الإمامة -التي تنشأ معارِضةً لسلطة الخلافة السُّنية- ليست فقط مفهومًا مختلفًا للسلطة السياسة أو الدينية -وهو أن يكون الإمام من صلب الرسول- ولكن هذا الفكر متأصل في اللاهوت الشيعي، الساري على فئة معينة. ويُميز اللاهوت الشيعي نفسه عن اللاهوت السُّني بالأهمية التي يوليها إلى الطبيعة المزدوجة للأشياء، ففي النص القرآني على سبيل المثال: "الحرف" الذي يشير إلى معنى "ظاهري" يشير أيضًا إلى معنى "باطني" خفي لمن يفهم كنهه ويستطيع استنباطه. وهذا الفهم الباطني لطبيعة الأشياء يمهد لنا السبيل لمعرفة "الإمام" المقدَّس، الذي هو تمثيل للجوهر الإلهي الذي تعجز الأفهام عن إدراكه -أي صورة للجزء الخفي للإمام المرشد للأمة الإسلامية- ومعرفة الإمام بطبيعته الدنيوية، المسؤول عن هداية الأتقياء من المسلمين إلى الصراط المستقيم. وتنقسم الشيعة إلى العديد من الفصائل: الزيدية[14]، الإسماعيلية (أو السبعية)[15]، الإمامية الاثنا عشرية (أو الشيعة الإمامية)[16]، والنصيرية الشامية (أو العلوية)[17]، والعلوية والبكتاشية الأناضولية[18]، وغيرها.    

ومهما يكن من شيء، فإن المذهب الشيعي الذي شهد مقتل علي (٦٦١م) واستشهاد ابنه الأصغر الحسين في موقعة كربلاء (٦٨١م)، يرتكز على شعور قوي من الحرمان والظلم، وعلى إجلال ذرية الرسول، وعلى حساسية شديدة أمام مفهوم القداسة، وعلى اتجاهات صوفية، وعلى فتح باب "الاجتهاد" بشكل دائم ووضع معايير قانونية جديدة من خلال نصوص مؤسسة، أصلية وذاتية.        

الأسس السياسية والدينية لإمبراطوريات الإسلام وممالكه

شهدت كل الأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي التوتر الدائم بين ما تفرضه الشريعة (القانون الإلهي) وما تحكمه "الضرورة" أو بين الالتزام بالسنة النبوية وما يفرضه التاريخ من قيود. ومكَّن هذا التوتر من تأقلم السُّنة وتشكُّلها بصورة دائمة داخل أُطر إصلاحية، التي رغم اختلافها ظلت كلها مخلصة للنموذج المحمدي. وبعد زمن كان على رأس السلطة -خلاله- "خليفة" واحد- أي الخلافة الأموية في دمشق (٦٦١-٧٥٠م) ثم الخلافة العباسية (٧٥٠-١٢٥٨م)- وعلى الرغم مما تخلل هذه الإمبراطورية العظيمة من بعض المناطق التي حصلت على استقلال مؤقت، فقد تمكَّن بعض الطامعين في السلطة -كانت لهم توجهات دينية وسياسية معارِضة للأُسر الحاكمة- من توحيد مناطق شاسعة وجعلها مستقلة ]عن حاضرة الخلافة[: مثل الإمامة الفاطمية (الشيعة السبعية/الإسماعيلية) في القيروان (٩٠٩-٩٦٩م)، ثم القاهرة (٩٦٩-١١٧١م)، والدولة الأموية في قرطبة (٩٢٩-١٠٣١م)، والدولة الموحدية في مراكش وإشبيلية (١١٣٠-١٢٦٩م)، والدولة الحفصية في تونس (١٢٢٨-١٥٧٤م)، والسلطنة المملوكية في القاهرة (١٢٥٠-١٥١٧م)، والدولة العثمانية في شرق المتوسط ​​(١٥١٦-١٩٢٤م)، والصفويون في بلاد فارس (١٥٠٢-١٧٢٣م)، والمغول في بلاد الهند (١٥٢٦-١٨٥٧م). كل هذه القوى بتنوعها الشديد، إما أنها ذهبت إلى إقامة إصلاح ديني أو ثورة لتطبيق الأعراف الإسلامية التي يُفترض أن السابقين من الحكام قد انتهكوها، وإما أنها أضفت على حكمها -بعد ذلك- شرعيةً من خلال احترام الدين والدفاع عنه والاقتداء بالنموذج المحمدي.    

وإن كانت الأحكام التي يخضع لها الناس لا تختلف أبدًا عن الأحكام السائدة في الأمصار غير المسلمة، فإن الإسلام أدخلها ضمن إطار فكري ذي مرجعية "إسلامية"، وذلك من خلال الرجوعِ المستمر إلى النصوص المتعلقة بالسلطة (auctoritates) والتأويلِ الديناميكي -خاصةً- [للنصوص]: عن طريق إعادة النظر في النصوص المؤسسة وإعادة التفسيرات المذهبية اللتين لمم تتوقفا داخل العالم الإسلامي، وبواسطة المعرفة والتأمُّل الآخذَيْن في الاعتبار الأحداث الجسام الداخلة في الإطار الديني؛ نظرًا لوقوعها داخل النطاق الواسع الخاضع لحكام المسلمين، الذين كانوا يضفون الشرعية على قراراتهم استنادًا للأعراف "الإسلامية" التي كانوا -من خلال أفعالهم- يُسهمون في إثرائها.

إمبراطوريات العصر الحديث

إن وقت التوسُّع الغربي (كاكتشاف الأمريكتين واستعمارهما، والاستيلاء على المحيطات...إلخ) صادف -في تاريخ الإسلام- وجود ثلاث إمبراطوريات كبرى: الدولة العثمانية (السُّنية)، والدولة الصفوية (الشيعية الاثنا عشرية)، والإمبراطورية المغولية. هذه الإمبراطوريات الثلاث، التي أولت إحداها عنايةً شديدةً بأوروبا وآسيا، أسست -داخل إطار الشريعة الإسلامية- جهاز دولة قائمًا على هياكل إدارية بيروقراطية ودوائر إقليمية متداخلة ذات تسلسل هرمي. وفيها قد خضع النظام التشريعي للعديد من الإصلاحات: كإنشاء مؤسسة دينية على يد جماعة صوفية من أذربيجان، فَرَضَت في إيران -بصورة تدريجية- نظامًا شيعيًّا معتدلًا حتى يكون الدين الرسمي للدولة. وعند المغول ظهر أكبر الحكام إصلاحًا مثل السلطان جلال الدين محمد أكبر (ح١٥٥٦-١٦٠٥م) والسلطان أورنكزيب (ح١٦٥٨-١٧٠٧م) الذي تأثر تأثرًا عميقًا بالهندوسية والتصوف والأدب الصوفي الفارسي. أما عن الدولة العثمانية، فكان فيها نشوء "القانون" (النظام الإداري)، وهو قانون وضعي، منبثق عن مرسوم سلطاني يحدِّد طريقة عمله آخذًا "مصلحة" الأُمَّة بعين الاعتبار. وفي القرن التاسع عشر، ذهب بعض الحكام المستبصرين -استجابةً للتحديات التي تواجهها مجتمعاتهم واسترشادًا بالقوميات الناشئة في أوروبا الغربية-إلى حفز الإصلاحات؛ لتلبية متطلبات الحداثة: كاعتماد القوانين المدنية والقوانين التجارية، وإصلاح الأحوال المدنية وقانون الأسرة.

ولما أَفَلَت إمبراطورية المغول العظيمة في الهند، وهي المنافس الأوحد للخلافة العثمانية، وافقت الهند وتركستان وخانية قازان وماليزيا على "الخطبة" العثمانية، أي أن تُلقي خطبة الجمعة باسم الخليفة العثماني، وفي ذلك اعتراف بالدولة العثمانية، واستمرَّ الوضع على هذه الحال حتى بداية القرن العشرين. وفي الأول من ديسمبر عام ١٩٢٢م، قامت الجمعية الوطنية الكبرى بنزع أي سلطة دنيوية عن الخليفة السلطان[19]، كما ألغت الخلافة -في الثالث من مارس عام ١٩٢٤- التي ظهرت بصور شتَّى منذ موت محمد (٦٣٢م).

الإسلام إبان الاستعمارات ووقت انتهائها

لم يؤدِّ توسُّع نطاق سلطة المسلمين -سواء في القرون الوسطى أو العصر الحديث- إلى أي اعتناق جماهيري للدين بالإكراه. وعلى الرغم من ذلك، فإن الرقعة التي تنتشر فيها الحضارة الإسلامية اليوم تقف فعليًّا عند الحدود التي وصلت إليها هذه السلطة. فنرى أن سيادة الأمراء من "المسلمين" لم تستطع تجاوز الحدود التي وصلت إليها الفتوحات الأولى تقريبًا، باستثناء بعض التوسُّعات التي وصلت إلى إفريقيا السوداء وإندونيسيا. وعلى العكس من ذلك، فإن أي محاولات لاستوطان هذه الأراضي على يد سلطة أجنبية خارجية -خاصةً إن كانت من غير المسلمين- باءت جميعها بالفشل، فإمَّا أن بعض المسلمين تمكَّنوا من استعادة ما سُلب منهم (كاختفاء الدول الصليبية اللاتينية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أو خروج الاستعمارات في القرن العشرين، أو تفكُّك الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهوريات آسيا الوسطى)، وأما أن يكون الحكام "الأجانب" وبلاطاتهم قد أسلموا (الأتراك والمغول). ويُستثنى من ذلك أن نشأت دولة يهودية على أرض فلسطين عام ١٩٤٨م. ولبنان هو شبه استثناء، نظرًا لأنه دولة متعددة الأديان، فنرى الهيمنة السياسية للمسيحيين فيه التي تقوم على أساس من التفوق العددي، واقعًا -من الآن- داخل بؤرة من الاعتراضات العميقة، لما طرأ من تغيرات على التوازن الديموغرافي، الذي بُني على أساسه أولُ "دستور" عرفته البلاد عام ١٩٤٣م.

وقد مكَّن انتشار الطباعة من العودة إلى المصادر، القرآن والسُّنة، كما عمَّ النفع على مَن هم حديثو عهد بالإسلام. وفي عام ١٨٦٥م، ظهرت أول نسخة مطبوعة من المصحف في القاهرة، فجعل ذلك يزيد من الأدوات التي تتملكها كليات الدعوة التي ما زالت في طور النشوء.

"النهضة" بين تأقلمٍ ورفضٍ للنموذج الغربي

 إن الفكر السياسي والديني في العالم الإسلامي، سواء ظهر على هيئة تيارات صوفية أو على يد الإخوة المرابطين[20] من خلال الاعتقاد المحلي في الأولياء، أو من خلال أُسر حاكمة وصلت إلى السلطة بعد حركات احتجاجية حول الأخلاق والدين، فإنه -أي الفكر السياسي والديني منذ ظهوره- دائمًا ما كانت أسسه وإنتاجاته موضع نظر. ولا يختلف الحال كثيرًا في يومنا هذا؛ إذ إن صور الاحتجاجات الحالية تتجلَّى في استمرار التيارات الإصلاحية الكبرى التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكي نبين معنى "النهضة" التي تعني -حرفيًّا- "يقظة" الفكر "الإسلامي" في القرن التاسع عشر (التي تُترجم عادة بـ"الإحياء" الذي يفترض موت الشيء دون أن يكون حقيقيًّا)، فنذكر أنه ظهر في فرنسا مصطلح "الإصلاح الإسلامي"، وهو يعني "الجهد المبذول لتأقلم الفكر الإسلامي وحياة ]المسلمين[ مع حقائق العصر الحديث" (A. Merad). وقد مكَّن انتشار الطباعة من العودة إلى المصادر، القرآن والسُّنة، كما عمَّ النفع على مَن هم حديثو عهد بالإسلام. وفي عام ١٨٦٥م، ظهرت أول نسخة مطبوعة من المصحف في القاهرة، فجعل ذلك يزيد من الأدوات التي تتملكها كليات الدعوة التي ما زالت في طور النشوء.

إن الصدمة التي سببها أول المشاريع الاستعمارية الغربية في شمال إفريقيا وآسيا، هي التي أثارت ردود أفعال المفكرين المسلمين، فتحاول حركة "النهضة" بيان سبب "تراجع" دول الإسلام أمام أوروبا، ويتبيَّن -مرةً أخرى- أن الإصلاح الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي صار واجبًا، ولكن تختلف السُّبل المؤدية إليه. ونرى العديد من التيارات -التي ظهرت بالتزامن في الهند وآسيا الوسطى اللتين كان الاحتلال فيهما أبكر من وجوده في الشرق الأوسط- قد تولدت، مثل "السلفية" نسبة إلى "السلف" الصالح، و"الإصلاح" أي فعل العمل الصالح وتزكية النفوس. وكان منظِّرو هذه التيارات في بدايتها هم جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩-١٨٩٧م) ثم محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥م)، وهو عالم كلاسيكي، حاول سدًى أن يصلح الجامع الأزهر استرشادًا بما جاء به الأفغاني من أفكار.

أما عن جمال الدين الأفغاني، فهو مفكر سياسي وُلِدَ في إيران، ميَّال إلى المذهب الشيعي نظرًا للأصول العلوية التي تعود أسرته إليها (أي إنه من ذرية "علي")، كان له نشاط سياسي في العديد من البلدان التي زارها (الهند وأفغانستان ومصر وروسيا وإسطنبول ولندن). وكان للمجلة التي أنشأها في باريس عام ١٨٩٩م صدى قوي في العالم الإسلامي؛ إذ إنه أدان من خلالها فكرة القدرية، والتدخل الأوروبي، والاستبداد، كما دافع عن العمل والتعليم والنُّظُم البرلمانية. ثم جاء من بعده العديد من المفكرين والمصلحين الذين مهدوا لسبل جديدة من الالتزام، التي كان يحمل إحداها تيار ليبرالي تقوده جماعةٌ من السياسيين ذوي نزعة قومية عربية، يرون في الإسلام أنه أحد العناصر المكونة للقومية، وأنه من أكثر التيارات تحفظًا. فأُسست العديد من أجهزة الصحافة للدفاع عن هذه الأفكار الإصلاحية، كمجلة "المنار" -ومؤسسها محمد رشيد رضا (ت١٩٣٥م) -التي حظيت بانتشار واسع في سوريا ومصر.

وظهر مصطلح جديد بين الحربين العالميتين، أَلَا وهو "التجديد"، الذي أُنشئت على إثْرِه -خوفًا من تبدل العقول وتغيرها- المؤسساتُ، كالنوادي التي تجذب الشباب العصري المؤيد ]للحركات[ المناهضة للاستعمار الأوروبي. وكان تنظيم الإخوان المسلمين، الذي أسسه حسن البنا في مصر عام ١٩٢٨م، هو النموذج الأَوَّلي لهذه الأحزاب "الإسلامية". فبعد أن بدأ دعوته في المقاهي، ذهب البنا -وهو معلم تلقى تعليمًا دينيًّا وكان منتميًا إلى جماعة صوفية- إلى إنشاء جماعة تخدم أهدافًا أخلاقية وتعليمية. وقد نمت هذه الجماعة -المعروفة بتسلسلها الهرمي الشديد والطاعة غير المشروطة للمرشد العام- بسرعة شديدة في مصر وسوريا، وكانت تسعى إلى الحكم من خلال تعليم الشعب. ولما كان هذا التنظيم يناهض بشدة الاستعمار ويرفض رفضًا قاطعًا -في الوقت ذاته- الدعوة إلى القومية باسم الوحدة الإسلامية، كانت هذه الجماعة -المعارضة بشدة للشيوعية- غالبًا ما تُستغل من قِبل أنظمة الحكم العربية. وبعد مقتل حسن البنا عام ١٩٤٩م، نَحَت جماعة الإخوان المسلمين منحًى متطرفًا، لما تأثرت بالمودودي (١٩٠٣-١٩٧٩م)، وهو عالم إسلامي أصولي باكستاني، وسيد قطب -رئيس جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٥٤م- الذي نُفذ فيه حكم الإعدام عام 1966م بعد معارضته لجمال عبد الناصر. وفضلًا عن ذلك، فإن الحركات المناهضة للاستعمار توصلت إلى أن الاستبداد هو المسؤول -بصورة أو بأخرى- عن تراجع المجتمعات الإسلامية. ونرى أن البعض قد عارضوا بعنف الأُطر التقليدية للمجتمعات الإسلامية، كطاعة الوالد، وكان العديد من الماركسيين العرب -في ذلك الوقت- هم أبناء العلماء.

حركات المقاومة

غالبًا ما أدى التوسُّع الغربي -منذ عصر الاستكشافات حتى وجود الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين- إلى ظهور حركات مقاومة دينية. ففي غرب إفريقيا السوداء، لما استُشعر ]سوء[ النفوذ الأوروبي من خلال تجارة العبيد، خرج الدين الإسلامي من الدائرة المحدودة التي تضمُّ الأطر الحاكمة، لينتشر داخل الأوساط العامة. إذ يوفر الإسلام للساخطين ولضحايا تجارة العبيد القيمَ والمفاهيمَ والمراجع الأيديولوجية لأول "ثورة للمرابطين"، التي بدأت في نهاية القرن السابع عشر. وبرابرة موريتينا هم أصل هذه الثورة، التي تدافع عن إسلام صارم وتطهيري. والمرابطون الأتقياء المتعلمون، الذين يقودون هذه الحركة، دعوا إلى الجهاد -وهو "حرب شرعية" دفاعية ضد استبداد الحكام- تنديدًا بالمطالب الاجتماعية والسياسية.

إن هذه الثورة الأولى التي باءت بالفشل كانت -على الرغم من ذلك- مصدر إلهام للعديد من الحركات التي أفردت المسلمين بالنصر تدريجيًّا. وإيجازًا لما سبق، صار الإسلام هو لغة جماعة "المثقفين المعارضين" القادرة على اجتذاب الجماهير الشعبية متى دعا الوضع إلى ذلك. وهذا العرف "الثوري" شَمَل -في إفريقيا- الحركة ]الثورة[ المهدية بقيادة رجل على قدر كبير من الجاذبية، قاد -مستجيبًا للنداء الشعبي- صراعًا اجتماعيًّا بائسًا؛ لبدء عصر جديد تسود خلاله المساواة بين المسلمين، وفيه يُطاح بالطبقة الأرستقراطية الموجودة باستخدام العنف.

وأصبح من الشائع أن نرى هذه الحالات الثورية تقوم ضد القوى الاستعمارية، ولكن ليس باستطاعتنا أن نحدِّد إلى أي مدى كان الجانب الديني خالصًا فيها. فهي بالفعل تظهر في صورة مزيج معقَّد من التيارات الدينية والعرقية، تتشابك مع عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وفي المغرب العربي، لعبت الجماعات الأخوية دورًا مهمًّا في مقاومة المستعمر، كما يشهد على ذلك -منذ عام ١٨٣٠م- مقاومة عبد القادر في الجزائر أو الحركة السنوسية في القرن العشرين في طرابلس لمواجهة الإيطاليين. وحتى نهاية القرن العشرين، نستطيع أن نشاهد حروب الاستقلال هذه مُتَلَبِّسة بلباس الدين الإسلامي في العديد من الإمبراطوريات الاستعمارية، وكانت حرب المجاهدين الأفغان ضد السوفييت -منذ عام ١٩٧٩م- تدخل ضمن هذه الحروب.  

المجاهدين الأفغان
                                                  المجاهدون الأفغان

من التقية إلى المشاركة

لم يكن الإسلام يطرح فقط -في مواجهة التحدي الاستعماري- مبدأ "الجهاد الدفاعي"، بل جاء ببديل هو "الهجرة"، اتباعًا لنموذج الهجرة المحمدي. وهي إما أن تكون جسديةً باللجوء إلى الجبال لاستعادة القوى تأهُبًا "للجهاد"، وإما داخلية، وهي ما تُعرف "بالتقية". وهذا السلوك الأخير هو الذي ساد بالفعل في جملة الأماكن المُستعمَرة، يتخلله العديد من مراحل التمرد. ويتجلى ذلك في ازدهار الجماعات الصوفية بعد القمع الذي تعرض له المسلمون إبان الحرب العالمية الأولى. فنرى المرابطين يتجهون نحو الدعوة السلمية، فأصبحت بذلك قوة مضادة، وصار "الشيخ" درعًا حاميًا للمؤمنين ومتحدثًا يقدر على محاورة المستعمر. فأعطت الإدارةُ الفرنسية امتيازاتٍ في الأرض والمال للطرق الصوفية الرئيسة (التيجانية والمريدية والقادرية). ولما استخدم المستعمرُ المسلمين المتعلمين للإدارة المحلية، أسهم ذلك في انتشار الإسلام.

لم يقتصر عمل الدين الإسلامي -إذن- على كونه عنصرًا لمقاومة الاستعمارات الأوروبية، بل الأمر على خلاف ذلك تمامًا؛ إذ إن أئمة الدين (الأمراء أو المرابطين أو رؤساء الجماعات) غالبًا ما كانوا وسيلة فاعلة لتوغل السلطة الاستعمارية الجديدة. وهذا التحالف بين "الشيوخ" والسادة الجدد أدى إلى نزع السلطة من القادة المسلمين. وأصبحت الزعامة بذلك -التي صارت أسفل السلم الاجتماعي- أشبه بجهاز إداري، وصلةً بين الحاكم والسكان الأصليين المغلوبين. وما زال الدور الذي لعبه الرؤساء المحليون والمرابطون في الدول الإفريقية الحديثة مستمرًّا حتى يومنا هذا.

إسلام اليوم

أصبحت البلدان الإسلامية (فيما يتعلق بالسكان) -في إطار الحرب الباردة ثنائية القطب- إما موالية لإحدى القوتين العظمتين وإما منضمة إلى حركة عدم الانحياز. أما عن مجموعات المُعارَضة السياسية، فغالبًا ما لجأت في حربها ضد استبداد أنظمة ما بعد الاحتلال إلى نظريات الاشتراكية الثورية. فكانت بذلك تنضمُّ إلى أُطر تحليلية كانت موجودة في القوى الاستعمارية القديمة التي تشكَّلت فيها النخبة. وكانت الولايات المتحدة -من جانبها- تدعم كل الأنظمة والجماعات المحاربة التي وافقت على مناهضة الشيوعية والاشتراكية، ومثال ذلك في العالم الإسلام ما كان عليه "المجاهدون" الأفغان.  

الإسلام والعولمة

إن العولمة الحالية -فيما يخص الإسلام- أدت إلى تفرق المجتمعات الإسلامية داخل العديد من الأقطار، وذلك إثر ظهور تقنيات التواصل الحديثة وأنمطة الاستهلاك الضخم وازدهار "إسلام السوق"[21]، وكان لذلك أثر على الصعيد الديني. ولما تحطمت الصور القانونية القديمة التي كانت تقسم الأراضي إلى دار حرب أو دار صلح أو دار عهد، ظهرت في صورة جديدة: سيقع هذا التمييز -من الآن فصاعدًا- داخل كل مجتمع ومنطقة. وإن تفاعل المجتمعات غير الإسلامية مع الظهورِ -غير المعتاد- لدور العبادة كالمساجد، والصدامِ الناشئ عن تباين الممارسات، والوضعِ الاجتماعي والسياسي للأقليات المسلمة التي تصل إليها الأخبار -بصورة فورية- عمَّا يحدث في العالم (مما يتيح عملية تعرف أكثر تنوعًا من السابق)، وامتلاكِ كل فرد لأدوات إخبارية متفاوتة في جودتها، من اليسير الوصول إليها، كل هذه العناصر تمكِّننا من فهم التطور التاريخي لواقع الدين الإسلامي في بداية القرن الحادي والعشرين، وذلك في إطار فردية الممارسات والهُويات والمعتقدات الدينية.       

وكان لانهيار الكتلة السوفيتية أثر ملموس في العلوم الإنسانية. ولما حُطَّ من قدر التاريخِ الاجتماعي وتحليلِ العلاقات الاجتماعية، وارتفع شأن تاريخ الأفكار والتمثيلات وعاد التاريخ السياسي وتاريخ الوقائع بقوة، ذهب بعض المؤرخين إلى المبالغة في استخدام الوقائع الثقافية والواقع الديني في شرح الأحداث. فنرى بعض منظري "الصدمة الحضارية" -بعد صامويل هنتنجتون- قد زلت أقدامهم داخل هذا الثغرة. وجعل بعض الكتَّاب يفسرون هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهذه الأزمات السياسية والعلاقات الخارجية بين المجتمعات ودول العالم -وخاصةً الدول الإسلامية- من خلال الثقافة والدين. وهذا النهج هو غالبًا السبب الأوحد المؤدي إلى إنضاب الفكر وإفقار تاريخ الواقع الديني. وهذا الإنضاب يعانيه الإسلام ربما أكثر من الأديان الأخرى.     

الهوامش

[1] فصل من الكتاب المعنون «الديانات التوحيدية من الأمس حتى اليوم» الذي ألَّفه الكاتب بالاشتراك مع عدة باحثين آخرين.

[2] لقد استُحسن استخدام صيغة (Muhammad) على (Mahomet) ذات الأصل اللاتيني الراجع إلى العصور الوسطى؛ إذ لا حاجة لنا -بل على خلاف ذلك- أن نفرق بين الصيغة المتعارف عليها في العالم الإسلامي في كل الزمان والمكان وبين اسم رسول الإسلام. كما اعتمدنا في نسخ الأسماء العربية أو الفارسية أو التركية على نظام صوتي مبسط، اللهم إلا أسماء الأشخاص والأمكنة المعروفة، وقد رجعنا فيها إلى التهجئة الشائعة.

[3] استخدم الكاتب مصطلح (archange) ويعني "رئيس الملائكة"، وهو لقب لم يتعارف عليه المسلمون، بل كان أكثر شيوعًا عند المسيحيين، فالأولى أن نقول "الروح" جبريل عليه السلام، وهو اللقب الذي جاءنا به القرآن. (المترجم)  

[4] النسطورية هي إحدى فرق النصارى التي ترى أن المسيح عليه السلام قد اجتمعت فيه طبيعتان لا تتحدان (أقنومان): الجوهر القديم، وهو إله تام، وجوهر محدث، وهو إنسان تام. وهذه الألوهية لا تسري على مريم العذراء، فلا يجيزون قول "والدة الإله" بل "والدة المسيح". أما عن قولهم في الصلب، فيرون أن المسيح وقع عليه العذاب من جهة ناسوته (أي الجسد البشري)، أما اللاهوت (وهو الطبيعة الإلهية) فلم يمسسه أذى. انظر: الملل والنحل للشهرستاني، ج٢، ص٢٩. (المترجم) 

[5] المونوفيزية في عقيدتها تختلف عن النسطورية؛ إذ ترى أن للمسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهية (اللاهوت) ومن ثَمَّ تلاشت فيها الطبيعة الإنسانية أو البشرية (الناسوت). وهو المذهب الذي تتبعه الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، غير أنهم رفضوا هذه التسمية وفضلوا الرؤية الميافيزية في وصف عقيدتهم. (المترجم)

[6] هي العقيدة المنبثقة عن المجمع المسكوني الرابع في خلقدون سنة ٤٥١ بعد الميلاد، وهي أقرب إلى العقيدة االمونوفيزية، ولكن لما اختلفت المسميات، وقعت الانقسامات داخل الكنيسة. (المترجم)

[7] المسيحية القوطية هي عقيدة القبائل القوطية الغربية التي تنصرت في نهايات القرن الرابع الميلادي في فترة سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. (المترجم) 

[8] الزردشتية ديانة فارسية تنسب إلى مؤسسها زرادشت المولود بأذربيجان. وهي ديانة مثنوية تؤمن بإلهين: إله الخير (النور) الذي يرمز إليه بالنار، وإله الشر (الظلام). (المترجم)

[9] الجمهورية الشاملة (universalisme républicain) هي مفهوم تجريدي للمواطنة، يرى أن أفضل طريقة لعدم التمييز ضد المواطن هي تعريفه بغض الطرف عن عرقه ودينه وآرائه السياسية وميوله الجنسية ونوعه. (المترجم)

[10] الظاهر أن الكاتب خلط بين الزكاة والصدقة، فالأُولى فريضة على كل مسلم مستوفٍ للشروط، والأخرى سنةٌ، أي إن تاركها لا يأثم على تركها. وقد ذُكرت الزكاة صراحةً في القرآن وعادة ما كانت تُقرن بالصلاة، كما جاء في سورة البقرة: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (الآية ٤٣)، أو كما جاء في الحديث: "بُني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة...". ولو لم تكن الزكاة فريضة -كما يزعم الكاتب- فَلِمَ أصرَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه -وهو أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- على محاربة مَن رفضوا دفع الزكاة من القبائل العربية بعد وفاة النبي؟ ولو كان الأمر على الخيار لتركهم وشأنهم. (المترجم) 

[11] مدة الصيام تكون من وقت الفجر حتى غروب الشمس (المغرب)، كما جاء في الآية الكريمة: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (البقرة: ١٨٧)، وليس من شروق الشمس إلى غروبها. (المترجم)

[12] قد لاحظنا في مواضع عدة أن الكاتب يجنح إلى عزو بعض العبادات والشعائر إلى عملية التأثير والتأثُّر بالأديان الأخرى. وهو بهذا الخطأ قد وقع في غفلة؛ فلو أنه اطلع حق الاطلاع على مبادئ الدين الإسلامي لعرف أن الإيمان بالرسل والكتب السابقة من شروط الإيمان، فالمسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويرى أن الدين عند الله واحد وهو الإسلام وإن تعدَّدت الشرائع. ولما كان الدين واحدًا ومصدره واحدًا مهما اختلف الزمان والمكان، فَلِمَ العجب من أن تشترك الشرائع السماوية في بعض العبادات كالحج والصوم؟ (المترجم)

[13] إن عملية التأثير والتأثر صارت ممكنة بين الشعوب لما اختلطت، وتكون في العادات والتقاليد وربما العبادات، التي يدخلها الناس على الدين ولم تكن موجودة في الأصل الذي نزل من عند الله. فعبادة القديسين شائعة عند المسيحيين، وهو أمر لم يعرفه المسلمون؛ لأنه شرك بالله، بل اعتقدوا في الأولياء ولكن لم ينزلوهم منزلة الإله الذي يُعبد مع الله، وإنما الولي يقوم مقام المرشد، ولا يُعبد مع الله ولا من دون الله. (المترجم) 

[14] هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهم لم يجوزوا الإمامة في غير أبناء السيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فشرط الإمام أن يكون "فاطميًّا عالمًا شجاعًا سخيًّا سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين". انظر: الملل والنحل للشهرستاني، ج١، ص١٥٨. (المترجم)

[15] هي إحدى فرق الشيعة التي تجعل الإمامة في إسماعيل المبارك بن جعفر الصادق. المصدر السابق، ص١٦٥. (المترجم)

[16] هي أكبر فرق الشيعة، وترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثبت الإمامة لعلي بن أبي طالب في مواضع تعريضًا ومواضع أخرى تصريحًا. ولما مات جعفر بن محمد الصادق، اختلفوا في تعيين الإمام وانقسموا إلى طوائف. وللمزيد انظر: المصدر السابق، باب الشيعة الإمامية. (المترجم) 

[17] هي مجموعة عرقية دينية، نشأت في بلاد الشام وأسسها محمد بن نصير، وعُرفت بالمغالة. (المترجم)

[18] البكتاشية طريقة صوفية تركية، استمدت تعاليمها من الشيعة الإمامية. وهم على ما يبدو من غلاة الشيعة ويضعون عليًّا ضمن ثالوث: الله، محمد، علي. (المترجم) 

[19] جعل الكاتب في هذا الموضع السلطان العثماني خليفة للرسول، فأشار إليه بلقب السلطان والخليفة في آن واحد؛ ذلك أن اللفظة الأولى فيها إشارة إلى الوظيفة الدنيوية للحاكم الذي يقوم على شؤون الرعية يرعها. أما اللفظة الثانية، فهي تصبغ السلطان صبغة دينية وتضفي عليه صورةً من صور التقديس. لذلك لما قامت الجمهورية التركية نُزع عن الحاكم أولًا لقبُ السلطنة ومن ثَمَّ لقب الخليفة. (المترجم)   

[20] المرابط هو لقب يطلق على رجل صالح زاهد في الدنيا أو متصوف.

[21] باتريك هايني هو أول من استخدم مصطلح "إسلام السوق" لوصف التيارات الإسلامية الحديثة. إذ يرى أنها حادت عن أهدافها التي أُنشئت من أجلها، وهو النضال والجهاد والدعوة من أجل الأمة الإسلامية. ولكن لما ظهرت العولمة وفرضت سلطانها على النفوس جعل الإسلاميون يذهبون إلى تفريغ الإسلام من معانيه الأصلية، وراحوا يؤسلمون الأنظمة الإدارية والمالية الحديثة. فبعد أن كانت هذه التيارات تدعو إلى النضال والدعوة، صارت تدندن حول مفاهيم استهلاكية كالفرح والإنجاز الفردي وسعادة الحياة، فهي بذلك تتبع مفاهيم الدولة القومية الحديثة ذات النزعة الفردية وتجعل للثقافة الغربية سلطانًا عليها. فالحجاب مثلًا -الذي فرضه الدين لحشمة النساء- أصبح الآن يستخدم لإبراز جمال المرأة مُتَّبعًا في ذلك الموضة الاستهلاكية. (المترجم)