الأخلاق الإنسانية ماهية أم هُوية؟

دراسات - الأخلاق الإنسانية ماهية أم هوية

تمهيد

لسلطانِ المكتوبِ والمدوَّنِ والمنظَّمِ معرفيًّا من الإرث الإنساني -الإغريقي خاصةً- سطوةٌ على التعريفات حتى الآن؛ لاستبطان مسالك تحصيل الحاجة لتعريف الإنسان بالقوالب المعهودة؛ إذ صُيّر التعريف بالماهية الإنسانية كأنه ضرورة حتمية، لا يمكن للإنسان أن يتخطاها، ومع الزمن تحدَّدت تعريفات الإنسان من الماهية إلى الغاية. وقد عُرّف الإنسان بعدَّة تعريفات، أشهرها التعريف بالماهية الثابتة تمييزًا للماهية الثابتة عن العرض الزائل، ومن ذلك تعريف الإنسان بـ"الإنسان: حيوان ناطق"[1]، وهناك مَن عرّف الإنسان بالغاية من وجوده، مستحضرًا الفاعلية المرنة، باعتبار الغاية إنشاطًا للعمل لتحصيل الكمال الواجب، لا بالطبيعة التي يتميّز فيها الصالح من الفاسد. والتعريف بالغاية يشمل التعريف بالوظيفة أو الدور الإنساني[2]. ومعلوم أن الدين المنزّل جاء لتعريف الإنسان بذلك كله، من أصل وغاية ووظيفة ومسالك ومآلات، وقصة الخلق بدأت بدور "الخليفة"، الذي قوّم قوامه بما يتناسب مع هذا الدور[3].

والتعريف المتقدّم الشائع بالماهية (الناطقية) تعريف بفصل طبيعة النوع الإنسانيّ وفق شرط الماهية؛ وهو شرط الثبات والفصل الخاص بالنوع. وإن كان هناك مَن يرى تعارضًا بين التعريف بالماهية العقلية والتعريف بالماهية الخُلقية، إلا أنه تعارض ظاهري؛ ذلك أن التعريف بالناطقية تعريف بأصل التمييز بين الإنسان وغيره من المخلوقات، تمييزًا طبيعيًّا ماهويًّا وفق مستوى النوع على التراتبية الوجودية الإغريقية، والتعريف بالأخلاق تعريف للإنسان بغايته لتحصيل كماله المطلوب وفق مستوى الواجب المقتضي للتشخُّص، بين نظر في القبليات ونظر في البعديات، وما يصحب كل نظر، حتى وإن أُطلق على "الأخلاق" لفظ الماهية أو الخصيصة؛ فهو إطلاق غير مدقق أو من باب المجاز، كما سيأتي بيانه. والخلل عند الفصل بين الطبيعة الإنسانية والغاية، بتغليب جانب الطبيعة على الغاية، في حين الإنسان كلٌّ يتجلى بحسب المبادئ والغايات والأفعال.

ولم يجد المسلمون تعارضًا في الجمع بين التعريف بالماهية والتعريف بالغاية، لمواءمة المنقول اليوناني، فعُرِّف الإنسان بالماهية الناطقية، وجُعلت دلالة على تكريم الإنسان بالعقل؛ إذ العالِم عاقل، والتعريف بالغاية "الخليفة" و"الفلاح" جعل إزاء الكمال اليوناني لتحصيل السعادة[4]. غير أن السؤال المطروح هو: ما الفرق بين التعريف بمقولة الماهية والتعريف بمقولة الهوية؟ وهل الأخلاق في أصلها تُعرّف بهما؟ وما صلة الأخلاق بالمقولتَيْن؟ وهل يمكن الجمع بين الماهية في تجاوزها للتاريخ، والهوية التي تتحدد بالبلوغ بعد مسيرة تاريخية؟

للإجابة عن هذه الإستشكالات، لا بدَّ من التطرق لكل مما يلي: مقولة الماهية، ومقولة الهوية، ومفهوم الأخلاق، ومفهوم القيم[5]. وسنرتّب البحث على المباحث التالية:

المبحث الأول: التعريف بمقولتي الماهية والهوية.

المبحث الثاني: التعريف بالأخلاق.

المبحث الثالث: صلة الأخلاق بمقولتي الماهية والهوية.

المبحث الأول: التعريف بمقولتي الماهية والهوية

الماهية والهوية مقولتان تُطلقان ويراد بهما دلالات مخصوصة يكيّف بها المعنى، فبهما يُعرف من الأسماء ما يمكن أن يُطلق عليه ماهية أو هوية، وقد عُرفت الماهية والهوية تارة باعتبارهما شيئًا واحدًا مع الاختلاف المتداخل، وتارة بالاختلاف المفارق، وتفصيل ذلك فيما يأتي:

الترادف بين مقولتي الماهية والهوية

باعتبار الترادف، فالماهية والهوية كلاهما دالٌّ على شيءٍ متحدٍ بالذاتِ مختلفٍ بالاعتبارات التالية:

  1. الماهية أعمُّ من الهوية: "قال بعضهم: ما به الشيء هو هو باعتبار تحقُّقه يُسمَّى حقيقة وذاتًا، وباعتبار تشخُّصه يُسمَّى هوية، وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يُسمَّى ماهية..."[6]. بيِّنٌ أن الماهية هنا أعم من الهوية، والهوية هي حال التشخص للشيء في ذاته، مما يعني وجه اختلاف بالاعتبار لا الحقيقة.
  2. الماهية جواب ما هو، والهوية خصيصة الامتياز عن الأغيار: "قال بعضهم: الأمر المتعقل من حيث إنه مقول في جواب (ما هو؟) يُسمَّى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يُسمَّى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار يُسمَّى هوية، ومن حيث حمل اللوازم عليه يُسمَّى ذاتًا"[7]. وفي هذه الحالة، فالاختلاف بالاعتبار صحيح هنا، والوجود الخارجي مرتبط بالحقيقة.

فالهوية تعريف لها بخصائص المشخصات إن الواجبة أو الواقعية، فالهوية "تُطلق على الماهية مع التشخّص وهي الحقيقة الجزئية"[14]، أي على الماهية الجزئية لا الكلية[15].

والترادف هنا هو تعريف الماهية والهوية باعتبارهما شيئًا واحدًا؛ في دلالتهما على ما يُتعقّل -ذهنيًّا- من الشيء (الشيء في ذاته)، وهذا المشترك هو "الجوهر المُتعقل الذهني"[8]. والاختلاف بين المترادفات يكون بالتقييد بالاعتبارات لا بالذات، فتارة الماهية أعمّ من الحقيقة والهوية ما لم تُشخّص، وتارة الهوية ممثلة الفصل للمبدأ الأول من المبادئ العقلية[9] التي بها تُعرف الماهية: "أن يكون الشيء هو هو"، مع عدم تجاوز الموجودات الذهنية الكلية المتعقّلة[10]، وإلا فينتقل التعريف للاختلاف الحقيقي.  

يُستخلص من هذا الاعتبار دلالة: الاسم الذهني الكلي الثابت وفق مستوى "الوجود الذهني"، لتُختبر به فرضية "الأخلاق ماهية"[11] أو "الأخلاق هُوية" باعتبار الترادف، فهل الأخلاق اسم كُليّ ذهنيّ له خصائص الجوهر/الذات؟ سواء أطلق عليها "الماهية" أو "الهوية" أو "الذات" أو "الحقيقة" أو "الجوهر".

الاختلاف المتداخل بين مقولتي الماهية والهوية

الهوية والماهية
                                                         الهوية والماهية

الفرق الحاد بين الماهية والهوية عند منعطف تخصيص الماهية بالاسم الكلي الذهني للذوات، مقابل تعريف الهويّة بالمشخص الخارجي؛ المعرّف بما تُعرّف به المشخصات. فالقول بالفرق بين المستويين الوجوديين: الذهني والخارجي، يدقُّ عند إطلاق الهوية "على الوجود الخارجي... وهي [في الوجود الخارجي] التشخُّص؛ وهو المشهور بين الحكماء والمتكلمين"[12]. ولتحديد الهوية، فهي إما أن تكون لمتعقّل ذهنيّ، وإما أن تكون لمتشخّص خارجيّ، فإن كانت الأول فقد مضى بيانه بالترادف، وإن كانت الثاني فهذا أوان بيانه؛ فالهوية لفظ موضوع لا عن أصل عربي، ليدل على الخصائص المميزة للشخص/الشيء المشار إليه، وهي "لفظ... يطلق على معانٍ ثلاثة: التشخّص والشخص نفسه والوجود الخارجي... واعلم أن الهوية جزئية مكفوفة بالعوارض فاعلة للصفات الخارجية"[13]. وبالاعتبار الثاني فالهوية تعريف لها بخصائص المشخصات إن الواجبة أو الواقعية، فالهوية "تُطلق على الماهية مع التشخّص وهي الحقيقة الجزئية"[14]، أي على الماهية الجزئية لا الكلية[15].

ويمكن إجمال الفروق بحسب القول الثاني إلى متقابلين، يمكننا من خلالهما اختبار "الأخلاق"، فالمقابل الذهني هو "الماهية"، والمقابل الخارجي هو "الهوية":

  • الماهية وجود ذهني، وهي في ذاتها خصيصة معطاة لا يؤثر فيها الزمن؛ لأنها اسم كليٌّ فاصل لنوعه عن بقية الأنواع، ولا تنظر للأشخاص بأعيانهم. ومجال استحضارها الذهن، فهي متعلقة بالذات لا الصفات والأفعال الملحقة بالذات "العوارض".
  • الهوية وجود خارجي، وهي خصائص مكتسبة قد تزول، والاكتساب يعني الفعليَّة، ولا فعلية بلا تغيُّر، وشرط التغيُّر الزمن. وهذه الخصائص تفصل الشخص عن شخص آخر، ومجال استحضارها اصطباغ الحال بها حتى تصير صفة للفاعل، فهي متعلقة بالأفعال والأحوال والصفات، والمتعلّق بالحال والصفات إن جُعل وفق المستوى الذهني فهو "عوارض"[16]، ووفق المستوى الخارجي فـ"مشخصات الأعيان".

وبهذا الاعتبار يؤول الأمر إلى ثنائية "الجوهر" و"العرض" في حال التجريد من الأعيان باعتبار عالميهما: عالم الثبات والدوام وعالم التغيّر والفساد، وفي حال التعيين فهو عالم المشخصات المعاكس. فهل يصحّ أن تكون الأخلاق ماهية ثابتة لا تزيدها الأفعال شيئًا؟ أم هي هوية متغيّرة لا تدلّ على أصل الحقيقة الإنسانية؟ وهل النظر للأفراد هامش لا تهتمّ به الأخلاق؟ وفق هذه الاعتبارات يمكن تصنيف الأسئلة كالتالي:

  • هل الأخلاق وجود كُلي ذهني؟
  • هل الأخلاق وجود خارجي متشخص؟

فهل الأخلاق اسم كُلي لا يزيد ولا ينقص ولا يؤثر فيه الزمن؟ أم هي فعل يكتسب والزمن شرطه؟ مع استحضار خصائص: الثبات/التغير، والذات/العرض؛ من فعل وصفة وحال... المأخوذة في منطلقات هذه المقولات. وفرض هذين السؤالين على الأخلاق[17] قبل التعريف بها فرض لمتوقعات مسبقة، وإسقاط لمقولات على لفظ لم تُتبيَّن دلالته بعدُ في المجال التداولي الإسلامي العربي، ولأي حقل ينتمي.

وعليه، فلا بدَّ من تعريف الأخلاق، وحينها تُختبر إمكانية قبول هذه الأسئلة. ويُحسم اختبار الأخلاق بين اعتبارين: "الوجود الذهني" و"الوجود الخارجي"، ثم بعد ذلك إن صحَّت في أحدهما أُبطلت في الآخر، وإن لم تصح في كليهما لم تُقبل من المركَّب منهما، فلا حاجة لكثير من الأبحاث التي تجعل الأخلاق تحت هاتين المقولتين غير ناظرة للأخلاق في ذاتها، وما يشوّهها من بخس لمجرد سلطان المقولات.

غير أن التدقيق أظهر لي أن ظلال استعمال معيار (الإرادة) قد لاح للتفريق بين الصورة الظاهرة والصورة الباطنة؛ وهو الأولى في التقديم لاستصحاب شرط "الحياة"، فلا يُنظر للأخلاق في جمودها وصورها التي قد لا تحقق قيمها بحسب السياق والظروف؛ وإلا فهي صيغة مُقنّنة

المبحث الثاني: التعريف بالأخلاق

ما الأخلاق؟ عوض الجواب بحشد التعريفات وتبيين مناسبها من غيره؛ لكثرة اختلافها، أضعُ معيار التمييز من خلال تصوير الأخلاق مع تقديم دلالتها اللغوية، واستعمالها العربي لإظهار معالمها؛ ومعالمها هي المعيار الذي به تُختبر إمكانية مدّها تحت مقولتي: الهوية والماهية. ومن تصوير التعريف تمثيله، وتمثيلها: إذا صدق إنسان في قوله أو تصرف بطريقة رحيمة، فقد تجلَّى بقول أو فعل، أي بمظهر فيه تغيُّر يدل على معنى ما؛ يتلبسه هذا الإنسان في هذه الحالة، فهنا سلوك، وهذا السلوك قد يكون بتجلّ قوليّ أو فعليّ، وهو منطلق من أمر مُتعقّل مُدرك قدّر الحالة وتجلى بالانفعال، ومن ثَم فمرتكزه على نية ما، نحو غاية ما، بطريقة تعبير ما، لتتحدد أركان الفعل بـ: النيَّة، الفعل، القيمة/الغاية[18]، وتظهر شروطه في الحياة المثبتة للوجود، والفعالية مظهرها عند التجلّي، وإن وقع تحسينه أو تقبيحه فقد دخل في دائرة المسؤولية الخُلقية، فحقيقة الخُلُق: "أنه لِصورة الإنسان الباطنة، وهي نَفْسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها... ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثوابُ والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة"[19]. فالأخلاق الألبسة الفعلية التي من خلالها يُحكم على الإنسان جملة أو على موقف معيّن، وتطلق عادة على محاسن الأفعال، وإن كان في الأخلاق مرذول لا يُنكر؛ تسمية بأشرف نوعيها. والمهم من التصوير استحضار: أركان الفعل الخلقي، وخصيصته التركيبية، وشرطه الأهم "الحياة"، ومقتضاه المؤثّر من تحسين وتقبيح.

أما مُستخلص اللغة فلفظ "خلق" دلالة على التقدير والإبداع على غير مثال سابق. واستعمل الاختلاف بين "خَلْق" و"خُلُق" لتمييز الظاهر عن الباطن، فاستعمل لفظ الخَلْق للدلالة على الصورة الظاهرية من شكل ولون وطول وحسن وقبح...، واستعمل الخُلُق للدلالة على الصورة الباطنية، والتي هي معانٍ جمّل الله بها صاحبها، من صدق ونُبل أو تركه لنفسه فتلبّس أرذلها من كذب وخِسّة. ويظهر للفاحص أن التفريق اتخذ معيار (الظاهر/الباطن)، غير أن التدقيق أظهر لي أن ظلال استعمال معيار (الإرادة) قد لاح للتفريق بين الصورة الظاهرة والصورة الباطنة؛ وهو الأولى في التقديم لاستصحاب شرط "الحياة"، فلا يُنظر للأخلاق في جمودها وصورها التي قد لا تحقق قيمها بحسب السياق والظروف؛ وإلا فهي صيغة مُقنّنة، وإنما النظر لكائن حيّ يتجلّى بفعله وقوله، والحكم ليس على الصورة فحسب، بل على كل أركان الفعل الخُلقي والذي لا يكون إلا في كائن حيّ في وسط حيّ وفق سياق ما، وباعتبار الباطنية فالحكم على الفعل حسنًا وقبحًا سيخفى جزء منه لا يطّلع عليه إلا صاحب الفعل لنيّته، والباطن سبحانه وتعالى.

وتقريب ذلك أن الأخلاق[20] قواعد للتعامل الإنساني بمراتبه المجلّية للخاصية الفعلية، مثلما اللغة قواعد للتخاطب الإنساني المجلّية للخاصية الكلامية، فضبط القواعد تقويم، والعدول عن القواعد المعمول بها في وسط ما يجعل شقّ المسؤولية بعد الإيقاع داخلًا في الضبط الذاتي أو الضبط من قبل الآخرين، ومن هنا تدخل السياسة، لكن الإلزام ليس هو أصل القواعد الخُلقية بين الناس.

فتعريف الخُلُق في باطنه يغلب عليه ما كان مُرادًا للإنسان وفق قدرته، فالصدق إرادة قبل الفعل المتجلّي، والكرم إرادة قبل الفعل المتجلّي... فمن لوازمه "النيّة"؛ إذ تؤخذ في أصل التفرقة، ويوسم بالحسن والقبح بعد إيقاعه، في حين الخَلق عطاء إلهي لا قدرة للإنسان على اكتسابه، وأما تغييره فنحو الحُسن أو القُبح، وحينها ينتقل من مستوى المُعطى إلى مستوى المفعول به، خارجًا مما لا إرادة له فيه إلى ما تُوقع عليه الإرادة.    

الإرادة
                                                    الإنسان والإرادة

من هذه التفريقات اللغوية:

  • الوصف تعريف بما يظهر من الإنسان من صفات، تشمل ما هو إرادي وما ليس إراديًّا، فيوصف الإنسان بجمال الخَلق، ويوصف بجمال الخُلق.
  • والخُلق وصف لحال الإنسان أو فعله، لكنه الحال والوصف المقيّد بالإرادة؛ المشروطة بالحياة.
  • وعليه، فالخُلق وصف لما هو إرادي من الإنسان، فهو مكتسب مركَّب من نيَّة ومسلك وقيمة، فإن سلك المسلك الحسن فقد وافق غاية الفطرة، وإن انحرف فقد سلك سبيل تغييرها.

وبين الاتصاف بخُلق ما وفعله مسافة هي "الحال"، وهي: "بيان الهيئة التي عليها صاحب الحال عند ملابسة الفعل له واقعًا منه أو عليه... والحال ترفع الإبهام عن الصفات، والتمييز يرفع الإبهام عن الذات"[21]، و"الحال: ما كان الإنسان عليه من خير أو شر... يطلق على الزمان الحاضر وعلى المعاني التي لها وجود في الذهن... والهيئة النفسانية أول حدوثها قبل أن ترسخ تُسمَّى حالًا، وبعد أن ترتسخ تُسمَّى مَلَكَة. والحالة: عبارة عن المعاني الراسخة، أي الثابتة الدائمة؛ والصفة أعمُّ منها، لأنها تُطلق على ما هو في حكم الحركات"[22].

يظهر مما تقدَّم أن الأخلاق تظهر أول ما تظهر بـ"التجلّي القولي أو الفعلي" في مجال حياة لا مجردات ذهنية، وكلاهما دالٌّ على نيَّة وغاية، وإسقاط الحكم عليهما بعد أثرهما يؤكد دخولهما دائرة المسؤولية الخُلقية، فلا يُحاسب الإنسان على المعطى وإنما على المكتسب، وإذا أقام إنسان على تلبّس سلوك ما، فقد يوصف مع الزمن بذلك الحال الذي أقام عليه، ليتحوّل تكرار الممارسة إلى حال يقيم عليه؛ فيوصف به، فالكريم هو من عُهد منه سلوك الكرم، والرحيم هو من عُهد منه سلوك الرحمة، والعادل هو من عُهد منه سلوك العدل... فينتقل من منطلق الفعل وهو النيَّة إلى الفعل المجلّي له، إلى الحال المعاهد للمعنى، حتى يصبح وصف الإنسان بغايته التي يرومها أو "القيمة" التي قصدها فألقت عليه بظلال قصده.

والثابت في أركان الأخلاق هو القيم المعطاة، ومن ثَمَّ عند إرادة اختبار مقولتي "الماهية" و"الهوية" فلا بدَّ من البحث عما يناسب هاتين المقولتين، وأهم خصائصهما: الثابت أو المجموع المجرد عن الحياة، والناظر للكليات والعموميات دون الأفراد. أما السؤال عن الأخلاق فسؤال عن أركان تتلاحم وهي: النيَّة، والمسلك من فعل وحال، والغاية-المعنى-المقصد. والثابت في هذه الأركان الثلاثة هو الثالث، وقد عُرف في راهن عصرنا بـ"القيم"، وهي متجاوزة لظاهر الإنسان؛ إن أحيلت إلى الفطرة، أو أحيلت إلى القيم التي أقامها الرحمن لعباده، والتمييز بين مطلوب الأخلاق ومرذولها مُناط بمعرفة المعاني المقوّمة للسلوك "القيم"، سواء الموروثة أو التي رُزق حُسن تبصرها، أو التي تلقاها من الوحي الإلهي.

يُستخلص مما مضى:

إن الإنسان خُلق بقدرات تؤهله لتحصيل الملكات الباطنة عبر المعاني المسمَّاة في عصرنا بـ"القيم"، والتي تصبح وصفًا له بعد تجليته للمعاني المقصودة بقول أو فعل، فهو في ذاته قُدرات تُنهض أو تَنهَض لغايات بوسيلة المُجلّيات فيه من قول أو فعل أثناء الحياة. وعليه يطرح السؤال:

  • هل أخلاق الإنسان ماهية؟
  • هل أخلاق الإنسان هوية؟

المبحث الثالث: الأخلاق بين الماهية والهوية

الأخلاق بين الماهية والهوية
                                             الأخلاق بين الماهية والهوية

هذه خلاصة البحث وغايته، وقد تقدَّم أن الماهية بحث عن خصيصة بعينها، بسيطة ثابتة غير مركَّبة، وفق المستوى الذهني، لا يتفاوت الناس فيها، مودعة قبل الحياة الدنيا وباقية بعدها. فإن رأينا الأخلاق بالتركيب السابق، فسنُخرج الأخلاق من دائرة مقولة الماهية؛ لأنها مركّبة متغيّرة متجلّية في الوجود الخارجي أثناء الحياة، وبأخف الاعتبارات فستخرج إلى دائرة أخرى تسمح لها بالتجلّي والتشخّص؛ لقبول التركيب والتداخل مع الماهية، وهي الهوية بالاعتبار الثاني. والهوية كما تقدَّم وجود خارجيّ متشخّص، لكنه منزوع التحسين والتقبيح، والنيَّة. أي وجود محايد، فلا يُحكم على هوية أحد إلا بمعيار خارجيّ وفق الكليات أو العموميات، بتجاهل للأفراد ومجال الحياة. في حين الأخلاق باطن في أصلها، وفيها الحكم لازم للنيَّة والعمل واختيار المقصد قبل إيقاع الفعل، ثم بعد الإيقاع تنبجس المسؤولية الخُلقية، وكل ذلك في سياق الاختبار والتحقُّق، أي في "مجال الحياة"، فلا أخلاق بلا حياة.

وتعريف الإنسان بالماهية لا يصلح أن يكون إلا بما تختصّ به الماهية من ثبات؛ وليس في الأركان الخُلقية ما هو ثابت على نحو ما إلا "القيم"، وإن أريد تعريف الإنسان بالقيم، نحو: الإنسان كائن قيمي، فهو تعريف بالغاية التي يَنْشَدُّ إليها، والتي لا تنفعه حتى يتلبّس بمعناها فتظهر في سلوكه ومكامن نيته القلبية. وعليه، فتعريف الإنسان بالماهية الخُلقية يمكن أن يُقبل إن كان من باب المجاز لا الحقيقة، وإلا فلا فائدة ترجى من تعريفه بـ"الماهية". وبإبطال التمييز بـ"الطبيعة الخاصة بالنوع الإنساني" أو "الماهية" عند التحقيق، يبُحث عن مميز آخر يترقّى به الإنسان، ويميّز عن بقية الكائنات الحيّة لا يخضع لمقولتي "الهوية" و"الماهية"؛ لشروطهما وخصائصهما التي تجرد الأخلاق من أهم مقوماتها، فكيف تصير الأخلاق هي الماهية وهي ممتنعة عليها؟

وهناك محاولات لتمييز الإنسان بمقولات ليست ضمن التعريف بالخصيصة باعتبارها مقولة ماهية أو مقولة هوية، ومن ذلك التمييز بالبيان والتفضيل بالأمانة[23] أو الإرادة الخُلقيّة الحاملة لها[24] أو ما قد طلبه بعضهم في الخُلق في معرض دفع خصيصة العقل الشائعة[25]، وهي مطالب تبحث عن الثابت أو عن ما يرقّي من شأن الكائن الإنسانيّ، وليس هو محلّ البحث هنا لفحص هذه المميزات المُقترحة، فمحل البحث هو النظر في إسقاط مقولتي "الماهية" و"الهوية" على الأخلاق.

والهوية المشخصُ الدال على الذات لا يُحسّن ولا يُقبّح من حيث الاكتساب، في حين الأخلاق إنما هي حصيلة المعاني المكتسبة المُحسّنة والمقبّحة، والتي قد تزول وقد تدوم، وفق زمن حياة الشخص، وإن عممت إلى النوع الإنساني فقد دخلت دائرة التضاد بين جملة من الأخلاق الواقعية من خير وشرّ، وهذا جانب تناقض بين الهوية والأخلاق. وإن أُريد بالهوية الدالة على مجموع الصفات الدالة على الشخص، فإن أريد بها ما يظهر من أفعال أو صفات فهي أقرب لـ"الخَلْق"، وأن أريد بها ما يستجمع من الصفات المعنوية فهي "الأخلاق" الباطنة المتجلّية بأداتيها من قول أو فعل؛ ولا تُحسّن ولا تقبّح إن اتخذت هوية، فحينها تصبح الأخلاق لفظًا محايدًا، في حين الخُلق في المجال التداولي الإسلامي العربي لفظ غير محايد، فهو بين حسن أو قبح وثواب أو عقاب. كما أن وصف الإنسان بـ"الخُلق" باعتبار ما فُطر عليه، أي المعنى الثابت، هو وصف على سبيل التقدير، وهذا التقدير عند ردّه إلى أصوله هو تقدير بالمتوقع من خير أو شرّ، ولكن إن وصف بالوظيفة التي خُلق من أجلها "الخلافة" فهو وصف بالواجب وهو "الاستخلاف"، ولا يكون إلا لخير وبخير، والاستخلاف وظيفة، والوظيفة عمل وممارسة وليست ماهية ثابتة، ولا هويّة تخص شخصًا دون الآخر، إنما هي تتويج بعد الأداء بين "شاكر" و"كافر".

فالأخلاق في نهاية المطاف لا يوصف بها الإنسان باعتبارها الماهية أو الهوية، وردّها إلى أصلها اللغوي الاستعمالي يبيّن أن أقصى ما يمكن تصويرها به من معنى ثابت هو: الصورة المعنوية المقدّرة للإنسان للتحلّي بالمحاسن فعلًا وصفة، والتخلّي عن القبائح كلها. أي تقدير للمتوقّع. فإن ثبت هذا التمييز، وأن الأخلاق غير قابلة للإلحاق بمقولتي "الماهية" و"الهوية"، ولا الفصل بين عالمي "الذهن/الباطن" و"الخارجي/التجلّي"؛ ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر في جُلِّ التعريفات التي أقيمت لتعريف الأخلاق؛ دون تمييز بين أركانها، وشروطها، ومجالها، وآثارها. ما الذي يفيده النظر في مقولتي الماهية والهوية (أي الآثار)؟

الأثر الأشد معرفيًّا هو الدوران في حلقة لا حلّ معها؛ إذ عدم التمييز بين ما يجمعه مفهوم "الأخلاق" بالاستعمال المبهم -لا تحقيقًا- يعيد تكرار طرح المشكلات حول أسئلة عدَّة، نحو: سؤال الأخلاق، سؤال القيم، سؤال الالتزام والإلزام، مجرد عمليات مكررة لم تشكّك في الأسس التي أقيمت عليها هذه الأسئلة، فمن نَظَر للأخلاق باعتبار جانبها المعنوي نَظَر للقيم بين مصادرها المتجاوزة أو الاجتماعية، ونَظَر لاعتبارها تارة مقاصد الشريعة، وتارة الأعراف... ومن نَظَر لمظاهر الإلزام والالتزام وقع في ثنائية الفصل بين القانون والأخلاق، ومن نَظَر للطبيعة الإنسانية اضطرب في تعريف الإنسان بها تارة بالمشترك الإنساني، وتارة بالفطرة، وتارة بالأمانة... وكل هذه المشكلات يمكن تفكيكها وحلُّها ابتداءً بـ"تحديد الأخلاق" في ذاتها، ما هي؟ وفق المجال التداولي الإسلامي، ثم بعد ذلك عرض الأُطر التي تؤطر الأخلاق، والمقولات، وأول هذه المقولات: "الماهية" و"الهوية". وإلَّا فستبقى مشكلة الأخلاق مطروحة ما بقيت الأُطر التي تؤطرها، والمقولات التي تحكمها، حتى تعاد الأخلاق لموضعها الأول قبل دخول المؤثرات والأُطر إلا إطار الوحي في بيئة التنزيل باللغة العربية، وبعد ذلك تُدرس التعريفات في كل مجال تداولي، وتجمع تحت المشترك الإنساني الذي يسمح بالتقارب، لا إعادة التشكيل بحسب الأكثر تأثيرًا وسطوة علمية. وبالأساس النظري الواضح يجري إصلاح المسالك العملية التي بُنيت عليه، في شتَّى المجالات العملية من سياسية واجتماعية وسلوكية.

خاتمة

لأن أصل الأخلاق الباطن، والباطن من ناحية التجلّي يجلّي القيم المقصودة، ومن ناحية الحُكم يشهد للنيات الكامنة؛ وكلها أمور لا يحكم الإنسان عليها إلا بالظاهر الناظر للصور المعهودة، والحُكم عليها فقط من قِبَل الباطن الحكيم العليم الخبير سبحانه. فإن عُلم ذلك؛ ترتبت أمور تطلبها أبحاث كثيرة عن "الأخلاق"

كشف البحث ضعف تعريف الأخلاق وَفق مقولتي "الماهية" و"الهوية"؛ بعد التعريف بهما، من خلال إعادة تعريف الأخلاق وَفق الاستعمال العربي، وضمن السياق الحيّ الذي به تتجلّى الصور الباطنة للإنسان، وأن الأخلاق تُهمّش أو تُبهم عوض تجليتها والتعريف بها؛ إن أُخضعت للمقولتين، فهي أوسع منهما. ويترتب على تصحيح تعريف الأخلاق إعادة النظر في كثير من التصورات، وأصل الاضطراب في تعريفات الأخلاق، بحثًا عن مكمن الخلل الأبرز لوجود ظلال مقولتي "الماهية" و"الهوية"، وغيرهما من مقولات وأُطر؛ للكشف عن كثرة الكمّ من البحوث والمؤلفات، وندرة البعث الحقيقي للجواب عن مشكلة الأخلاق للإسهام في إصلاح هذا العصر الطالب لجواب الأخلاق. ومن هذه الأجوبة الموصى بها: النظر في الآثار الممكنة للتفريق بين إشكالات عدَّة تلحق بعض المقولات التي كُوّمت تعريفات الأخلاق تحتها، لتحرير الأخلاق من سطوتها حتى تتمكَّن من الإصلاح، ومن ذلك:

  • التفريق بين مقولات التمييز بالطبيعة والتمييز بالحكم على مجموع تجليات شخص بعينه؛ ذلك أن تمييز الإنسان بجنسه تمييز لأصل الخلقة، وأصل الخلقة تقدير للواجب فهو ممدوح، وما عداه مذموم، لكن التمييز الشخصي لأفراد الجنس الإنساني لا يكون تمييزًا إلا وفق مجالٍ شرطه الحياة، وظاهره التجلّي، ولا يكون تمييزًا كاملًا من قِبل غيره من مخلوقات؛ لأن أصل الأخلاق الباطن، والباطن من ناحية التجلّي يجلّي القيم المقصودة، ومن ناحية الحُكم يشهد للنيات الكامنة؛ وكلها أمور لا يحكم الإنسان عليها إلا بالظاهر الناظر للصور المعهودة، والحُكم عليها فقط من قِبَل الباطن الحكيم العليم الخبير سبحانه. فإن عُلم ذلك؛ ترتبت أمور تطلبها أبحاث كثيرة عن "الأخلاق"، ومنها:

أهمية مراعاة السياق والفروق بين الأفراد والمجتمعات، إذ إرادة وضع الأحكام والقواعد الخُلقية الضابطة للسلوك الخُلقي هي إرادة توجيه تظن الإصلاح الحقيقي؛ لأنها مُوجهات وليست مما يُبرز الأخلاق ويقومها فضلًا عن إقامتها، والضبط الاجتماعي الخُلقي ضبط لعموم التصورات حول قيم مبتغاة وفق صور معينة، وليست هي الأخلاق بذاتها؛ وإرادة الضبط إرادة تحكّم بالفئة الاجتماعية، فإن عُممت فقد تكون إرادة ظلم تريد عدلًا، وذلك للأحادية الظاهرية، في حين إرادة التخلُّق الحقيقية إرادة تزكية للباطن من قِبل الباطن سبحانه تُعرف بطرق التزكية، فالسؤال ليس سؤال قانون مقابل أخلاق -كما يشاع- بل سؤال تزكية مقابل سؤال ضبط وسيطرة[26].

وهذا البحث محاولة لخلخلة البيئة التي أحاول من خلالها الإجابة عن مشكلة الأخلاق وفق السياق الإسلامي المعاصر، تلبيةً لاهتمام مركز نهوض للدراسات والبحوث، وفق هذه النقطة: "هل تمتلك النظرية الأخلاقية الإسلامية القدرةَ على الاستجابة للمباحث والتحديات الجديدة المطروحة في النقاشات النظرية المعاصرة حول النِّسْبية الأخلاقية والمسؤولية الفردية وتحليل لغة الأمر الأخلاقي وموقع الإلزام من الطبيعة البيولوجية للإنسان، وغير ذلك؟ وكيف نُقيّم الاجتهادات الإسلامية المعاصرة في فلسفة الأخلاق؟ وما أبرز توجُّهاتها ومشاربها واجتهاداتها؟". فأرجو أن يكون في هذا البحث شمعة إضاءة لمساءلة الأُطر والمقولات قبل نثر الأحاديث والدراسات.

هذا والله تعالى أعلم، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من شهد له الحق تبارك وتعالى بأنه على خُلق عظيم.

المراجع

ابن منظور، جمال الدين محمد. (د.ت). لسان العرب. بيروت: صادر، د.ط.

أرسطو. (٢٠٠٩م). كتاب النفس. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د. ط. 

بن فارس، أبو الحسن أحمد. (١٩٧٩م). معجم مقاييس اللغة. د.م: دار الفكر، د.ط

التهانوي. (١٩٩٦م). كشاف اصطلاحات الفنون. بيروت: مكتبة لبنان، ط١.

الجرجاني، الشريف. (٢٠٠٩م). التعريفات. بيروت: دار الكتب العلمية، ط٣.

الزبيدي، أبو بكر محمد بن الحسن. (١٩٩٦م). مختصر العين. بيروت: عالم الكتب، ط١.

العامري، أبو الحسن. (٢٠١٨م). السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية. بيروت: المدار الإسلامي، ط١.

عبد الرحمن، طه. (2009م). سؤال الأخلاق. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط4.

عبد الرحمن، عائشة. (د.ت). القرآن وقضايا الإنسان. القاهرة: دار المعارف، د.ط.

العتيبي، سوسن. (٢٠١٨م). علاقة الأخلاق وعلم الكلام بالأسماء الحسنى في ضوء فكر طه عبد الرحمن. كوالالمبور: مؤتمر ICRCG.

العتيبي، سوسن. (٢٠١٨م). مفهوم الإنسان عند طه عبد الرحمن وأثره في تجديد علم الكلام. أطروحة دكتوراه في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في قسم أصول الدين ومقارنة الأديان.

الغزالي، أبو حامد. (١٩٨٦م). مجموعة رسائل الإمام الغزالي، بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط.

الفارابي، أبو نصر. (٢٠١٢م). الرسائل الفلسفية الصغرى. دمشق: دار التكوين، ط١.

الفاروقي، إسماعيل راجي. (٢٠١٤). التوحيد، القاهرة: مدارات، ط١.

الفيروزآبادي، مجد الدين. (١٩٩٨م). القاموس المحيط. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط٦.

الكفوي، أبو البقاء. (١٩٩٨م). الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط٢.

مسكويه، أحمد الرازي. (د.ت). تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، بيروت: دار مكتبة الحياة، ط٢.

النقاري، حمّو. (٢٠١٦م). معجم مفاهيم علم الكلام المنهجية. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط١.

 

الهوامش

[1] انظر: أرسطو، النص الكامل لمنطق أرسطو، تحقيق: فريد جبر، (بيروت: دار الفكر اللبناني، ط١، ١٩٩٩م) ج١، ص٢٩١-٢٩٣؛ أرسطو، كتاب النفس، ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط، ٢٠٠٩م) ص١٠٨-١١١؛ أبو حامد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط، 1406هـ/1986م)، ج1، ص87-88.

[2] وهذا ما يقوم به العقل العملي، غير أنه أدنى مرتبة من العقل النظري، فتحصيل الكمال لتحقيق السعادة التي لا تقوم إلا على العقل النظري منطلقًا وغاية، وفق تراتبية وجودية للعلاقة بالإله. راجع: المرجع نفسه.

[3] يجدر التنبيه إلى أن تعريفات الإنسان يمكن تصنيفها إلى "تعريف الإنسان في ذاته" و"تعريف الإنسان بمجاله"، وتعريف الإنسان في ذاته يختزل الإنسان في مكوّن واحد من مكوّناته الداخلية، نحو: العقل، القلب، الخُلق باعتباره ماهية...، وتعريف الإنسان بمجاله يلحظ دور الإنسان وما يكتسبه من محيطه فيعرّفه بحسب مجاله، وكلاهما جانبان يمزّقان الإنسان؛ إذ الإنسان في ذاته مكوّن من روح ونفس وبدن، ولا يستقيم حاله ويتعرّف إلى نفسه إلا من خلال تجلّيه بأقواله وأفعاله تفاعلًا مع هذا العالم، وقد جمع طه عبد الرحمن في مجموع كتاباته هذه الرؤية لتخطي تعريفات الإنسان الممزقة له، إلى تعريفات موصولة تصله بذاته ومجاله من عالمي الغيب والشهادة. راجع: سوسن العتيبي، مفهوم الإنسان عند طه عبد الرحمن وأثره في تجديد علم الكلام، أطروحة دكتوراه مقدمة للجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في قسم أصول الدين ومقارنة الأديان، (كوالالمبور: ٢٠١٨م)، الفصل الثالث والفصل الرابع. فإن عُلم هذا، عُلم أن تعريف الأخلاق بقالبي "الهوية" أو "الماهية" يُرجع الإنسان إلى الصنف الأول "تعريف الإنسان في ذاته"، فهي مقولة محكومة بأصل التصنيف التمزيقي، وهذه مسألة أخرى تُطرح في بحث يتناول أصلها.

[4] راجع: أبو الحسن العامري، السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية، (بيروت: المدار الإسلامي، ط١، ٢٠١٨م)؛ مسكويه، أحمد الرازي، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، (بيروت: دار مكتبة الحياة، ط٢، د.ت). 

[5] من اللطائف أن المفاهيم المحورية المتداولة في الفكر العربي-الإسلامي المعاصر خصوصًا، نحو: القيم، الماهية، الهوية...، عند البحث في أصولها اللغوية نجد افتراقًا بين اللفظ والاستعمال المعاصر، بل مخالفة للأصل اللغوي عند لفظي الماهية والهوية، فلا يصحّ أن تدخل "أل" التعريف على الحروف، فضلًا عن نسبتها؛ ولا مشكلة من توليد المعاني والمفاهيم، لكن المشكلة عندما تتخذ نظارة يُرى بها الوحي أو المعارف في زمن التنزيل، إذ ينظر إليهما عبر حواجز ومفاصل لم تكن موجودة.

[6] أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط٢، ١٤١٩هـ/١٩٩٨م) ص٩٦١.

[7] المرجع نفسه، ص٩٦١.

[8] انظر: المرجع السابق، ص٣٤٦.

[9] انظر: حمّو النقاري، معجم مفاهيم علم الكلام المنهجية، (بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط١، ٢٠١٦م)، ص٤٥٢، ٥٣٠.

[10] انظر: الشريف الجرجاني، التعريفات، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط٣، ٢٠٠٩م)، ص١٩٥.

[11] عند التحقيق، فالماهية لا تُعرف ولا يمكن التحقُّق منها، وإنما تُعرف بخواصها أو أعراضها أو لوازمها أو ملزوماتها؛ لتفريقها عن غيرها: "الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر، ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص، واللوازم والأعراض، ولا نعرف الفصول المقومة لكل واحد منها الدالة على حقيقته، بل إنها أشياء لها خواص وأعراض... ومثال ذلك إنَّا لا نعرف حقيقة الجوهر، بل إنَّا نعرف شيئًا له هذه الخاصة، وهو أنه الموجود لا في موضوع، وهذا ليس حقيقته...". انظر: أبو نصر الفارابي، الرسائل الفلسفية الصغرى، تحقيق: عبد الأمير الأعسم، (دمشق: دار التكوين، ط١، ٢٠١٢م)، ص٣٦-٣٧.

[12] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، (بيروت: مكتبة لبنان، ط١، ١٩٩٦م) ج٢، ص١٧٤٥-١٧٤٦.

[13] أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص٩٦١.

[14] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج٢، ص١٧٤٥-١٧٤٦.

[15] انظر: المرجع نفسه، ج٢، ص١٤٢٤.

[16] يذكر أن العقل اليوناني على مستويين "نظري" و"عملي"، والأسبقية والأولوية للنظري على العملي، ومردُّ ذلك فيما تجلَّى للباحثة أن العقل النظري مبناه على "الجوهر"، أي الشيء في ذاته، ومبنى العقل العملي النظر في "العوارض" التي بها يتجلَّى هذا الجوهر، ولو جعلت مرتبة العقل العملي موازية لمرتبة العقل النظري لاختلَّ أساس النظر اليوناني (الأفلاطوني-الأرسطي)؛ إذ تجعل الجواهر الدالة على الذوات إزاء الأعراض الدالة على الصفات والأفعال، ولا صفات ولا أفعال إلا وفق عالم الحركة والتحوّل، لا عالم الثبات والاستمرار؛ لذا كان النظر لديهم متسقًا مع المقولة الأُم (الجوهر-العرض).

[17] المقولتان: "الماهية" و"الهوية" عند استعمالهما في مجال تعريف "الإنسان"، فلازمهما الأُطر التي تستصحب تعريف الإنسان بالاختزال، لفلق ثنائية تحدّد الإطار، وهي "تعريف الإنسان في ذاته" و"تعريف الإنسان بمجاله"، كما تقدّمت الإشارة إليه. فينبغي التنبُّه إلى تأثير المقولة عند دخولها مجال تعريف الإنسان.

[18] راجع: سوسن العتيبي، علاقة الأخلاق وعلم الكلام بالأسماء الحسنى في ضوء فكر طه عبد الرحمن، مؤتمر ICRCG، ٢٠١٨م.

[19] "الخَلِيقَةُ والخُلُق سواء... والخُلُق: الطبيعةُ، وفلان خليقٌ بذلك أي شبيهٌ". أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، مختصر العين، (بيروت: عالم الكتب، ط١، ١٤١٧هـ/١٩٩٦م)، ج١، ص٤١٩. "الخُلُق... السجيّة والطبع، والمروءة والدين". مجد الدين الفيروزآبادي، القاموس المحيط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط٦، ١٤١٩هـ/١٩٩٨م)، ص٨٨١. "خلق: الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملاسة الشيء. فأما الأول فقولهم: خَلَقْت الأديم للسقاء، إذا قدَّرته... ومن ذلك الخُلُق، وهي السجيَّة؛ لأن صاحبَه قد قُدِّر عليه. وفلان خَليق بكذا، وأَخْلِق به، أي ما أخْلَقَهُ، أي هو ممَّن يقدَّر فيه ذلك". أبو الحسن أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، (د.م: دار الفكر، د.ط، ١٣٩٩هـ/١٩٧٩م)، ج٢، ص٢١٣-٢١٤. "الخُلُق الخَلِيقة، أعني الطبيعة... والجمع أخْلاق... والخُلْق والخُلُق: السجيّة... الخُلُقُ... هو الدِّين والطبع والسجيَّة، وحقيقته أنه لِصورة الإنسان الباطنة، وهي نَفْسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أَوصاف حسنة وقبيحة، والثوابُ والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة...". جمال الدين محمد ابن منظور، لسان العرب، (بيروت: صادر، د.ط، د.ت)، ج١٠، ص٨٦-٨٧.

[20] تُطلق الأخلاق عادةً على الأخلاق المطلوبة (الواجبة)، أي الشريفة، ولا يؤخذ في إطلاقها أخس نوعيها، وإن كان يدخل في تعريفها.

[21] أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص٣٧٥.

[22] المرجع نفسه، ص٣٧٤.

[23] راجع: عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا الإنسان، (القاهرة: دار المعارف، د.ط، د.ت)، ص٥٥-٧٥.

[24] راجع: إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد، (القاهرة: مدارات، ط١، ١٤٣٥هـ/٢٠١٤م)، ص١٢٥-١٢٦.

[25] راجع: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط٤، ٢٠٠٩م)، ص١٣-١٥.

[26] راجع مؤلفات طه عبد الرحمن عن الأخلاق والائتمان؛ فجلُّها يصبُّ لتأكيد هذا المعنى محاولةً للتفريق بين مجالي "القانون" و"الأخلاق" في النقد الخُلقي للحداثة، ومجالي "الظاهر" و"الباطن" في النقد الائتماني. وإن كان اختبار مقولتي: الماهية والهوية لم يظهر في مؤلَّفاته، لكن من حصيلة دراستي لمؤلفاته ومؤلفات غيره؛ انثبق تفصيل المقولات، وما يحكم المسألة الخلقية في السؤال الفكري المعاصر من أُطر ومقولات تعيق التصحيح وتزيده إغماضًا.

 

الكلمات الدلالية