مقاصد الشريعة ونظرية "الأخلاق العامة الحديثة"

مدخل
ألقينا فيما سبق نظرةً على الإفتاء بوصفه مجالًا خطابيًّا، وتناولنا تلك التحديات والمعضلات التي يواجهها المُفتون، والعوامل التي يأخذونها بعينِ الاعتبار ويرجحون بعضها على بعض عند الإفتاء، سواء كان في أذهانهم سائلٌ ما أو علماء آخرون. كما استعرضنا أيضًا مكانة الفتوى في التراث الإسلامي. ولا يمنع افتقار الفتوى لسُلطة معاقبة مخالفيها من وجود سلطة ومرجعية للفتوى كامنة فيها. فكل شيء -بدءًا من الإذن للنساء بتقصير شعورهن ودخولهن المساجد، والزواج والطلاق، وصولًا إلى لعب التنس- قد وُضِعَ في إطار نظري، وضُمِّن في دعاوى "صحة العمل".
ويعيش المسلمون في أوروبا بوصفهم أقليةً، ويثير التركيز على التعليل الإسلامي للأحكام مسألةَ العلاقة بين الفقه الإسلامي والقوانين الوطنية بطرق مختلفة عمَّا يحدث في العالم الإسلامي. طُرح هذا السؤال -خاصةً- من قِبَل الناشطين السياسيين في مختلف السجالات العامة التي تناولت مسألةَ ما إذا كان المسلمون ملتزمين بالقانون ومواطنين مُخلِصين.
وقد رأينا غالبًا أن تصريحات المسلمين ومواقفهم قد تسبَّبت في إثارة الذعر بل والاشمئزاز أيضًا. وقد لا يكون هذا بسبب أن الأغلبية تكره المسلمين بصفة عامَّة. بل الأرجح في ذلك أن بعض التصريحات والمواقف قد أثارت الاستياء لأنها تبدو كأنها تتجاهل الأخلاق العامَّة للمجتمع (common morality of society) -أو "أخلاق الناس العاديين" (morality of ordinary people)، كما يعرّفها الفيلسوف النرويجي كنوت إريك ترانوي[1]- أو تتعارض معها.
وغالبًا ما يتردَّد في النقاش العام الأوروبي ذلك الزعم بأن القِيَم الأوروبية الأساسية غير متوافقة مع القِيَم الإسلامية. ومع ذلك، فإن هذه "القِيَم الأوروبية الأساسية" تعبيرٌ غير واضح، وغالبًا ما تنقلب محاولات تعريفها إلى تناول ما يُعَدّ دخيلًا عليها. وفي قلب هذه القِيَم الأوروبية يأتي رفض مجتمع الأغلبية الأوروبية لاضطهاد المرأة الذي يفترضون أنه مستندٌ إلى الشريعة، وينظرون إليه بوصفه تهديدًا لقيمِهم. كما أن الاجتهاد الكامن وراء الفتاوى الواردة في هذا الكتاب لا يعطي انطباعًا بوجود لغة مشتركة أو صلة بين مجموعتَي القِيَم [الإسلامية والأوروبية]، مع اختلاف نظرتيهما تمامًا فيما يتعلق بالمرأة والعلاقات بين الجنسين. ولا يُسهم مصطلح "الفتوى" -بدلالاته السلبية المكتسبة مما أُطلِق عليه قضية رشدي (Rushdie affair)- في تحسين الصورة.
ويمكن القول إن خطابات الفتاوى حول المسائل المتعلقة بالمرأة ترمز إلى عدم التوافق المفترض بين "القيم الأوروبية الأساسية" و"القيم الإسلامية". وينظر مجتمع الأغلبية إلى مثل هذه الخطابات بعداء. فهل يعني ما تقدَّم عدمَ وجود "لغة" مشتركة يمكن ترجمة الخطابات المتعلقة بالقيم إليها؟ وفي مقالة تناولت اتهامَ المسلمين في النقاش العام الفرنسي بالحديث بـ"لغة مزدوجة"، نظرًا لعدم فهم الأغلبية الأوروبية لتعقيد الخطاب الإسلامي، خلص فرانك بيتر إلى أن "الأسئلة التي ينبغي أن تُطرَح الآن تتعلق بمدى تناسب الخطابات الإسلامية مع نُظُم الخطاب الأخرى في فرنسا، وبالظروف التي يُدرِك فيها المسلمون الترجمة المناسبة لأفكارهم عند دخولهم في ساحة النقاش العام"[2].
وسأوضِّح في هذا الفصل أن أقوال المُفتين في فتاويهم قابلةٌ للترجمة إلى لغةٍ يسهل استيعابها على نطاق أوسع، بحيث تتيح توضيح القِيَم الأساسية وتفسيرها. وسأسعى أيضًا لإثبات أن نظرية "المقاصد" تشكِّل نظيرًا إسلاميًّا لنظرية الأخلاق العامَّة الحديثة، أو "أخلاق الناس العاديين"، كما بيَّنها الفيلسوف النرويجي كنوت إريك ترانوي[3]. إذ أسعى للكشف عن توافق محتمل بين المفاهيم في كلا النموذجين. ووفقًا لهاتين النظريتين، فإن فئة "الضروريات" في نظرية المقاصد وما يسمّيه ترانوي "القِيَم الأخلاقية الحيوية" -على الترتيب- هي قيمٌ أساسية تشكِّل ركيزة أي مجتمع. وقد تظهر الخلافات عند محاولة تفسير هذه القِيَم الأساسية. وسأقدِّم نظرية ترانوي حول الأخلاق العامة المتنافسة، التي يمكن أن تساعد في فهم "صدام الأخلاق"، ومن ثَمَّ تفسِّر القلاقل التي تواجهها المجتمعات المتعدِّدة الأديان. وقد تُلقي النظرية الضوءَ أيضًا على أُسس التنوع في فهم الأخلاق بين المسلمين. وفي ضوء نظرية ترانوي للتغيُّر في الأخلاق العامَّة، سأقدِّم تفسيرَي يوسف القرضاوي ومحمد خالد مسعود لنظرية "مقاصد الشريعة"، كما سأشير إلى آليات استنباط القِيَم والأحكام ومبادئه، وربما تغيير تلك القِيَم والأحكام. تُستخدم نظرية مسعود مصدرًا للحجاج في النسوية الإسلامية؛ وبوصفه "مثقفًا دينيًّا جديدًا" (new religious intellectual)، فهو ناشطٌ في المجال الخطابي. وسيُظهر عرض نظريات المقاصد عند مسعود والقرضاوي أن استنباط الأحكام المتعلقة بالمرأة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسئلة التأسيسية والمثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي. فعندما سألت القرضاوي -في لقاء لي معه في الدوحة عام 2011م- عن مفهوم العدل، أجاب قائلًا: "إنها مسألة عقيدة".
فإن الأمور التي لا تُعَدّ ضرورات بالمعنى الديني-الفقهي ستخضع للقاعدة الشرعية القائلة بأن "الضرورات تُبيح المحظورات".
ويمكن أن يساعد النظرُ في القِيَم الأساسية العامة، والإقرارُ بها في تمكين إجراء حوار هادف بلغة مشتركة بين الأغلبية من غير المسلمين وبين الأقليات المسلمة حول المعضلات الأخلاقية والقِيَم الأساسية للمجتمع الذي يعيشون فيه. وقد يُسفر ذلك -من منظور متفائل- عن بناء الثقة بين الأقلية والأغلبية. ومع ذلك، أنهي هذا الفصل بإشارة متشائمة؛ إذ أطرح سؤالًا حول ما إذا كانت فرصة حدوث مثل هذا الاتفاق على القِيَم المشتركة تتضاءل بسبب الخلاف السياسي الصاخب السائد اليوم، وهل سيكون ذلك على حساب النساء.
مقاصد الشريعة
أشار جميع العاملين في مجال الإفتاء في هذا الكتاب -كلٌّ على طريقته- إلى مقاصد الشريعة في اجتهاداتهم. فهذه النظرية -إذن- هي جزءٌ من المناهج والمفاهيم والمصادر التي يستخدمونها لاستنباط الأحكام. والمقاصد الفردية -مثل حفظ النَّسْل والدين والمال- قد تكون ركيزةً للفتوى. فقد أخذ السيد الدرش العلاقات الأسرية المستقرة ركيزةً لعدد من فتاويه التي طالبت بحقِّ المرأة في دخول المسجد والسفر للحج دون محرم. والظاهر أن "المجلس الأوروبي" استند إلى الركائز نفسِها -إلى جانب غيرها- في فتاويه وقراراته التي تعلقت بطلب المرأة الإذنَ من زوجها لتقصير شعرها، وحقها في دخول المسجد، وبقاء المرأة التي اعتنقت الإسلام في عصمة زوجها الذي لم يُسلِم.
كما أكَّد المجلس على مفهوم "التيسير"، فينبغي ألا تسبِّب الأحكام ضررًا أو تكلِّف الناس ما لا يطيقون. ويبرز هذا المفهوم في نظرية مقاصد الشريعة بوصفه منطلقًا في عرض عبد الله بن بيه لفقه الأقليات. إذ يرى بن بيه أن الوضع العام للمسلمين خارج العالم الإسلامي يمكن وصفه بالضرورة، مع الإشارة إلى أن الضرورة والحاجة يمكن تصنيفهما في فئة واحدة. ومن ثَمَّ فإن الأمور التي لا تُعَدّ ضرورات بالمعنى الديني-الفقهي ستخضع للقاعدة الشرعية القائلة بأن "الضرورات تُبيح المحظورات".
وبالإضافة إلى ذلك، فقد رأينا أن المقاصد تلعب دورًا مهمًّا في اجتهاد العربي البشري وبركة الله عبد القادر؛ حيث ركَّز كلاهما على مآلات الأحكام التي توصلا إليها. والتركيز على النتائج والمآلات سمةٌ من سمات النهج المقاصدي. أو كما يقول الباحث في الفقه الإسلامي محمد هاشم كمالي: "من السمات الأخرى للمقاصد، وهي سمة مهمَّة عند الاجتهاد، ذلك الاهتمام الذي ينبغي على المجتهد أن يُوليه لنتائج الحُكم الذي يقول به ومآلاته؛ لأن الفتوى أو الاجتهاد سيعتريه النقص إذا لم يُنظَر في المآلات"[4].
وليوسف القرضاوي -من خلال نظريته في مقاصد الشريعة- دور مهم في تحديد شروط فتاوى "المجلس الأوروبي". ففي عام 2006م، نشر القرضاوي كتابه المسمى دراسة في فقه مقاصد الشريعة. وربط القرضاوي في هذا الكتاب المقاصد بالحكمة الإلهية التي فسَّرها على أنها تحقيق ما هو في صالح الإنسان، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وأشار إلى أن كثيرًا من كتبه نحت نحوًا مقاصديًّا، ومن بينها الحلال والحرام في الإسلام وفتاوى معاصرة وفي فقه الأقليات. ورأى القرضاوي أن المقاصد يُعبَّر عنها في بناء الإنسان الصالح والأسرة والمجتمع والأُمَّة وفي الدعوة إلى خير الإنسانية. وهو يعرِّف هذه المقاصد بأنها "الكُليَّات الخمس"، وهي المبادئ العليا في الفقه، إضافةً إلى "المقاصد الخمسة" التي تعرضنا لها بالفعل[5]. وجاء العنوان الفرعي لكتاب القرضاوي في المقاصد على هذا النحو: "بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية"، بما يشير إلى "الوسطية" وهي السمة المميِّزة لفكر القرضاوي. وكذلك بنية الكتاب، التي تُعنى بدراسة العلاقة بين النصوص والمقاصد. والمغزى هو أن على العالِم أن يتوسَّط بين التفسير الحرفي للنصِّ وبين تجاهل النصِّ وتغليب المقاصد.

وينطلق القرضاوي من أن حكمة الشريعة توفر للناس كلَّ ما هم بحاجة إليه، ويرى أن أحكامها لا تحمِّلهم ما لا يطيقون حمله[6]. وذكر القرضاوي أن الشريعة "عدلٌ كلها ورحمةٌ كلها ومصالحُ كلها وحكمةٌ كلها"، مستشهدًا بابن القيم[7]. واتخذ القرضاوي من القرآن والسُّنة مقياسًا لتقييم الأحكام الشرعية. ويشكِّل هذا منطلقًا لإشارته إلى ابن القيم، الذي رأى أن المصلحة مرادفة للعدل وشجَّع على استخدام الرأي في الاجتهاد في الفقه، وكذلك إشارته إلى نظرية المقاصد عند الشاطبي. ومع أن القرضاوي قد أكَّد على المنهج الاستقرائي، فإنه في الواقع لم يتحرّر مما أطلق عليه ديفيد جونستون (David Johnston) "التأويل الحرفي" (literalistic hermeneutic)[8]. ومن الفرضيات المهمة عند القرضاوي القول بأن المقاصد لا يمكن أن تتعارض مع النصوص القطعية. فقد ضرب أمثلةً على موضوعات تناولتها هذه النصوص، وزعم أنه ليس هناك مصلحة حقيقية في منع تعدُّد الزوجات، أو في مساواة الذكور بالإناث في الميراث. وقد يُنظَر إلى ما تقدَّم على أنه يمثِّل تصورًا لدى للقرضاوي، ويُحتمل أن تنظر النساء المسلمات في أوروبا الغربية إلى هذا التصور على أنه غير عادلٍ في ضوء التحديات والتوقعات المتضاربة التي يواجِهْنها في ظل مجموعات متنافسة من الأحكام[9]. ويتعارض هذا النهج النصيُّ بوضوح مع التصورات الحديثة حول العدالة والصالح العام. وتصبح المعضلة أكثر إبهامًا فيما يجب أن تكون الأولوية له: النقل أم العقل؟ لقد كانت هذه المسألة تمثِّل جدلًا مركزيًّا في التاريخ الإسلامي، لا سيما في الفقه الإسلامي التقليدي[10]؛ حيث ربط أبو حامد الغزالي (ت505هـ/1111م) -الذي أسهم في تطوير نظرية مقاصد الشريعة، كما رأينا آنفًا- المعرفةَ الأخلاقية بأدلَّة الكتاب والسُّنة، وذلك قصدًا منه. ووفقًا لجونستون، فإن هذا الرأي يستلزم أن كلمات "خير" أو "شر" و"عدل" أو "ظلم" لا تعبّر عن حقائق موضوعية. ويترتب على ذلك -بطبيعة الحال- أن البشر لا يستطيعون الوصول إلى معرفة الخير والشر بمعزلٍ عن الشرع[11]. ووضع القرضاوي نفسه -بوضوح- في هذا الإطار، وهو أيضًا الرأي السائد لدى أهل السُّنة، ومن ثَمَّ فهو يرفض موقف المعتزلة بأن العقل سابق على النقل. فيعتقد المعتزلة أن الله عادل، وأن "معالم العدل واضحة أيضًا للعقل البشري"، أو كما قال جونستون: "رأى [المعتزلة] أنه إذا أمر اللهُ خلقَهُ بالعدل، فلا بدَّ أنه رزقهم معرفة فطرية بما يبدو عليه التصرف العادل، بعيدًا عن الشرع. لذلك لدينا هنا -في الوقت نفسِه- أنطولوجيا القيم الأخلاقية الموضوعية، والإبستمولوجيا التي تجعلها متاحةً للعقل البشري"[12].
ويأخذ تفسيرُ محمد خالد مسعود لنظرية الشاطبي في المقاصد العقلَ في حسبانه. فهدف الشارع هو مصلحة الناس، وهي قاعدة مستقلة ومنفصلة عن أصول الفقه. وأوامر الشريعة تسعى إلى حفظ مقاصدها التي تسعى بدورها إلى صيانة مصالح الناس. وبحسب مسعود، فقد قسَّم الشاطبي المقاصد أو المصالح إلى ثلاثة أصناف: ضروري وحاجي وتحسيني. والصنف الأول يُسمَّى ضروريًّا؛ لأنه لا غنى عنه للدفاع عن مصالح الدنيا والآخرة. ويؤدي الإخفاق في حفظ المقاصد الخمسة إلى انهيار ما أسماه مسعود "مصالح الدنيا". ولكن المصلحة مرتبطة أيضًا بالحاجيات والتحسينيات، كما يقول مسعود مستشهدًا بتعريفات الشاطبي لهذين المفهومين: "أما الحاجيات فمعناها أنها مُفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحرج والمشقَّة اللاحقة بفَوتِ المطلوب. فإذا لم تُراعَ، دخَلَ على المُكلَّفين -على الجملة- الحرجُ والمشقَّة… وأما التحسينات فمعناها الأخذُ بما يليق من محاسن العادات وتجنُّبُ المدنسات التي تأنفها العقولُ الراجحات"[13].
وبين هذه الأنواع الثلاثة من المصالح تكاملٌ، ويحفظ بعضها بعضًا. ويمكن تشبيه العلاقة بينهم بثلاث دوائر أُحادية المركز، يأتي في القلب منها الضروريات ثم الحاجيات وأخيرًا -في الدائرة الخارجية- التحسينيات[14]. وقد لخَّص مسعود قول الشاطبي، وصاغه بالاصطلاحات الحديثة في سياق قانون الأسرة، على النحو التالي:
"وضع الشاطبي الأسرة في الدائرة الأولى بوصفها ضرورة. والأحكام الشرعية في الدائرة الثانية، كالأحكام المنظِّمة للزواج والطلاق والميراث، بوصفها أحكامًا مطلوبة لحفظ الأسرة. ومن ثَمَّ فهي ليست ضرورات في حدِّ ذاتها. وأما التفضيلات الاجتماعية (الدائرة الثالثة)، مثل الكفاءة في الزواج أو دفع مهر المثل، فهي تحسينيات لترسيخ الأحكام الشرعية في الثقافة المحلية. ورأى مسعود أن غياب هذه الأعراف والممارسات الاجتماعية لا ينتهك الأحكام الشرعية التي تستند إليها مؤسسة الأسرة، أي الدائرة الثانية. ومن ثَمَّ فإن هذه القِيَم قد تتغيَّر بمرور الوقت، وقد تحلّ القيم الثقافية الجديدة محلّ القيم القديمة"[15].
ويبدو أن مفهوم ابن قيم الجوزية عن الشريعة بوصفها "رحمة كلها وعدل كلها"، وكذا مفهومه عن "العدل"[16] بوصفه مرادفًا للمصلحة، إلى جانب مفهوم المصلحة بوصفها مستقلة عن النصوص، كلها مفاهيم تقدِّم حلًّا لمسألة ما إذا كان يمكن متابعة التغيير والتحديث تحت مظلة الشريعة نفسها. ومع ذلك، رأت زيبا مير-حسيني أن المفاهيم المعاصرة للعدل، المستوحاة من أفكار حقوق الإنسان والمساواة، تتباين كثيرًا عن تلك التي تستند إليها الأحكامُ في الفقه التقليدي والتصورات الراسخة للشريعة. فعلى سبيل المثال، رأى ابن القيم الشريعةَ في شكلها المجرد عدلًا كلها، لكنه لم يَرَ بأسًا في الفروع مع عدم مساواة المرأة بالرجل. وقد نظر ابن القيم إلى الزوجة على أنها أسيرةٌ عند زوجها، ووضعها أشبه بالأَمَة[17]. ويوضِّح مثال ابن القيم أن العدل يمكن فهمه على مستويين: يمكن تركه على نحو مجرد، أو تفسيره من جهة أحكام محددة. ويعتمد التصور التكليفي له على الأخلاق العامَّة للمجتمع.
الأخلاق العامَّة الحديثة
يعرّف كنوت إريك ترانوي الأخلاق العامة، أو "أخلاق الناس العاديين"، بأنها "مجموعة من القِيَم والمعايير والفضائل الأخلاقية -وما يقابلها من ممارسات وعادات- التي تحظى بقبول واسع، وتستوعب وتُحترم في إطار ثقافة ما، في وقتٍ ما"[18]. ووفقًا لترانوي، هناك كثير من الأخلاقيات العامة، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون لها جميعًا أرضية مشتركة[19]. وهو يسمِّي هذه الأرضيةَ المشتركة لنظام الأخلاق العامة بالقِيَم الأخلاقية الحيوية (bio-moral values)، مثل الحياة والإنجاب ورعاية الأبناء والحد الأدنى من جودة الحياة. وتستدعي هذه القيم قيمًا أخرى غير القيم الأخلاقية، كالقيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويُعَدُّ انتهاك هذه القيم من أخطر الجرائم -قانونيًّا وأخلاقيًّا- في ثقافتنا[20]. وتشكِّل القيم الأخلاقية الحيوية أساسًا لبعض المعايير الرئيسة، من قبيل لا تقتُل، ولا تحمِّل الآخرين ما لا يطيقون؛ وهو ما ينتمي إلى ما يُطلق عليه ترانوي "مجتمع الأخلاق العامَّة" (community of common morality).
ويقول ترانوي إن الأخلاق العامَّة تتكوَّن من قطاعٍ قيميٍّ (ما يتعلق بالخير والشر) وقطاعٍ حُكْميٍّ (ما يتعلق بالصواب والخطأ)[21]. ويتكوَّن القطاع القيمي من الخير والشر، وتحديدًا من العواقب الجيدة والرديئة للأفعال والكفِّ عنها. وتثير مسألة تصنيف الخير مسألةَ العدل والظلم. ويشير ترانوي إلى أن العدل والظلم أمران محوريان في الأخلاق العامَّة؛ فالشعور بالعدل جزء لا يتجزأ من كل إنسان، ومن المسلَّم به أنه حتى الأطفال الصغار لديهم آراء مُحكَمة حول ما هو عادل وما هو ظالم. بينما يتألف القطاع الحُكْمي من الواجبات والمحظورات والحقوق والقوانين والقواعد والمبادئ التوجيهية والقوانين المدوَّنة، وما إلى ذلك. والأخلاق العامَّة ليست ثابتة، بل تتغيَّر مع الزمن مواكبةً للتغيرات الاجتماعية والثقافية الأخرى. والأخلاق العامَّة ليست هي نفسها الأخلاق الشخصية. ويقول ترانوي إن لكل فرد الاختيار من بين مجموعة المعايير والقِيَم المتاحة أمامه من خلال الأخلاق العامَّة، وضمن الحدود التي ترسمها له الأرضية المشتركة[22]. وشرح ثبات الأخلاق العامة وتغيُّرها استنادًا إلى مستوييها: المستوى الأساسي، وفيه محاذير ضد القتل والسرقة والكذب على سبيل المثال، ويتسم بالاستقرار والمتانة؛ والمستوى الأعلى، ويمكن أن يقع فيه التغيير[23]. وقد ينطوي تغيُّر الأخلاق على تغيُّر في القيم أو الأحكام. وقد يحدث من خلال تغيُّر في محتويات الأخلاق العامَّة أو في مواقف الناس تجاه الأحكام والقيم التي تشكِّل الأخلاق العامَّة.
والقضية التي تقع في القلب من الأخلاق العامَّة هي "جودة الحياة"، وكيف نحيا حياة جيدة على الصعيد الأخلاقي. وفقًا لترانوي، فهاتان مسألتان مختلفتان تفضيان بنا إلى العلاقة الملتبسة بين الخير والحق. وهناك شاغلان متضمَّنان هنا: أولهما تحقيق الذات لدى الشخص الفاعل، وثانيهما واجباته تجاه الآخرين، أو توجُّهه تجاه إخوانه من البشر. وينبغي ألَّا يكون تحقيق الذات على حساب حقوق الآخرين، ويرتكز هذا القول على مفهوم الكرامة الإنسانية.
ويقول ترانوي إن الأخلاق العامَّة تمثِّل النظامَ الأخلاقي الذي يُعَدُّ -إلى جانب النظام القانوني- شرطًا مسبقًا لمجتمع مُحكَم التنظيم. وقد تتداخل الأخلاق مع القانون، لكن لا يمكن أن يحلَّ أحدهما محلَّ الآخر. وسيكون تقنين الأخلاق العامة أمرًا غير طبيعي، بل يبدو بلا معنى[24]. ولا يرى ترانوي أن من الضعف كون الأخلاق العامَّة تفتقر إلى الصياغات الدقيقة وتعريف المصطلحات، وتكتفي بالتسميات الغامضة، كالعدل والرحمة والأمانة والصدق والكذب. وتتميز أيضًا بما أسماه ترانوي المساحة المعيارية الحُرة (free normative space)، ويعني بها الخلاف المقبول ضمن حدود معيَّنة. وعلاوةً على ذلك، فإن النظام الأخلاقي هو نظام مفتوح[25]. ولا تعني القرارات الأخلاقية نهاية الأمر المطروح بالضرورة، بل هي خطوات في عملية مستمرة. وأخيرًا وليس آخرًا، فإن النظام الأخلاقي يتطلب حريةَ الاختيار؛ لذا لا يمكن أن يكون للمقولات الأخلاقية سلطة معاقبة مخالفيها، وإنما هي مجرد توصيات[26].
الأخلاق العامَّة والمقاصد
استنادًا إلى تحليل ترانوي للأخلاق العامَّة، تبدو مقاصدُ الشريعة -كما وُصِفت آنفًا- مثالًا لنظريةٍ في الأخلاق العامَّة متجذرة في الإسلام. وعمومًا يبدو أن ما وصفه ترانوي بالقِيَم الأخلاقية الحيوية هو نظير فئة الضروريات. لكنها ليست متطابقة تمامًا، بل هناك قواسم مشتركة (كحفظ النَّفْس والنَّسْل) وهناك اختلافات (إذ لا يذكر ترانوي الدين ضمن القيم الأخلاقية الحيوية).
ويبدو أن تصنيف ترانوي عن "نوعية معينة من الحياة" مفتوحٌ وقادرٌ على استيعاب عددٍ من العناصر. ويمكن وصف ضرورتَي العقل[27] والمال بأنهما طريقةٌ ما لتحديد مفهوم جودة الحياة. وقد يشتمل مفهوم ترانوي المفتوح أيضًا على عناصر أضافها العلماء المسلمون إلى قائمة الضروريات عبر التاريخ إلى اليوم. ويربط ترانوي القيمَ الأخلاقية الحيوية ببعض القواعد الأساسية، مثل حُرمة القتل أو عدم تحميل الآخرين ما لا يطيقون، وهو ما يسميه مجتمع الأخلاق العامَّة. وانتهاك هذه القواعد يُعاقَب عليه بشدَّة، وهذا مشابه لما في نظرية مقاصد الشريعة. وقد رأينا أيضًا أن التيسير مبدأ أساسيٌّ في استنباط الأحكام؛ لأنه لا ينبغي تحميل الناس ما لا طاقة لهم به. والحياة أيضًا تُحفظ وتُصان من خلال تعيين عقوبات صارمة لجريمة القتل. وعُرِّفت فئة الضروريات استنادًا إلى انتهاكات الأحكام التي تؤدي إلى عقوبات الحدود، وهي تتوافق مع القطاع القِيمي في نظرية ترانوي للأخلاق العامَّة.
وللقطاع القيمي -الذي يُعنى بالخير والشر الناتجَيْن عن الأفعال والكفِّ عنها- نظيرٌ في مفهوم المآلات، وهو -كما رأينا- معيار ينبغي على المفتي أن يأخذه بعينِ الاعتبار في اجتهاده بوصفه جزءًا من الإفتاء. ويتألَّف القطاع الحُكْمي في نظرية ترانوي من الواجبات والمحظورات والحقوق والقوانين والأحكام والمبادئ التوجيهية. ويتكوَّن القطاع الحُكْمي في نظرية المقاصد من فئتَي الحاجيات أو التحسينيات. ونحن ندرك فئات الأحكام في الفقه الإسلامي، فهي: الحرام والمكروه والمباح والمندوب والواجب. ويمكن وصف الفتاوى بأنها تبيانٌ لهذه الأحكام. والعدل عند ترانوي أمر مركزيٌّ، سواء في القطاع القيمي أو القطاع الحكمي. وعلى الجانب الآخر، يرى العلماء المسلمون أن الشريعة عدلٌ، مع الإشارة إلى قولِ ابن القيم إن "كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور… فليست من الشريعة".
فتنطوي جرائم المخدرات على تجاهل للأحكام، وقد ينطوي حقُّ المرأة في الإجهاض على تغيُّر في النظر إلى المضمون الأخلاقي، وإن رآه بعض الناس تدهورًا في الأخلاق. وعلى ذلك، يبقى المستوى الأساسي -وهو الذي يشمل القيم الأخلاقية الحيوية من قبيل الحياة والإنجاب ورعاية الأبناء والحد الأدنى من جودة الحياة- ثابتًا، بينما يصيب التغيير تفسيرَ هذه القيم.
وتنتمي الأخلاق العامَّة إلى النظام الأخلاقي. وقد يتداخل النظام الأخلاقي مع النظام القانوني، إلا أنه لا يحل محلَّه. فالنظام الأخلاقي نظام مفتوح، كما يقول ترانوي. والقرارات الأخلاقية ليست نهاية المطاف، وليس لها سلطة معاقبة مخالفيها، بل لها طبيعة التوصيات فحسب. ويناسب هذا الوصف أيضًا الفتاوى، والمعالجات والجدل الدائر بين العلماء في مجال النقاش والمرجعية الإسلامي العالمي. ويرى ترانوي أن من نقاط قوة الأخلاق العامَّة افتقارَها إلى الصياغات الدقيقة وتعريف المصطلحات، واكتفاءَها بتعبيرات مثل العدل أو الرحمة. ويمكن قول الأمر نفسه عن مقاصد الشريعة، حيث يقع مفهوما المصلحة والعدل في القلب منها. ويوفر هذا فرصًا لاستثمار هذه المفاهيم العريضة في أفكار جديدة، كما تفعل النسويات المسلمات -على سبيل المثال- اللائي يروِّجن لإعادة تفسير مفهوم العدل في خضمِّ نضالهن من أجل المساواة وحقوق المرأة[28]. ولكن كما رأينا، قد تشكِّل نظرية المقاصد أيضًا عقبةً أمام الإصلاح، وتبيِّن تفسيرات المقاصد المختلفة اختلافًا مهمًّا في الآراء حول مفهومَي المصلحة والخير: فيمثِّل القرضاوي الرأي القائل بأن المصلحة شيءٌ يُكتشَف. بينما يرى مسعود أنها في الأصل بناء اجتماعي. وهكذا نرى أن نظرية المقاصد عند مسعود تستلزم تفسيرًا للمفاهيم على نحو أقرب إلى تفسير ترانوي لها مما تستلزمه نظرية القرضاوي في المقاصد.
الأخلاق العامَّة المتنافسة
هل يستلزم تغيُّر الأخلاق العامَّة بمرور الوقت -مواكبةً للتغيرات الاجتماعية والثقافية الأخرى- تراجعًا عن الأخلاق العامَّة السائدة بالأمس؟ تُثير بعض التغييرات القلقَ في دوائر مختلفة، مثل الموازنة العامَّة في التمويل، وتعاطي المخدرات بين الشباب، والعنف الواقع في الحياة الليلية. ومع ذلك، ينفي ترانوي هذا؛ فالقدرة على السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي متأصلة في الطبيعة البشرية. وليس هناك سببٌ للاعتقاد بأن هذه الطبيعة قد تغيَّرت على مدى 2500 عام، وهي الحقبة التي مضت منذ دخل الفلاسفة اليونانيون الأوائل الساحة الثقافية الغربية. وغالبًا ما يُنظَر إلى التغيير في الأخلاق على أنه تدهور، لا سيما عندما يتجاهل الناس الأحكام الراسخة. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني حتمًا أن الناس قد باتوا بلا أخلاق، بل قد يعني أن تغيُّرًا ما طرأ على آرائهم حول مضمون الأخلاق. فتنطوي جرائم المخدرات على تجاهل للأحكام، وقد ينطوي حقُّ المرأة في الإجهاض على تغيُّر في النظر إلى المضمون الأخلاقي، وإن رآه بعض الناس تدهورًا في الأخلاق. وعلى ذلك، يبقى المستوى الأساسي -وهو الذي يشمل القيم الأخلاقية الحيوية من قبيل الحياة والإنجاب ورعاية الأبناء والحد الأدنى من جودة الحياة- ثابتًا، بينما يصيب التغيير تفسيرَ هذه القيم. وهذا التغيير في تفسير مضمون القيم هو ما يشير إلى احتمال نشوب صراع اجتماعي. فلنضرب المثل بـ"الحياة"؛ فما هي حياة الإنسان؟ سيَطرح هذا السؤال نفسَه فيما يتعلق ببداية الحياة ونهايتها، والتحديات الأخلاقية التي تطرحها مسائل كالإجهاض والقتل الرحيم. فكيف نفسِّر "الإنجاب"؟ سيقودنا هذا مجددًا إلى آرائنا في الزواج، سواء كان بين رجل وامرأة أو بين شخصين من الجنس نفسِه، وسيقودنا أيضًا إلى السؤال الأخلاقي حول تأجير الأرحام، وحق الطفل في معرفة والديه الطبيعيَّيْن، وهي مسألة تتعلق برعاية الأبناء. وكيف نحدِّد نوعية الحياة؟ هذا موضوع نقاش يطول. وقد تكون هذه الأسئلة من أصعب المشكلات التي تواجه المجتمع الغربي المعاصر.
وتستهدف الفتاوى الواردة في هذا الكتاب حفظَ الضروريات الخمس (الدين والنَّفْس والعقل والنَّسْل والمال) التي تشكِّل صورةً طبق الأصل لما يسميه ترانوي بالقيم الأخلاقية الحيوية. وتشمل التوضيحات تعريفَ الزواج الصحيح واختيار الزوج، والحفاظَ على العلاقات الأسرية، والإجهاض والطلاق وتأجير الأرحام، وبقاءَ المرأة في عصمة زوجها بعد اعتناقها الإسلام، وشراء منزل أو شقة بقرض مصرفي بدلًا من دفع الإيجار. ومن الواضح أن الأعراف والعادات الإسلامية الحالية لا تنسجم مع المجتمع المحيط، وينظر إليها المجتمع ككل على أنها إشكالية. وتواجه النساء المسلمات هذا الإشكاليات بوصفها معضلات، فهنَّ يتمزقن بين مجموعتين متنافستين من المعايير: عدم المساواة مع كون المرأة تابعًا، في مقابل المساواة والحقوق. وأظهر المُستفتون في هذا الكتاب -من خلال أسئلتهم- أن هدفهم من السؤال هو أن يعيشوا حياة كريمة وصحيحة، تُحترم فيها حقوقهم. إذن، بإمكاني القول إن ما يشغل النساء ليس تجنُّب التعامل مع الأخلاق العامة الإسلامية الراسخة، بل يتساءلن عن مضمونها. وتُعَدُّ الأسئلة المتعلقة بالأمور المالية والعلاقات بين الجنسين أمثلة جيدة على هذا. والتحدي الذي يواجه المُفتين هو محاولة الإجابة عن الأسئلة برأي ينطوي على حماية القيم الأخلاقية الحيوية في ضوء جديد، الأمر الذي قد يُسهِم في ظهور أخلاق عامة إسلامية جديدة. وتتضمَّن التفسيرات المختلفة للقيم الأخلاقية الحيوية تنافسًا بين الأخلاقيات العامَّة. ويتسبَّب هذا في الشعور بعدم الارتياح، فهو يحدِّد "نحن" مقابل "الآخرين"، سواء داخل المجتمع الديني نفسه أو عبر حدود الدين والمعتقد. وتستلزم هذه الرؤية أيضًا إمكانية إجراء حوار شامل حول القيم الأساسية؛ حيث لا يرى المشاركون أنفسهم على أنهم غير أخلاقيين أو ليس لديهم الحقُّ في تقديم الحجج التي يرونها أخلاقية وعادلة.
فقد أدت الكلمة المطبوعة وقنوات الاتصال الجديدة في القرن العشرين إلى دمقرطة الوصول إلى المعرفة، وهدَّدت سلطة العلماء إلى حدٍّ غير مسبوق.
وأرى أن وضع مقاصد الشريعة والإفتاء بوصفهما جزءًا من النظام الأخلاقي -الذي يستلزم المرونة- يُسهم في توفير فرصة لتكوين أخلاقيات عامة مختلفة ومتأصلة في الإسلام تتجاور معًا. ومع ذلك، فإن هذه الأخلاقيات ليست جامدةً من حيثُ الأحكام والقيم؛ بل هي في حالة تغيُّر مستمر. وتطرأ التغيرات على القيم أو الأحكام أو كليهما، لا سيما فيما يتعلق بالنظرة إلى المرأة. وهناك سؤال مفتوح حول كيفية حوار العلماء والمفكرين والناشطين المسلمين فيما بينهم بشأن الخير والحق، لا سيما فيما يتعلق بقضايا المرأة، التي تُعَدُّ محوريةً بالنسبة إلى المسلمين الذين يعيشون في أوروبا الغربية[29]. وكما رأينا، فإن للفتاوى دينامياتها السلطوية الخاصة، التي تُسهم في تجربة الفرد في الانتماء إلى التقليد. ويتعلَّق الأمر -جزئيًّا- بالسلطة التي يسعى العلماء إلى استعادتها من "المهندسين". ووفقًا لديل إيكلمان (Dale Eickelman) وجيمس بيسكاتوري (James Piscatori)، يتنافس العلماء والمثقفون الدينيون "الجدد" على الصدارة بوصفهم وسطاء في تحديد صحَّة العمل تبعًا للشريعة. كما أشارا أيضًا إلى أن الآثار السياسية لهذه العملية كانت واضحةً في الهند في القرن التاسع عشر، حيث كانت كثرة النصوص المطبوعة، التي كان العلماء يسيطرون عليها في البداية، "ضربة في قلب المرجعية الإسلامية"[30]. وقد توصلتُ أيضًا إلى النتيجة ذاتها من خلال الفتاوى التي عرضتها في هذا الكتاب. فقد أدت الكلمة المطبوعة وقنوات الاتصال الجديدة في القرن العشرين إلى دمقرطة الوصول إلى المعرفة، وهدَّدت سلطة العلماء إلى حدٍّ غير مسبوق. ويصوغ [محمد قاسم] زمان هذه التحديات على النحو التالي: كيف يجري تفسير النصوص التأسيسية، وما هي المؤهلات الأنسب لتفسير هذه النصوص؟ وما هو نطاق التفسير المشروع لها[31]؟ ويمكننا أن نضيف: كيف يدافع العلماء عن سلطتهم؟ وقد سعيت من خلال تقديم المُفتين وفتاويهم في هذا الكتاب إلى إلقاء الضوءِ على هذه الأسئلة، وتقديم رؤية حول مدى تعقيد الخطاب الإسلامي.
وتفتح المقارنةُ بين نظرية كنوت إريك ترانوي للأخلاق العامَّة الحديثة وبين نظرية مقاصد الشريعة البابَ أمام احتمال أن تكون بين الأقلية المسلمة والأغلبية من غير المسلمين قيمٌ أساسيَّة عامَّة، الأمر الذي يعني إمكانية الحوار والخطاب عبر حدود الأديان ومواقف الحياة، أو حتى تكوين رؤية مشتركة. وأرى أن هذا المنظور قد يوفر جدليات يمكن أن تعمل على التوفيق بين مجموعتي المعايير: فمن جهةٍ، هناك الحقوق غير المتساوية بين الجنسين مع التركيز على كون المرأة تابعًا للرجل ووجوب طاعتها له؛ ومن جهةٍ أخرى، هناك المساواة بين الجنسين في الحقوق، مع التركيز على حقوق المرأة والمساواة أمام القانون؛ أو قد تعمل هذه الجدليات على تأجيل اندلاع الصراع على الأقل.
بيد أن العقبات كثيرة. ويرى فرانك بيتر أن المسلمين يواجهون التحدي المتمثِّل في عرض ما يهمهم في "لغة" مفهومة في المجال العام[32]. وأعتقد أن الأغلبية من غير المسلمين تواجه تحديًا من الحجم نفسِه، ليس من حيث اللغة، بل في تحديد ما يشكِّل "القيم الأساسية". وتُوصف الشريعة في الخطابات العامَّة والشعبويَّة بأنها قانون موحَّد وثابت يتعارض بطبيعته مع القيم الغربية، ويشكِّل تهديدًا لأوروبا. ويقال إنه إذا لم يكن الغرب يقظًا فستخضع المجتمعات الأوروبية مستقبلًا لأحكام الشريعة. وهكذا تصبح حمايةُ الهويات الأوروبية والقومية مسألةً وجوديةً تقريبًا. وهناك كثير من الحجج التي تُساق دعمًا لهذه الاستراتيجية الدفاعية. وأحد الإسهامات في هذا النقاش هو إسهام ويليام أودي (William Oddie)، وهو كاتب إنجليزي كاثوليكي ومحرر صحيفة كاثوليك هيرالد (Catholic Herald) منذ عام 1998 حتى عام 2004م[33]. وهو يرى أن على المسيحيين أن يشعروا بالقلق إزاء "المحاولات الأخيرة لمنح الشريعة مكانة شبه رسمية إلى جانب قانون البلاد الذي يحكمنا". وهو يرى أن زحف الشريعة يشكِّل تهديدًا للقانون الإنجليزي، الذي نشأ في ظل الأخلاق اليهودية-المسيحية والتقاليد الغربية، التي قرنها أودي بمساواة المرأة والرجل في الميراث. كما يرى أن النساء المسلمات بحاجة إلى الحماية من المعاناة التي تفرضها الشريعة عليهن. ويشير إلى التفسير الذي قدَّمته البارونة كوكس (Baroness Cox) بشأن "مشروع قانون خدمات التحكيم والوساطة والمساواة" (Arbitration and Mediation Services and Equality Bill) الذي اقترحته على مجلس اللوردات (House of Lords) في عام 2012م، قائلةً[34]:
"نحن نعيش في بلدٍ نلتزم فيه التزامًا أساسيًّا بالمساواة أمام القانون وبالحرية؛ وهذا التزام ثمين للغاية في ديمقراطيتنا الليبرالية وتقاليدنا. ولكن نشأ بين ظهرانينا -مؤخرًا- نظام بديل، وهو يؤثر في كثير من المواطنين، لا سيما النساء. إنه نظام شبه قانوني، يطلق عليه ’الشريعة‘، ومن الواضح أنه مرتبط بالجالية المسلمة. ويمارس هذا النظام التمييز ضد النساء على نحو منهجي، وتحديدًا في مسائل قانون الأسرة، والشهادة أمام القضاء، والعنف الأسري. ولا أكاد أعقل أنه يمكننا أن يكون لدينا نظام شبه قانوني يعمل جنبًا إلى جنب نظامنا القانوني التاريخي والتقليدي، وخاصةً إن كان نظامًا يُميز ضد المرأة، ويسبِّب معاناة حقيقية لكثير من النساء"[35].

وتُعنى السياسة الفرنسية وخطابات الهوية الوطنية أيضًا باضطهاد المرأة المسلمة وضرورة إنقاذها من الممارسات الإسلامية. وقد ظهر هذا في جلسات الاستماع حول الحظر المقترح على النقاب الذي جرى تبنِّيه في عام 2010م. وقد يؤدي النظر إلى ملابس المرأة المسلمة على أنها تهديد لهوية أُمَّة بأكملها إلى نتائج غريبة، كالذي حدث عندما تذرَّع أربعة من رجال الشرطة المسلحين بحظرٍ محليٍّ على لباس السباحة للمرأة المسمَّى "البوركيني" (burkini)، فأجبروا امرأة مسلمة على أحد شواطئ جنوب فرنسا على خلع سُترتها في أغسطس 2016م. وعمَّت صورة الحادث جميع أنحاء العالم، ويبدو أنها اكتسبت مكانةً رمزيةً ربما عملت على تحويل الخطاب من إنقاذ المسلمات إلى الاعتراف بأن استقلالية المرأة تنطبق على المسلمات أيضًا. وألغى "مجلس الدولة" (Conseil d’État) حظرَ البوركيني على الشواطئ الفرنسية بُعيد تلك الحادثة[36].
ولكن هل طغى الخطاب المعادي للإسلام -الذي يتبنَّاه اليمين الشعبوي الأوروبي- على المخاوف العامَّة الموجودة في الخطابات الإسلامية المتعلقة بالمرأة؟ وفقًا لنادية المرزوقي ودونكان ماكدونيل (Duncan McDonnell)، فإن جاذبية الأحزاب الشعبوية تستند إلى "القول بأن الشعب ’الطيب‘ المنسجم يعاني بسبب أفعال من أعلى (من النُّخَب) ومن أسفل (من مجموعة من ’الآخرين‘)"[37]. إذ يُنظر إلى "الآخرين" على أنهم "يحرِمون (أو على الأقل يحاولون حرمان) الشعبَ ذا السيادة من حقوقه وقِيمه وازدهاره وهويته وصوته"[38]. وتتكوَّن فئة "الآخرين" أساسًا من المهاجرين عمومًا والمسلمين خصوصًا. والمسلمون -وفقًا للمرزوقي وماكدونيل- "يريدون -كما يُزعَم- فرضَ قيمهم الدينية وتقاليدهم على الناس، وذلك جزءٌ من "خطة أسلمة" سِريَّة… وتمثِّل الأفكارُ حول الغزو والتسلُّل والعدوى والتآمر والاستبدال والأزمات الوشيكة التي قد تفرض أمرًا واقعًا العناصرَ الرئيسة للخيال الشعبوي. وكل هذه الأفكار موجودة في ذلك التصور بأن عملية أسلمة واضحة تحدث على مرأى ومسمعٍ منا في كثير من الديمقراطيات الغربية"[39]. ولأن من المفترض مجابهة هذا المخطط، فإن تأويل الدين على أنه "الانتماء" بدلًا من "المعتقد" سيكون أداة مفيدة في هذا النضال لتحديد "نحن" مقابل "هُم" ومحاربة "التهديد الإسلامي" المتصوَّر. ويدور النضال عند الشعبويين حول حماية "هويتنا" الدينية وتقاليدنا وقِيمنا، وليس حول العقيدة الدينية[40]. بَيْدَ أن الدين ليس المصدر الوحيد في هذا الصراع، فيمكن للهوية الوطنية العلمانية أن تلعب دورًا أيضًا. فوفقًا لأوليفييه روا، تمثِّل اللائكية (laïcité) عند حزب "الجبهة الوطنية" (Front National) في فرنسا "أداةً أكثر جاذبيةً وجدوى لمحاربة "الإسلام" من اللجوء إلى الديانة المسيحية التي تتدهور ممارستها باطراد"[41]. والمشترك بين النظرة الدينية وتلك العلمانية هي "القلق" على المرأة المسلمة وتحريرها من اضطهاد الرجال المسلمين. ويُقدَّم منع النساء من ارتداء الحجاب أو النقاب أو البوركيني على أنه تعزيز لحقوق المرأة المسلمة، لكنه أصبح جزءًا من النضال الشعبوي اليميني من أجل "حماية" الفضاء العام من "الإسلام". فهل تآكلت مساحة الفرصة للاتفاق على القِيم العامَّة بين الأغلبية غير المسلمة والأقلية المسلمة جراء الخطاب السياسي الصاخب السائد اليوم؟ في ظل هذه الصورة القاتمة، يبدو أن المرأة -في النهاية- هي المهمَّشة وموضع الشُّبهة.
- الهوامش
-
[1] Tranøy 2001, 104.
[2] Peter 2012, 146.
[3] Tranøy 2000.
[4] Kamali 2008, 23.
[5] القرضاوي 2006م، ص27.
[6] القرضاوي 2006م، ص147.
[7] القرضاوي 2006م، ص149.
[8] Johnston 2014, 50–53.
[9] قدمتُ دراسة عن التحديات التي تواجه النساء المسلمات في أوروبا الغربية، وعرضتها في دورة "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" التي عُقِدت بمدينة دبلن في فبراير 2005م. وكانت مسألتا تعدُّد الزوجات والمساواة في الميراث اثنتين من التحديات التي حدَّدتها في دراستي. فأما المسألة الأولى فتُعَدّ كذلك لأن التعدد مجرَّم في الدول الأوروبية، وأما الثانية فبسبب الواقع الذي تعيش فيه المرأة فعليًّا: إذ إن معظم الأسر في أوروبا الغربية تحتاج إلى راتبَيْن، ومن ثَمَّ فإن كثيرًا من النساء يُسهِمن في النفقة على أسرهن بالقدر نفسِه الذي ينفقه الرجال؛ لذلك رأيتُ أنه يبدو من الظلم أن ترث المرأة نصفَ ما يرثه إخوتها من الذكور، ودعوتُ المجلس إلى مناقشة هذا الوضع فيما يتعلق بأمور الميراث في الإسلام. ورفض القرضاوي طرحي في كلتا المسألتين. فرأى بشأن تعدُّد الزوجات أن هناك حوله آية واضحة في القرآن. ومع ذلك، فإن الحياة في أوروبا تقتضي الالتزام بالقانون، ومن ثَمَّ ينبغي أن يكون الزواج من امرأة واحدة فحسب. كما عارض رأيي في قضية المساواة في الميراث بقوله إن إعالة الأسرة مسؤولية تقع على عاتق الرجل وحده. وبدَا القرضاوي مهتمًّا بالتركيز على واجبات الرجال أكثر من الواقع المعيش الذي يتعيَّن على النساء التعامل معه وفقًا لما جاء في دراستي.
[10] لا يمكن تصنيف أقوال العلماء المسلمين في القرون الوسطى بشأن العلاقة بين العقل والنقل ببساطة على أنها تندرج في مجموعتين على طرفي نقيض، بل تُشكّل صورةً أدقَّ من ذلك. ويرى سافيت بيكتوفيتش (Safet Bektovic) -استنادًا إلى مسح حوراني لمختلف المواقف العقدية والفلسفية- أن معظم المذاهب قد سعت إلى حلٍّ وسطٍ بين العقل والنقل، بينما اختلفت حول الأولوية النسبيَّة لكلٍّ منهما، وحول درجة الاستقلالية الممنوحة للعقل بمعزلٍ عن النقل. انظر:
Bektovic 2012, 50–54.
[11] Johnston 2014, 44.
[12] Johnston 2014, 44–45.
[13] Masud 1995, 151–152.
[14] Masud 1995, 153.
[15] Mir-Hosseini et al. 2013b, 24.
[16] من النقاشات حول مفهوم العدل في الإسلام:
Khadduri 1984; Kamali 2002; Krämer 2007; and Kadivar 2013.
[17] Mir-Hosseini et al. 2013b, 7.
[18] Tranøy 2001, 106.
جميع الاقتباسات التي استقيتها من ترانوي مترجمة من النرويجية إلى الإنجليزية.
[19] Tranøy 2001, 107.
[20] Tranøy 2001, 29–30.
[21] Tranøy 2001, 167.
[22] Tranøy 2001, 132.
[23] Tranøy 2001, 165.
[24] Tranøy 2001, 188.
[25] Tranøy 2001, 189.
[26] Tranøy 2001, 190–191.
[27] يمكن تفسير مفهوم "العقل" بأنه "ضرورة" وأساس لنوعية معينة من الحياة، من خلال تعريف الشاطبي للمصلحة: "وأعني بالمصالح ما يَرجِعُ إلى قيام حياة الإنسان وتمامِ عَيشِه، ونَيلِه ما تقتضيه أوصافُه الشهوانيةُ والعقليةُ على الإطلاق". انظر:
Masud 1995, 151.
[28] انظر -على سبيل المثال- http://www.musawah.org. وتؤيد زيبا مير-حسيني -على سبيل المثال- رأي المعتزلة بأن العدل فطري، ومستند إلى العقل، ومستقل عن النقل. انظر:
Mir-Hosseini 2009.
[29] تشترك النساء المسلمات عبر العالم في هذه المخاوف. انظر على سبيل المثال:
Mir-Hosseini et al. 2013; Mir-Hosseini, Al-Sharmani and Rumminger 2015.
[تُرجم المصدر الثاني إلى العربية. انظر: زيبا مير-حسيني ومُلكي الشرماني وجانا رامينجر، القوامة في التراث الإسلامي: قراءات بديلة، ترجمة: رندة أبو بكر، (الجيزة: بروموشن تيم، 2016م). (المراجع)].
[30] Eickelman and Piscatori 2004, 44.
[31] Zaman 2009, 206.
[32] Peter 2006, 445–446.
لا يمثِّل التواصل بين الفكر الديني والأخلاق في المجال العام تحديًا للمسلمين فحسب، بل أيضًا للناشطين من الأديان الأخرى. ومن الأمثلة الحالية والمعروفة من السياق المسيحي ذلك الصراع حول زواج المثليين.
[33] http://www.catholicherald.co.uk/commentandblogs/2014/03/27/this-is-still-a-christian-culture-but-the-law-society-is-now-encouraging-sharia-principles-that-are-deeply-hostile-to-our-values/.
[34] "يسعى مشروع القانون إلى معالجة مسألتين مترابطتين: معاناة النساء المضطهدات بسبب التمييز بين الجنسين الجاري في البلاد باسم الدين؛ ومجابهة شبه نظامٍ سريع التطور، يُبرز المبدأ الأساسي لقانون موحَّد يسري على الجميع".
http://www.publications.parliament.uk/pa/ld201213/ldhansrd/text/121019-0001.htm#12101923000438.
[35] نقلًا عن أودي، من حديث له مع البارونة كوكس على ما يبدو، انظر:
http://www.crossrhythms.co.uk/articles/life/Baroness_Caroline_Cox_And_The_Sharia_Bill/43747/p1/.
[36] http://www.conseil-etat.fr/Actualites/Communiques/Mesure-d-interdiction-des-tenues-regardees-comme-manifestant-de-maniere-ostensible-une-appartenance-religieuse-lors-de-la-baignade-et-sur-les-plages.
[37] Marzouki and McDonnell 2016, 2.
[38] Marzouki and McDonnell 2016, 3.
[39] Marzouki and McDonnell 2016, 5.
[40] Marzouki and McDonnell 2016, 2ff.
[41] Roy 2016, 80.