قراءة في كتاب «خلافة الإنسان: السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث»
لا تستقيم[1] دراسة السياسة الحديثة من دون دراسة مصادر السلطة، التي بدورها لا تتم من دون النظر في كيفية استخدامها وإساءة استخدامها. ويبقى السؤال: «ما مصدر السلطة؟». يستخدم المنظّرون السياسيون مفهوم الحاكمية الإلهية أو السيادة الشعبية للجواب عن هذا السؤال. والمصدر الأول يوضِّح أن الحكومة لا تكون شرعية إلا إذا كانت شريعة الله هي مصدر السلطة، فيما يشير المصدر الثاني إلى فكرة الحكومة الديمقراطية، حيث مصدر السلطة الحكومية هو إجماع الشعب وقبوله بها. ولذا فعلى السياسات أن تستقي شرعيتها من الشعب. ويعني هذا الموقف أن أي محاولة لفهم السياسة تستدعي فهم القوانين والدساتير، سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب.
وهذه الحروب الأهلية الجارية اليوم، إضافة إلى الثورات والثورات المضادة في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (المعروفة باسم «الربيع العربي»)، تتطلَّب من الباحثين تقديم تشخيصات وتكهُّنات حول تلك الأحداث؛ ومن بين هؤلاء يبرز أندرو مارتش (Andrew March). ففي كتابه «خلافة الإنسان: السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث» (The Caliphate of Man: Popular Sovereignty in Modern Islamic Thought)، يتناول نظرية الديمقراطية في الإسلام، مع التركيز في الجزء الأخير من الكتاب على أعمال الشيخ راشد الغنوشي (المفكر والزعيم السياسي التونسي)، التي تناول فيها مفهوم الحاكمية الإلهية في مقابل السيادة الشعبية أو سيادة الأُمَّة في الإسلام.
ويحاول مارتش تعقُّب جذور مفهوم الخلافة وتطوُّره من خلال قراءته للتفسيرات الواردة حول آيات القرآن، وكيف فسَّر العلماء المسلمون مفهوم السيادة، مع إمعان التفكير في مصطلح الخلافة وتنزيله إلى مفهوم «خلافة الإنسان» كما يرِد في عنوان الكتاب.
فإن السيادة في العالم الإسلامي مصدرها أخرويٌّ. وهذا ما يُعبَّر عنه في الغرب بالميتافيزيقيا (من الله)
وقد حاول القول إن الشعب هو صاحب السيادة في البدء، ومن ثَمَّ فإن هناك إمكانية لازدواجية السيادة في الإسلام. وختم كتابه بطرح تنبّؤات مستقبلية حول الفكر السياسي الإسلامي بوصفه سيقدّم أطروحات تتجاوز الحديث عن السيادة والدولة. ويتطلب هذا الطرح تفصيلًا وتفكيكًا جديًّا؛ لأنه لا يمكن فصل المسلمين عن فكرة الحاكمية الإلهية، وإن كان بالإمكان نقاش مسألة إقامة دولة إسلامية. ومن ثَمَّ، ومن أجل تقديم مراجعة لكتابه هذا، من المهم شرح بعض الجوانب المهمة للفلسفة السياسية الغربية، من قبيل رؤية جون رولز (John Rawls) وجيرمي بنثام (Jeremy Bentham) للسيادة.
يقول جان جاك روسو إن علينا أن نسلِّم بماهية الإنسان وبما يبدو عليه، أما القوانين فتخضع للعديد من التفسيرات. وهذا يعني أن السيادة هي سلطة الشعب المنتخِب وقدرته على تقرير مصيره واتباع إرادته. إن سعي البشر إلى البحث عن المتعة وتفادي الألم، وَفْقَ رؤية بنثام، هو ما يحكم قرارات الإنسان. فهذان الأمران هما ما لهما السيادة وتوجيه الخلق في قراراتهم. ومع أهمية آراء روسو وبنثام في توجيه كثير من المفكرين والمحللين الغربيين، لا سيما حول مفهوم السيادة الشعبية وهذين الأمرين [البحث عن المتعة وتفادي الألم] إلى حدٍّ ما، فإن السيادة في العالم الإسلامي مصدرها أخرويٌّ. وهذا ما يُعبَّر عنه في الغرب بالميتافيزيقيا (من الله)؛ إذ لا يعدو هذا العالَم أن يكون اختبارًا وامتحانًا للبشرية. وهذا يعني أن الإرادة العامَّة لا بدَّ أن تُفهَم بوصفها إرادة لتفادي الوقوع في الخطأ، وأن تُفهم المتعة والألم بوصفهما سعيًا لأن يحظى الإنسان بلذَّة معرفة الله وتفادي الآلام الناجمة عن عدم النجاح في ابتلاءاته. ومن ثَمَّ، فمن اللامنطقي -على نحوٍ غير خطيرٍ- بالنسبة إلى المسلمين الاستسلام لمفهوم السيادة الشعبية الذي يتحدَّث عنه روسو وبنثام وغيرهما كثيرون.
لا شكَّ أن مارتش قد نجح في تقديم عرض مفصَّل لذلك الابتكار الذي يسميه السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث، وتحديدًا في الرؤية السُّنية، معتقدًا أن كثيرًا من المفكرين كانوا بالفعل يتبنَّون فكرة السيادة، مع إدراكه -عند استكشافه آفاق هذا المفهوم- للسياقات السياسية والتاريخية والمؤسسية التي تطور فيها الفكر السياسي الإسلامي.
ولكن ما يبدو مُحيِّرًا بشأن مارتش هو أنه على الرغم من إقراره بأن فكرة السيادة الشعبية كانت غالبًا مسألة تتعلَّق بتقاسُم السلطة والنفوذ بين النُّخَب المتعدِّدة أو الفئات المتخصِّصة أو بين غالبية الناس، يبدو أيضًا أنه يحاول إقناع قُرَّائه بأن فكرة السيادة الموجودة في الغرب يمكن تطبيقها في العالم الإسلامي. والمقدمة الأولى التي ينطلق منها هي أنه إذا كانت السيادة الشعبية التزامًا مهمًّا لدى المفكرين المسلمين في العصر الحديث، فإنها تتطلب شيئًا من الإبداع، وهو ما يفترض أن الإسلام -على نحو تدريجي- يدعم شكلًا من أشكال السيادة الشعبية كما تُعرف في الغرب. ويزعم مارتش أن هناك بالفعل مصادر -لا سيما في الفكر السُّني، مثل الغنوشي- تجعل من السيادة الشعبية أمرًا سهل القبول أو التبرير.
ولتحقيق الهدف من هذه المراجعة، سأركِّز فقط على الفصلين الثاني والسادس؛ وذلك لسبب بسيط، هو أن الفصول الأخرى التي تتناول مفكّرين مثل سيد قطب أو أبي الأعلى المودودي قد ناقشها آخرون بالفعل في أعمال منفصلة في سياقات مختلفة أو من منظورات أخرى. ولا يتناول كتاب مارتش النظرية السياسية فقط، وإنما يتحدَّث أيضًا عن النظرية الدستورية، فقد قدَّم في الفصل الثاني مغامرةً جريئةً تناولت العديد من الآيات القرآنية التي تشير إلى أن الله قد جعل {في الأرض خليفةً}. وأرى أنه طالما قدَّم في هذا الفصل إطاره التحليلي، فإن موثوقية حجته وصحتها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مدى متانة هذا الإطار الذي يوظِّفه. صحيح أنه أثبت قدرته على التعمُّق فيما ورد في النقاشات التي دارت في تفسير ذلك الاصطلاح القرآني «خليفة»، وما طرحه الحسن البصري حول معنى المفهوم، وحاول تناول كيفية اختلافه عمَّا جاء لدى علماء آخرين مثل ابن جرير الطبري. ومع ذلك، من أين لمارتش الثقة بأن مفهوم «خليفة» الذي تناوله من خلال عدسة الفلسفة التحليلية يُشبه تلك المفاهيم التي تحدَّث عنها العلماء المسلمون، غالبًا على المستوى الروحي والميتافيزيقي، فضلًا عن تطابقه مع معنى الميتافيزيقيا نفسها؟
وحتى ضمن إطار الفلسفة الغربية نفسها، فإن مقاربة الفلسفة التحليلية (analytical) للحقيقة تختلف عن مقاربة الفلسفة القارّية (continental). فحين تحدَّث كانط عن الحكم الغيري (heteronomy) في مقابل الحكم الذاتي (autonomy)، كان لديه تصوُّر عن العقلانية يرى أنه فيما وراء هذا العالم، أي على المستوى الغيبي/الميتافيزيقي، هناك عقلانية مستقلة، يستغني خلالها الناس عن غيرهم لدرجة أن تكون لهم قوانينهم الخاصة. فهذا المفهوم ليس غريبًا على الإسلام فحسب، بل يتناقض مع الدين؛ وذلك لسبب بسيط، هو أن عالَم الغيب في التصوُّر الإسلامي يُمثّل مجالًا إلهيًّا لا يدخله إلا مَن وصلوا أقصى درجات الروحانية.
من الممكن التنظير لسيادة شعبٍ يحكم نفسَه بينما يظلُّ في النهاية ملتزمًا بحاكمية الله المطلقة
ومن خلال توظيف مارتش لهذه المقاربة، التي تحمل طابع أفكار روسو وكانط، فصَّل تحليله في الفصول الثالث والرابع والخامس، وشرح كيف أن مفهوم الحاكمية الإلهية في الفكر الإسلامي الحديث كانت له أصداؤه في النظرية السياسية الإسلامية في بعض الدول، وكيف يمكن لمفهوم محتمل حول السيادة الشعبية أن يظهر تدريجيًّا. وخلال ما طرحه مارتش من نقاشات، يمكننا أن نستشفَّ أن التصوُّر الحالي حول السيادة الشعبية قد بدأ يظهر في القرن التاسع عشر، وتحديدًا في نطاق ما يُعرَف أحيانًا بحقبة «النهضة» العربية. فقد تعرضت حركات الإصلاح العثماني للتشويش أو طغت عليها الأفكار النظرية الدستورية التي أثارتها خلال تلك الحقبة الخلافة العثمانية. وتلَت هذه الحقبة مبتكرات أيديولوجية، لا سيما إعادة تفسير الآيات القرآنية التي تتحدث عن أن الله {جاعلٌ في الأرضِ خليفةً}.
ويعرض مارتش في الفصل السادس تواصله الشخصي والفكري مع راشد الغنوشي، وهو مفكر إسلامي معاصر يرى مارتش أنه يمثِّل الفكر السياسي الإسلامي المعاصر أتمَّ تمثيل. ويمكن فهم أفكار الغنوشي السياسية على أفضل نحوٍ ممكنٍ من خلال النظر إلى تصنيفه الثلاثي للحكومات: الحكومة الثيوقراطية، وحكم القانون على النمط الغربي، والديمقراطية الإسلامية. إذ يرى الغنوشي أن الديمقراطية الإسلامية توليفٌ بين السيادة الثنائية، وتبعًا لها ينبغي على العالم اتباع المصدر الرئيس للتشريع (شريعة الله). ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن المصدر الثانوي للتشريع (القوانين البشرية) ليس له مكان. ومن فهمه هذا لعمل الغنوشي، يصل إلى استنتاج مفاده أن:
"الغنّوشي يمثِّل التنظيرَ لشكلٍ مميزٍ من أنواع الأنظمة، وهو الديمقراطية الإسلامية، ويكشف عن أيِّ الافتراضات حول الوحدة الأخلاقية والفضيلة الجمعية تجعل من الممكن التنظير لسيادة شعبٍ يحكم نفسَه بينما يظلُّ في النهاية ملتزمًا بحاكمية الله المطلقة".
ومع ذلك، فلستُ على يقينٍ من أن الغنوشي نفسه قد يتفق مع هذا الاستنتاج؛ نظرًا إلى مبدئه القوي في رفض ما يصفه بلاأخلاقية أولئك الذين يسعون إلى المُتع المادية واجتناب الألم المادي فحسب. ففي النهاية، حين يتحدَّث المسلمون عن الإرادة، فإنها إرادةُ اجتناب الآثام والسعي إلى لذَّة معرفة الله سبحانه وتعالى. وفي الختام، فإن هذه المراجعة تستدعي ثلاث نقاط ضرورية ومهمة لإتمام الغرض منها:
1- لا بدَّ أن أقرَّ هنا بتقديري لجهود مارتش وقدرته على التبحُّر في استيعاب مفهوم «الخليفة»، الذي لم أستوعب أهميته إلا بعد قراءة كتابه. فلا يمكننا شرح مفهوم «الخليفة» في القرآن إلا من خلال مواد تضيف لنا أبعادًا أخرى، وهي بالتأكيد الأحاديث النبوية. فلن يفهم المسلمون معاني القرآن إلا من خلال كلام النبي وأفعال وسلوكه. ولكي يكون كتابه عملًا أكثر شمولًا، ربما كان على مارتش أن يأخذ في اعتباره كيف يُناقش مفهوم «خلافة الإنسان» في المصادر الإسلامية الأخرى.
2- من المثير للدهشة أن مارتش لم يشرح مفهوم الحق الإلهي للملوك، مع أنه لا يبدو على الأرجح من مؤيدي فكرة وجود دافعين رئيسين يتمثَّلان في طلب اللذَّة ودفع الألم. فعلى الأقل من خلال الترويج لهذا الفهم في الغرب، يمكن للملوك القول بوجود أصلٍ إلهيٍّ لمُلكهم إذا استطاعوا الانتساب إلى الملك داود، لتكون لديهم شرعية للحكم. وما زال الملوك يمثّلون كيانات سياسية مهمة في بعض الدول العربية. وربما كان بإمكان مارتش التوسُّع في تناول الكتابات التي تتحدَّث عن طاعة أُولي الأمر في الإسلام، وهي مسألة لها انتشارها في العديد من الأوساط، اتباعًا لحديث يرويه عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما). وتُمثّل الثورات والثورات المضادة موجة مدٍّ هائلة في العالم الإسلامي، ولا بدَّ من استيعاب أن هناك دائمًا مواقفَ مخالِفة بين علماء المسلمين، فينبغي فهم هذه الجدلية.
ولكن ربما نظر الإسلاميون لرؤيته -رؤية مارتش- الليبرالية حول مستقبل الفكر السياسي الإسلامي على أنها «متجاوزة لفكرة السيادة» و«متجاوزة لفكرة الدولة»، وهو ما قد يُعَدُّ أمرًا لامنطقيًّا.
3- يتبع مارتش -في رأيي- فلسفة هابرماس حين يحاول توظيف مقاربة عقلانية تواصلية في نقاش جميع المزاعم بالوصول إلى الحقيقة (بينه وبين راشد الغنوشي) والتفاوض بشأنها. ونظرًا لأننا لا نعرف رؤية الغنوشي نفسها، يصعب علينا الجزم بما كان يريد حقًّا قوله طالما لسنا جزءًا من عملية عقلانية تواصلية. وإذا كان مارتش قد استخدم في عملٍ سابقٍ له عن الإجماع المتداخل مقاربةً رولزيةً، في رأيي، فإنه في بقية هذا الكتاب قد استخدم مقاربةً هابرماسيةً، مع استمراره في الإشارة إلى الموروث الرولزي. ويمكن أن يُعَدَّ كتابه هذا عملًا شاملًا وموسوعيًّا، ولكن ربما نظر الإسلاميون لرؤيته الليبرالية حول مستقبل الفكر السياسي الإسلامي على أنها «متجاوزة لفكرة السيادة» و«متجاوزة لفكرة الدولة»، وهو ما قد يُعَدُّ أمرًا لامنطقيًّا. ومردُّ هذا -في جانبٍ منه- إلى القول بأن العناصر الغيبية في السيادة، سواء كانت عناصر إلهية أو شعبية، يجب أن تُستبعَد من المعادلة، وهو ما يبطل الفكرة المقصودة بتطبيق الإسلام في ديمقراطية إسلامية، ويُعطي إشاراتٍ بأن فكرة الدولة الإسلامية في عصر ما بعد الغيبيات هي فكرة ينبغي -في أفضل الأحوال- التشكُّك فيها.
وإجمالًا، فإن هذا كتاب ممتاز تتجلَّى فيه معرفة مارتش بالفكرَيْن السياسيَّيْن الغربي والإسلامي كليهما.
الهامش
[1] منشورة في العدد الثاني من المجلد الخامس من مجلة الدراسات الدينية والحضارية الصادرة عن الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا (IIUM Journal of Religion and Civilisational Studies / IJRCS).