المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية
المحور الأول: التعريف بالكتاب
العنوان: المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية، لـمؤلفه الدكتور طه عبد الرحمن، الصادر في عام ٢٠٢١م، في نشرتيْن كليهما من القطع الكبير في جزئين، النشرة الأولى من الرباط: دار الأمان، قرابة ٦٠٠ صفحة. والنشرة الثانية من الكويت: مركز نهوض، قرابة ٨٠٠ صفحة. والفرق بين النشرتيْن في الإخراج الفني فقط وليس هناك تغير في المحتوى نفسه.
مجمل معالم الكتاب
صدَّر المؤلف الجزء الأوّل «المفاهيم الائتمانية» بمقدمة عن كيفية التوسل بالمعاني الإيمانية للوصول للمشترك الفلسفي الأخلاقي، وثنَّى بالفصول مبتدئًا إياها بحاجة المجتمع العالمي للنظرية الائتمانية، ثم المواثيق الثلاثة بواقع فصل لكل ميثاق. وثلَّث بملحقيْن، الأول: عن كيفية جعل المعاني الإيمانية أدوات تحليلية، والثاني: عن منظور الائتمان وجمع القرآن، فخاتمة.
ومهَّدّ للجزء الثاني «المفاهيم العلمانية»، ثم عالج في الفصول المفاهيم الأخلاقية المعاصرة بالفلسفة الائتمانية دافعًا علمنة -فصله عن الإيمان- المفهوم بأيمنته -وصله بالإيمان-. ويلحظ القارئ أن أكثر المفاهيم المعالجة هي من المجال اللغوي الإنجليزي والسياق الموسّع للعلمانية، وهي: المعيارية الأخلاقية، والأمر الإلهي، والقيمة، والثقة، والمسؤولية الحضارية، والعدالة العالمية؛ ثم ختم بملحق عن العالمية الائتمانية والسؤال السياسي.
وبنية الكتاب العامة بين التنظير والتطبيق هي: غلب على الجزء الأول التنظير لبناء المفاهيم الائتمانية، والجزء الثاني محل تطبيق البناء النظري لنقد المفاهيم الأخلاقية في المجال الفكري والفلسفي المعاصر.
أصل محتوى الكتاب وسياقه ضمن مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي
يظهر أن كثيرًا من محتوى الكتاب عبارة عن محاضرات قدَّمها المؤلف بين عامي (٢٠١٧ و٢٠٢١م). وأما سياق مضمونه فمتعلق بالجانب الثاني من مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي، ومن أهدافه الأساسية: نبذ التقليد الفلسفي عربيًّا، من خلال الكشف عن الخصوصية التداولية للمنقول الفلسفي لدحض دعوى الكونية العالمية للفلسفة، ويُثنّي بالإسهام بفلسفة تداولية عربية خاصة هي بوابة الدخول في الكونية باستثمار إمكانات الخصوصية والبحث عن المشترك المفتاح للدخول في الكوني العالمي بإسهام أصيل، وذلك بالتركيز على:
- الجانب اللساني (أول مشروعه الفلسفي): «وسائل التعبير وإمكانات البيان» وله الفلسفة التداولية، التي امتدت منذ السبعينيات في بواكير كتابات طه عبد الرحمن حتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
- الجانب الديني (متأخر مشروعه الفلسفي): «بيان مكنونات التفكّر وآفاق الإيمان» وهو ما تختص به الفلسفة الائتمانية، التي تجلَّت مع كتاب «روح الدين» حتى الآن.
ويجب تنبيه القارئ الكريم إلى أن الجانبيْن قد تصاحبا في كل كتبه، غير أن التركيز والزخم لجانب في فترة ما هو المقصود من هذا التفصيل.
أما هذا الكتاب «المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية» فينتمي لحقبة التركيز على «الجانب الديني» وهي ما تعورف عليها بـ«الفلسفة الائتمانية» في مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي، وتجلّى التنظير لها فلسفيًّا في كتاب «روح الدين» ٢٠١٢م، لبروز مفهوم «الأمانة» وفلسفته، وإن كانت ملامح الفلسفة الائتمانية العامة قد ظهرت في كتاب «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري». أما ما يمتاز به كتاب «المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية» فهو طرح منهج لنقد المفاهيم الأخلاقية ضمن السياق العلماني لأيمنتها، وتطبيقه على عدة مفاهيم جلُّها في الجزء الثاني، مع بناء مشترك فلسفي إيماني.
أصالة الطرح
أ.د. طه عبد الرحمن
جاءت أطروحة الكتاب لسد ثغرة عامة، وإكمال مشروع خاص لطه عبد الرحمن بإخراجه لمشترك فلسفي تداولي خاص لا ينخلع من مجاله الخاص ولا ينكفئ عليه في آن مودّعًا المجال العالمي الإنساني، بل مشترك يسهم بالوفاء بالمقتضيات التصورية والمنطقية على نحو ما، توفي به المفاهيم الفلسفية المقررة، ثم الدخول في استشكالات واستدلالات للحوار مع مفاهيم أخلاقية أساسية، تحققًا من القدرة الفلسفية للنظرية الائتمانية وذلك في الجزء الثاني.
أهمية الكتاب
تكمن أهمية الكتاب في تأسيسه لفضاء فلسفي إيماني تداولي يدخل من باب الخصوصية اللغوية والإيمانية، ثم نقله لمشترك فلسفي عبر المناسبة والمشاكلة للإسهام في الحراك الفلسفي العالمي، فبناء أصغر وحدة فلسفية في الخطاب الفلسفي وهو «المفهوم»، تبيينًا لأصوله العلمانية التي علمنت المفاهيم الإيمانية، ومن ثمّ تصحيح الأصول الإيمانية بردها لأصولها المتفق عليها بين الأديان مع تبيين خصوصية الدين الإسلامي، مع بناء للمعاني الإيمانية وتحويلها لمفاهيم فلسفية.
المحور الثاني: محتوى الكتاب
المشترك الفلسفي؛ تأسيسًا ومشروعية وامتيازًا:
يؤسس طه عبد الرحمن في الجزء الأول لـ«المشترك الفلسفي» بين مجاليْن: علماني غربي وإيماني إسلامي، وهذين المجاليْن أصولهما الأولى إيمانية تستند إلى الأديان السماوية وبقايا الأديان القديمة، وهذا جانب الكشف، أما جانب التأسيس الفعلي فهو تأسيس على «إيمان خاص» وفق «النظرية الائتمانية» ذات الأصل الإسلامي في تجلية مفهوم الأمانة، مع بيان المشترك الإيماني بين الأديان السماوية وفق «المواثيق» التي تُقرّها، وهذا البناء لا يستهدف فقط إبراز جانب الأصالة، بل دافعه هو الإسهام في طرح الحلول لدفع التحديات الأخلاقية المعاصرة، وذلك بـ«علاقة ميثاق» تستند إلى المواثيق الإلهية وفق مفهوم الشاهدية، لا «علاقة وثاق» كما في الائتمارية التي تهتم بجانب الأمر الظاهر؛ إذ تُقصي «أخلاق الباطن» وتحفظ «جمود الإيمان النصي»، ولا «علاقة تعاقد» كما في العلمانية المبنية على العقود كـ«العقد الاجتماعي»؛ إذ تُقصي «الإيمان» وتحفظ «جمود الخُلق الظاهر».
و«علاقة الميثاق» أو «علاقة التواثق» تمتاز بحفظ المباينة المطلقة بين المتواثقيْن بين الإله سبحانه وتعالى والإنسان، وليست علاقة تعاقد بين إنسان وإنسان، وفي حفظ المقام دلالة تحفظ وفاء الإله سبحانه بالميثاق وحفظه له وتمام نعوت الكمال مع المواثق الأول سبحانه، وأن الخلل يأتي من المواثق الإنساني الذي يحفظ ميثاقه بتذكر «الأمانة». وبعد التأسيس يضع سؤال المشروعية لتأسيس هذا المشترك ثم تجلّي الامتياز له وفق السياق الائتماني؛ لتحصيل نتيجة تقضي بأنه: لا تحقق لهذا المشترك إلا بالنظرية الائتمانية وليس المشروع التنويري العلماني ولا المشروع الإصلاحي الائتماري.
المشترك الفلسفي الائتماني ومواثيقه الثلاثة
إن كل رسول له ثلاثة مواثيق، ومن كان دون الرسول فله ميثاقان أو ميثاق، وبالنسبة إلى عموم الناس دون الأنبياء فالاشتراك الإنساني في ميثاق الإشهاد.
تتفرع الفكرة التأسيسية لكل ميثاق على نظرية «المشترك الفلسفي الائتماني» وفق المواثيق الثلاثة «الإشهاد»، و«الاستئمان»، و«الإرسال»، بتراتبية يُلحظ فيها تراتب المواثيق من المواثيق العامة إلى مواثيق النخبة. فأساس «ميثاق الإشهاد» إيماني وهو: «الفطرة» وواثق عليه كل فرد إنساني، وله الفصل الثاني، وأساس «ميثاق الاستئمان» إصلاحي وهو: «الأمانة» وواثق عليه الجنس البشري، وله الفصل الثالث، و«ميثاق الإرسال» أساسه الاقتدائي هو: «التأسي-التفكر» ميثاق بين الإله والأنبياء عليهم السلام، وله الفصل الرابع. أي إن كل رسول له ثلاثة مواثيق، ومن كان دون الرسول فله ميثاقان أو ميثاق، وبالنسبة إلى عموم الناس دون الأنبياء -عليهم السلام- فالاشتراك الإنساني في ميثاق الإشهاد، أما التفرد الائتماني ففي ميثاق الاستئمان، وهو تفرد يُطلبُ بالتزكية.
نسق المشترك الفلسفي الائتماني الميثاقي ومترتباته
ثم ختم بخاتمة بيَّن فيها الخاصية النسقية للنظرية الائتمانية، وهو نسق مبني على علاقات أربع وما يترتب عليها، وهي: العلاقات القائمة بين مواثيق الربوبية، والعلاقات القائمة بين مبادئ هذه المواثيق، والعلاقات القائمة بين نتائجها؛ ويترتب عليها جميعًا تجاوز التصور الائتماري في مسألة «علاقة الإنسان بربّه»، وتجاوز التصور العلماني في مسألة «العقل»، وتجاوز التصوريْن معًا في مسألة «الصلاح». ثم شفّع الكتاب بملحقيْن لزيادة تعزيز رفع الخصوصي التداولي إلى رتبة المشترك الفلسفي، دفعًا لـ«علمنة» المفاهيم الإيمانية، بـ«مفهمة» المعاني الإيمانية؛ وهذه هي «الأيمنة».
منهج الكتاب إجمالًا
هو المنهج المعتاد للمؤلف، إذ يعمل وفق المنهج الأكسيومي، فيبني مسلّماته ويُصرّح بها ويُدلل عليها، وهذا هو الجزء التنظيري، ثم يعالج المفاهيم في ضوئها بعد أن يستعرضها وينقدها بنظريته الائتمانية مبقيًا وملقيًا ومصلحًا ومضيفًا.
المنهج الخاص بالكتابْين
يبدأ المنهج الخاص بالجزء الأول بالمقدمة وفيها الهيكل العام للكتاب، ثم في الفصل الثاني حتى الرابع يبدأ بسؤال المشروعية ويبنيه بطريق التشاكل، ثم يُبيّن تميّز فكرته بالاستدلال، ثم يختبر تميّزها وقابليتها للنقد والمعالجة بانتخاب نماذج لمفاهيم أخلاقية معاصرة. وطبق المنهج ذاته في الملحق الأول بتبيين المشروعية فالتميّز فالاختبار.
المحور الثالث: القراءة التحليلية للكتاب
بالإثبات يتجلَّى المشترك الفلسفي الناشئ عن مجالات تداولية متنوعة لكل منها خصوصيتها، فمستندها أداة هي اللسان ومعتقدات هي الإيمان.
تزخر كتب طه عبد الرحمن برفع شأن القصد، وأن التيقن منه يُلقي بظلاله على الوسيلة الناجعة للوصول إليه، ولذا فبيان غرض الجزء الأول وهو الكشف عن الخصوصية التداولية للمنقول الفلسفي لتبيين الطريق للإسهام في المشترك الفلسفي، يُجلِّي الطريقة وهي: الإبطال والإثبات، فنبذ بالإبطال دعوى كونية الفلسفة وكلية العقل، وأن المشترك الفلسفي المصمت بلا خصوصية لسان وإيمان غير ممكن؛ إذ لكل فلسفة منظورها التداولي الثقافي الموجِّه والموجَّه في آن. وبالإثبات يتجلَّى المشترك الفلسفي الناشئ عن مجالات تداولية متنوعة لكل منها خصوصيتها، فمستندها أداة هي اللسان ومعتقدات هي الإيمان. وبعد هذا الكشف تأتي مرحلة الإسهام بالفلسفة الائتمانية، وتفعيل شروط إدخالها في المشترك الفلسفي عبر المواثيق العامة لكل الإنسانية، وهي: «الإشهاد» و«الائتمان»، ثم الخاصة بالرسل -عليهم السلام- بـ«الإرسال»، ويترتب عليها مبدأ «التزكية».
غرض الكتاب في السياق العالمي المعاصر
أبان المؤلف عن غرضه من الكتاب ضمن هذا الفصل، متمثلًا في إعادة بناء الأخلاق على التصوّر الائتماني في واقعٍ حصرَ «الأخلاق» في نطاق التعامل الاجتماعي؛ تأسيسًا على تصورات تداولية نُظّمت بـ«التعاقد»، وأشهرها «تصورات العقد الاجتماعي» التي تفترض حالتيْن: حالة ما قبل إبرام العقد «حالة الطبيعة»، وحالة إنفاذ بنود العقد «حالة المدنيّة».
أصل أصول تصورات العقد الاجتماعي
تختلف تصورات العقد الاجتماعي باختلاف تصورات منظِّريها ومنظورهم الثقافي. إلا أنها تجتمع في أصولها الإيمانية من الموروث الديني (المسيحي-اليهودي) وبقايا الوثنية الإغريقية، سواء أعلنت أصلها الإيماني الذي علْمنَته أم أنكرته. ولذلك افتتح المؤلف كتابه بقوله سبحانه:
﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾[البقرة: ١٣٦].
أي: «المشترك الفلسفي الأخلاقي» الذي لا بُدَّ للدخول فيه من التوسّل في التنظير له بـ«المجال التداولي» في جانبه «الديني» الذي يُعيد إلى الإسلام بمعناه العام: دين البشرية كلها، ودعوة كل الأنبياء -عليهم السلام- وإن اختلفت شرائع تطبيقهم للمعاني والأصول المشتركة بحسب كل شريعة.
أصل المواثيق «التواثق»:
بعد نبذ مقولة «كونية الفلسفة» واستقلالها عن «الدين» وتبيين وَهَنِ هذه الدعوى الكونيّة المتعالية على كل خصوصية، يطرح المؤلف «سؤال المشروعية» بحثًا عن «الأساس الإيماني» الخاص بـ«التواثق»، ثم يُدلل عليه بآلية التشاكل. فيتأسس المشترك الفلسفي الأخلاقي عنده على الأساس الإيماني المشترك بين الأديان وهو «التواثق»؛ وهو علاقة بين الإنسان ورب الناس جميعًا -سبحانه-، ولهذه العلاقة حالتان: «حالة المواثقة»: و«فيها يواثق الإله البشر على أمر أخلاقي مخصوص»، و«حالة المعاملة» إذ «يقوم البشر بإنفاذ الأمر الأخلاقي»، وبتشاكل البنية التواثقية مع البنية التعاقدية التي علْمَنت الأسس الإيمانية ولكنها اكتسبت وجاهتها وتقديمها في المجال الغربي المعاصر، تظهر مشروعية البنية التواثقية لمعيار «المشاكلة»؛ إذ تشاكلت عناصر البنية وتراتبيتها ووحدة القصد، فتثبت المشروعية الاستدلالية، فالبنية التواثقية تتشاكل مع البنية التعاقدية في تقديم المشترك الأخلاقي، والاختلاف في الأسس.
جدول 01
وحدة المقصد واختلاف الوسائل
وبالعودة للمفاهيم والمسالك الاستدلالية عند المؤلف، يمكن الربط بين هذه الطريقة وبين تكراره بأن المقصد المتيقن منه قد لا نصل إليه بالعقل المسدد، الذي يروم الهدف غير أنه قد ينقلب إلى ضده أو ينحرف عنه لافتقاده الوسيلة الناجعة، أما العقل المؤيد فهو الذي تيقن من وسيلته الموصلة لهدفه أو مقصده، وإن كانت نظريات التعاقد قد طرحت وسائلها لتحقيق الغاية المشتركة «المعاملة الأخلاقية» ولم تفلح وألقى الزمن المعاصر مشكلات أخلاقية جمّة، فقد وضع المؤلف وسيلته التواثقية للوصول إلى المقصد ذاته.
سبب اختيار المواثيق الثلاثة:
انتخب المؤلف من المواثيق الإلهية «ما يتقبّله المشترك الفلسفي الأخلاقي» المؤسس على الأديان السماوية -إن بإعلان أو إنكار-، وبالاستدلال من مجال المعاني المشتركة نفسه، فمعاني «الشهادة» و«الأمانة» و«الرسالة» مشتركة بين الأديان ولو لم يكن طرفها الأعلى الإله، وهذه المواثيق الربوبية هي:
- «ميثاق الإشهاد»: له الدرجة الإيمانية الأعلى لمواثقة الرب عباده استعدادًا للحياة الفردية الصالحة.
- «ميثاق الاستئمان»: له الدرجة الإيمانية الوسطى لمواثقة الرب على تحمّل الجنس البشري لمسؤولية صلاح العالم.
- «ميثاق الإرسال»: له الدرجة الإيمانية الأدنى عمومية لمواثقة على إقامة أسباب صلاح هذا العالم عبر رسل امتازوا بحفظ الميثاقيْن السالفيْن.
وبعد إعادة تعريف المشترك الفلسفي والاستدلال على مشروعية الإسهام فيه، يُقسّم المؤلف كتابه لفصول تتسق وتتراتب منطقيًّا لبناء المعاني الإيمانية ونقد المفاهيم الفلسفية في السياق المحدد آنفًا.
الفصل الأوّل: «المجتمع العالمي والحاجة إلى النظرية الائتمانية»
بدأ الفصل بتمهيد المؤلف بِعدِّ الأخلاق صفة جوهرية ذاتية للأعمال الإنسانية، ففساد الأعمال فساد للذات الإنسانية، وإصلاحها لا يكون إلا بأخلاق جديدة، وأصل الفساد الأخلاقي المعاصر: «الفصل بين الأخلاق والإيمان»، وفق صورتيْن متقابلتيْن:
صورة أهل العلمانية: «استبقاء الأخلاق واستبعاد الإيمان» مخرجة الأخلاق عن وصفها الأصلي وهو اتصالها بالدين، لوصف حادث يستبعد الدين عُرف باسم «العلمانية».
وصورة أهل الائتمارية: «استبقاء الإيمان واستبعاد الأخلاق»، أي إخراج «الإيمان عن وصفه الأصلي الذي ورثه من اتصاله بالأخلاق» فصار أحكامًا وأوامر تنضبط بالظواهر وتتحقق بالأداء لا قيمًا وحِكمًا. و«استبعاد الأخلاق» هو «الائتمارية»، والمقصود بها «الأخلاق الباطنة».
ومجمل التفريق بينهما: أن استبعاد الإيمان وإبقاء الأخلاق يُصيّر الأخلاق قيمًا ذاتية كالعلمانية، أما استبعاد الأخلاق وإبقاء الإيمان فيجعل الأخلاق أفعالًا مادية كالسلفية المسيحية، أو أوصافًا ظاهرية كالسلفية الإسلامية. فالآفات الثلاث على التوالي: الذاتية والمادية والظاهرية، كلها صور مختلفة لـ«اختزال الأخلاق» فلا بُدَّ من رفع هذا الاختزال بالجمع بين «الذاتية» و«الموضوعية» في القيم الأخلاقية، والجمع بين «المادية» و«الروحيّة» في الأفعال الأخلاقية، والجمع بين «الظاهر» و«الباطن» في الأوصاف الأخلاقية، وذلك بتبديل علاقتيْن مكان علاقتيْن:
فـ«العلاقة الائتمارية» لا اختيار معها (إلزامية) وهذه الإلزامية تكسبها (الصفة الاستحكامية) فتجعلها «علاقة وثاق» غير مؤسسة على «الثقة» بين الذات الإنسانية والإله -أي استبعاد الذات-، فتستبدل بـ«العلاقة الائتمانية» إذ هي اختيارية (التزامية) وهذه الالتزامية تكسبها (الصفة الاختيارية) فتجعلها «علاقة أخلاقية» مؤسسة على «الثقة». لتصير الأخلاق مؤسسة على المعاني المستبطنة في ميثاق الائتمان وميثاق الإشهاد، وبذا تستعيد الأحكام الدينية حقيقتها المؤسسة على العلاقة الميثاقية القائمة على ثقتيْن «ثقة إلهية مستمرة بالإنسان» و«ثقة بشرية مطلقة بالإله»، وهذا ما فُطر عليه الإنسان أول الأمر فالأخلاق الائتمانية أخلاق الإنسانية كلها.
أما «العلاقة التعاقدية» فلم تستطع إزالة آثار الإيمان الذي اختلسته وكتمته، ولو مع هوبز منظِّرها المؤصل لها؛ إذ ذكرها بلفظ «الميثاق» مقتبسًا إياه من التوراة. فالأصل الإيماني مشترك في التصوريْن التعاقدي والإيماني، والفرق بين «التصور التعاقدي» و«التصوّر الائتماني» يكمُن في الموقف من الأصل الإيماني، إذ التصور التعاقدي موقفه «الخروج من الإيمان» تعاقديًّا، أما الائتماني فموقفه «الدخول في الإيمان». وتسويغ الخروج التعاقدي بالبناء على افتراض حالة سابقة هي «حالة الطبيعة»، وشيوع السلام مع غوتيه أو النزاع مع هوبز، وهذه الحالة أيضًا علمنة لحالة ما قبل بعث الرسل «الحالة الجاهلية»، فيجمعون بـ«حالة الطبيعية» حالتيْن دينتييْن متضادتيْن تمت علمنتها: «حالة الجاهلية» و«حالة المواثقة»، وهذا يُفسّر اختلافهم في وصف حالة الطبيعة بين الشر والخير، إذ جعلوا الأصل «تقديم الثقة» متأخرًا بعد الاتفاق، والقاعدة الأخلاقية تصاغ من تقليد واضح لـ«الحقيقة التواثقية» بعد علمنتها، مع افتراض حالة من التبصّر والتعقل لدى جماعة تضع القوانين.
امتياز النظرية الائتمانية على النظرية التعاقدية
بتجلية الأصل الإيماني للنظرية التعاقدية، يتجلّى امتياز النظرية الائتمانية على النظرية التعاقدية في عدة نقاط أبرزها: أن التصوّر التواثقي حقيقي لا افتراضي، والحقيقي لا يُكرر وقوعه كما يُكرر افتراض وقوع الافتراضي، وأنه اتفاق مباينة لا مساواة بين «الإله المالك لكل الكمالات» و«الإنسان الذي لا يملك أي كمال»، فالمباينة المطلقة أعدل من المساواة؛ لأن الإله المحيط يضع الشريعة لتمام إحاطته وحكمته وعلمه وعونه، والارتقاء من رتبة العدل إلى رتبة الفضل إحسانًا للمواثقين، فتجلّى الإله للإنسان بكماله جلالًا وجمالًا، واقترن الاتفاق بالثقة، واقترن التكريم بثقة الإله بالإنسان لحمل الأمانة، فالثقة وقعت قبل الميثاق.
والتواثق يتصف بالكمال؛ لأنه شهود للكمالات الإلهية، فهو أصل القيم الأخلاقية، لأن أكمل ذات «الحق» سبحانه وتعالى هو المواثق الأعلى، بينما التعاقدية علمنت الكمال وأنزلته في جماعة متميزة تضع هذه القواعد الأخلاقية!
مجمل الفصل
ووفق ما تقدّم، فهذا الفصل يُثبت المشروعية والامتياز أو الأفضلية للنظرية الائتمانية، لينتقل إلى معاني مواثيق الربوبية المشتركة في الفصل التالي، ووسيلة التمييز بين الأخذ بالمعاني الإيمانية والانحباس في معتقل المفاهيم الفلسفية وسيلة ثنائية تتمثل في: «التفكر» و«التفكير»، ثم تبيين معاني كل ميثاق وما يؤسسة من أطوار أخلاقية توصل الإنسان للكمال بالتدرج، وما تعالجه كل مرتبة إنسانية أخلاقية واجبة من المفاهيم الفلسفية المعاصرة الواقعة، واضعًا لكل ميثاق مبدأه المستخرج من التفكر في هذا الميثاق.
الفصل الثاني: ميثاق الإشهاد ومبدأ الفطرة
يُجلي المؤلف «البنية الائتمانية التواثقية العامة» لكل المواثيق، ثم يُفصِّل الأفكار المعنوية الائتمانية التواثقية الخاصة بكل ميثاق في هذا الفصل والفصليْن التابعيْن له. فيمهد للبنية الائتمانية لكل المواثيق بالمشترك بين مواثيق الربوبية الثلاثة وهو: «الدلالة على وحدانية الرب»، واختصاص كل ميثاق بالدلالة على ركن من أركان الربوبية، ومن المعاني المشتركة بين هذه المواثيق: أنها حقيقية متجهة للإنسان؛ إذ للإنسان خِلقة من خَلق وخُلقٍ بأسباب حقيقية من لدن خالق واحد سبحانه، فأحسن الصور الوجودية بـ«الخَلق»، وأحسن الصور الخُلقية بـ«التخليق»؛ والتخليق يكون عبر أطوار المواثيق:
- الطور الأول «ميثاق الإشهاد»: وهو طور إعداد كل إنسان للتخلق، وميزته: «تحصيل المعاني الروحية والقيم الخُلقية الواجبة للتخلّق».
- الطور الثاني «ميثاق الاستئمان»: وهو طور إعداد الإنسان للتحمّل. وميزته: «تعهد الإنسان بالأخذ بهذه المعاني والقيم».
- الطور الثالث «ميثاق الإرسال»: وهو طور إعداد الإنسان للتزكي وتفعيل التخلّق. وميزته: «إقامة الأعمال على وفق هذه المعاني والقيم».
فالأطوار اختصارًا: الإشهاد (تلقي) الاستئمان (تعهد) الإرسال (إعمال)، أي: تعريفٌ فتحمّلٌ فتشريعٌ؛ ليتحقق كمال الإنسان تدرجًا بكمال التخلّق.
عالمية المواثيق والزمن الأخلاقي
معلوم أن كل دين نزل ناسخًا لسابقه، ذلك أن الدين ينزل للإصلاح، ولو كان الدين الأسبق صالحًا للإصلاح لبُعث من يجدد تحقيقه من الأنبياء -عليهم السلام-، لا من يجدد تشريعه.
وهذه المواثيق عالمية تشمل كل البشرية، وتستلزم التعرف إلى الكمالات الإلهية أولًا، قبل التعرف إلى بياناتها التشريعية خلاف التخلق الائتماري، وهي متسعة ورتبتها الفكرية بمسلك «التفكّر» لا «التفكير»، وقد أظهر مجال هذه النظرية زمانيًّا قبل بيان المسلك، وهو «الزمن الأخلاقي»: زمن الدين المختار لهذا الوقت، لتحقق المواثيق الثلاثة من خلاله مجتمعة بخصيصة «ميثاق الإرسال». ويمكن القول بيسر أكثر مما ذكر المؤلف، إن الإسلام ناسخ لما قبله، والأداء إنما هو عمل بالناسخ لا المنسوخ، فلا يُنحَّى الناسخ ويُقدَّم المنسوخ، والائتمان يختص برتبة أعلى للكمال الإنساني من رتبة المواثقة الإشهادية، وهي المواثقة الائتمانية المتحققة بالوصل بين الميثاقيْن بميثاق الإرسال عبر التزكية بالشريعة الإسلامية. ومعلوم أن كل دين نزل ناسخًا لسابقه، ذلك أن الدين ينزل للإصلاح، ولو كان الدين الأسبق صالحًا للإصلاح لبُعث من يجدد تحقيقه من الأنبياء -عليهم السلام-، لا من يجدد تشريعه، ولكنه استنفد مخزونه الإصلاحي فجاء دين جديد بشريعة جديدة على يد رُسل آخرين.
التفكر في المعاني والتفكير في المفاهيم
أما مسلك استخلاص معاني هذه المواثيق «التفكّر»: فهو نظر في «المعاني»، والمعاني أفكار في عقل الإنسان تصل «النطاق البشري بالأفق الإلهي». ومخرجات هذا التفكّر نحو الأفق الإلهي: «الأفكار المعنوية» وهي أفكار لا تقف عند حد «الرأي» بل تتعداه إلى «الروِيَّة» -التأمل-؛ إذ تتطلب الوقوف على المقاصد الجليّة والخفيّة التي تنطوي عليها المواثيق. و«لا تقف عند حد «الخبرة»... وإنما تتجاوزها إلى «العِبرة»، إذ تتطلب الوقوف على النتائج القريبة والبعيدة التي تترتب على المواثيق»، و«هذه «المقاصد التأملية» و«النتائج الاعتبارية» التي تتميز بها الأفكار المعنوية... عناصر تظل إمكاناتها القصدية منفتحة وآفاقها الإنتاجية متسعة... لأن «عالم التفكّر» وإن ضمّ ما يضمّه «عالم التفكير» من أفكار، فإنه لا ينفك يصلها بأفق اللَّامتناهي، فلا تتناهى مقاصده كما لا تتناهى نتائجه »، ومجال التفكر «المواثيق».
في حين أنّ «التفكير» نظر في «المفاهيم» وهي أفكار عقل «يحصر الأعمال في النطاق البشري»، ومخرجاته «الأفكار المفهومية»، وهي أفكار تقف عند حد «الرأي»؛ الذي «لا ينشغل إلا بتبيُّن «المدلولات» التي تنطوي عليها العقود»، وتقف عند حد «الخبرة»؛ و«لا تنشغل إلا بتبيّن «الآثار» التي تترتب على العقود» ، فالعقود هي محل التفكير.
أثر التفكّر في المعاني على مخرجات التفكير
بعد تبيين مسلك استخلاص المعاني، وأن المواثيق مستخلصة من التفكر في مواثيق الأفق الإلهي، فالخصوصية لكل ميثاق من معانيه المستخرجة، ثم المستثمرة لأيمنة المفاهيم الفلسفية بعد إزاحة ستار علمنتها، أي ثَمَّ مستوى يتطلّع للأفق الإلهي فيستخلص المعاني ثم ينظر إلى المجال الإنساني ويفكر في المفاهيم المحددة، فيلقي بقوّة المعاني المستخلصة من المجال اللَّامتناهي على المفاهيم المعتقلة في المجال المتناهي الإنساني، فالتفاوت بين المستوييْن ومن ثَمَّ طريقة المسلكيْن «التفكّر» و«التفكير» أنتج تصحيحات بالأعلى، فنتيجة التفكّر في «ميثاق الشهادة» تجلّى أول المبادئ الأخلاقية للنظرية الائتمانية، وهو: «مبدأ الفطرة»، وتترتب عليه معانٍ منها: أن «العلاقة التواثقية في الإعداد التخليقي الأول، تتحدد بكونها «علاقة شهادة»...»، وطرفاها شاهد ومشهود معًا، وهي «علاقة معرفة» بين عارفيْن، أي «علاقة معرفية مختارة» من جهة تحصيلها بطريق مباشر (عن قرب)، ومن جهة مرتبتها اليقينية (معرفة جازمة)، فهي مأخوذة عن طريق التجلي لا الاستدلال العقلي المتأخر الحادث في «عالم المعاملة».
ويُعزز من أصول هذا الميثاق -للاستئناس- العلم الوضعي المعاصر «العلم المعرفي Cognitive Science»، الذي يُبطل فصل الإيمان عن المعرفة بإثبات المعرفة الفطرية بالعقل النظري المجرد في دراسات أُجرِيت على الأطفال، مؤكدة أن:
«الإيمان معرفة» نقضًا لدعوى التنوير بـ«تضاد الأديان والعقل»، «الدين فطري» نقضًا لدعوى الاجتماع «الأصل الاجتماعي للدين»، «المعرفة بالصفات الإلهية فطرية» نقضًا لدعوى التنوير «الأصل التشبيهي للصفات الإلهية» بالتغييب.
إلا أن غاية ما تقدّمه هو «ترسيخ مبدأ التدين» لا حفظ مفهوم «الكمالات الإلهية»، وحفظ «وحدانية الألوهية» بـ«إسلام الوجه لله»، لذا أَتْبَع طه كل فقرة بنقد وفق فلسفته الائتمانية.
الفصل الثالث: «ميثاق الاستئمان ومبدأ الأمانة»
أبرز معاني «ميثاق الاستئمان» المستخلصة بطريق التفكّر وفق مجال اللَّامتناهي «الأفق الإلهي» هو: «مبدأ الأمانة»، والدلالة الخاصة بـ«ميثاق الاستئمان» هي: الدلالة على وحدانية المالك المُسْتَئْمِن بطريق الاختيار، إذ سؤال ميثاق الإشهاد تقريري في مقام اليقين بأوصاف الربوبية، وسؤال ميثاق الائتمان تخييري في مقام الظن بأوصاف الإنسانية المحصّلة للمسؤول، فالحالة التواثقية قدّمت معرفة الرّب زمنًا ورتبة على معرفة الإنسان. وللحال التواثقي مقامان: إشهادي يقيني بالصفات الإلهية «ميثاق الإشهاد»، وإشهادي ظني بالصفات الإنسانية «ميثاق الائتمان».
الميثاق المجلّي للصفات الإنسانية
حمل جنس الإنسان الأمانة وقبل بها، وفق ميثاق «الاستئمان» المبني على «ميثاق الإشهاد» استمدادًا وحفظًا، وأظهرُ اسم تجلَّى به الحق سبحانه وتعالى في هذه الحالة هو «المالك»، الذي عرض ملكه على خلقه، فهو تجلٍّ بالمالكية الإلهية، وتجريد للإنسان منها، وصبغه بصبغة «المملوكية»، فأعم مدلول للأمانة هو «طلب عدم الاحتياز» أي عدم الملكية.
أصل معنى «الثقة»:
أصل الثقة من الميثاق الاستئماني في الحالة التواثقية، أما فرعها ففي الحالة التعاملية المجلّي للأداء الإنساني، لكن المستأمَن قد يظلم حقوق المتسأمِن ويجهل واجباته، فضلًا عن مخالفة مقتضى الأمانة، وأول الواجبات هو «واجب الوفاء بالعهد»، فإن خانها فقد تسيَّد للسلطان، واستولى على الملك، وبرده إلى أصله فإنه عدوان على المالكية الإلهية ونقض للميثاق الإلهي.
الواقع المعاصر والملكية الإنسانية
إن تقرر ما تقدّم تبيّن أن التحديات المعاصرة تدفعُ باستعادة مفهوم الملكية من خلال نقد المفاهيم التي اختلسته وغيّبته، كشفًا عن أصلها في «عالم المواثقة» وأنه حُجب في «عالم المعاملة»، كـ«نظرية الملكية» عند «جون لوك» ومن بعده الليبرتاريانيين (الحرّيانيين)، فهي خرق لهذا الميثاق، إذ جعلت الإنسان خالقًا لعمله ومالكًا له مما أدى لانقلاب مقاصده لقانون «المكر الائتماني»، إذ من نقض الميثاق عوقب بنقيض قصده فيصير مملوكًا لا مالكًا لما يظنه ملكه.
الفصل الرابع: «ميثاق الإرسال ومبدأ التزكية»
أبرز المعاني المستخرجة من المجال اللَّامتناهي ذاته ووفق مسلك «التفكر»، هو معنى «مبدأ التزكية» من حقيقة «ميثاق الإرسال»، وميثاق الإرسال خاص بالرسل -عليهم السلام-، والرسل يشتركون مع أقوامهم بميثاق الائتمان وميثاق الإشهاد، غير أن امتيازهم بكمال الوفاء بالمواثيق جعلهم النماذج التي تُعيد الوصل بين ميثاق «الإشهاد» وميثاق «الاستئمان» بميثاق «الإرسال» الذي يُربي الرسلُ أقوامَهم عليه في «حالة المعاملة» الفرعية، وهذا وصل بـ«حالة المواثقة» الأصلية، أي رد إلى سؤال: ألست مربيكم؟ فالحق سبحانه هو المربي لرسله، وهم المُربُّون لأقوامهم؛ لتتكامل في هذا الميثاق كمالات الأطوار التخليقية تعرّفًا على ثلاثة أركان للربوبية: الألوهية في ميثاق الإشهاد، والمالكية في ميثاق الاستئمان، والربّ «المربي» في ميثاق الإرسال.
والمربي هو المزكي لرسله وهم بدورهم يزكون أقوامهم تأسيًا واقتداءً بهم، بتربية حية مباشرة مشاهدة «تربية حضورية». فـ«الربوبية»: «توجب كمال التربية» و«التربية: عبارة عن تخليق على مقتضى الفطرة، والتخليق عبارة عن تأسٍّ وتفكُّر»، فالتأسي «تخليق الأفعال، اقتداء بالرسل، فيكون تزكية للأفعال»، والتفكر «تخليق الأفكار اقتداءً بهم، فيكون تزكية للأفكار»، فكلاهما (تزكية) «المتأسي والمتفكر بالأصل الإشهادي» ووصل بالذات الإلهية، فيكون تعامله تعاملًا آياتيًّا. يسميه طه عبد الرحمن أحيانًا بـ«التربية والروحية».
التصور الفقهي الائتماني والتصوريْن الفقهييْن: الائتماري والمقاصدي
الأجدر لنقد المفاهيم الأخلاقية المعاصرة هو الخطاب الفقهي الائتماني
وبعد هذا التأسيس تتجلى مسالك نقد التصور الائتماني -المبني على التزكية لتوسّله بالحالة الإشهادية-، فيفضل التصورييْن الفقهييْن العامَّيْن «التصور الائتماري» و«التصور المقاصدي»، ليبيّن مشروعية وتميز الفقه الائتماني لدفع التحديات المعاصرة لاختلافه عنهما، إذ أنهما توصلا إلى القيم (الآثار) عن طريق الاشتقاق اللغوي، بينما التصور الائتماني توصّل إليها بطريق التلقي الإشهادي، معتبرًا الاشتقاق اللغوي أثرًا من آثار الحالة التعاملية الموروثة عن التلقي التواثقي. وإن ثبت هذا، فالأجدر لنقد المفاهيم الأخلاقية المعاصرة هو الخطاب الفقهي الائتماني؛ إذ هو الأوفى.
النقد الائتماني لنظرية الاقتداء عند «ليندا زاغْرِيبْسكي»
يبدأ النقد الائتماني بنقد نظرية الاقتداء عند «ليندا زاغْرِيبْسكي» الفيلسوفة الأمريكية الأخلاقية المعاصرة، المتميزة بإنشاء نظرية أخلاقية للفضائل مؤسسة على مبدأ الاقتداء، معتبرة القدوة مجسدًا للقيم الواجبة، عوض التعريف بالمفاهيم الأخلاقية كما شاع، وقد تناولت ثلاثة نماذج للقدوات «البطل» و«الحكيم» و«القديس»، إلا أن غرضها هو تدعيم العقائد المسيحية بجعل الإله القدوة الأسمى. وتختلف عن النظرية الائتمانية بأنها لا تسعى للانعتاق من السلطان العلماني للمفاهيم العلمانية، جمعًا بينها وبين المفاهيم الدينية، فكانت ذات مقصد دياني بوسيلة علمانية، فوقعت في آفتيْن:
آفة «التشبّه الكياني للإنسان بالإله»، وقد أورثها للنظرية الاقتدائية شقُّها الديني.
آفة «التشبّه الوجداني للإله بالإنسان»، وقد أورثها للنظرية الاقتدائية شقُّها العلماني.
وبعد أن أثبت سؤال المشروعية للفلسفة الائتمانية ثم امتيازها ثم تطبيقها لدفع التحديثات المعاصرة وفق المواثيق الثلاثة وما يختص به كل ميثاق من دفع للمفاهيم الخاصة بمجاله، تنتهي الأطروحة الرئيسة للكتاب في الجزء الأول.
من الإضافات الفلسفية في الكتاب
في الملحق الأول: كيف تكون المعاني الإيمانية أدوات تحليلية؟ ثمَّ إضافة نفيسة حقًّا، تكشف علة عقم الخطاب الفكري العربي؛ لآفتيْن:
«آفة بيانية» عطّلت أسباب الذهن منذ الاحتكاك بالفلسفة اليونانية، مما دعى طه لوضع «الفلسفة التداولية» في أول مشروعه الفلسفي قبل الائتماني.
و«آفة إيمانية» عطَّلت الأسباب الإيمانية الموجهة للفكر، فـ«لم نعد نفكر بواسطة إيماننا». مما دعاه في هذه المرحلة الحالية للتصدي لهذه الآفة بوضع «الفلسفة الائتمانية».
فنقد طه عبد الرحمن المتبوع بالبناء داخل المجال التداولي له «جانب لساني» يتصدى للفصل بين المعاني والمباني، ومن أبرز ما أنتج له من عمل تداولي لساني بنية «التأثيل اللغوي للمفاهيم» في «فقه الفلسفة» عناية بـ(اللسان)، و«جانب إيماني» يتصدى للفصل بين الإيمان والفكر (العقل)، وجاء بجديد فريد هو أيمنة بنية «المفاهيم الإيمانية» للمعاني الفلسفية «مفهمة». فـ«التأثيل اللغوي» لمشروعه المتقدم، و«الأيمنة» لمشروعه الآنيّ. مقدمًا نموذجًا تطبيقيًّا للإبداع الفلسفي من خلال المعاني الإيمانية، ومبينًا السمات الأساسية للمفهوم الفلسفي من منظور ائتماني، تأسيسًا على أصليْن جامعيْن:
الأول: «الأصل في الأشياء الائتمان عليها، لا الامتلاك لها».
الثاني: «الأصل في الأفعال الاختيار لها، لا الإجبار عليها».
نابذًا بـ(الائتمان) و(الاختيار) «الصبغة الاعتقالية للمفاهيم الفلسفية»، بمنهج إثبات المشروعية بالمشاكلة مع السمات الائتمانية للمعاني الإيمانية، مبينًا مستوى إخراج المفاهيم الفلسفية وفق المجال الإنساني المقيّد والمعتقل للمفاهيم والمعتقد حيازته لها، والمجال الإيماني الموسع للمفاهيم لتوجهه للأفق الإلهي غير المتناهي، فمعانيه متكثرة واسعة لا مقيّدة، ويؤتمن عليها ولا يحيط بها ويمتلكها، ويمكن إجمال الفرق بين بنية المجاليْن، على النحو التالي:
جدول 02
ويأتي الاختبار بتبيين كيفية نقل المعاني الإيمانية السابحة في فضاء الاحتضان لا الاعتقال إلى مفاهيم فلسفية، واختبار المفاهيم الفلسفية المعاصرة بوصفها معانٍ إيمانية معلمنة علمنة واعية كما تجلَّت عند هيجل، أو غير واعية كـ«مبرهنة العلمنة» عند مفكري الحداثة، بوصف العلمنة هي الركيزة الأساسية للحداثة، وبإبطالها تبطل مشروعية الحداثة ويثبت وهم استقلال الفلسفة عن الإيمان. وهنا يجد الفكر الحداثي نفسه في مأزق؛ إذ العلمنة هي الأساس، والدين تراجع، فإن كانت العلمنة ما هي إلا المفاهيم الدينية مختلسة فيقع الإلزام بتجاوز مشروعية الحداثة لمعقوليتها إلى لا معقولية الحداثة.
العلمنة والأيمنة:
بعد إثبات لا مشروعية العلمنة، يأتي طه عبد الرحمن بـ«الأيمنة» التي تُقدم إثبات مشروعيتها بالمشاكلة بين الحضن الإيماني والعقل الفلسفي، فـ«الأيمنة»: «عبارة عن نقل للمعاني الإيمانية إلى المفاهيم الفكرية عمومًا والفلسفية خاصة نقلًا لا يقع فيما وقعت فيه العلمنة من التناقضات، متسبّبة في تهافت الحداثة»، وتقتضي الأيمنة التأسيس على عقل يتجاوز عقل العلمنة «المجرد» إلى «العقل المؤيد»، ومن مسلماتها: «الاحتياج إلى الأساس الديني» و«التوسل بالتسليم واليقين». وهذه الأيمنة درجات: الأدنى «الأيمنة المصححة» هي: التي تُخرج المفاهيم الفلسفية عن صبغتها الاعتقالية بتزويدها ببعض العناصر الفرعية المصححة لها، كالتمثيل عوض التصوير...، والأعلى: «الأيمنة المؤسِّسة» وهي: «نقل المعاني الإيمانية الأصلية إلى مفاهيم فلسفية تُزحزح الأسس الفلسفية التي تُبنى عليها صبغتها الاعتقالية، كـ«استبداد العقل المجرد» بالرفع للتعالي والعمل. ومن ذلك إثبات الأيمنة بإعادة تعريف «الإنسان» و«المفهوم».
المواثيق وجمع القرآن الكريم
أما الملحق الثاني: «منظور الائتمان وجمع القرآن» فهو اختبار لمواثيق الربوبية في حادثة «جمع القرآن» في زمن الصحابة.
نسق المواثيق الائتمانية
ختم الجزء الأول من الكتاب بخاتمة «نسق المواثيق الائتمانية» التي تختص بتجليات خاصة لكل ميثاق:
- ميثاق الإشهاد: الرب يتجلى بوصف «الإله» مواثقة على «وحدانية الإله».
- ميثاق الاستئمان: الرب يتجلى بوصف «المالك» مواثقة على «وحدانية المالك».
- ميثاق الإشهاد: الرب يتجلى بوصف «المربي» مواثقة على «وحدانية المربي».
وكل مواثقة تستلزم المواثقة الأعلى منها، وتتفق في تحصيل الإنسان للمعرفة، ولكل ميثاق نوع معرفة، فميثاق الإشهاد: «معرفة بربّه» ليعبده، وميثاق الاستئمان: «معرفة بمسؤوليته» ليتحمّل الأمانة، وميثاق الإشهاد: «معرفة بنفسه» ليزكيها. ويظهر النسق بأن «يعرف ربّه ويعرف مسؤوليته قبل أن يعرف نفسه، بل إن معرفته بربّه هي واسطته إلى معرفة مسؤوليته، ومعرفته بمسؤوليته هي واسطته إلى معرفة نفسه، بحيث لا يعرف الإنسان نفسه حق المعرفة حتى يعرف نفسه مسؤولًا أمام ربّه» فغاية غايات حالة المواثقة: «جعل الإنسان يُحصِّل في حالة المعاملة، التخلُّق الضروري ليكون إنسانًا صالحًا".
الجزء الثاني من الكتاب: «المفاهيم العلمانية»
والجزء الثاني تحت عنوان فرعي (المفاهيم العلمانية)، والمخصص لتطبيق «الأيمنة» في حق المفاهيم لإبطال علمنتها، فبدأه بتمهيد يراجع فيه ما سبق ليصله بما أقبل، ومن ذلك التذكير بأن المفاهيم الإيمانية ليست هي الاستشهادات المباشرة من النصوص، بل مفهمة المعاني الإيمانية كما تقدم، وأن كثيرًا من مفاهيم النظريات الأخلاقية المعاصرة تضمّنت معان إيمانية، ووسيلة نقدها بالنظر الائتماني، إذ هو نسق متكامل لا مجرد معانٍ إيمانية. وفي كل فصل يقصد أصالة الأصل الإيماني لكل نظرية أخلاقية معاصرة أُسست عليه، وعت به أم لم تع، سعيًا لإبطال الأساس العلماني للمفهوم، وإثبات أصله الإيماني بـ«الأيمنة» الخاصة بكل ميثاق. فهذا الجزء تطبيقي يمارس الطريقة التنظيرية الأهم ذاتها في الجزء الأوّل.
وهذه المفاهيم هي:
الأيمنة تقاوم العلمنة بالرد للمبادئ الثلاثة: «الفطرة» و«الأمانة» و«التزكية».
- «مفهوم المعيارية الأخلاقية» الذي اهتمت به فيلسوفة الأخلاق الأمريكية المعاصرة «كريستن كورسْغارد».
- «مفهوم الأمر الإلهي» من وضع تيار فلسفي منطقي استقل عن «الدهرانية»؛ لقرنه الأخلاق بالدين قرن تبعية، إذ «الأخلاق تابعة للدين، مسلّمًا بأن «إرادة الله» هي الأصل في الأخلاق، وباحثًا عن أصول هذه المسلّمة في تراثه الفكري، ومطلقًا على هذه الأصول اسم «الإرادة اللاهوتية»، وله نظريتان: «نظرية الأوامر»: من وضع الأمريكي «روبرت آدامز» الذي يعد «الإرادة الإلهية» أوامر. و«النظرية القصدية»: للأمريكي «فيلب كوين» عادًّا «الإرادة الإلهية» قصودًا. وقد اختلفت نظرتاهما في صلة الأخلاق بالإرادة الإلهية تعبًا لنظرتيْهما للإرادة الإلهية. وبالنقد الائتماني للنظرتيْن تتبين آفاتهما وعلمنتهما ومن ثَمَّ تصحيحهما.
- «مفهوم القيمة» يعالج من خلال نظرية من وضع الإسترالي «جون ماكييه» هي «نظرية الخطأ The Error theory» ناقضًا الوجود القيمي الموضوعي (الطبيعي)، إلا أنه لم يبين كيفيات وجود الأخلاق، فهذا هدم بلا بناء، لذا أعاد «منظّروا الخطأ» من بعده تأويل كيفيات الأخلاق. والنقد الائتماني لنظرية الخطأ يستظهر أبرز الإشكالات الفلسفية لهذه النظرية: «اختزال العالم» و«تشييء القيمة» و«الشعور بالغرابة»، وعلاجها بإخراج مفهوم العالم من الوصف الظاهراتي إلى الوصف الآياتي.
- و«مفهوم الثقة» من خلال «نظرية الثقة» التي وضعتها الفيلسوفة النيوزيلاندية «أَنِيت بايير»، أيضًا بالطريقة ذاتها التي عالجت المفاهيم السابقة.
- «مفهوم المسؤولية الحضارية» لمنظّره الأول الفيلسوف الألماني «هانس يوناس»، وكذا عالجه بالطريقة نفسها «أيمنة المفاهيم».
- «مفهوم العدالة العالمية»، وأنواعها: «العدالة الدُّوَلية» التي وضعها «جون رولز» ويعالجها طه عبد الرحمن بـ«ميثاق الاستئمان»، و«العدالة العولمية التي تعتبر حدود الدول» التي اعتمدها الفيلسوف الألماني «توماس بوغّييه» ويعالجها طه عبد الرحمن بـ«ميثاق الإشهاد»، و«العدالة العولمية التي لا تعتبر حدود الدول» وهي ثمرة انتقاد الأمريكية «مارث نسباوم» لنظرية «جون رولز»، ويعالجها طه عبد الرحمن بـ«ميثاق الإرسال». وبالأيمنة تقاوم العلمنة بالرد للمبادئ الثلاثة: «الفطرة» و«الأمانة» و«التزكية»، المستلزمة لوجود عدالة أوسع من الأنواع المذكورة، وهي «العدالة الكونية».
وبذا تنتهي أطروحة الكتاب الفرعية المتعلقة بتطبيق النظرية الائتمانية في سياق «المفاهيم» بـ«الأيمنة» لدفع «العلمنة». ويلحق بالكتاب «العالمية الائتمانية والسؤال السياسي» لدفع دعاوى قصور الائتمانية عن إجابة السؤال السياسي بالمثالث الأعلى الممكن وقوعه بالتسديد الأخلاقي لإنقاذ العالم من الهلاك الأخلاقي، بتحويل السكن إلى العالم لا الحوز، و«الأمانة» لا الحيازة، وعلاقات التآخي «المعاملة» لا المواطنة.