قراءة في كتاب "روح الثقافة: متى تكون الثقافة قوة فاعلة؟"
يطالعنا الدكتور عبد الرزاق بلعقروز في مقدمة كتابه بجملة من الأفكار التي تُعَدُّ بسطًا أوليًّا لما سيتناوله في فصول الكتاب، حيث عنونها بـ"الثقافة باعتبارها نشاطًا نوعيًّا للإنسان"، وأول ما يطالعنا به هو أنه جال في الخواطر والأفهام المفهوم السلبي عن الثقافة والمفهوم الارتكاسي لها اللذان يرسخان السكون التاريخي والوجود النظري المجرد.
فحال الثقافة من حال الحامل لهذا الإرث الرمزي، فإذا كان المثقف فاعلًا مؤثرًا في العالم، فإن صورة الثقافة تظهر متجددة لها وظيفتها التغييرية والتحسينية للعالم، وأما إن كان حال المثقف منفصلًا عن الحركة وعن الاشتباك مع الواقع والتاريخ، فإن صورة الثقافة تنكمش وتخبو وتصبح أثرًا بعد عين. لذا فإن صورة الثقافة من صورة المثقف وفعله، موتها من موته، وحياتها من حياته. فالنشاط النوعي للإنسان هو الذي يرسم قيمة الثقافة بمعناها المنبسط في الذات وفي التاريخ. وهنا يأخذنا التساؤل نحو سَبْر الشروط التي تحقق الفعل الثقافي النوعي أو متى تكون الثقافة قوة تترك أثرها في العالم وتجدّد في الإنسان قيمه؟ وهناك شقان للإجابة عن هذا السؤال: الأول يُعنى بالثقافة ومضمونها، والثاني يخصُّ المثقف وذاته. أما الثقافة فإنها ليست مجرد أسلوب في الحياة جامد وساكن، يعيد إنتاج الأفكار والممارسات بصورة تكرارية جامدة، فهي هنا أقرب إلى المدلول المتصلب الساكن والثابت.
يبيِّن الكاتب أن الثقافة التي تنتج النشاط النوعي للإنسان وتسائل الإنسان عن دوره الوجودي وأثره في العالم، هي تلك التي ترى العالم في حالة حركة وصيرورة وتعاقب القوى عليه في فرض معانيها على الأشياء. والإنسان ليس نموذجًا ثابتًا وليد اندفاعات التاريخ المريضة، بل هو الإنسان الذي يُسهم بالفعل الثقافي في صناعة تاريخ جديد أو يخترع تاريخًا جديدًا، إنه ضد المفاهيم الجبرية عن الفعل والتاريخ، فحركة التاريخ لم تنتهِ بعدُ وما زالت تتجه نحو إمكانات عديدة وفرص مستقبلية أخرى.
يتضح إذن أن بثَّ الحياة والحركة والتجديد في الثقافة مشروطٌ بتجديد الرؤية إلى العالم، والعالم هنا هو تلك الآثار التي تتركها النفس الإنسانية في سفرها التأويلي للعالم، وهو العلامات التي تتركها ثقافة من الثقافات بوصفها أعراضًا على أفعالها النوعية في التاريخ، فالعالم اليوناني هو قوة الفكر والفلسفة والشعر، والعالم الإسلامي هو فعل العلم والقراءة وحركة العمران في التاريخ، والعالم الأوروبي هو تجربة الحداثة في مركزية الإنسان وتقدير النظام العلمي والعقلنة. وهكذا، ومقتضى هذا الإقرار في مدلول كلمة العالم أن الثقافة الفاعلة والنوعية هي تلك التي تنظر إلى العالم على أنه مشروع إنجازيٌّ وليس مكانًا جغرافيًّا يعيش فيه الإنسان حياته الحيوية.
أما عن سَبْر حال المثقف الذي يتحقَّق بالإبداع والتأثير في العالم، فهو الذي ينثر الحكمة على الجميع، ويشعر دومًا أن ما يملكه من أفكار ومفاهيم وفنون (أفكار الثقافة) هي العامل الحاسم في تغيير الإنسان أو تحويله، ولكي يصل إلى هذا المقصد لا بدَّ له أن يفجر مكنوناته الروحية أولًا، ثم مكنوناته الفكرية ثانيًا، كما يظهر بعمله في الواقع والتاريخ. فالمكنونات الروحية، مثل العلم والإخلاص...، متى لبسها المثقف كانت له درعًا واقيًا من الانجذابات نحو الجزئيات والصدامات الثقافية، فالمثقف يهتدي بوهج الحقيقة والقيمة العليا الهادية والسامية، بينما تنفجر مكنوناته الفكرية بالقراءة والحوار والمتابعة والخدمة والعمل، فالفكر يتقوَّى بالقوى الروحية ويتقوَّى بالعمل المستمر المترابط مع حركة الواقع والمنفتح على التجارب الثقافية السائدة تبادلًا وتكاملًا. إذن، مفهوم الثقافة يتأسس على أن الوجود يساوي الإبداع والأثر في العالم، والإرادة تعادل إثبات الحياة لا نفيها، الإثبات الحيوي الذي يغير من الإنسان من أعماقه وليس من خارجه فقط. وتتجذر الثقافة في الموارد الروحية للإنسان، التي هي أساس الحركة وخط الانطلاق ونسج الفعل. ثم قسم الكاتب كتابه إلى أربعة أبواب، ونقف بداية مع الباب الأول الذي عنونه بـ"الثقافة والتعقل الروحي للعالم؟"، وتناول فيه:
1- في العقل الروحي والتنوع التنظيمي
يُبيِّن الكاتب أن مبتغاه هنا هو فحص مدى مشروعية سحب الصفة العقلية عن القيم الروحية في ترابطها مع العقل، وكذا بيان النموذج المعرفي الذي تشكَّلت فيه هذه النظرة إلى ما هو روحي أي لا عقلاني من منظورها.
فالعقلانية قد أحكمت نسقها التفسيري على فضاءات الحياة، وأسهمت في إعادة بناء نظام العقل الحديث بأن استطاعت أن تبني المعرفة أكثر على صفي التعليل والتدليل، وأن تنفتح أكثر على العالم الطبيعي والإنساني.
وتحدَّث فيه أولًا عن: نظام العقل الحديث والقيم الروحية.
لقد تأسس العقل الحديث على الأنموذج العلمي في صيغته الرياضية (ديكارت) والتجريبية (بيكون) على مبادئ صلبة، تقوم في جوهرها على الإقرار بأن ما هو عقلاني يعادل ما هو رياضي وتجريبي، فباتت العقلية العلمية هي المعيار في التفسير ليس فقط لعالم التجربة العلمي، وإنما زحفت لكي تفسر أيضًا حركة التاريخ والدين والنُّظُم السياسية والاجتماعية. فما هو عقلي -تبعًا لهذا المنظور- يعني تجاوز ما هو غيبي وما هو روحي، وهنا شهدت الحداثة تلك المؤاخاة بينها وبين العقلنة، وأضحى من المتعذر الفصل بينهما. فالعقلانية قد أحكمت نسقها التفسيري على فضاءات الحياة، وأسهمت في إعادة بناء نظام العقل الحديث بأن استطاعت أن تبني المعرفة أكثر على صفي التعليل والتدليل، وأن تنفتح أكثر على العالم الطبيعي والإنساني.
وتطرق فيه ثانيًا إلى: نقد العقل الحديث وإعادة التفكير في تركيبة الإنسان والعالم.
حيث بيَّن الكاتب هنا أن العقلانية الحديثة لم تحافظ على صلابتها واستمرارها بمقولات التجربة والتفكير الرياضي والوضعية؛ إذ أبانت عن لا عقلانية ونسبيتها وتجذرها في نموذج معرفي معيَّن، مبني على الافتراضات وخيارات العلماء، فضلًا على أن العقلانية التي ساد الاعتقاد حولها من أنها كونية ومحايد، ظهرت بأنها نسبية وليست سوى استعمال لجزء من العقل في سياق تاريخي وعلمي مخصوصين. وأمام هذا التراجع لنمط المعرفة تشكَّلت أنماط أخرى من التفكير وتجدّد الدور الحقيقي للفلسفة، حيث استعادت دورها باعتبارها بحثًا في الغايات النهائية للإنسان ورسمًا لمنهج الحياة وتدريبًا على فنون تهذيب الذات التي فَقَدت عمقها مع العقلانية الحديثة، فلا بدَّ إذن من توجيه النظر إلى العقل الروحي، فهو الذي يحقق الترابط والتكامل مع العقل العلمي ونظام المعرفة ومنهج الحياة. فالذات الإنسانية تلبي حاجتها المادية وتفتش عن حاجتها الروحية أيضًا.
وعرج ثالثًا إلى: رسم معالم العقل الروحي.
إن العقل الروحي أو العقلانية الروحية ليست تلك التي تستغرق الإنسان في عوالم الروحانيات الخالصة، متجردة من أبعاد الوجود المادية والعلمية، وإنما تلك التي تعيد تجديد العلاقة بين الإنسان ومفردات الوجود الأخرى، والسبيل لهذا العمل هو الارتياض والفكر الذي يغوص في استبصار المعاني الحقيقية لحركة الإنسان في العالم، إنه نمط من التفكير يعيد إصلاح العلاقة بين التفسير والقيمة أو بين المعاني الظاهرة والمعاني المستورة، إنه رسم لكيفية العيش الذي لا بدَّ له من انفتاح العقلانية على معانٍ أخرى مثل: الإيمان، الحب، التأمُّل...، وكأن الشرط الأقوى للانفتاح على ما هو روحي أن تتحرر العقلانية من نسيجها العلمي وريث العقل الحديث، وتتشابك مع معانٍ أخرى ترابطًا وتبادلًا وتكاملًا. وسمات العقل الروحي هي:
أ- إضفاء المعنى الروحي على النشاط العقلي للإنسان
إن الذات الإنسانية تتحرك في أفق المنهج العقلي الذي عماده الاستدلال والمنهج والعلم، وتتحرك أيضًا في بُعْد وجداني أعمق يظهر في الإيمان والقيم والإرادة والعواطف، والإنسان المعاصر يشكو الاغتراب وفقدان المعنى واستحالة الحياة، وأمام هذا يكون دور العقل الروحي إمداد الإنسان بهذه الحاجات التي تفوق حاجات الإنسان الحيوية.
وللمعنى الروحي دور في علاج أزمات البيئة وأزمات الطب والأسرة، ومدخل هذا يكون بإعادة تربية النفس الإنسانية وتحريرها من أمراضها الجديدة، وتربيتها تكون بتعليم الإنسان فنون الرياضات الروحية التي متى كابدها الإنسان أيقظ في داخله الأنا العميقة، ومتى استطاع الانسان أن يتصل بالمعنى الروحي العميق الكامن في ذاته، اكتشف المصل الصحيح الذي يُعلِّمه فنَّ العيش الحسن وفنَّ الحوار وإعادة ترتيب العلاقة بينه وبين الله. فالمعرفة المنسلخة عن الوجدان الأخلاقي والتي لا تتفاعل مع الحياة الدينية والروحية للإنسان هي معرفة بتراء.
ب- إعادة القداسة إلى الوعي الفاضل
من وظائف العقل الروحي في المجال الأخلاقي إعادةُ تأسيس الفضائل على القيم الروحية؛ لأنها الأسبق أنطولوجيًّا ومنطقيًّا من القيم المادية. إن القيم الروحية التي هي عماد الفضائل الجديدة تعتبر أن الفعل الأخلاقي مبناه الإيمان المتجرد من المنفعة الخالصة، وتدعو إلى الإقبال على الحياة الأخلاقية بالدافع والحافز الروحي. إن الفعل الأخلاقي الفاضل سيكون أكثر فاعليةً وأثرًا إذا ما تأسس على القيم الروحية، فهي الوعاء الأوسع الذي يستوعب الفضائل كي تظهر في القيم والعواطف والإرادة والمشاعر. يتضح إذن أن المكون الروحي في الإنسان ليس جزءًا مبتورًا عن النشاط العقلي أو الفعل الأخلاقي، إنما استبان على ضوء حال الإنسان المعاصر الذي حاصرته الثقافة الاستهلاكية والعولمة الاقتصادية.
2- الثقافة وسمات المنهج
ارتبطت التحولات النوعية في تاريخ العلوم بالتحول الذي يحصل في المنهج وطرائق التفكير وإجراءات الفعل، وما عُرفت ثقافة من الثقافات إلا بالمنهج المخصوص الذي جاءت به إلى دوائر المعرفة نقدًا وتجديدًا، وبيان هذا الإقرار يتضح من خصوصية كل ثقافة من الثقافات بقطاع منهجي بارز، فالثقافة الشرقية غلب عليها الحدس والتذوق الوجداني والاستكشاف الجمالي لحركة الوجود، والثقافة اليونانية طوَّرت مع أرسطو الآلة المنطقية التي ابتغت تحصين العقل من الوقوع في الزلل، بينما اختصَّت الثقافة الإسلامية بتطوير علم الأصول العقلي بغرض تقنين فعل الاجتهاد، أما الثقافة الحديثة فقد كسرت مطالب المنطق الأرسطي، وانفتحت على الثقافة الإسلامية في روحها التجريبية، كي تصوغ مقالة جديدة في المنهج أو الخطاب. مؤكدًا أن المنهج ليس مجرد طرائق نظرية، إنما هو أسلوب في إدارة العمل وتنظيم الحركة الاجتماعية، أي إنه نظر تقنينيٌّ للمعرفة ورسم توجيهيٌّ للفعل. فالمنهج يرتكز على نموذج معرفي كُلي. ولأجل هذا كانت هناك مناهج تابعة لطبيعة المذاهب الفكرية، التي نشأت في رحمها، والأقوى أنها تستمدُّ منها خصوصيتها الإجرائية وحدودها البحثية وعلاقتها بغيرها من المناهج، فالمذهب إذن هو روح المنهج. يتبيَّن إذن أن المنهج هو سمة الثقافة، وأن المنهج في علاقة تأسيسية مع النظام المعرفي أو الروح الثقافية التي تخلق فيه السمة وتطبعه بسماتها الكبرى. فيجب أن نصرف سعينا إلى مستوى من الوعي المنهجي، الوعي بين إنزال المنهج وبين توظيف أدوات المنهج، فالأدوات البحثية تتطوَّر وتتجدَّد كما هو الأمر في عالم الوسائل المادية؛ ولذا وجب الابتكار أو الاقتباس ممن يمتلك هذه الأدوات، وهذا هو القصد بتوظيف المنهج.
وأكَّد أخيرًا أن العلوم الحكمية والفلسفية -التي يُعَدُّ المنطق هو آلتها جميعًا- قد جرى تشغيلها في إخصاب العلوم الإسلامية، كما جرى الوعي بحدودها، وهذا التوتر في تلقي المنطق اليوناني قد أضاف تبلور اتجاهات فلسفية خصبة ونشوء تنافس وتبارٍ فلسفي مُنتِج. أما الاعتراض فهو على الإنزال المنهجي من غير جهد تفكيكي وتركيبي، وهذه الظاهرة لم تكن قوية الظهور في الثقافة الإسلامية التاريخية، بل هي وليدة حركة الحداثة التي أثَّرت في النخبة الثقافية التي لم تكن تملك الصفاء في الوعي بالإسلام بوصفه نظامًا معرفيًّا ومنهجًا تطبيقيًّا، ومن ثَمَّ فظاهرة الإنزال المنهجي هي ظاهرة حديثة، تجد أسبابها النفسية في إيقاف قدرة العقل على الإبداع والاجتهاد.
ليرسم لنا أخيرًا ملامح الوعي بالمنهج كما يلي:
- الوعي بالمنهج كرؤية كلية أو كروح تسري في هيكل التفكير وإجراءات التطبيق، وأنه بقدر ما يرتكز التفكير المنهجي على هذه الرؤية بقدر ما يتجدَّد ويُثمر ويبدع.
- الوعي بالمنهج بوصفه نظامًا معرفيًّا فكريًّا، وليس مقولات دينية خالصة، فتحويل مفردات المنهج الإيمانية إلى أدوات في التفكير وفي التحليل وفي التركيب عُدَّ مطلبًا علميًّا ومطلبًّا عمليًّا أيضًا.
- الوعي بالمنهج في التراث الثقافي الإسلامي؛ لأن ثمة جهودًا منهجية لافتة تنتظر العقل المبدع الذي يعيد تكييفها في سياق التحديات المنهجية الجديدة، والمطلب هو استخراج صورة المنهج أو كيف كان علماؤنا يبنون مناهجهم وكيف كانوا يضعون الأدوات باعتبارها لبناتٍ في معمار العلم والعمل.
- الوعي بالمنهج من خلال التواصل الإيجابي والخلَّاق مع الثقافة الغربية في حقولها البحثية، ولن تنتج هذه المناهج أو تثمر في تطوير علومنا ما لم تكن بيِّنةَ المعالم ومستقيمة تتكامل مع بنية العلوم الأخرى.
- الوعي بالمنهج ليس مطلبًا نظريًّا خالصًا، بل هو ما نعبر به إلى الفعل، فالغرض من المنهج هو رسم مسالك التفكير، ومسالك التدبير أيضًا، فالإحكام مقولة منهجية علمية، وعملية أيضًا، فإذا كان إحكام المنهج هو الطريق إلى الاكتشاف العلمي وتطوير الأبحاث، فإن إحكام الفعل هو الطريق إلى العمران ورئاسة الإنسان.
فالتربية هي العمل الذي يصير الإنسان شاعرًا بتكوينيته الروحية الأصلية، وشاعرًا بأن حركة العمارة في الأرض ليست قوانين تشتقها الذات من الكون، وإنما فعل أخلاقي يرتقي لمعانقة المثل الوجودي الأعلى، وتشبُّه بالأفعال الإلهية التي من صفاتها الرحمة والإنسان التراحمي والمجتمع الرحموتي والإنسانية الراحمة.
3- في البدء كانت الروح إرشادات في تربية الإنسان
في البدء لم تبكر الإنسانية بالعلوم التقنية والمعارف التطبيقية، ليس لأن نشاطها العقلي كان في مرحلة البداوة أو فاقدًا للقدرة على التفكير المنطقي، وليس لأن تطورها البيولوجي هو الذي جعل من الفكر والمنطق ثاويًا ضمن التبدلات النافعة بيولوجيًّا في الصورة التي هو عليها الآن. نصرف القول إلى تسويغ البداية الإنسانية بسؤال الإنسان وليس بسؤال المعرفة، بالنظام الأخلاقي الذي تستقيم به حياته، وليس بالأدوات العلمية التي يكاشف بها نظام العالم المشهود، وهذا التسويغ يجد معناه في البنية التكوينية الأخلاقية للإنسان، بمعنى أن مولد الإنسانية كان احتفاءً بلباس القيم وليس احتفاءً بتملُّك الأشياء وفق منهج العلم، فالإنسان من غير لباس القيم الروحية هو نزعات إنسانية عديدة، وما بينها من التفرُّق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله. ويجب تركيز اهتمام الإنسان بالأخلاق والدين والمطالب المتشعبة عنها؛ لأنه كان واعيًا بأن العلم التطبيقي من غير نظام في القيم سيهوي بالإنسان إلى إرادة السيطرة والعنف وإفراغ العالم من أبعاده الرمزية والجمالية. فالتربية هي العمل الذي يصير الإنسان شاعرًا بتكوينيته الروحية الأصلية، وشاعرًا بأن حركة العمارة في الأرض ليست قوانين تشتقها الذات من الكون، وإنما فعل أخلاقي يرتقي لمعانقة المثل الوجودي الأعلى، وتشبُّه بالأفعال الإلهية التي من صفاتها الرحمة والإنسان التراحمي والمجتمع الرحموتي والإنسانية الراحمة. مشيرًا إلى أنه لا بدَّ من وضع معالم منهجية هادية للنموذج التربوي الذي يحقق في الإنسان أقصى كمالاته الروحية والعقلية والنفسية والجسمية، ومن المرتكزات القوية التي تهتدي بها كي تحقق أغراضها ما يأتي:
- التربية الصائبة، وهي ليست تراكم المعلومات والمعارف في وعي المتلقي، وإنما هي التي تقوّي الملكة الفطرية في الإنسان النازعة نحو التفكير والاستماع والإبداع.
- لا بدَّ للتربية أن تقوّي في الإنسان المكون الروحي، الذي يؤثر في الوجدان وينمي القدرة على مكاشفة عدمية السلوك النرجسي والمتعي، وعلى قدرة الرؤية الروحية في تخليص الإنسان من الاستغراق في مشتهيات الطاقة الحيوية، وعندما يكتسب الإنسان هذه الرؤية الروحية يدخل في طريق تهذيب الأخلاق، وإطلاق القوى الإنسانية التي كبلتها فلسفة التربية الحديثة وأساليبها وغاياتها، التي لم تكتشفها أساليب التربية الحديثة، بسبب الرؤية الاختزالية.
- إذا كانت التربية تشمل تربية الفكر والإرادة والعمل، فإن النوازل الفكرية تقتضي أن نهتمَّ بالتربية الفكرية وكيفية التغلُّب على معيقاتها النفسية والاجتماعية والمعرفية، خاصةً أن الإنسان المسلم دخلت إليه حركة الحداثة وشوَّشت رؤيته إلى العالم ونظامه المفهومي، إن تعلّم التربية الفكرية يقي الفكر والعلم والعقل من أية توثيقات تاريخية أو حداثية تخرجه عن حركة العمارة وحركة الزمان.
ثم يأتي الباب الثاني الذي عنونه بـ"الدور الحالي للثقافة في ظل الوباء البيولوجي"، وتناول فيه:
4- الفلاسفة والجائحة: تنازع التأويلات
باتت الجائحة هي المتحكِّم في توجيه الناس وفي خياراتهم وحتى في طبيعة أبحاثهم، إن هذا الوباء أضعف من مركزية الإنسان، وقلَّل من قيمة التكنولوجيات والمبتكرات الطبية في أعيينا، فقد رأى الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين في الجائحة فرصة نادرة وجدتها مؤسسات الدولة كي تمتدَّ وتشرع لنظام المراقبة والمعاقبة، ومن ثَمَّ فقدان الحرية، وهناك من الفلاسفة مَن وجد في الجائحة لحظةً مناسبةً لتفجير نقد عنيف ضد النظام الليبرالي المعاصر، بينما نجد الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في قراءته لجائحة كورونا أكثر شعورًا بالنشوة؛ لأنها عبرت عن صحة أفكاره وتحليلاته، فهو دومًا ناقد لما يُعرف بعلم المستقبليات. إن قراءة الفلسفة لكورونا لا تنفصل عن الاستناد إلى النصوص في الفهم والتأويل.
5- أي دور للثقافة في ظل الوباء البيولوجي؟
معنى الثقافة هو الأمر الحاسم لمعرفة ما إذا كان لها دور أم لا. فإذا كان البعض يرى أن الثقافة هي الموروث الرمزي لمجتمع من المجتمعات من غير دور له في الواقع، فإن هذا المفهوم جامد لا حركة فيه، ويرى آخرون أن الثقافة هي وحدة أسلوب الحياة في مجتمع من المجتمعات من غير قوة في هذه الحياة أو حركة فيها، فإنه مفهوم لا تاريخي ولا حركي. أما المفهوم الذي نراه ضمن هذه التحديات الجديدة، فيرتبط بالبُعْد الأخلاقي والقيمي للإنسان، فالثقافة هي فعل في هذا العالم وليس سكنًا فيه فقط، وروح هذا الفعل هو تقويم الأفكار والأفعال التي تظهر وتعطل حركة الإنسان في العالم أو تصرف سعيه عن الإبداع والتجاوز والإقدام. فالثقافة إذن هي نمط متميز من الوجود النوعي للإنسان، ومعجمه التأويلي للعالم لا يعرف إلا مفردات: الحياة والحركة والإثبات والقوة المعنوية والتأثير والتجاوز والفعل الارتقائي. فإذا عرف هذا المفهوم الحيوي حول الثقافة وكان قصدنا هو رسم دورها الحيوي في ظل هذا الوباء البيولوجي، فإننا نقول:
- للثقافة دور حاسم ومكين في ظل هذا الظرف الذي تمرُّ به الإنسانية، فلها الدور التقويمي لمجمل الأفكار والأفعال الحائدة عن مطالب الصحة الفكرية والبيولوجية، فالتثقيف هنا فعل توجيهيٌّ وإسهام تطوعيٌّ نراه فيما تقوم به مؤسسات المجتمع المدني من تفريج للكروب وإعانة لمن هم في أمسِّ الحاجة إلى متطلبات الصحة العمومية.
- كما قامت الثقافة في مكونها الفكري بنشاط تثقيفي وتعليمي، ظهر في مجمل النشاطات العلمية في المجال الافتراضي، فالعزلة في البيت أحيت ما كان ميتًا، أي حضور الفكر بقوة في عوالم المجال الافتراضي.
- وإذا كانت هذه الأمور قد تحققت باعتبارها شاهدة على دور الثقافة في هذه الجائحة البيولوجية، فإن جهدها المستمر (أي الثقافة) هو أن تعمل على تقوية المكون الروحي في الإنسان .
ويختتم الدكتور بلعقروز هذه النقطة بخلاصة مفادها أن الثقافة لا بدَّ أن تكون فعلًا تغييريًّا وتعديليًّا للإنسان فكرًا وقولًا وعملًا، فعلًا مستمرًّا وقويًّا وزاخرًا بالقيم الإنسانية السامية، فالإنسان من غير ثقافة تلازمه في حال الاعتدال وفي حال المرض، هو كتلة بيولوجية تسري فيها مطالب الغريزة المتكررة والثابتة، إن الثقافة إذن هي روح الإنسان العارجة نحو المعنى والقيمة.
6- الجائحة ومستقبل المعرفة
من سمات هذه الجائحة أنها اختبرت وكشفت عن قيمة العلم في سياسات الدول والمجتمعات، ليس العلم كجهود في المختبرات أو مراكز الأبحاث فقط، وإنما العلم كثقافة داخل المجتمع أيضًا، وكي نتحقق بالأثر الإيجابي للجائحة لا بدَّ لمؤسساتنا البحثية أن تراعي ما يلي:
أولًا: إعادة بناء رؤية سديدة لأجل تطوير الأبحاث العلمية، هذه الرؤية تقوم على منظور تحديد أولويات البحث، فالجائحة فرضت هذا التوجُّه لإعطاء أمر الصحة وتحديات علوم الصحة وعلوم المحيط الأهمية الخاصة.
ثانيًا: زيادة حجم الإنفاق على مؤسسات الأبحاث تكوينًا وتطويرًا وانفتاحًا؛ لأن ميزانية الأبحاث العلمية لدينا جدّ هزيلة بالمقارنة مع ما تقدّمه الدول التي تجعل من العلم قطب اهتمامها. فضلًا عن أن المعرفة باتت اليوم في حكم السلعة، فمن يبتكر المعرفة والمعلومة هو مَن يسود ويهيمن، ومَن لا يبتكرها يظل تابعًا.
ثالثًا: إنشاء أقطاب علمية متخصصة، وعدم الاكتفاء بالمراكز الموجودة التي سادت فيها ثقافة الجامعة، أي الاهتمام بما هو موجود في مجال العلوم من غير تدريس أساليب الإبداع وتطوير العلوم. هذه الأقطاب تضمُّ النماذج المبدعة والطاقات الرائدة في ميادين العلوم. وهنا لا بدَّ من توفير الظروف العلمية للاستفادة من العقول الجزائرية الموجودة في الخارج؛ لأنها مستعدة للإسهام الحقيقي في تطوير المؤسسات العلمية الجزائرية.
رابعًا: الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع المؤسسات العلمية المتطورة، لقياس مستوى العلمية والإبداعية في مؤسساتنا العلمية، وروح هذا الانفتاح قوامها الصدق والرغبة الأخلاقية في البناء والتطوير.
خامسًا: التجديد في برامج التربية والتعليم، فليس القصد من المعرفة حشو الأذهان، بل تنمية المَلَكات الإبداعية والإدراكية للباحثين، وتعليم فنون التفكير الإبداعي وحل المشاكل.
7- نحن في ظرف تتقدم فيه قيمة الأمانة على قيمة الحرية
كشفت حالة الوباء عن حجم الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي ظهرت فينا، بينما نحن في ظرف وجب علينا أن نغيِّر فيه نظرتنا إلى ذواتنا وإلى العالم من حولنا. فنحن في ظرف تتقدَّم فيه قيمة الأمانة على قيمة الحرية، والتراحم الاجتماعي على الفردية البخيلة، فالشعور بالأمانة كقيمة حاسمة يحفظ لنا وجودنا ويقوّي الترابطات الاجتماعية ويبعث الأمل في المستقبل.
وللمثقف الحقُّ بأن ينتمي إلى مدرسة فكرية أو اتجاه معرفي مخصوص، تمنحه أدوات في القراءة تمكِّنه من بناء رؤية إلى العالم من حوله وكذا كيفية التأثير فيه. إن المثقف المستقل لن يتحقَّق إلا بالقراءة والحوار والتواصل والانفتاح على العالم، فهذه السمات تخلق لنا في وعينا أهمية التزام مبدأ المسافة مع السلطان السياسي ومع الخطابات الدينية المتشددة.
ثم عرج المؤلف إلى الباب الثالث الذي عنونه بـ"تغيير الإنسان بين الحركة الثقافية والحركة السياسية"، وتناول فيه:
8- بناء الوعي ليس قرارًا سياسيًّا حاسمًا والثقافة هي روح التنمية
يبيِّن المؤلف أن المجتمع الذي يفقد ثقافته سيفقد حتمًا قدرته على فعله وحركته في التاريخ، وسيفقد خصوصيته التي تجعله متميزًا بعطائه وإبداعه، مبينًا أن الوعي بأهمية الثقافة وقيمتها يجب أن يلازم كافة أنشطة الإنسان السلوكية والعلمية والاقتصادية والسياسية، أما كيفية تبليغ قيمة الثقافة وبناء الوعي فمن خلال الآليات التالية:
- إشعار المجتمع بقيمة المبدأ الأخلاقي، ودوره الحاسم في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية؛ لأن المجتمع الذي تتعطل فيه الأخلاق هو مجتمع يضيف إلى تخلُّفه الاقتصادي تخلفًا أخلاقيًّا، يسميه البعض "التخلف الجذري". والأخلاق هنا هي هوية الإنسان الأصلية وقيمته التي عليها مدار وجوده.
- الإشعار بأهمية الذوق الجمالي ركنًا مكينًا من أركان الثقافة، فالجمال هو اللمسة التي تنطبع في نفس الإنسان، فتكون دافعًا لاختيار العادات الكريمة والأفعال الفاضلة، وذلك من خلال تفعيل دور مؤسسات الفن في المجتمع، وإخراج الفن من "فن المتحف" إلى "الفن في المجتمع وفي التاريخ" .
- لا بدَّ من إدراك قيمة العمل وأهميته، وأن معنى الأفكار ليس بما نقوله أو بما نعبر عنه، وإنما بما نفعله، فإذا لم نتحقق بالعمل فإن تخلُّفنا سيزيد ويقوى. فالعمل المبني على المخطط المنهجي بحيث تنطبع قيمة العمل في الوعي الجماعي هو عمل مجتمع يضع سيره التاريخي في الطريق السليم.
9- قوة المثقف بين الاستقلال والتبعية
الاستقلال هو الصورة التي يجب أن يكون عليها المثقف؛ لأن رسالته التاريخية هي بناء العالم الثقافي للإنسان، وهو بناء يخاطب الإنسان مجردًا عن هذه الانتماءات والرهانات المصلحية؛ لأن الثقافة هي المكون الروحي في الإنسان ورصيده الذي يتأسس على عالم الأفكار خاصةً الناهضة والحافزة. ومن هنا فالمثقف المستقل وجوده سيرتبط بالكفاح الثقافي، وهو صمام أمان الثقافة الناهضة من خلال ارتكازه على ثلاثية: الانتماء الأصيل والفعالية والعالمية. وللمثقف الحقُّ بأن ينتمي إلى مدرسة فكرية أو اتجاه معرفي مخصوص، تمنحه أدوات في القراءة تمكِّنه من بناء رؤية إلى العالم من حوله وكذا كيفية التأثير فيه. إن المثقف المستقل لن يتحقَّق إلا بالقراءة والحوار والتواصل والانفتاح على العالم، فهذه السمات تخلق لنا في وعينا أهمية التزام مبدأ المسافة مع السلطان السياسي ومع الخطابات الدينية المتشددة.
10- فشل النظام السياسي مردُّه إلى فشل النظام الثقافي للمجتمع الجزائري وسيولة المثقفين تعقيب على البيان الثقافي
أولًا: في تشخيص الأزمة: إن نظام الحكم وتغيير البنية السياسية وبناء الدولة المدنية وتقدير الحريات هي الطريق الملكي نحو الجمهورية المثالية. إن روح الأزمة التي أنتجت لنا هذا النظام السياسي المترهل هي أزمة ثقافية، اختلطت فيها هموم المثقف بهواجس الخوف وإرضاء السلطان والنزعة الفردية والانتصار للنماذج الأيديولوجية الفاشلة أحيانًا. إن الفشل السياسي الذي انتهينا إليه هو في أصله فشل في نمط الرؤية الثقافية التي كان المثقف مطمئنًّا إليها. والأزمة الحقيقية هي أزمة لأدوار المثقفين الذين يمكن أن نرصد منهم: المثقف (المتعالي، الراهب، البوق للسياسي، المتملق، الأيديولوجي، المنغلق، البزنس).
والثقافة في الجزائر ملامحها الجوهرية هي: الفعل بدلًا من التعالي، والمجتمع بدلًا من الرهبنة، ونقد السياسي بدلًا من التعبير عن رهاناته، والاعتزاز بدلًا من التملُّق، والانفتاح بدلًا من الأيديولوجيا، والفعل الثقافي الصدوق بدلًا من المثقف البزنس.
ثانيًا: في آليات الفعل الثقافي: نحتاج في اللحظة الراهنة إلى فعل ثقافي يسميه الكاتب بـ"الفعل الثقافي الذكي والمطبق"، فلا بدَّ من إعادة الاعتبار للذكاء في مجال الثقافة، والانخراط في الأطر الجمعوية السائدة، وتقديم بدائل علمية تؤثر إعلاميًّا وثقافيًّا في المجتمع، لكن المثقف لم يخطُ الخطوة الثانية، خطوة العمل والوجود بصورة فعَّالة في الساحات والميادين.
ثالثًا: رغم جمالية المرافعة عن وحدة الثقافة الجزائرية واتهام النظام بأنه يعكر صور الانسجام والتكامل، فإن هذا أمر منادى به أكثر مما هو مبرهن عليه، وهو لا يقترب من التركيبة الواقعية للمجتمع الجزائري.
رابعًا: أعتقد أن المثقف عمله الأصلي هو بناء المجال الثقافي، فهو النطاق المركزي للمجتمع ونظام الأنظمة في البنى الإنسانية. ودوره قيمي أخلاقي، بمعنى موضوعه ما يجب أن يكون وليس ما هو كائن أمامه فقط.
الخلاصة: إن أزمتنا الحالية ليست سياسية إلا عرضًا، بل هي أزمة ثقافية تعكس الفراغ الثقافي الذي كان يعيشه الإنسان الجزائري، وتعكس أيضًا انزياح النُّخَب في مسائل هامشية، وهي مسائل لا تلقي السمع لحاجات الإنسان الجزائري.
وأخيرًا، عرج المؤلف إلى الباب الرابع الذي عنونه بـ"الترجمة العلمية والنص الفلسفي في الجزائر"، وتناول فيه:
11- عوائق ترجمة الكتاب العملي
فنحن حسب رأيه متأخرون في الترجمة كثيرًا، فضلًا عن أن الترجمات الموجودة لا تضاهي الترجمات العالمية، فنحن محجوبون عن مستجدات المعرفة الفكرية والفلسفية التي تنتجها المجتمعات المعاصرة.
12- هل ثمة نص فلسفي جزائري؟
عدَّد الكاتب أسباب غياب الفلسفة الجزائرية أو النص الجزائري، وهي:
- طبيعة التكوين المعرفي لمن توكل لهم وضع برامج الفلسفة؛ ذلك أن أغلبهم لم يتكوَّنوا تكوينًا فلسفيًّا خالصًا، بقدر ما كان تكوينهم جامعًا بين مباحث الفلسفة التقليدية في صورتها الفرنسية، وبين المباحث النفسية والاجتماعية، فضلًا عن توقف بعضهم عن متابعة الراهن الفكري في الجزائر وفي العالم ككل، وهو ما انعكس على مضامين الكتاب المدرسي بأن أضحى أسير النصوص الفلسفية، خاصة ضمن القرن التاسع عشر، وهي فترة لم تشهد اهتمامًا بالفكر الفلسفي الجزائري، فهذا الارتماء في أفكار الفلسفة الفرنسية حجب نصوصًا فلسفية جزائرية ذات قيمة، مثل: نصوص محمد تازرورت، ونصوص الأمير عبد القادر الجزائري...
- يخلو الفضاء الفلسفي الجزائري من المشاريع الفكرية الفلسفية، التي تفرض نفسها بإبداعها ونصوصها، فغالب ما هو سائد هو المنحى الأكاديمي والمنحى الحر المتمثل في الأقوال التحليلية لنصوص الفلاسفة وليس المكابدة الروحية الإبداعية التي تحرر الوعي من التبعية وتسكنه في الإبداع والإنتاج.
- صراع التأويلات في النصوص التي يجري اختيارها ضمن الكتاب المدرسي، فالتحيز والذاتية قد أثَّرا في تشكيل نصوص فلسفية قوية.
ثم ذيل المؤلف كتابه أخيرًا بضميمتين:
الأولى عنونها بـ"أية ثقافة يبشر بها كتاب (هكذا تكلم زرادشت) لفريدريش نيتشه"
إن الكتب الكبرى هي التي تصنع الأحداث الكبرى، وتطرح على الإنسان أسئلة تجعله واقفًا ساكنًا حائرًا؛ لأنها تخاطب أناه العميقة وتجرحه بالسؤال عن قيمة ذاته وما الذي أوجده في العالم بما أن الوجود يعادل الإبداع والإرادة تساوي التشريع، إن كتاب "هكذا تكلم زرادشت" قطعة فنية جلبت إلى متونها الأفكار الفلسفية الخارقة، والمشاعر النابضة بالحياة وإرادة القوة؛ ولذا فهو ليس كتابًا من الطراز النسقي المُهوَّس بالبنية المنطقية واللغة المفهومية والترتيب الاستدلالي، وهو من صنف الحروف التي تفكر بإرادة القوة، إنه الصورة العاكسة لطبيعة الإرادة التي تؤول العالم أو تفرض معانيها على الأشياء، فميزة هذا الكتاب أنه كتاب بشارة، غادر فيه نيتشه طريقته القديمة في الإفصاح والتفكير. إنه كتاب للجميع، فهو يحمل الحكمة لجميع البشر، ومَن يقرأ نصوصه سيشعر أنه في حاجة إلى أن يتجاوز ذاته نحو الإنسان الأعلى، نحو الثورة على القيم والانحطاط وقيم السلبية والفتور والقبول بالحياة الساكنة. إن هذا الكتاب برنامج فنيٌّ جماليٌّ لتحديد القيم وبثِّ إرادة القوة كأداة تحليلية لحركة الإنسان على الأرض، ولإعادة ربط العلاقة الممزقة بين الوجود والزمان، أو بين الوعي والتاريخ، أو بين الجسد والمعنى، أو بين الجمال والإبداع.
يطلب منا نيتشه أن نشغل الحاسة السادسة، وهي حاسة الحس التاريخي، كي تتبدى لنا الأمور على أصلها؛ ولهذا كان نقد الإنسان ونقد قيمه ونقد انفصاله عن الأرض هو فاتحة التبشير بهذه الصورة الجديدة للإنسان. كما يرى نيتشه أن الفلسفات المثالية التي توهم البشر بالانفصال عن الأرض والحياة إن هي إلا خراج الأرض ومنبتها؛ لأن المثالي قد تعب من الحياة واستبطن في نفسه تجربة الحقد تجاه ما هو جميل وحيوي وإثباتي.
إن الأرض هي الكلمة العزيزة على قلب نيتشه، فهي أداة تحليلية ومعيار تقويم ومعيار تشريع كذلك. إن هذا الكتاب هو دليل نفسيٌّ وخلقيٌّ لمن أراد أن يتحرر من مشاعر العدم، وأن يسحق مشاعر الانحطاط في نفسه، وأن يوقظ إرادته التي استبدَّ بها الضجر وفَقَدت أية قدرة لها على الفعل والإنجاز والشعور بالمعنى الجمالي للحياة.
أما الثانية فقد عنونها بـ"ما أكثر من يعرف مالك بن نبي وما أقل من يفكر معه: أسئلة زماننا وأفكار مالك بن نبي"
إن نصوص مالك بن نبي ليست مجرد نسيج لغوي جامد، مبينًا أن هناك فرقًا بين أن نعرف مالك بن نبي وأن نفكِّر معه، فالتفكير معه هو طور فوق المعرفة، إنه الدخول إلى فكره لجلب طريقته التي عمادها الفهم الثقافي للعالم، لكي نجتاز بعدها هذه المرحلة إلى صرف سعيينا لأن نطرح عليه أسئلة زماننا؛ لأن تفكيره هو اشتباك مع مشكلات الحضارة التي انتمى إلى زمانها، بينما يمر زماننا اليوم بتحديات أخرى توجب علينا أن نفكِّر مع مالك بن نبي ضمن تحدياتنا اليوم، ومعنى ذلك أن نرتكز على قواعد الفهم الثقافي، وأن نستكشف منظومة الأفكار التي تمسك بحركة التاريخ، وأن نرتفع إلى مستوى الحضارة كي نكون جديرين بتقدير الإنسانية لنا.
ثم طرح الكاتب استشرافات مالك بن نبي بداية بـ:
أولًا: إصلاح جهاز التفكير
إن الأفكار هي المحركات الدينامية للفعل المحسوس في الواقع، وقد شرح مالك بن نبي منظومة الأفكار، ورسم لنا سُبل إصلاح جهاز التفكير، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الجهد في تتبُّع الأفكار وبنائها، ووضع الشروط التي توجب نجاحها، وهو حريص على التفريق بين الأفكار الصحيحة والأفكار الصالحة، فالصحة ذات سمات منطقية وفلسفية، بينما الصلاحية ذات سمات تاريخية ومجتمعية.
ويشير الكاتب إلى أنه يمكن أن نستخرج من إصلاح التفكير وفق منهج مالك بن نبي معجمًا ودليلًا للتربية الفكرية التي تُرسي حركة التفكير على المنهج العلمي والسند الروحي، وتحرر العقل من استحواذ الشيء عليه أو دورانه حول الأشخاص، فالتفكير المنهجي هو ذلك الذي يتغذى على الموارد الروحية الدافعة والحافزة، ويعلم بذل الجهد لأجل الإبداع، ويتفاعل مع حركة الواقع تحسينًا وترقية نحو الأفضل.
ثانيًا: تذكُّر المرحلة الأولى من مراحل الحضارة
وهي مرحلة الروح، وتجديد الكيان الوجداني للإنسان، وإيقاظ الدافعية الروحية لأجل الفعل في التاريخ، وإذا لم ترتسم نقطة الانطلاق من الحيوية الروحية، فإن قافلة الحضارة لن تنطلق، فالروح هي التي تصير الشخص وتأخذ بيده كي يكيف نفسه وفق مطالب الاندماج الاجتماعي؛ ولذا فإن أزمتنا اليوم أننا لم نعُد نفكِّر بالروح، بل بالسعادة الفردية والحقوق الذاتية والبحث عن المتعة وعبادة اللذة؛ ولذا فإن الارتكاز على المرحلة الأولى -أي الروح- هو الترياق الأفضل لتحصيل إرادة القوة القادرة على رفع التحديات. فمن واجبنا إذن تطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تدرس كيفية الارتقاء بالإنسان روحيًّا وخلقيًّا وجماليًّا وفعليًّا.
ثالثًا: تعليم القراءة الذكية والمركَّبة
كان مالك بن نبي دومًا منفتحًا على نصوص وعلوم متنوعة، وهذا هو سِرُّ الإبداع الذي طبع فكره. ومن سماته الظاهرة: قراءة النصوص ثم هضمها ثم الأخذ بها إلى الواقع لأجل تحسينه والرفع من قيمته.