أُسس النظرية الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر: سؤال المرجعية النظرية للأخلاق عند محمد عبد الله دراز

دراسات - أسس النظرية الأخلاقية

مقدمة

تواجه الفكر الإسلامي المعاصر جملة من التحديات، ومنها التحدي الأخلاقي، الذي تجلَّى في تراجع أثر القيم الأخلاقية الدينية في حياة الأفراد والجماعات، في مقابل طغيان القِيَم المادية على كثيرٍ من قطاعات الحياة؛ إذ أصبحت الحقبة المعاصرة تُوصف بحقبة "ما بعد الأخلاق"[1]. وأمام هذا الوضع الأخلاقي أضحى البحث في سؤال المرجعية النظرية للأخلاق الإسلامية ذا أهمية كبرى؛ فهو المدخل المنهجي إلى صياغة مبادئ وأسس نظرية للأخلاقية الإسلامية -انطلاقًا من المرجعيَّة النصيَّة- تكون بمثابة معايير نظرية مرجعية تُؤسَّس عليها تقنيات أخلاقية جديدة، وآليات عملية قادرة على التشابك مع الوضع الجديد لمرحلة ما بعد الأخلاق، بهدف الانتقال من هذه المرحلة المأساوية إلى مرحلة جديدة، هي: العودة إلى الأخلاق.

  الثابت في تاريخ الأخلاق الإسلامية أن الاشتغال الأخلاقي في الفكر الإسلامي المبكِّر كان يجري في إطار النطاق المركزي، بحيث اقتحم التفكير الأخلاقي كلَّ مناحي الحياة؛ كالأدب والطب والكيمياء، والبصريات، والفلك، والرياضيات...، والتي لم يكن هدفها السيطرة على الكون وتغيير طبيعته (كما هو حال الحداثة الغربية)، وإنما كان هدفها فهم حِكمة الله في خلق الكون؛ من أجل استلهام سُبل الاهتداء بالعلم والأخلاق والعدل الإلهي في الأرض[2].

 وقد كانت المدارس الأخلاقية الإسلامية تقوم بأدوار طلائعية، على مستوى تخليق العلوم وتخليق الحياة، وقد سبق للأخلاقيين الصوفية[3] في الفكر الإسلامي الكلاسيكي أن قدَّموا تجربة أخلاقية في هذا الصدد، يمكن أن نستلهم منها دروسًا معاصرة؛ بحيث لما تردَّى الوضع الأخلاقي في مرحلة زمنية في العصور الأولى -خاصةً في جانب الأخلاق الدينية[4]- عندما اندفع المسلمون وتزاحموا في غمار الحياة، وسادت في المجتمع مظاهر التحلُّل الاجتماعي والاقتصادي[5]، وتراجعت القوة التأثيرية للأخلاقيات الدينية في المجتمع، حينها طفق المفكرون الكبار من الأخلاقيين الصوفية إلى بناء نظرية أخلاقية صوفية، ذات منطلقات قرآنية، تمكَّنوا بفضلها من التأثير الأخلاقي في الحياة الفردية خاصَّة، ومواجهة الثغرات الأخلاقية الفردية التي بدأت تظهر على النفوس. ومن بين المفاهيم والأسس الأخلاقية[6] المبتكرة عندهم حينها، والتي بحثوها آنذاك: سياسة النفس، علم السلامة، المراجعة أساس السلوك، مراتب العمل، المقامات والأحوال، أصول الأخلاق، رياضة النفس، "فكرة الضمير"[7].

إلا أنه لا ينبغي أن يُفهَم من هذا أن مقاربة دراز الأخلاقية هي امتداد للفكر الأخلاقي الصوفي، وإنما أردنا أن نبيِّن بالتجربة التاريخية مدى قدرة المقاربات الأخلاقية الدينية على التشابك مع أي وضع أخلاقي مأساوي مهما كان.

أما مقاربة دراز الأخلاقية في الفكر الإسلامي المعاصر، فقد اتجهت إلى الأخلاق الاجتماعية والقواعد النظرية التي تستند إليها، وليس الأخلاق الصوفية، خاصةً أن السياق الذي أسَّس فيه دراز نظريتَهُ سياق مختلف تمامًا عن سياقات مقاربة الأخلاقيين ممن سبقوه. فقد أعدَّ دراز نظريتَهُ الأخلاقية في بيئة ثقافة غربية، بجامعة السوربون بفرنسا، دون أن يتأثَّر سلبًا بقِيم المجتمع الغربي، وكان يعرف جيدًا ما هي الفوارق العميقة بين مفاهيم الفلسفات المعاصرة ومفاهيم الإسلام[8]، وقد استغرق في إعداد هذه الرسالة ستَّ سنوات؛ وهي عبارة عن رسالة دكتوراه نوقشت أمام لجنة من أساتذة السوربون في 15 ديسمبر 1947م[9]. وقد أثبت دراز -بالدليل والبرهان للمفكرين الغربيين، ومن ورائهم كل المشتغلين بالفلسفات الأخلاقية القديمة والحديثة، خاصةً المستشرقين الذين يغضّون الطرف عن الرؤية الأخلاقية القرآنية- أن الإسلام له نظرية في الأخلاق تستطيع أن تقدِّم حلولًا للمشكلة الأخلاقية المعاصرة، وأن تجيب عن كل تساؤلاتها.

La Morale Du Koran
رسالة الدكتوراه بعنوان La Morale Du Koran 

وهكذا جاءت نظرية دراز الأخلاقية قرآنيةً في مصدرها، قادرةً على سدِّ الفراغات الأخلاقية المعاصرة. فهو لا ينكر وجود محاولات حديثة بحثت الأُسس النظرية للأخلاقية الإسلامية، "قد تمت خلال القرن التاسع عشر، من أجل استخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن، بيد أن إطار هذه المحاولات، كان في الغالب محدودًا، كما كان مضمونها بعيدًا عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية الحقَّة"[10]. وقد أثبت بصنيعه هذا قدرتَهُ على إخراج الفكر الأخلاقي من دائرة الجمود والمحدودية الموروثة، إلى دائرة الحيوية ومقارعة الأفكار الأخلاقية المعاصرة ذات طابع النسبيَّة واللامعياريَّة.

إن تأسيس الإطار النظري للأخلاق الإسلامية اليوم أضحى عملًا ضروريًّا من أجل بلورة "تقنيات ذات أخلاقية"[11] جديدة للعمل الأخلاقي؛ لتزكية الجانب الباطني لإنسان ما بعد الأخلاق، الذي عَظُمت سقطته الأخلاقية اليوم. على أن الأخلاق القرآنية لا تزال قادرة على تخليق الإنسانية، حتى "لو افترضنا أن الإنسانية...سوف تغيِّر ظروف حياتها إلى ما لا نهاية، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن -أنَّى توجهت- قاعدةً لتنظيم نشاطها أخلاقيًّا، ووسيلة لدفع جهدها، ورحمة للضعفاء، ومثلًا أعلى للأقوياء"[12]، ولن يتأتى ذلك ما لم نفتح باب الاجتهاد الأخلاقي لصياغة آليات أخلاقية معاصرة بناءً على أُسس نظرية متينة، كالتي استخلصها دراز من مرجعية الوحي المنزَّل.

ويؤكِّد دراز أن أغلب الدراسات في الأخلاق الإسلامية قد اقتصرت في الغالب على دراسة الجوانب العملية للأخلاق باعتبارها "نصائح عملية، هدفها تقويم أخلاق الشباب، حين توحي إليهم بالاقتناع بالقيمة العليا للفضيلة"[13]، وأغفلت الجوانب التنظيرية لمنظومة الأخلاق الإسلامية، وحتى الإنتاجات التي حاولت أن تلامس ما يسميه دراز "الأخلاق النظرية"[14] فقد كانت محدودة؛ فلا تعدو أن تكون محاولات وصفية "لطبيعة النفس ومَلَكاتها، ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، مرتب في غالب الأمر بحسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي"[15]. وبهذا وقعت في مأزق النَّهْل من مرجعيات أخلاقية أجنبية، كالمرجعية اليونانية وغيرها، وقامت بـ"تهميش المرجعية القرآنية في التأسيس لعلم أخلاقي إسلامي"[16].

 ويبدو أن الراغب الأصفهاني كان أولَ من استعار النموذج الأفلاطوني في تقسيم الفضائل الخُلقية إلى أربع: العفة والشجاعة والحكمة والعدال[17]، ثم اقتدى به غيره فيما بعد، فأصبح أغلب الإنتاج الأخلاقي في دائرة الفكر الإسلامي حينها خليطًا بين ما هو قرآني وما هو يوناني. وقد أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن بعض الأقلام الإسلامية في مجال الأخلاق استعارت بعض خصائص التفكير الأخلاقي من النظام الأخلاقي الفارسي، ومن ذلك الإمام الماوردي في كتابيه "نصيحة الملوك" و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك"؛ حيث "كان يفكِّر من منظور ينتمي في هذا المجال إلى الموروث الفارسي"[18].

وأمام هذا الخلط بين المرجعيات الأخلاقية، ينبري سؤالان مهمَّان: هل ثمة نموذج أخلاقي نظري معاصر نابع من القرآن الكريم، يصلح أن يكون نسقًا أخلاقيًّا قرآنيًّا خالصًا؟ وما هي أركان هذا النموذج وأُسسه؟

استخلص دراز من القرآن الكريم نسقًا معرفيًّا في الأخلاق النظرية، تأسس على خمسة أركان رئيسة -كما سنرى- هي: الإلزام الخلقي، والمسؤولية الأخلاقية، والجزاء، والنيَّة والدوافع، والجهد المبدع.

وللإجابة عن هذين السؤالين أبادر إلى القول بأن الدكتور محمد عبد الله دراز (ت1958م) قد أبدع في هذا المجال وأنتج نظرية متكاملة في الأخلاق النظرية، جديرة بأن تكون أساسًا نظريًّا للأبحاث والدراسات التي يمكن أن تُنجز في مجال الفكر الأخلاقي الإسلامي المعاصر، وقد أودع الشيخ دراز مجمل أفكار نظريته في الأخلاق كتابَهُ المتفرد في مجاله، والموسوم بـ"دستور الأخلاق في الإسلام". ومن ثَمَّ يمكن القول -دون مجازفة- إن درازًا أسَّس علم أخلاق القرآن، وقد أدرك أنه يسلك دروبًا غير مطروقة[19]، وبذلك يكون المؤلف رحمه الله قد أضاف لمسة متميزة في الفكر الأخلاقي الإسلامي المعاصر من خلال دراسته للأخلاق في جانبها النظري دراسة جديدة، جديرة بأن تكون أرضية صلبة للنقاش الأخلاقي الإسلامي المعاصر، وقد اعتمد في دراسته على مرجعية القرآن الكريم خاصَّة.

 ولم يسقط دراز في الأخطاء المنهجية التي سقطت فيها أغلب الإنتاجات الأخلاقية قبله، حيث لم "يظهر فيها النص القرآني كلية، أو هو لا يكاد يظهر إلا بصفة ثانوية"[20]. وبفضل منهجه المتمركز حول نصوص الوحي، استخلص دراز من القرآن الكريم نسقًا معرفيًّا في الأخلاق النظرية، تأسس على خمسة أركان رئيسة -كما سنرى- هي: الإلزام الخلقي، والمسؤولية الأخلاقية، والجزاء، والنيَّة والدوافع، والجهد المبدع. لكن قبل الخوض في تناول هذه الأسس النظرية، والإشارة إلى بعض مظاهر تفوقها على بعض الاتجاهات الأخلاقية المعاصرة التي تستند إليها حقبة "ما بعد الأخلاق"، وما تعانيه الوضعية الأخلاقية المعاصرة من نسبية وغياب للمعيارية، يجدر بنا أن نحدِّد الإطار المفاهيمي للأخلاق وللنظرية الأخلاقية في فكر دراز.

أولًا: التحديد المفهومي

مفهوم الأخلاق في اصطلاح دراز

الأخلاق جمع خُلُق، ويعني في اللغة: "السجية والطبع والمروءة والدين"[21]، فالخَلْق يختلف عن الخُلُق: الأول مختصٌّ "بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر"[22]، والثاني مختصٌّ "بالقُوى والسجايا المدركة بالبصيرة"[23]، فالأخلاق بهذا المعنى اللغوي تدور حول الصفات الباطنية الداخلية للإنسان من حيثُ كونها صفات راسخة في الباطن توجّه السلوك في الظاهر.

وقد تواضع أغلب المشتغلين بالأخلاق على حدِّ الأخلاق بأنها "حال للنَّفْس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية"[24]. لكن الدكتور محمد عبد الله دراز يرى أن هذا الحدَّ لم يفِ بالغرض التعريفي لمفهوم الأخلاق، وهو ما دفعه إلى تعديل هذا الحدّ، وذلك بإدخال قيد دقيق على التعريف الأخلاقي الموروث، حيث رفض أن تكون الأخلاق صادرة عن مطلق النَّفْس، وإنما هي تصدر عن قوة الإرادة، فجاء حدُّه للأخلاق كالآتي: "الخُلق هو قوة راسخة في الإرادة تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصلاح إن كان الخلق حميدًا، أو إلى اختيار ما هو شرّ وجور إن كان الخلق ذميمًا"[25]. ويبدو أن عِلة قصر صدور الأخلاق عن قوة الإرادة فقط -دون مطلق النفس- هي أن "للنفس قوى مختلفة ووظائف متعدِّدة. فهناك ملكات الإدراك، والتفكير، والحكم، والتخيّل، والتذكّر..."[26]، ولا يمكن للنفس عبر هذه القوى المتعدِّدة الوظائف أن تشتغل كلها بالأخلاق، وإنما الجزء المختص بالخُلق في النفس هو قوة الإرادة دون غيرها، وهذا يدلُّ على وجاهة تعريف دراز لمصطلح الأخلاق.                                                                                         

النظرية الأخلاقية الإسلامية

هي نسق معرفي نظري جامع لمبادئ النظام الأخلاقي وقواعده في القرآن الكريم والسنة النبوية، ويشكِّل إطارًا معياريًّا يصلح أن تُبنى عليه الممارسات الأخلاقية وتُقوّم بقواعده.

وقد أبدع الدكتور محمد دراز نظرية أخلاقية متماسكة من منظور قرآني، وبذلك ملأ فراغًا لم ينهض أحدٌ من المسلمين أو المستشرقين قبله بملئه، ولم يسبق لأحدٍ قبله أن قام باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه[27]، وبسط دراز أسس هذه الشريعة الأخلاقية وأركانها في كتابه القيم "دستور الأخلاق في القرآن"، وذلك هو العمل المتفرد الذي خاض غماره، وجعل القرآن الكريم مرجعَهُ الرئيس، يستخلص منه "الإجابة عن كل مسألة، بالرجوع المباشر إلى النص، وهنا تكمُن الصعوبة؛ فإن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية"[28].

إن نظرية الأخلاق في القرآن كما صاغها دراز تناولت الأخلاق النظرية، بكيفية تأصيلية تجاوز فيها منهجية السابقين التي لم تزد على اجترار أفكار أخلاقية ذات مرجعية يونانية في الغالب؛ كوصفِ مَلَكات النفس ومراتبها، وأقسام أمهات الفضائل وغيرها، إلى وضع إطار نظري جامع للجوانب الكلية والقضايا الجامعة لعلم الأخلاق في القرآن، والذي كشف لنا: "من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي الشروط تَفرض نفسها؟ وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأي وسيلة تُنال الفضيلة؟ والإلزام، والمسؤولية، والجزاء، والنيَّة، والجهد، تلكم هي العُمد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية واعية بمراميها"[29].     

ثانيًا: أُسس النظرية الأخلاقية الإسلامية

الإلزام

 الإلزام أهمُّ ركن تنبني عليه الأنظمة الأخلاقية في المجتمعات البشرية، فلا بدَّ أن "يستند أيُّ مذهب أخلاقي جدير بهذا الاسم على فكرة الإلزام (l’obligatio)، فهو القاعدة الأساسية، والمدار، والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فَقْده إلى سحقِ جوهر الحكمة العملية ذاته وفناء ماهيتها؛ ذلك أنه إذا لم يعُد هناك إلزام فلن تكون هناك مسؤولية، وإذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تعود العدالة؛ وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام، وتعمّ الهمجية، لا في مجال الواقع فحسب، بل في مجال القانون أيضًا"[30].

الخطاب القرآني "لم يقتصر على الملكات العقلية وحدها، فلقد عُني في الوقت نفسِه عناية كبيرة بإيقاظ أشرف مشاعرنا وأزكاها، بيد أنه لم يحرك هذه إلا تحت رقابة عقلنا، فهو يتوجه إلينا دائمًا، أعني: يتوجه إلى ذلك الجانب المضيء من أنفسنا

فالإلزام الأخلاقي مبدأ يستند إلى القرآن الكريم باعتباره كتابَ إلزام وتكليف، نظرًا لكثرة واجباته الأخلاقية الإلزامية، من قبيل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} [النحل: 90]، وقوله تعالى: {إن الله يأمُركُم أَنْ تُؤَدّوا الأمانات إلى أهْلِها وإذا حَكَمتُم بَيْن النّاس أنْ تحكُموا بالعَدل} [النساء: 57].

 إن الأخلاق القرآنية عند دراز قائمةٌ على فكرة الواجب الذي يخاطب فينا ملكات النَّفْس المسؤولة عن تخليق ذواتنا وتزكية قلوبنا، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَح مَنْ زكّاها وقَدْ خاب مَنْ دسّاها} [الشمس: 9-10]، فالإنسان كائنًا ما كان يتمتع بحاسة خُلقية تفرض عليه -على الأقل- الإنصات للواجب الخلقي؛ لأنه واجب متناغم في طبيعته مع الحاسة الخلقية، ومن هذا المدخل الفطري الشعوري ينبغي أن تتمَّ محاورة إنسان ما بعد الأخلاق، خاصةً أن الخطاب القرآني "لم يقتصر على الملكات العقلية وحدها، فلقد عُني في الوقت نفسِه عناية كبيرة بإيقاظ أشرف مشاعرنا وأزكاها، بيد أنه لم يحرك هذه إلا تحت رقابة عقلنا، فهو يتوجه إلينا دائمًا، أعني: يتوجه إلى ذلك الجانب المضيء من أنفسنا... ومن المشاعر السامية التي حركها القرآن الكريم فينا، نذكر على سبيل المثال ما جاء فيه دعمًا لسائر واجباتنا الاجتماعية، بالمعنى الأوسع لكلمة (مجتمع)، ألا وهو الشعور بالأخوة الإنسانية: {يا أيُّها النّاس إنّا خَلقْناكُم من ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلناكُم شُعوبا وقَبائِل لِتَعارَفوا} [الحجرات: 13]"[31]. إذن، لا نتصور قاعدة أخلاقية بدون إلزام، ومن مميزات  القواعد الأخلاقية أن الشرع الإلهي يأمرنا بها، والبصيرة الخلقية بداخلنا تحثُّنا عليها باستمرار وتلومنا في حال عدم احترامها، قال الله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بَصيرةٌ ولو أَلْقى مَعاذِيرَهُ} [القيامة: 14-15].

إن الفضيلة الخلقية، "بالإضافة إلى جمالها الذاتي مُؤثرة ومُحركة بطبيعتها، تدفعنا إلى العمل لكي نجعل منها حقيقة فعلية؛ لأن الخير الأخلاقي يتميز بتلك السلطة الآمرة تجاه الجميع، وبتلك الضرورة التي يشعر بها كل إنسان بوجوب تنفيذ نفس الأمر، مهما كانت حالته الشعورية، مما يجعل مخالفة ذلك بغيضة ومستهجنة"[32].

يرى دراز أن الواجب الأخلاقي القرآني يختلف عن الواجب الأخلاقي لدى الفيلسوف الألماني كانط (kant) الذي اتسمت نظريته في الأخلاق بالشكلية المحضة؛ فقد ربط كانط أخلاق الواجب بـ"سلطة عليا تفصل في الأمر، هذه السلطة ليست المجتمع على كل حال؛ لأن الموضوع يتعلق بالسلوك الأخلاقي لا بالتشريع... واعتقد أنه وجدها في العقل في صورته الصافية المجردة، برغم اعترافه بعجز العقل عن التوصل إلى تحديد الواجبات الإنسانية"[33]. أما الواجب الأخلاقي في القرآن -حسب دراز- فإن القرآن لا يُقدمه بالشكلية المحضة، بل يورده وهو يتسم بالموضوعية والشمولية، فهو جامع بين الخُلُق الفطري والأمر الإلهي في تناغمٍ وانسجام، فهو -أي القرآن الكريم- "لا يقدِّم لنا الأمر الإلهي كسلطة مطلقة -مكتفية بذاتها كسلطة- لتكون في نظرنا أساس سلطان الواجب على ضمائرنا، بل إن مما يثير العبرة حقًّا أن نلاحظ -على عكس ذلك- كيف أن هذا الكتاب الكريم يُعنى عناية فائقة بأن يَقْرن كل حكم في الشريعة بما يُسوغه، ويربط كل تعليم من تعاليمه بالقيمة الأخلاقية التي يتأسس عليها"[34]، وكثيرًا ما أورد الخطاب القرآني الأخلاقي صورًا لهذا التناغم الأخلاقي بين الأمر الأخلاقي وبين قيمته الأخلاقية. فعلى سبيل المثال، دعانا القرآن إلى "أن نتقبل من أهلينا كل تسوية للصلح، حتى ولو كانت في غير صالحنا، ويؤيد دعوته بتلك الحكمة: {والصلح خير}... ولكي يُسوغ قاعدة الحياء، التي تطلب من الرجال أن يغضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم، نجده يسوق هذا التفسير {ذلك أزكى لهم}"[35]، فهذا الاعتبار الأخلاقي الذي يقرن به القرآن واجباته الأخلاقية يدفع الإنسان إلى التأمل القلبي في الواجب الأخلاقي، تمهيدًا للاستحواذ على قبوله.

ونختم الإلزام الأخلاقي بإشكالية تتعلق بتناقضات الإلزام. بحيث لم تقدر الاتجاهات الأخلاقية المعاصرة على وضع حلٍّ نهائيٍّ لها، خلافًا لنظرية دراز القرآنية ذات الحلول الدقيقة أخلاقيًّا، ويتعلق الأمر بـ"تنازع إرادتين مختلفتين"؛ فالمشرع الأخلاقي يحرص على سلطته الأخلاقية، والإنسان الفاعل يدافع عن حريته. فما العمل؟

نبدأ بنظرية كانط التي لم تكتفِ برسم خطٍّ فاصلٍ بين فكرة الأخلاق وفكرة الحياة الحسيَّة، من أجل مقاومة مظاهر الرعونة والترف في الحياة الأخلاقية، بل بالغ في طرحه الفكري، وجرَّد مفهوم الواجب من كل تجربة حسية، واعتقد أنه بهذا المعيار قد حلَّ الإشكال، والحقيقة أن هذا التدبير الصارم لم يحل الإشكال القائم؛ لأن الذات الإنسانية ذاتٌ حسيَّة، تنشط بإرادة حُرة، وليس بإرادة ميكانيكية.

أما بالنسبة إلى نظريات الحرية التجريبية[36]، فهي على عكس أطروحة دراز؛ حيث دافعت عن الحرية التجريبية للذات الإنسانية، معتبرة أن الإنسان هو الذي يُنتج الأخلاق بحريته الذاتية بالكيفية التي يشاء، ليتجاوز الإنسان بها نفسه؛ ليصبح فوق الإنسان (surhomme)[37]، وهنا مكمن خطورة هذا المذهب الذي حاول أن يؤسِّس للنسبية واللامعيارية الأخلاقية، وهي الأساس المؤطر لسلوك إنسان "ما بعد الأخلاق"؛ بحيث تمَّ تجاوز القِيم الأخلاقية العليا الحاكمة للسلوك، والاكتفاء بالقيم المادية والحسية النابعة من التجربة والحرية. فضلًا أن القانون الأخلاقي الأعلى لا يمكن أن ينبع من التجربة الذاتية، وإنما هو موضوع للبرهنة أو الإيمان[38]، وإلا سندفع بالأخلاق إلى متاهات ينتج عنها تدهور الحياة الأخلاقية للإنسان المعاصر، ويبدو أن هذه النتيجة هي الحاصلة في حقبة ما بعد الأخلاق.

يعقب دراز على هاتين النظريتين المتناقضتين اللتين لم يأخذ كلٌّ منهما من الحقيقة الأخلاقية إلا جانبًا واحدًا، ويؤكد أن النظرية القرآنية جمعت الفكرة بالموضوع، والشكل بالمادة، والغرض بالتجربة، وبيَّن أن الإلزام الأخلاقي القرآني إنما هو توليفة من مثلٍ أعلى قادم من المشرع الأخلاقي، ومن الواقع الحاضر؛ وهو تركيب يُرشد الضمير الإنساني الذي هو الرابطة المتينة بين "المثل الأعلى" و"الواقع"، بحيث ينشأ عن هذا المزج ثبات القانون الأخلاقي[39].

 وليستدلّ دراز على وجاهة فكرته الإلزامية ذات التركيبة المزدوجة، ينطلق من قول الله تعالى: {فاتَّقوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، حيث يؤكِّد أن النص القرآني لم يقُل لنا: اصنعوا ما بدا لكم حسنًا بحسب ما تُلهِمكم اللحظة، ولا هو جاء بصيغة الواجب الاستبدادي الصارم الذي لا يقبل استثناءً ولا تعديلًا كما عند كانط؛ فبهذه العبارة الجامعة يحثنا القرآن على أن نستقي شريعتنا الأخلاقية من النص، وفي الوقت نفسِه نستند على قواعد صلبة من الواقع. وبذلك يلتقي طرفا الخيط صعودًا نحو المثل الأعلى، وحفاظًا على الفطرة، أي: "خضوع للقانون الأخلاقي، وحرية للذات"[40].

وبذلك تسلم نظرية دراز الأخلاقية من شكلية نظرية كانط الصارمة، ومن فوضوية نظرية الحرية التجريبية؛ وتصلح لقيادة البشرية في عصرنا الراهن؛ لقدرتها على الجمع بين المتناقضات دون الميل إلى جانب على حساب آخر.

وبالنظر إلى الدور الإيجابي للمسؤولية الأخلاقية، فقد ربطها الخطاب الديني بجميع الأنشطة الاجتماعية التي يمارسها الإنسان، وقد جاء في البيان النبوي: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته

المسؤولية الأخلاقية

المسؤولية عنصر مهم جدًّا في النظرية الأخلاقية؛ فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرتَي الإلزام والجزاء، و"هذه الأفكار الثلاثة...لا تقبل الانفصام، فإذا ما وُجدت الأولى تتابعت الأخريان على إثرها، وإذا اختفت ذهبتا على الفور في أعقابها. فالإلزام بلا مسؤولية يعني القول بوجود إلزام بلا فرد ملزَم، وليس بأقل استحالة من ذلك أن نفترض كائنًا ملزمًا ومسؤولًا بدون أن تجد هذه الصفات ترجمتها وتحققها في جزاء مناسب"[41]. وهذا الربط اللزومي بين المسؤولية والإلزام هو سِرُّ التزام الفاعل الأخلاقي بالخلق الحميد ونبذ الخلق الذميم، فيلتزم بالأخلاق ويُعد للحساب والمساءلة، وينتظر الجزاء، "فما لم يكن الإنسان مسؤولًا، وما لم يكن محاسبًا على أفعاله يغدو التشكيك لا مهرب منه... فالحساب أو تحقق المسؤولية شرط لازم للالتزام الأخلاقي والإلزام الأخلاقي"[42].

  إن أساس المسؤولية الأخلاقية في نظرية دراز هو "المقدرة على أن يُلزم المرء نفسه أولًا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بواسطة جهوده الخاصة"[43]، وقد حصر القرآن الكريم المسؤوليات في ثلاثة أنواع: "المسؤولية الدينية، والمسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية الأخلاقية الخالصة؛ ذكرها القرآن في آية واحدة بنفس الترتيب، قال سبحانه: {يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَخونوا الله والرَّسولَ وتَخونوا أَماناتِكُم وأَنْتُم تَعْلَمون} [الأنفال: 27]"[44].

وبالنظر إلى الدور الإيجابي للمسؤولية الأخلاقية، فقد ربطها الخطاب الديني بجميع الأنشطة الاجتماعية التي يمارسها الإنسان، وقد جاء في البيان النبوي: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته"[45]. وينبغي التنبيه إلى أن قيام المسؤولية الأخلاقية والدينية مشروط بشروط[46]، أجملها دراز فيما يلي:

- الطابع الشخصي للمسؤولية، قال تعالى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [فاطر: 18].

- الأساس القانوني للمسؤولية: يعلمنا القرآن ألَّا أحد يُحاسَب على أفعاله، ما لم يكن قد علم بالأحكام مسبقًا، ويكون هذا الإعلام بطريق خارجي وهو الشرع الإلهي، وطريق داخلي وهو قواعد القانون الأخلاقي، ففي أكثر صورها شمولًا مسجلة ومركوزة في نفوسنا بشكل ما.

- أن يكون العمل الإرادي متصورًا في ذهن صاحبه بالطريقة نفسِها وبوجهة النظر ذاتها التي تصورها عنه الشرع.

- الحرية: فلا معنى للفعل الأخلاقي الذي لا ينبع من الإرادة الخالصة.

وبالإجمال، فإن "المبدأ القرآني للمسؤولية ذو نزعة فردية، يستبعد كل مسؤولية موروثة أو جماعية"[47].

ولو حاولنا أن نقارن مبدأ المسؤولية الأخلاقية في نظرية دراز مع بعض النظريات الأخلاقية الحديثة، لَقُلنا: إن المسؤولية الأخلاقية في نظر دراز هي صمام أمان انضباط الإنسان أخلاقيًّا، وضامن عنصر الإلزام الأخلاقي، وبها يستطيع الفرد الخروج من دائرة الأنانية المقيتة المتمركزة حول الذات الفردية، وهكذا يحصل عندنا علاقة تناغم بين عنصرين فريدين في العمل الأخلاقي: الرعاية والمسؤولية، فـ"لا رعاية بدون مسؤولية"[48]، مسؤولية الفرد تجاه الجماعة ومسؤولية الجماعة -التي هي مجموع الأفراد- تجاه الفرد. فالأخلاق الاجتماعية في نظر دراز تبدأ من عنصر المسؤولية الأخلاقية، وصولًا إلى الرعاية الأخلاقية الشاملة (ويسميها طه عبد الرحمن برعاية الأمانات)[49].

وهذا على عكس مذهب النفعيين، أمثال هوبز وبنتام وغيرهما، الذي يسعى إلى تشكيل إنسان غير مسؤول وغير ملتزم بالقيم الأخلاقية العليا؛ جاعلًا كلَّ همِّه طلب زيادة المنافع واللذات الحسيَّة[50]، لإشباع الأنانية الفردية. بحيث اعتبر بنتام "أن علم الأخلاق لا يهدف إلى خلق أولياء وقديسين... وبحساب اللذَّات يمكن تقييم نشاط الإنسان"[51]؛ وهذا ما يعني أن نظرية المنفعة لها وظيفة سلبية وخطيرة على القِيم العليا؛ لكونها تشقُّ طريقها نحو تفكيك المسؤولية، وتحويل الإنسان إلى كائن مادي سلبي محصور في دائرة القيم الأوَّليَّة النفعيَّة[52]، القائمة على العناية بالماديات واللذات، دون القدرة على الرقي إلى مستوى القيم الأخلاقية، القائمة على تحمُّل الأفراد مسؤولياتهم تجاه جميع الكائنات، والاستعداد للمحاسبة أمام الضمير الشخصي والجماعي.

من هذه المقارنة، يظهر مدى إنسانية نظرية دراز، وتفوقها الأخلاقي على نظرية النفعيين التي تستند إليها -في الغالب- الحياة الأخلاقية المعاصرة. فإلى متى سيظل الإنسان المعاصر فاقدًا لهويته الأخلاقية العليا؟ وإلى متى سيظل مُستندًا لمقاربات أخلاقية أثبتت حركة التاريخ أنها تشكِّل خطرًا على الإنسان نفسه قبل غيره من الأحياء؟

رغم كل هذا التفوق الذي تتمتع به نظرية دراز في عنصر المسؤولية الأخلاقية، فهل يمكن القول إنه قد كفانا عناء مواصلة البحث والدراسة في جوانب المسؤولية الأخلاقية؟

 أعتقد أن درازًا له فضل السبق في التأصيل القرآني للمسؤولية الأخلاقية من حيث التنظير، إلا أن البحث عن آليات وتقنيات جديدة لتوطين فكرة المسؤولية الخُلقية في ممارسات إنسان ما بعد الأخلاق وأنشطته (في مجالات الطب والفن والبيئة والتصنيع والحرب...) لا يزال في حاجة إلى المزيد من الاجتهاد والنظر الأخلاقي.

الجزاء

بعد دراسة دراز لركنَي الإلزام والمسؤولية، بالنظر إلى كونهما جوهر النظرية الأخلاقية، يأتي بعدهما ركن مهم، وهو بمثابة ضابط لعلاقة الإنسان بالقانون الأخلاقي، أَلَا وهو عنصر الجزاء.

فليس يكفي أن يقال إن الخير يطهّر القلب ويقوّي الإرادة ويدعمها، وإن الشرّ يفسد النَّفْسَ ويدنّسها؛ ذلك أن أثرهما يذهب إلى ما هو أبعد بما لهما من انعكاسات وأصداء على قوى النفس

فالقانون الأخلاقي يتوجه بقواعده الخلقية إلى إرادتنا الطيبة، فهو بذلك يُلزمنا بأن نستجيب لدعوته، وبمجرد ما نجيبه نتحمل مسؤولياتنا، وأخيرًا يقوِّم القانون مواقفنا حياله، ثم يجازينا[53]. فالعملية -إذن- ثلاثية الأطراف، وتكشف معنى جامعًا للمسارات الأخلاقية التي يقطعها الفاعل الأخلاقي.

 ويُقصَد بالجزاء الأخلاقي "تحقُّق الشعور الداخلي بالمتعة أو الألم"[54]. ونشير هنا إلى أن الجزاء القانوني يختلف عن الجزاء الأخلاقي: فالأول ذو أثر مادي خارجي، بينما الثاني يعتمل في الجانب الشعوري الباطني في الغالب. فـ"المتعة والألم اللذان نحسُّ بهما بعد أن نفعل خيرًا أو شرًّا هما ردُّ فعل لضميرنا على ذاته أكثر من أن يكون ردَّ فعل للقانون علينا"[55].

وبالعودة إلى النصوص الشرعية، نجد أنها أصل لهذه العلاقة الجزائية بين الفعل الأخلاقي وبين رد فعل الضمير؛ فالنفس تغمرها سعادة روحية عند أدائها لواجب خُلقي، وتشعر بلوم باطني عندما تقترف عملًا غير أخلاقي. ففي نص حديثي استشهد به دراز وبيَّن من خلاله أن درجة شدَّة هذا اللوم الباطني تعكس صدق إيماننا، وتقيس درجته قياسًا دقيقًا، فنحن نشعر فعلًا بجسامة ذنبنا وخطورته على نحو متفاوت، تبعًا لدرجة شعورنا الحيِّ بالتكليف[56]، ويتعلق الأمر بحديث ابن مسعود: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذُباب مرَّ على أنفه"[57]،  وقد ساق القرآن عدَّة أمثلة من ممارسات الخير والشر التي تُحدِث أَثَرَها في النَّفْس الإنسانية، ومنها ما يلي:

- محاسن الفضيلة: كالصلاة فهي ذات وظيفتين أخلاقيتين، فهي لا تقتصر على كونها {تنهى عن الفحشاء والمنكر}، ولكن {ولذكر الله أكبر}؛ فهي تجعلنا روحيًّا على اتصال بالمنبع الشامل لجميع الكمالات. وكذا الحكمة، فإن الأداء الدائم للأفعال الفاضلة يجعل الإنسان حكيمًا، شجاعًا في خصومته، كريمًا في رخائه[58]، قال الله تعالى: {إنّ الإنسان خُلق هَلوعاً، إذا مَسّهُ الشَّر جَزوعاً، وإذا مَسَّهُ الخيْرُ مَنوعاً إلا المصَلِّينَ} [المعارج: 19-22].

- قبح الرذيلة: فالرذيلة -حسب دراز- وتبعًا لقانون الجزاء الأخلاقي، وفوق أنها تؤلم النفس، فإنها تدفع الإرادة لتَتَخلَّق بتخَلُّقات أسوأ من سابقتها، ومن أمثلة ذلك: الكذب، فهو رذيلة خُلقية خِصبة في الشر الأخلاقي؛ بحيث تنتج عنها رذائل أخرى أسوأ منها، يقول سبحانه وتعالى: {إِنّما يَفْتَري الْكَذِبَ الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ بِآيَةِ اللهِ} [النحل: 105]. والقرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فهو لا يكتفي بأن يخبرنا بأن الكذب هو رأس الفساد، بل يقدِّمه على أنه صفة النَّفْسِ الكافرة من حيث كان متنافرًا مع الإيمان الأخلاقي[59].

فليس يكفي أن يقال إن الخير يطهّر القلب ويقوّي الإرادة ويدعمها، وإن الشرّ يفسد النَّفْسَ ويدنّسها؛ ذلك أن أثرهما يذهب إلى ما هو أبعد بما لهما من انعكاسات وأصداء على قوى النفس، فكل قوةٍ من قوانا النفسية تتلقى نصيبها من الجزاء الأخلاقي، حتى على مستوى الذكاء، فإن اضطراب الهوى يصدئ مرآة الفكر، ويشوّه إدراكها للحقيقة، لقوله تعالى: {كَلّا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهم ما كانوا يَكْسِبونَ} [المطففين: 14]، في حين أن التوازن الناشئ عن فعل الخير الأخلاقي يجعل الإنسان قادرًا على تمييز الحق والباطل، والحسن والقبح[60]، قال الله تعالى: {يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا إِنْ تَتَّقوا الله يَجْعَل لَكُمْ فُرْقاناً} [الأنفال: 29].

النيَّة والدوافع

النيَّة ركنٌ مهمٌّ في النظرية الأخلاقية القرآنية، ويمثِّل الوجه الداخلي للضمير الأخلاقي، وهو الأساس الذي يقوم بدور الدافع الباطني نحو الخير الأخلاقي، ولأهمية هذا الدور جاء التأكيد على عنصر النيَّة في العديد من النصوص الشرعية، قال الله تعالى: {هَذا ما تُوعَدونَ لِكُلِّ أَوّابٍ حَفيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ} [ق: 32-33]، وقال أيضًا: {ولا تُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتى الله بِقَلْبٍ سَليمٍ} [الشعراء: 87-89].

هذا الركن يتضمَّن ثلاثة أجزاء أساسية تتجلَّى في: "إدراك ما يجري عمله، وإرادة إنجاز العمل، واستهداف ذات العمل من حيثُ إنه مأمور به وواجب"[61].

وقد ميَّز دراز بين نوعين من النيَّة: نية أخلاقية غائية، ونية نفسية موضوعية؛ فالأُولى يشتغل بدراستها الأخلاقيون خاصة، والثانية يشتغل بها علماء النفس والقضاة وغيرهم[62]. والفرق بين القسمين من النيَّة أن "النية النفسية لا تفعل أكثر من أن تمنح العمل حق الحياة، والنية الحسنة أخلاقيًّا تجلب إليه ما يناسبه من القيمة"[63].

وفي سياق تحليل دراز لركن النية الأخلاقية، فقد عالج جملة من القضايا والإشكالات -المرتبطة بهذا الركن- نعرض لها هنا بشكل سريع:

- النيَّة شرط لصحة الفعل الأخلاقي: فالقانون الأخلاقي يقرر أن أعمالنا لا تُنسب إلينا إلا بما يتناسب مع درجة النيَّة التي نؤديها بها، فمن الناحية الأخلاقية لا يدخل في باب الأخلاق أيُّ عمل لا يكون في آنٍ واحدٍ إراديًّا وشعوريًّا ومعقودًا عليه النية، خلافًا للقانون الاجتماعي الذي يكتفي في العمل أن يستوفي بعض الشروط الموضوعية البحتة التي تتعلق بالمكان والزمان والكمّ والكيف، بصرف النظر عن النشاط الإرادي وأثره[64].

- النيَّة وطبيعة العمل الأخلاقي: وهنا بحث دراز "الدور الإيجابي للنيَّة، أي درجة فاعلية وجودها، أي ما إذا كانت النيَّة تُحدث أثرًا في طبيعة العمل ذاتها. وبعبارة أخرى، ما إذا كان العمل السيئ الذي يقع بحسن نيَّة يكتسب قيمة أخلاقية ويصبح عملًا فاضلًا، وما إذا كان العكس صحيحًا"[65].

- فضل النيَّة على الفعل: الجانب القلبي له تأثير فعَّال بالخير والشر في الجانب الحسي من الإنسان، فسلامة العنصر المادي (البدن) رهينةٌ بسلامة العنصر الأخلاقي (القلب)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب"[66].

- إخلاص النيَّة واختلاط البواعث: حسم القرآن الكريم أمر النيَّة الخالصة لدى الإنسان، وحصرها في التوجُّه القلبي الخالص إلى عبادة الله عز وجل القائل: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدونِ} [الذاريات: 56]. ومن ثَمَّ فإن "كل البواعث التي تضاف إلى إرادة الطاعة تفسد قيمة العمل وتحرمه من رضا الله تعالى"[67]، هذا التوجُّه المطلق هو المطلوب لكي نقول عن النيَّة إنها حسنة.

 ولكن أثار دراز هنا تساؤلات كانت موضع نقاش لدى بعض الأخلاقيين المسلمين السابقين كالغزالي والمحاسبي، من قبيل: هل هذا التوجُّه الخالص للنيَّة هو واجب صارم لا يشتمل على درجات؟ هل الفطرة الإنسانية قادرة دائمًا على تحقيق هذا النوع من التجرد؟ فيعتقد دراز أن مبادئ القرآن الكريم تستميلنا لنكون أقل تشددًا في النقاط الوسط، عن النقاط التي في أقصى النقيض؛ فإذا لم يكن الشيء في حدود استطاعتنا، وما دام أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فيجب أن نؤول النصوص التي تطالبنا بهذا التجرد المطلق على أنها تحدِّد نقطة الذروة للقيمة الأخلاقية كي تتجه جهودنا نحوها دون أن تبلغها؛ وبذلك يكون الابتعاد عنها عيبًا وليس ذنبًا، وعدم كمال وليس فجورًا[68].   

 ومن هذا المدخل نقرر -مرة أخرى- أن درازًا قد تفوَّق على النفعيين في مبدأ البواعث على الفعل الأخلاقي؛ لأن الأخلاق عند دراز تتأسَّس على النوايا والبواعث الأخلاقية؛ وهي التي تمنح الفعل قيمتَهُ الأخلاقية، ومكانتَهُ ضمن قواعد الأخلاق العليا في المجتمع، جاعلة من الإنسان كائنًا أخلاقيًّا ذا إرادة مشبعة بالخير، تجاه الذات وتجاه الغير، ولكن على العكس من ذلك نجد مذهب النفعيين[69] -بزعامة بنتام (bentham)- لا يهتمُّ بالمقاصد والنوايا، وإنما هَمُّه النتائج والغايات، حيث حوَّل الأفعال الأخلاقية إلى مجرد السعي وراء الوسائل المؤدية إلى اللذَّة، دون أي اعتبار للقيم الإنسانية العليا. ويبدو أن هذا المذهب هو الذي رسَّخ لدى إنسان ما بعد الأخلاق هوسَ السعي المفرط وراء اللذَّات، حتى أصبح الإنسان مفتقرًا تمامًا إلى الإحساس بالقيم التي تكمُن وراء الأشياء، وتضفي عليها كل ما له معنى[70].

 يؤكد دراز أن الإنسان متى ترك النيَّة الحسنة سيهبط على الفور إلى مستويات الغايات الذاتية، أي "المنفعة"، وليس هناك وسيلة للخروج من هذه المعضلة إلا أن نُنشِّئ الإرادة الإنسانية على نوايا حسنة تخدم الخير ذاته، وليس المضي للبحث عن الخير الذاتي (الأنانية)[71]. فليس مذهب المنفعة واللذَّة -إذن- بقادر على أن يؤسس أي مبدأ أخلاقي للخير؛ لأنه مذهب لا يستند إلا إلى القيم الأولية النفعية (النظام الطبيعي) ولا يتجاوزها. وعلى عكس ذلك مذهب الواجب الأخلاقي القرآني، الذي يستقي من النظام المتعالي القِيَمَ الأخلاقية الحاكمة لتفاعله مع النظام الطبيعي[72].

 لقد دعانا الخطاب القرآني في العديد من أوامره إلى تحريك إرادتنا الأخلاقية نحو تحقيق القِيم العليا، ففي كل موضع منه نستمع دعوة إلى الجهاد الثابت المستمر، من أجل فعل الخير ومقاومة الهوى والشرور، وكظم الغضب...، وقد مضى القرآن الكريم إلى حد أن أدخل فكرة هذا الجهد المبدع في تحديد عناصر الإيمان الصادق نفسه

الجهد الأخلاقي

بعد أن درس دراز العلاقة الوثيقة بين عنصرين مهمين في نظريته الأخلاقية، وهما النيَّة والعمل، وبعد أن حدَّد الدور الإيجابي لعنصر النيَّة في إصلاح الضمير الأخلاقي؛ انتقل إلى بيان الدور الفائق الذي يؤديه عنصر العمل باعتباره "السلاح الوحيد، الهجومي والدفاعي، في معركة الفضيلة"[73].

فالإنسان في نظر دراز" كائن أخلاقي"[74]، قادر على بلوغ الكمال، قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها} [الشمس: 7-10]. فالجهد عند دراز "لا يعرّف بأنه العمل بصفة عامة، وإنما العمل بالعزم، ويكون موضوعه إما مقاومة قوة أو قهر مقاومة"[75]، إلا أنه يوجد فوق هذ الجهد الطبيعي الذي تفرضه الغريزة جهد آخر يفرضه العقل وينبغي أن يوضع في خدمة مَثَل أعلى، هذا النوع من الجهد هو الذي عكف دراز على تحليله في إطار النظرية الأخلاقية الإسلامية[76].

 لقد دعانا الخطاب القرآني في العديد من أوامره إلى تحريك إرادتنا الأخلاقية نحو تحقيق القِيم العليا، ففي كل موضع منه نستمع دعوة إلى الجهاد الثابت المستمر، من أجل فعل الخير ومقاومة الهوى والشرور، وكظم الغضب...، وقد مضى القرآن الكريم إلى حد أن أدخل فكرة هذا الجهد المبدع في تحديد عناصر الإيمان الصادق نفسه[77]، قال الله تعالى: {إِنَّما الْمؤمِنونَ الّذينَ آمَنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهم وَأَنْفُسِهِمْ في سَبيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

وقد اهتدى دراز -بفضل تعمُّقه في دراسة آيات الأخلاق النظرية في القرآن الكريم- إلى اكتشاف نوعين من الجهد الأخلاقي:

- جهد مُدافعة: ويقصد به تلك "العملية التي نعارض بها الميول السيئة التي تحثنا على الشر باستخدام قوة مقاوِمة كفيلة باستبعاد هذه الميول. ولا يستطيع أحد أن ينازع في لزوم هذه العملية في كل مرة نواجه فيها قوة معادية تحاول أن تسيطر، فيكون واجبنا العاجل في هذه اللحظة هو كَبْت هذه الأهواء"[78]، قال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 49-50].

- جهد مُبدِع: وهو عملية تعقب النوع الأول، فبعد تخليص الإرادة الأخلاقية من الميول السيئة، فإن الفاعل الأخلاقي يبدع ميولًا نافعة حسنة، ويسعى إلى زرعها في إرادته الحرة، "وقد التقط دراز كلمات الجهد والجهاد من القرآن مقترنة بالأمر الإلهي في الآيات الآمرة بالعمل الفعَّال مصورًا ما يكابده الإنسان في الحياة متحملًا المسؤولية لتحقيق ما أسماه الإبداع الخيِّر، أي أن يبدع أعمال الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ومهما قابله من عقبات"[79].

وقد اختصَّ الصوفية بتناول مبحث الجهد وفاعليته تنظيرًا وتطبيقًا أكثر من غيرهم[80]، "والقرآن يستثير همتنا دون تحديد، مستعملًا فعل (عَمِلَ) في حالة اللزوم، ويصوغ لذلك أوامرَ وعظات"[81]، قال الله تعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} [التوبة: 106]، وقال أيضًا: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136].

وأرى أن درازًا لو ربط هذا الركن الأخير بمبدأ تقنيات الذات، وأبدع "تقنيات جهد مدافعة، وتقنيات الجهد المبدع"، لكان ركن الجهد في نظريته هو الأساس الجدير بإصلاح إنسان ما بعد الأخلاق، الذي فصل الأخلاق عن كل شيء، وقد وُصِف هذا الفصل بأنه فصل بين الحقيقة والقيمة، ووُصف أيضًا بالحرية الليبرالية المطلقة[82]، وقد أدى هذا الفصل إلى التنكُّر للأصل الأخلاقي للإنسان، وفقدان كينونته الأخلاقية. ولا سبيل إلى تدشين مرحلة العودة إلى الأخلاق إلا بإبداع تقنيات ذاتية تُسهل عملية التخلُّق بالأخلاق الإسلامية، وتُحدث توازنًا أخلاقيًّا داخليًّا لدى إنسان ما بعد الأخلاق، يعقبه توازن أخلاقي خارجي.

إن ما ينبغي أن يتجه إليه التفكير الأخلاقي اليوم هو إبداع تقنيات جديدة للتخلُّق العملي تنقل الإنسان المعاصر إلى طريقة عيش جديدة، تمنعه من حبِّ السيطرة والتسيُّد أو مجرد التفكير فيهما[83]. ومن هذا المدخل يدافع البروفيسور وائل حلاق عن قدرة نموذج التجربة الدينية المؤيَّدة[84] على إصلاح مآزق الحداثة الغربية، وهي تجربة أخلاقية نَظَّر لها الفيلسوف المغربي المعاصر طه عبد الرحمن، وهي تجربة ذات بُعْد باطني تهدف إلى إصلاح الجهاز الأخلاقي الداخلي لدى الإنسان المعاصر، وتوجيهه إلى العمل الأخلاقي، وتجسيد مفهوم الشمولية الأخلاقية[85] في حياته، بعد أن ظلمته الحضارة الحديثة، وألحقت أضرارًا فتاكة بكيانه الخُلقي[86]؛ حتى تضخَّم جانبه الحسي المادي على حساب الجانب الأخلاقي الروحي.

ومن أجل الخروج من المضار الأخلاقية، التي أصابت الفعل الخلقي في ظل الحضارة الحديثة، يقترح طه عبد الرحمن تقنيات تخلُّقية: "إما التوسل بأسباب الاشتغال الفعَّال الذي يراعي الحكمة والمآل، أو بالتخلُّق بأقدر الصفات الخلقية على الحياة والإحياء، أو بالاستغراق في الفعل الخلقي استغراقًا يشمل آلات الإدراك المختلفة. وإذا تقرر هذا، ظهر أن طرق التخلُّق المؤيَّد أقدر من غيرها على تقويم حضارة القول[87] من جهة تحجُّر عطائها الأخلاقي"[88].

 

خاتمة

بهذه الكلمات المختصرة نكون قد قربنا القارئ من المعالم الكبرى لأركان النظرية الأخلاقية عند الدكتور محمد عبد الله دراز، حيث حاولنا إبراز مدى التأصيل القرآني لأسس نظريته الأخلاقية، ومدى تماسك الأجزاء التكوينية لنظريته الخماسية الأركان (الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النيَّة، الجهد).

نظرية دراز الأخلاقية

 وتوصف نظرية دراز في تقدير الكثيرين من المعاصرين بكونها رائدةً في البحث في أخلاق القرآن[89] في الفكر الإسلامي المعاصر. لكن في المقابل هناك من يرى -كالشيخ يوسف القرضاوي- ضرورة "أن نضيف إليها بعض العناصر أو الجزئيات"[90]، لتكتمل أجزاؤها وتستوعب الجوانب الأخلاقية كافَّة.

أما الدكتور محمد عابد الجابري فقد رأى أن القضايا الأخلاقية التي تناولها دراز في نظريته قد تأثَّر فيها بمرجعية كانط الأخلاقية[91]. لكن الإنصاف يقتضي القول بأن توافق بعض أفكار دراز مع المرجعية الكانطية لا يعني إطلاقًا التأثُّر بهذه المرجعية، وقد سبقت الإشارة إلى أن نظرية الواجب الأخلاقي الكانطية قد طغت عليها الشكلية المحضة، خلافًا لنظرية دراز التي  يكون فيها الواجب الأخلاقي مقرونًا بقيمته الأخلاقية، إضافةً إلى أن درازًا قد انتقد أفكار نظرية كانط، وانتهى إلى أن كانط لم يستوعب أخلاق الواجب جيدًا، ووصف صنيعه بأنه "خلط...بين الإلزام والنيَّة، بين علم الأخلاق (la morale)، وبين السلوك الأخلاقي (la moralite)"[92]، فهل سيتأثَّر دراز بمرجعية يعتقد أنها قد سقطت في مأزق الخلط بين الأفكار الأخلاقية؟

 

المراجع

البخاري، الصحيح، تحقيق: جماعة من العلماء، بيروت: دار طوق النجاة، 1422هـ.

محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ترجمة: عبد الصبور شاهين، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1998م.

محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م.

توشيهيكو إيزوتسو، المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن، ترجمة: عيسى العاكوب، سوريا-حلب: دار الملتقى، 2008م.

طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية.

ــــــــــ، سؤال الأخلاق، الدار البيضاء: المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2000م.

محمد المختار الشنقيطي، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016م.

أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1998م.

الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، بيروت-دمشق: دار القلم، الدار الشامية، 1412هـ.

ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق: ابن الخطيب، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى.

أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة.

الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك، تحقيق: محيي هلال السرحان وحسن الساعاتي، بيروت: دار النهضة العربية.

محمد عبد الله دراز، كلمات في مبادئ علم الأخلاق، القاهرة: المطبعة العالمية، 1953م.

يوسف القرضاوي، أخلاق الإسلام، القاهرة: مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، ودار المشرق، 2017م.

محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، الإسكندرية: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 1996م.

إسماعيل الفاروقي ولمياء الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، الرياض: مكتبة العبيكان، 1998م.

إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة: السيد عمر، القاهرة: مدارات الأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2014م.

توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق: نشأتها وتطورها، القاهرة: دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1979م.

مصطفى بن محمد حلمي، "دستور الأخلاق في القرآن: الكتاب الأم في علم الأخلاق القرآني"، ضمن مؤلف جماعي بعنوان "محمد عبد الله دراز: دراسات وبحوث"، الكويت: دار القلم للنشر، 2007م.

مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2004م.

معتز الخطيب، "آيات الأخلاق"، مجلة الأخلاق الإسلامية، العدد 1، الدوحة: مركز دراسات التشريع والأخلاق، ليدن: بريل، 2017م.

وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة: عمرو عثمان، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014م.

ــــــــــ، إصلاح الحداثة، ترجمة: عمرو عثمان، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2020م.

ــــــــــ، "سجالات الدولة المستحيلة: ردود وتعقيبات"، ضمن ملف "الشريعة والعلمانية والدولة: نحو آفاق جديدة"، الكويت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م.

الهوامش

[1] تحوَّلت المسألة الأخلاقية -منذ بداية منتصف القرن العشرين- إلى وضع جديد قائم على ترجيح العلم على الأخلاق، واعتبار الأخلاق دون معنى، وقَصْرِها في الجانب الفردي فقط. انظر: نورة بوحناش، "ما بعد الأخلاق..."، مجلة نماء، العدد 4-5، 2018م، ص143-144.

[2] انظر: وائل حلاق، إصلاح الحداثة، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2020م)، ص33.

[3] أمثال المحاسبي، والحكيم الترمذي، وأبي طالب المكي، والهروي، والقشيري، والغزالي.

[4] الأخلاق ثلاث طبقات: الأخلاق الإلهية: وهي الأخلاق التي وصف الله عز وجل نفسه بها في الوحي المنزل. والأخلاق الدينية: وهي التي ترسم المعاملة الأخلاقية بين الإنسان المتخلق وبين الله عز وجل. والأخلاق الاجتماعية: وهي التي تُرتب العلاقات الأخلاقية بين أفراد المجتمع. انظر: توشيهيكو ايزوتسو، المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن، ترجمة: عيسى العاكوب، (سوريا-حلب: دار الملتقى، 2008م)، ص66.

[5] علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، (القاهرة: دار المعارف)، ج1، ص53.

[6] من بين المؤلفات الأخلاقية المتخصِّصة في المفاهيم النظرية للأخلاق الدينية نذكر: آداب النفوس للمحاسبي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، ومنازل السائرين للهروي، والإحياء للغزالي.

[7] "وهي فكرة لم تصل إليها أوروبا إلا حديثًا على يد بتلر الأخلاقي الإنجليزي"، انظر: علي سامي النشار، مرجع سابق، ج1، ص53.

[8] انظر: أنور الجندي، "محمد عبد الله دراز في آثاره العلمية"، ضمن مؤلف جماعي بعنوان "محمد عبد الله دراز: دراسات وبحوث"، (الكويت: دار القلم للنشر، 2007م)، ص53.

[9] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، (الإسكندرية: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 1996م)، الصفحة المعنونة "إعداد رسالة الدكتوراه" في أول الكتاب، ولا تحمل أي رقم.

[10] محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ترجمة: عبد الصبور شاهين، (بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1998م)، ص2.

[11] هي كيفيات يجعل بها المرء نفسه أخلاقيًّا، وتكون على هيئة مجموعة من الأفعال تُجرى على النَّفْس يعزز بعضها بعضًا، بهدف تشكيل النَّفْس على نحو تطيع فيه الأوامر الأخلاقية للقلب. انظر: وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014م)، ص246.

[13] المرجع نفسه، ص4.

[14] يبدو أن درازًا هو أول من نحت هذا الاصطلاح. والأخلاق النظرية هي عكس الأخلاق العملية. ينظر: دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص13. وقد عرَّف طه عبد الرحمن الأخلاق النظرية بأنها: "الأخلاق التي تتبع في استنباط أحكامها طرائق الانتقال من المقدمات إلى النتائج بمقتضى قواعد محددة...أي الممارسة الاستدلالية الخاصة بالأخلاق التي تثمر جملة من الأحكام الأخلاقية"، طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية)، ص382.

[15] محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص4.

[16] معتز الخطيب، "آيات الأخلاق"، مجلة الأخلاق الإسلامية، الدوحة، مركز دراسات التشريع والأخلاق، العدد 1، 2017م، ص115.

[17] المرجع نفسه، ص109.

[18] محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001م)، ص47.

[20] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص4.

[21] أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، ص429.

[22] الراغب الاصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، (دمشق، بيروت: دار القلم، الدار الشامية، 1412هـ)، ص297.

[23] المرجع نفسه، ص297.

[25] محمد عبد الله دراز، كلمات في مبادئ علم الأخلاق، (القاهرة: المطبعة العالمية، 1953م)، ص4.

[26] يوسف القرضاوي، أخلاق الإسلام، (القاهرة: دار المشرق، مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، 2017م)، ص2.

[27] انظر: محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص1.  

[28] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص13. 

[29] المرجع نفسه، ص675. 

[30] المرجع نفسه، ص21.

[31] محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص29-30. 

[32] محمد عبد العظيم علي، مرجع سابق، ص8. 

[33] المرجع نفسه، ص11.

[34] المرجع نفسه، ص17.

[35] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص51-52.

[36] من روادها: روه (rauh)، وجيو (guyau)، ونيتشه (nietzashe).

[37] انظر: محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص31-33.

[38] المرجع نفسه، ص33.

[39] المرجع نفسه، ص33-34.

[40] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص34.

[41] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص136. 

[43] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص137.

[44] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص38.

[46] انظر: محمد عبد العظيم علي، مرجع سابق، ص41-48.

[47] محمد عبد العظيم، مرجع سابق، ص68.

[48] تعبير الحديث النبوي: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..."، سبق تخريجه.

[49] انظر: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، (الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2000م)، ص161.

[50] انظر: توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق: نشأتها وتطورها، (القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1979م)، ص216.

[51] المرجع نفسه، ص219.

[52] القيم النفعيَّة الأوَّليَّة: كالاستهلاك، والتزاوج، والتغذية، والتملُّك...؛ وتقابلها القيم الأخلاقية العليا: كالعدالة، والصدق، الحكمة، والعفة.

[53] انظر: محمد عبد العظيم، مرجع سابق، ص245.

[55] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص248.

[56] المرجع نفسه، ص249.

[57] صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، ج8، ص67، رقم 6308.

[58] انظر: محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص258.

[59] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص259.

[60] انظر: محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص260.

[61] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص132.

[62] انظر: محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص422.

[63] المرجع نفسه، ص423.

[64] انظر: محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص133-134.

[65] المرجع نفسه، ص136.

[66] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ج1، ص20، رقم 52.

[67] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص183.

[68] المرجع نفسه، ص184-185 بتصرف.

[69] المذهب النفعي: مذهب فلسفي أخلاقي، يطالب الأفراد بالاهتمام بالأفعال التي تحقق أكبر قدر من اللذَّة، واستبعاد ما عدا ذلك من القيم الإنسانية العليا. انظر: توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق: نشأتها وتطورها، مرجع سابق، ص512.

[70] انظر: مصطفى حلمي، الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2004م)، ص62.

[71] انظر: محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص514-515.

[72] انظر: إسماعيل الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة: السيد عمر، (القاهرة: مدارات الأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، 2014م)، ص55-58.

[73] انظر: محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص585.

[74] المرجع نفسه، ص585. ويبدو أن درازًا هو أول من أسَّس هذا التصور: "الإنسان كائن أخلاقي"، وقد طوَّره طه عبد الرحمن فيما بعد حتى اشتهر به.

[75] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص190.

[76] المرجع نفسه، ص191.

[77] انظر: محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص588.

[78] محمد عبد العظيم علي، مختصر دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص193.

[79] مصطفى بن محمد حلمي، مرجع سابق، ص141.

[80] انظر: محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق، مرجع سابق، ص5.

[81] المرجع نفسه، ص614.

[82] وائل حلاق، "سجالات الدولة المستحيلة: ردود وتعقيبات"، ضمن ملف "الشريعة والعلمانية والدولة: نحو آفاق جديدة"، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م، ص191.

[83] انظر: وائل حلاق، إصلاح الحداثة، مرجع سابق، ص190.

[84] المرجع نفسه، ص274-275.

[85] انظر: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص83.

[86] المرجع نفسه، ص78-79.

[87] حضارة القول هي الحضارة الحديثة؛ لأنها لا تهتمُّ بالعمل الأخلاقي.

[88] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص87.

[89] انظر: مصطفى بن محمد حلمي، مرجع سابق، ص142.

[90] يوسف القرضاوي، أخلاق الإسلام، مرجع سابق، ص427.

[91] انظر: محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، مرجع سابق، ص14-15.

[92] محمد عبد الله دراز، مرجع سابق، ص112.