أوراق الندوة النقاشية حول كتاب "الاتصاف بالتفلسف"

الندوة النقاشية حول كتاب الاتصاف بالتفلسف

كلمة الدكتور عبد الرزاق بلعقروز: مؤلِّف الكتاب

التربية الفكرية ومسالك الحكمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على الصَّادق الأمين، في البداية قبل أن أتحدَّث عن الكتاب، أودُّ أولًا أن أتقدَّم بواجب الشكر إلى أهل الشكر[1]، وأبدأ أولًا بمركز نهوض للدراسات والبحوث، الذي نظَّم هذه الندوة، وأشكر الأستاذ عثمان عابد أمكور الذي حرص على التنظيم اللوجستي، ثم أشكر أستاذتي نورة بوحناش، التي عملت على تزويدي بالمعرفة العلمية المتوازنة وكانت دومًا تحرص على تكويني،  كما أشكر صديقي سيدنا سيداتي الذي قَبِل إدارة هذه الندوة، كما أشكر الصديق حامد محمد الإقبالي من المملكة العربية السعودية، الباحث المقتدر في مجال الأخلاق والفكر الصوفي، كما أشكر كلَّ الحاضرين معنا على تخصيصهم الوقت من أجل متابعتنا في هذا اللقاء الفكري.

ونحن ننتظر منكم النقاش والإضافة، سواء بالنقد أو بالتحليل، أو بالإسهام والاشتراك، فما نمت الأفكار وتطوَّرت الفلسفات وتجدَّدت المفاهيم إلا بالنقد، فالنقد هو روح الفكر، والنقد هو روح الفلسفة.

أنتقل بعد هذا الكلام إلى الكتاب الذي هو مدار الحلقة النقاشية اليوم، وقبل ذلك لا بدَّ من إسداء الشكر إلى الأشخاص الذين تحاورت معهم على عنوان هذا الكتاب وأبدأ بالأستاذ الدكتور عبد الملك بومنجل، الذي تناقشت معه في عنوان الكتاب، واقترح عليَّ تعديله من "التفلسف والاتصاف" إلى "الاتصاف بالتفلسف"، وكان ذلك في أصبوحة مباركة؛ وأشكر أيضًا الدكتور العزيز رضوان مرحوم الذي تناقشت معه في محتوى الكتاب وعنوانه، وكان كريمًا جدًّا، وأيضًّا الأستاذ الصديق الدكتور سيدنا سيداتي هو الآخر أكرم عليَّ من جليل آرائه، والدكتور العايب حيدر، الذي قال لي إن هذا الكتاب هو استمرار لكتاب "روح القيم وحرية المفاهيم"، وهي لفتة ذكية منه، والدكتور نصر الدين بن سراي، الصديق الكريم دومًا بآرائه ومعلوماته السديدة في النصوص والإشكالات. فلكم الشكر جميعًا والشكر لمن أسهم معي من بعيد في الحوار والنقد والتفكير؛  ممَّن لم أخطُّ أسماءهم هنا.

 أودُّ أن أقول إن العنوان الأصلي للكتاب لم يكن "الاتصاف بالتفلسف"، بل وضعت عنوانه الأول: "عين العقل وعين القلب"، ثم بعد ذلك انتقلت إلى عنوان آخر هو "العيش" على طريقة كتاب جون قرايش "العيش بالتفلسف" الذي تكرم بترجمته الصديق محمد شوقي الزين، لكنني وجدت أن ترجمة كلمة العيش (vivre) لا توفي بمقاصد الدرس الفلسفي، فبحثت عن مصطلح آخر، فوجدته في المعجم الخلدوني، يَمتح من عمق التراث المليء بالغنى اللغوي، والمليء بالمعاني الفكرية الرائعة، فوجدته في  مفردة "الاتصاف" انطلاقًا من قول ابن خلدون: "كمال العلم في حصول الاتصاف به"، فالمعرفة التي لا تصبح سلوكًا، ولا تتحوَّل إلى وعي سلوكي وواقعي هي كَـــلَا معرفة، هذا فيما يتعلق بالمقدمات التمهيدية الأولى.

ومقولة ابن حزم تعبر عن هذا المنحى -الحياة بالفلسفة-: "أن أي فعل فكري أو عملي يكون الغرض منه هو طرد الهم"، أو كما قال الكندي: "دفع الأحزان"

والآن آن أوان الحديث عن هذا الكتاب الذي ينخرط فيما بات يُعرف اليوم بـ"العيش بالتفلسف" أو "الحياة بالتفلسف" (Vivre en philosophant إذ ثمة مبحث من مباحث الفلسفة المعاصرة يحاول أن يخرج من مفهوم الفلسفة باعتبارها تقنيات مفهومية أو أنساقًا مذهبية إلى الفلسفة باعتبارها نموذج عيش، أو أنَّ الفلسفة تَكُفُّ على أن تفكر كي تنتقل إلى أن تُعلم الناس فنَّ العيش، ولأن تستمع إلى كلومهم، وأحزانهم وآلامهم فيما بات يُعرف تحت مصطلح آخر هو "أخلاق العناية"؛ وهي أخلاق تخرج عن نسق الأوامر العقلية والمنطقية الجافَّة والصَّارمة، لكي تلتحم بالوجدان الإنساني، ولكي تستمع إلى آلام الإنسان وأحزانهم؛ كي تعينهم على تجاوز هذه المرحلة، ومقولة ابن حزم تعبّر عن هذا المنحى تعبيرًا جليًّا: "أن أي فعل فكري أو عملي يكون الغرض منه هو طرد الهم"، أو كما قال الكندي: "دفع الأحزان"؛ وكأننا نسينا هذا المبحث الفلسفي العميق الموصول ببنية الفلسفة الإسلامية وهو "الاتصاف بالتفلسف". لقد عبَّر عنه الكندي في رسالته "الحيلة في دفع الأحزان"؛ وإذا كان الأمر هكذا فكيف يمكن للفلسفة أن تعين الإنسان المعاصر على تجاوز كلومه وأحزانه، التي تسببت فيها أفكاره التي اختارها من أجل حياته؛ لأننا لسنا في حاجة اليوم إلى أفكار بقدر ما نحن في حاجة إلى من يستمع إلى الذَّات التي باتت ذاتًا هشَّة حاقت بها الأزمات من كل جانب (أزمات فلسفية، أزمات أخلاقية، أزمات واقعية...)، لأجل ذلك قلت في هذا الكتاب بأنَّ المفردات التي تليق بالبنية اللغوية للكتاب ليست هي مفردات اللّوغوس والتحليل والاستنباط والتقنيات المفهومية، المفردات التي تسكن هذا الكتاب هي: التَّحويل والارتياض، ومكارم الأخلاق، والتَّجاوز، والقوة الرُّوحية والإثبات والمكابدة والصّبر والسيرة الحيّة، وغيرها من مصفوفة المفردات التي يمتاز بها العقل العملي؛ والغرض إنما هو أن نرسم للقارئ وللباحث أفقًا يخرج من خلاله بذات تجديدية وأكثر قوة وصلابة وثباتًا.

رسالة الحيلة في دفع الأحزان

إنَّ الغرض من  هذا الكتاب إنّما هو إحداث تعديل وتغيير في الوعي وفي السُّلوك، وبهذا تستعيد الفلسفة دورها، بما هو دور علمي وعملي؛ إنَّه إصابة الحق نظريًّا، وكذلك العمل به فعليًّا وواقعيًّا فيما قرر ذلك حكماء الفلسفة.

 ولإنجاز هذه المهمة، حاولت أن أوزع مادة الكتاب إلى فصول عديدة، أكتفي بالإشارة إلى بعضها:

حاول الفصل الأول أن يتناول التربية الفكرية، وسعى إلى أن يرسم معيقات التربية الفكرية: المعيقات النفسية والثقافية والاجتماعية، كما يتجه البحث أيضًا انطلاقًا من أدوات المعجم العلمي في شكله اللساني؛ بمعنى أننا قد تشربنا الفلسفة كثيرًا، وأننا قد استقبلنا الفلسفة أكثر؛ لكننا لم نرتقِ من مستوى تلقي الفلسفة إلى مستوى صناعة الفلسفة، وبالتالي كان الفصل الثاني حديثًا عن منهج علمي يخرج من الفلسفة ولا يبقى داخلها؛ لأن البقاء داخل الفلسفة هو كمَن يفكِّر من الداخل. أمَّا من يخرج خارج النص الفلسفي، وينظر إلى الكيفيات التي بواسطتها ينشئ الفيلسوف مفاهيمه، ويصوغ مفاهيمه، وينسج تعاريفه وأدلته، فسيحقق مرحلة أكثر أهمية، وهي: مرحلة الخروج من طور استقبال الفلسفة إلى طور صناعتها على مستوى المقومات الخمسة، وهي: الترجمة، والمفهوم، والتَّعريف، والدَّليل، والسيرة الفلسفية، فيما أنجز ذلك طه عبد الرحمن.

كذلك حاول الكتاب أن يطرح سؤالا وهو :كيف يمكن للقِيَم الروحية أن تصبح واقعًا اجتماعيًّا؟ وللإجابة عن هذا السؤال، استندت إلى أدوات ابن عربي الذي رسم سُبلًا لكيفية تحويل القيمة الروحية من كونها قيمة نظرية إلى واقع اجتماعي، وهنا يُعَدُّ ابن عربي أقرب إلى واقعنا اليوم؛ فهو أقرب إلى علاج الأزمات التربوية التي هي أزمات رشحت من الإقرار بأن العقل هو مفتاح بناء الإنسان، واختزلت التربية في التنمية العقلية والحسية، ونسيت أعمق شيء في الإنسان، وهو أصل الأفعال العقلية وأصل الأفعال النفسية، وهو الفعل الروحي. وانطلاقًا من هذا، لم أحاول أن أحلِّل فكر ابن عربي بطريقة تحليلية منهجية، إنما حاولت أن أطرح عليه  قضايا عصرنا، وهذه هي إحدى أدوات التفلسف: أننا نستجوب فيلسوفًا بعيدًا عن واقعنا الزماني، لكنه قريب من مشكلاتنا الواقعية، فالأزمات التربوية والرُّوحية باتت في طليعة الأزمات التي يواجهها الإنسان المعاصر، ولا أعتقد أن ما يمتلكه العقل المعاصر من مفردات ومفاهيم تعينه على الحل الجذري لهذه المشكلات، ورأيت أن ابن عربي الذي قال قولته الشَّهيرة: "المعرفة التي لا تتنوَّع بتنوُّع الأنفاس لا يُعوَّل عليها" تلخص الإشكال، ومضمونها أن المعرفة التي لا تنبع من الطَّاقة الروحية، والتي لا تتأسَّس على المعاني الإيمانية والروحية هي كَلَا معرفة.

كذلك وجدت من المفكرين المعاصرين الذين سعوا إلى تحويل القيم الروحية إلى واقع اجتماعي وتاريخي: المفكر مالك بن نبي، الذي اعتبر أن عصرنا ليس هو عصر الأصالة أو الصحة، فلا يكفي أن تمتلك أفكارًا صحيحة نظريًّا، إنما المعطى الواقعي هو المعيار؛ ما سمَّاه "الصلاحية" أو "الفعالية". نحن في زمن صلاحية الأفكار، نحن في زمن الفعالية، فالفكرة الشيوعية فكرة خاطئة نظريًّا وبمقاييس المنطق العلمي والنظري، لكنها فاعلة من حيث الواقع ومؤثرة في الحدث. انطلاقًا من هذا، أصبحت الأولوية هي للصَّلاحية، هي للفعل، هي للفعالية.

حاولت أيضًا في الكتاب أن أركز على أزمات الحضارة المعاصرة، وكيف انتقل العقل إلى علاجها من طور التسامح إلى طور التواصل فإلى طور الاعتراف، ووجدت أنها تعبر عن انتقالات أو أزمات أكثر منها تعبيرًا عن فهم صحيح لمشكلات الإنسان.

 وثمرة هذا أننا ما لم نطور مفاهيمنا نحن، انطلاقًا من رؤيتنا للعالم، وانطلاقًا من نظامنا اللغوي وخصوصيتنا الثقافية، فإننا سنبقى نسير خلف هذه التحولات التي تنتمي إلى فضاء آخر يُسمَّى بالفضاء المعرفي الغربي. فحاولت انطلاقًا من هذا أن أستعيد مفردات التعارف والكرامة والعمران، وأن أستدلَّ على مشروعيتها، خاصةً أن كلمة التَّعارف تمتح من المقومات الدينية والإيمانية، وهذا ليس خروجًا عن ترسيمات الفلسفة؛ لأن عصرنا هو عصر عودة الديني، وبالتالي فهذه العودة ليست مجرد عودة سياسية، أو مجرد عودة اجتماعية، فيما بات يُعرف بالموجات الجديدة من التحولات الاجتماعية؛ إنما هي أيضًا عودة معرفية من أجل البحث عن إجابات وجودية للإنسان المعاصر.

أما خاتمة الكتاب فكانت تحت عنوان "روح الفلسفة الاجتماعية"؛ ترسمت فيها معالم الانتماء المعرفي أو الفلسفي للكتاب، حيث يتقاطع مع فلسفة الفعل، وكذلك الفلسفة الاجتماعية، لكنَّ الفلسفة الاجتماعية؛ هنا ليست على طريقة الدَّرس النَّقدي عند مدرسة فرانكفورت؛ إنما هي فلسفة تنبع من النقد، لكن النقد الذي ينطلق من أمراضنا الاجتماعية، وينطلق من واقعنا؛ لكي يحاول أن يتبصر ويرسم آفاقًا أخرى، فرهان الكتاب هو الارتقاء من الانفصال عن القيمة إلى الالتحام بها، ورهان الكتاب هو تعليم التفلسف وليس فقط الفلسفة، رهان الكتاب هو النقد، ولكن ليست على طريقة فرانكفورت كما أشرت، إنما النقد الذي ينطلق من واقعنا ويتلمس مشكلاتنا الاجتماعية حتى يصبح له هذا الدور الوظيفي، إذن فالكتاب هو لباس للوعي ولباس للسُّلوك معًا.




كلمة الدكتورة نورة بوحناش

التفلسف التأصيلي: الفلسفة دربة جامعة

   يتسم الفكر العربي منذ لقائه بالحداثة بالاغتراب، كما يعتيريه وضع استلابي محكم، بدا في هيمنة المركزية الغربية على مخرجاته، اندماجًا وقراءة واستشرافًا، ما جعل الفضاء الفكري العربي فضاءً فارغًا، فاقدًا للذات الأصيلة بوصفها محركًا موضوعيًّا لحركة التاريخ، الذي يحملها في درب المغايرة، يحملها نحو النقد والتنهيض، الذي يعني بقاء الأمة، واتخاذها محورية وجودية إثباتًا للذات.

فكيف نطابق بين العصور الوسطى الغربية والزمن الإسلامي المساوق لها؟ إن إلباس الذات ما يخالف خصائصها يعني فشلًا في التنهيض وإدراك الحضارة، ومشروعًا فكريًّا يعمل على تطبيع الذات على الرضوخ والهيمنة.

  تشكَّل الأنموذج الفكري في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة في مظان الأنموذج الغربي، ليسعى خلفه سعي المماثلة. واضعًا لخطة استشرافية، ترى أن السبيل الوحيد للنهضة لن يكون سوى مسار يقوده في درب التقدم وفقًا للأنموذج الغربي. فكان تاريخ الذات امتثالًا للتاريخ الغربي. حينئذ لبست الذات لبوس اللزوم الغربي، واتخذته نبراسًا هاديًا؛ لتنضوي في برمجة تاريخية، انطبق فيها التاريخ الغربي على التاريخ العربي الإسلامي، انطباق السلطة والهيمنة. فما قبل الحداثة -مثلًا- في صيغته الغربية يعد تاريخًا تراجعيًّا، بينما يكون في التاريخ الحضاري العربي الإسلامي تاريًخا آخر، تاريخ حضارة ازدهرت تحت سلطة الدين. فكيف نطابق بين العصور الوسطى الغربية والزمن الإسلامي المساوق لها؟ إن إلباس الذات ما يخالف خصائصها يعني فشلًا في التنهيض وإدراك الحضارة، ومشروعًا فكريًّا يعمل على تطبيع الذات على الرضوخ والهيمنة. فما الوسيلة إلى التحرُّر من كونية الأنموذج الغربي؟

 ينفتح كتاب الكاتب عبد الرزاق بلعقروز "الاتصاف بالتفلسف: التربية الفكرية ومسالك المنهج" على هَمٍّ فكريٍّ فلسفيٍّ جامعٍ في الثقافة الفلسفية الراهنة، يريد تكسير حالة التكلس، الذي أحدثه الفراغ بصيغته التراجعية التطبيعية في الفضاء الفكري العربي الإسلامي بوجه عام منذ صدمة الحداثة.

 هو حال أدى بالذات إلى التفكُّر في الآخر وبه تتقصى دروبه، دون أن تعود إلى مجالها الدلالي والتداولي، بل تنغرز في هذين المجالين ببنيتهما الغربية المهيمنة. والحقُّ أن هذا الحال قد أورث الفكرة ومن خلفها الذات التبعية والتطبيع الاستعماري؛ ومن ثَمَّ الوقوع في الصمت ونسيان الذات، والتفكير في الآخر بوصفه أنموذجًا يُحتذى وقبلة نرضاها. فغدى التاريخ مسارًا متطابقًا مع التاريخ الغربي، يشرئب نحوه بوصفه نبراسًا كونيًّا، وخلاصًا يُرى النور في آخره، بينما تاريخ الذات هو تاريخ التقهقر، يرى في آخره الظلام الدامس. وعليه أكَّدت المشاريع الفكرية في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة على قبلية الفكرة الغربية، والانسياق خلفها انسياق الوَله والعشق، فكان فشلها واضحًا؛ إذ لم تُثمر وماتت بموت أصحابها المنشئين.

والجدير بالذكر أن سبيل الاتباع والصيرورة المنجزة باءت في القرون العربية الأخيرة بالانتكاسة والفشل. فلماذا هذه الصيرورة، التي انفتحت على الأبواب المغلقة، والسدة الحضارية؟ أليس الاتباع والاغتراب هو ما جعل الفكر العربي الإسلامي منذ لقائه بالحداثة رهينةً تتبع للفكرة الغربية وتحذو حذوها حذو النعل للنعل.

 وإذا كان التقليد قد صرف الوجهة الفكرية نحو التقليدين المهيمنين على مسار الوعي العربي، نعني بهما تقليد السلف وتقليد الفكرة الغربية، فإن نمطًا ثالثًا تفكر خارج التقليد، وأراد أن يفتح أفق الإبداع على الفكرة، التي تجعل التفكير في الذات، ومجالها التداولي موضوع الفكر، حيث بدى التحرر من الأنموذج الغربي، وبسط النظر في مضامين وأدوات التفكير خارج الهيمنة البراديغمية الغربية، بوصف ذلك سبيلًا ضروريًّا لإكمال عملية التنهيض والتحرر من الانغلاق على تقليد أهل الحداثة الغربية.

 بدى هذا الاتجاه محتشمًا جنينيًّا، ولكنه بدأ يشقُّ الدرب من أجل تحرير الذات من الوجهة التطبيعية للاتجاه الحدثي المقلد. ويُعَدُّ كتاب "الاتصاف بالتفلسف" عينة على درب الإنشاء الذاتي للفكرة، يعيد فتح أفق التفكير خارج دروب التطويع، لفضاء الثقافة الغربية التي هيمنت على آفاق الفكر، وساقته نحو خدمة المركزية الغربية.

 هكذا يفتح الكتاب الأفق الذي يعيد الاهتمام بالذات، خارج أسوار الامتثال للثقافة الفلسفية الغربية وسلطتها المهيمنة. كما يعيد الحق للتفكير، في الفكرة المختلفة عن فكرة المركزية الغربية، التي جعلت من فكرتها هي الحق المطلق. كما يفسح أدواتٍ للنظر تقع خارج أسوار الأنموذج الغربي، الذي أغلق الدراية في وحدات النظر المختلفة، وبهذا يستوعب الكتاب أدوات الذات والمفاهيم التداولية، من أجل مشروع فلسفي عربي إسلامي، يختلف في جوهره وأدواته عن المشروع الغربي، بمعنى يفكر خارج دروب الوصاية الغربية، ويعود إلى الذات ليس بصيغة التقليد التراجعي، إنما بصيغة الإبداع عبر قراءة تأوُّلية لمكنون الذات، الذي يخرج حتمًا مسارها التاريخي ماضيًا ومستقبلًا خارج الوصاية الغربية.

من جهة أخرى، تستدعي فكرة الاتصاف بالتفلسف أسئلة نقدية، وتثير حيرة حول طبيعة الاتصاف بالتفلسف؛ عندما تغدو الفلسفة دربة روحية وأخلاقية. ألا تشكل هذه الفكرة موضوعًا مؤسسًا في الفلسفة الغربية الراهنة؟ إنها فكرة تتردَّد لدى بعض الفلاسفة الغربيين، الذين اعتبروا الفلسفة دواء إيتيقيا للإنسانية المجروحة بفعل سيادة العدمية، كمسار حتمي للحضارة الغربية. كان على كاتب "الاتصاف بالتفلسف: التربية الفكرية ومسالك المنهج" أن يبيِّن طبيعة هذا الاتصاف بالتفلسف في سياقه العربي الإسلامي كما ينظر إليه. بمعنى مدى اختلافه عن تجربة التفلسف الإيتيقي، الذي عدته الفلسفة الغربية راهنًا فلسفيًّا، حلًّا لأزمة الحضارة الغربية التي حصلت الانسداد. فما هو الفرق بين التجربتين؟ تجربة الاتصاف بالتفلسف في مجالها التداولي العربي الإسلامي، وتجربة التحلي بالفلسفة بديلًا أخلاقيًّا، حلًّا لأزمة العدمية المحيطة بالذات ،بعد الانسداد الروحي والأخلاقي، الذي اعترى نهايات الحضارة الغربية.

 هذا التقارب بين التجربتين يشير إلى الفرق بين التفلسف والتدين؛ لأن الكاتب قام بتفعيل المفاهيم الإسلامية، وكيفية استيعابها لتجربة التفلسف في إطار أصول الدين، وهي عملية صعبة تستدعي الدفاع عن ذواتنا، بالتنظير والتأسيس المفاهيمي والأداتي، من أجل الاتصاف بالتفلسف كتجربة تستقي ذاتها من المنحى التأصيلي. فكيف ندافع عن ذواتنا عندما نؤسس فضاء التفلسف من داخلها؟ ألا تتطلب هذه الخطوة ثورة معرفية ومنهجية مؤسسة؟

يعني الاتصاف بالتفلسف تجهيز فكرة قبلية والإيمان بها، كما يتم تجهيز أدوات للدفاع عنها. ماذا يعني تجهيز الفكرة كإطار للتفلسف؟ ألا يعني غلق الدراية في أفق التفلسف؟ هل يمكن أن يبدأ  الفيلسوف دربه الفلسفي من التجربة الروحية والأخلاقية؟ ألا يُعد هذا عائقًا معرفيًّا يَحولُ دون الانفتاح على آفاق التفلسف؟ هل يستطيع الفيلسوف أن ينطلق من مقدمات اعتقادية ليجعلها بداية للفلسف؟ هل تكون قيمة الفلسفة من دون نقد؟

  قد يحدث صدام بين الرهان التربوي والخطة الفلسفية التي تروم الشك والنقد البنَّاء، فما هي إمكانات الانطلاق في دروب التفلسف، ونحن مجهزون بأدوات فلسفية قبلية وأخصها الأدوات السلوكية؟ فتكون من ثَمَّ الفكرة رد فعل لنموذج نعيشه. وما هي إمكانات المنهج المحروس بالقناعة التربوية؟

 تعني المرافقة بين الفلسفة والدربة الفكرية تأكيد القناعة، بينما الفلسفة إثارة للدهشة، التدليل عليها. فما هو الفرق هنا بين التجربة الصوفية والتجربة الفلسفية؟ كدربة للمشاكسة العقلية. هل يقبل راهن الفلسفة عودة الأنموذج الأخلاقي في التفلسف؟ أم يكون خيارًا ضروريًّا في إطاره العربي الإسلامي؟

 لتثبيت فكرة الاتصاف بالتفلسف، كسياق يؤكد على استيعاب الفلسفة للحكمة التي تفترض التخلق، تكون هناك حاجة إلى القوتين المعرفية والمنهجية، لازمة للدفاع عن الاتصاف بالتفلسف، بوصفه تجربة أخرى تنظر خارج حدود البراديغم الغربي، ببناها الحداثية وما بعد الحداثية. فهل تمكَّن نص "الاتصاف بالتفلسف" من بناء القوتين المعرفية والمنهجية دفاعًا عن فكرة سلوكية في خضم التجربة الفلسفية؟

 يضمُّ كتاب "الاتصاف بالتفلسف" ضميمة تسأل في آفاق هذا الاتصاف، ونعني أسئلة الحضارة والتفكير في أمراضنا في فضاء الذات، ليعود هنا مالك بن نبي في سياق النص، فيثير التفكير في أبعاد الفلسفة الاجتماعية في محورها الإسلامي، ويعيد الكتاب أيضًا الحق للذات، التفكير خارج الأطر الجاهزة التي تعني تلقين الفكرة وليس إبداعها.

عمومًا، يشكل كتاب "الاتصاف بالتفلسف: التربية الفكرية ومسالك المنهج" إحدى محطات تأسيس ثقافة فلسفية، تعالج أمراض الذات المحصورة في حالة التطبيع الاستعماري، لتشهر فكرة أراها أوَّليَّة، وهي ثقافة المقاومة الفكرية، تحريرًا للذات من سلطة الفكرة الغربية. إنما يكون على صاحب المشروع مواصلة التأسيس، بتجهيز الأسس والأدوات، تمتينًا للفكرة وآفاقها المتطلعة.     




كلمة الدكتور حامد الإقبالي

قراءة في كتاب "الاتصاف بالتفلسف": من أجل عتبات فكرية راشدة تنبّه الرجل الغافل

حاول الكتاب أن يسبر أمراض الواقع ويقدم حلولًا له، ويمكن تقسيمه إلى شوطين: شوط يقدم في مضماره عددًا من الآليات لواقع مأزوم يحاول الخروج منه، والشوط الثاني يجري في مضماره ليبدع آفاقًا أوسع من الحلول باستلهام التراث والتاريخ واللغة. وحاول هذان الشوطان طرح أربع قضايا كلية بعيدًا عن التصنيف الذي عالجه المؤلف في أطروحته:

-         توظيف الأخلاق في تنمية التفكير من العوائق النفسية والثقافية لتحقيق التربية الفكرية.

-      توظيف الفكر في التعامل مع المضامين الفلسفية الوافدة، مثاقفة ومناظرة.

-       إبداع الوسائل العقلية والسلوكية لتخليق الذات.

-       مساءلة النماذج الأخلاقية المشتركة العابرة للثقافات.

وقد كُتِبَ الكتاب بلغة فلسفية مكثفة، وليس غريبًا ذلك إذا عرفنا أن الكتاب أطلق عليه مؤلِّفه "الاتصاف بالتفلسف" وأعقبه بعنوان جانبي وصفه بـ"التربية الفكرية ومسالك المنهج"، حيث يتضح أنه إحدى ثمرات التكامل بين التخصصات وخطوة باتجاه الدراسات البينية، فقد جمع بين حقلي الفلسفة والتربية وبين الفكر الإسلامي وأدوات المنطق، كما أن الكتاب في جانبه المعرفي محاولة لوصل القلب بالعقل والعكس صحيح، بعد أن أسهمت النماذج المعرفية المعاصرة في هذه القطيعة، فكان دور العقل لا يتجاوز الوعي السببي للظواهر في مختلف العلوم وانحصر دور القلب في التعبير عن المشاعر الأخلاقية.

إذن أصبحنا أمام الحقيقة المرة: الاستقلال الذاتي ليس مصدرًا للفخر، بل أصبح عائقًا أمام طبيعة العالم الموضوعي المعاصر.

ولعل أبرز من أسهم في هذا الفصل الفيلسوف الألماني كانط في تهيئته النقدية لتبرير الاستقلال في التشريع الأخلاقي، حين نفى صفة العلمية عن إمكانية قيام ميتافيزيقا وحينما جاءت الوضعية جعلتها أساسًا لها، فكانط جعل الأخلاق مجرَّد أحوال قلبية وروحية، وليست روافع إيمانية، فانحصر الإيمان في الذات الداخلية، وفصل بين العقل والقلب، فالواجب موجود بذاته لكنه لا يقبل شهادة من الخارج، لذلك كانت العتبة الأولى للعلمانية تتأسس على (الذات/الواجب تجاه الآخر/والتاريخ)، فحدث  فصل في المعاني الأخلاقية عن الأسس الغيبية، وحُصر الدين في أحوال القلب، وأصبحت الذات هي المعيار في تبرير الأحكام الأخلاقية، لكن هذه المظاهر أُتيت من قبلها، ذلك أن هناك اتجاهات فلسفية هاجمت هذه السمات (الأنا الخالص) وانتصرت لسمات أخرى أكثر قوة من الذات، وهي الأنظمة المعرفية التي ترسم خريطة التفكير/البنى الاقتصادية، حتى صرنا امام حقيقة موت الذات/انحلال الذات، إذن أصبحنا أمام الحقيقة المرة: الاستقلال الذاتي ليس مصدرًا للفخر، بل أصبح عائقًا أمام طبيعة العالم الموضوعي المعاصر.

ويمكن تقسيم مراحل هذه الحقب التاريخية إلى: الحقبة الأولى وسمتها: الإله معيار الأفعال، والحقبة الثانية وسمتها: الإنسان المستقل منبع تبرير الأحكام الأخلاقية، وهاتان الحقبتان هما العتبة الأولى، أما العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية فتتأسس على الحق في تمتيع الذات (من غير مسؤولية، ودون إلزامية تجاه الآخر، والتاريخ، والإنسانية)، وهي الحقبة الثالثة التي تُسمَّى ثقافة ما بعد الأخلاق، وهي الانصراف عن التأسيس رأسًا والولوغ في (اللذة، والمُتعية، والنرجسية، والشغف بالشخصية، والسعي نحو جودة الحياة). لذلك هناك حاجة إلى نظام أخلاقي صلب وكاشف ينير العتبات المظلمة، وهذا لا يأتي إلا بدمج المعاني الروحية والأدوات العلمية في صلب التربية الفكرية وفلسفة الفعل وأخلاق التعارف، في سير منهجي نحو تنمية المكنونات الفكرية والفلسفية والسلوكية.

فالكتاب إذن يأتي استجابة لما يُعرف بالعلاج بالتفلسف/الاتصاف بالتفلسف، وهذا يستدعي مفاهيم روحية مثل: الإيمان، التحويل، التغيير، الجهاد النفسي، الرياضة الروحية، فن القراءة، عمارة الظاهر والباطن. لذلك افتتح المؤلف الفصل الأول متحدثًا عن التربية الفكرية، هادفًا من ذلك إلى بناء الوعي ببنية العوائق التي تحول دون إنتاج تربية فكرية ناجحة، لا سيما أن هذه التربية المقصودة لا تتحقق بتعلُّم المناهج الجاهزة أو المبتكرة، بل بإيقاظ القوى المعرفية الذاتية وتشغيلها في مجرى العلم والحياة بعد أن يستوعب القدرة على فهم التحديات الفكرية والحضارية المعاصرة، ومن أبرز هذه المعوقات:

1-   أمراض النفس، وهي تحكُّم قوى الطبع والدوافع الحيوية (كالجنس والتملُّك والغضب) في العقل، مما يؤدي إلى تقلُّص التفكير وانحجابه عن العمل وتمنع حركة المعرفة من الانطلاق (الحجب التي تغلف النفس تمنعها من رؤية الحقيقة)، فإذا نزهت النفس وعادت إلى فطرتها استطاعت تقبُّل الفضائل بل واشتاقت إليها، فالأمراض الجديدة  للنفس تسببت فيها وسائل المُتعية والنرجسية التي تحفز الاستجابة لهذه المظاهر، مما يجعل من التعليم الموجَّه بالقيم حلًّا لهذه المعضلة. ويبدو لي أن المؤلف قد تأثر بالنظرة المادية في نظرته للنفس حين وصف أمراض النفس بقوله إنها "تغلّب الطاقة الحيوية على الإنسان"، "صعود أبخرة التحكُّم إلى العقل".

2-   التطبُّع الثقافي والتنشئة التربوية وأغاليط الموروث اللغوي التي تعيق عن إحداث التحويل في التفكير وتدريب العقل على قيم التفكير المنهجي؛ لذلك يجب إعمال حواس النظر والسمع والقلب في استكشاف حركة الحضارات من أجل إنشاء النظام المعرفي التكاملي.

3-   انتشار أمراض الفكر مثل التفكير الساكن، والتفكير التقابلي، والتفكير التجزيئي، والتفكير الإنابي، مما يؤدي إلى اختزال القضايا ومعالجتها بشكل جزئي، مما يجعل علاجها أمرًا مستعصيًا، وقد حدَّد سُبل معالجة هذه المعضلة بثلاث خطوات:

1-   أخلاق الروح، وذلك من خلال التهذيب الأخلاقي، فالنفس لا تستطيع الإحاطة بالعلوم ما لم يكن لها سند من المجاهدة القلبية؛ لذلك يجب على الإنسان أن يتعلم الإحسان والإخلاص في مسعاه الفكري، كما عليه أن يتعلم اليقظة وانتباه القلب للخير، أو كما يطلق عليه "تعلم العيش الحسن"، فالتفلسف مرهون بالتيقظ للتجارب الفاضلة والمبادرة إلى الخيرات، إضافة إلى تعلم العزم وحفز الهمم، فلا نيل للمطلوب ما لم تكن العزيمة هي المحرك للعمل.

2- التجارة الفكرية، وذلك لأن تجارة الأفكار تضعف النزعات الوثوقية وانعدام التسامح، فكلما اتسعت الأفكار استوعبت المفاهيم، فعلى التربية الفكرية أن ترى أن الانفتاح الفكري على الفلسفة فرصة للإبانة عن فكرها وجهدها الإنساني للتبادل الفكري مع الآخرين، كما أن إقامة المناظرات العلمية بين أصحاب الأفكار والتحاور حولها علاج ناجع لهذه التجارة؛ لأن هذه الحرارة الفكرية -كما يطلق عليها بلعقروز- تُسهم في تكوين المسالك الراشدة والطرق القويمة، وذلك عبر المناهج الاستدلالية وبناء الأدلة، إضافة إلى التربية الإبداعية وتعلم الاستقلال، وذلك بنبذ الصناعة المنطقية والقوالب العلمية الجاهزة التي تعيق الذهن عن التفكير القويم، وتحدُّ من التصرف بتلقائية في الفكر واللغة واللجوء إلى الله تعالى في فتح المعضلات.

فالكسل الفكري الذي ينيب غيره في إعمال مشكلاته سيظل في عطالته الذهنية

3-   التمييز من أجل التكامل لعلاج أمراض التفكير، لا سيما أن أشكال التفكير لم تستطع استيعاب معاني الفطرة، مما يجعلنا نجتهد في الموازنة بين التفكير والتوحيد ومراعاة المقاصد، ولعل من المناسب التمكين من بعض القدرات كتعليم التجزئة من أجل التكامل، ذلك أن تفرّق العلوم ذات الحقل الواحد أسهم في عدم استيعاب بنيتها الفكرية، ولعل من الحلول في ذلك عمليات النمذجة والنسق العام التي تتميز بقواعد الملاءمة والإجمالية والغائية والدمجانية، فهذه هي لغة المعرفة الحالية، فبتعليم التربية الفكرية في هذا النسق المجتمع والمتكامل نستطيع أن نعالج تلك المعوقات، إضافة إلى التخلص من الصمت السلبي الذي يطلق عليها الدكتور الظاهر السكونية، فالعلم ليس معرفة بالوحي، بل اشتباك العقل البشري في التأمل والتفكر في إرادة الله ومشيئته في هذا الكون، فمفاهيم مثل التزكية والعمران والنهضة تفتقر إلى مفاكرة وإيجاد شبكة علاقات بينها وربطها بحركة التاريخ والاجتماع، وهذا يستلزم تعليم الاجتهاد الفكري للتفكُّر بعقلية راشدة بعيدًا عن استدعاء الشخصية الاجتهادية التاريخية التي أبدعت في ظرفها التاريخي. والحقيقة أن كلام الدكتور مجمل في بعض محاوره، لكن يمكن الاتفاق مع بعض جزئياته إذا كان يقصد بذلك نقل مقولات هذه الشخصيات بكافة حمولاتها التاريخية وظروفها الزمانية دون تمحيص وجعلها حاكمة على زمن تغيرت ظروفه، لكن من المحمود الفكري والواجب الأخلاقي هي الاستفادة من مناهجهم البحثية وأدوات تفكيرهم التي استطاعوا من خلالها مواجهة الإشكالات التي حدثت في زمانهم وخرجوا فيها برؤى سديدة ونظريات ناجعة، فيجب ألا نتشاغل بما قالوا لكن أن نشتغل بلماذا قالوا ما قالوا، فالكسل الفكري الذي ينيب غيره في إعمال مشكلاته سيظل في عطالته الذهنية، وهو ما تطرق إليه المؤلف في الفصل الثاني، حيث تحدث في هذا الفصل عن التحول من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف، وقد حاجج الدكتور بلعقروز في هذا الفصل عن قيمة الفلسفة كأدوات للتعاطي مع الحكمة وتسخيرها لتكون منهجًا بحثيًّا في أصول الخطاب، فهناك فرق بين النظريات الفلسفية وبين الآليات النظرية التي أنتجتها الفلاسفة، ويمكن الاستفادة منها في إنتاج فعل التفلسف الخاص بنا، بل ومكاشفة موانع الإبداع الفلسفي، سواء كانت في اللغة أو في المنهج للوصول إلى سياق التداول في الفضاء العربي، فبعد أن يتم تحصيل غايات القول الفلسفي يحفزنا ذلك إلى كشف العلل المختلفة التي حرضت على نشوء المعاني الفلسفية، ولأن الفلسفة ظاهرة مثل اللغة وحقيقتها مثل حقيقتها، فإن هذا يزيح توهم عدم حاجة الفلسفة إلى الالفاظ.

أوراق الندوة النقاشية حول كتاب الاتصاف بالتفلسف - الورقة الثالثة

فالفلسفة ليست عالمية، بل هي خصوصية لكل مجتمع تفرزها ظروفه الفكرية وحاجاته الحضارية ودواعيه الملحَّة، وقد كانت لدى الفلسفات الكبرى تصورات غنية جدًّا ومعقَّدة، تسعى إلى الربط بين عالمي الشهادة والغيب. لذلك كان من صفاتها القدرة على تسمية الكلمات وتملُّك الأشياء باعتبار أن اللغة أداة صراع، كما تفتقر الفلسفة حتى نبدع أدواتها للتكامل في آليات علوم المنطق واللسان والبلاغة، واستيعاب مضامين علوم التاريخ وعلم الأخلاق وعلم النفس وهكذا، سواء على مستوى المباحثة عن العلل المتعلقة بالمقاصد أو العلل المتعلقة بعلوم الآلة، ويحقق هذا بروزًا للحوار الجدلي بين المعارف عوضًا عن النماذج الكلية الاختزالية، كما يسهم في الاستنباط من البنية التكاملية في العلوم التراثية الأدوات الإجرائية التي وجدت أجلى نموذج لها في علم أصول الفقه الذي حقق القيم الثلاث: الحداثية والتكاملية والوسائلية، فكما يرسم أصول الفقه طرق معرفة الأحكام الشرعية، فإن فقه الفلسفة ترسم طرق معرفة القوانين، فيتشابهان في النظر المنهجي لا المضموني، ووفور الأدوات اللسانية، وتشغيل الآليات المنطقية.

أما الفصل الثالث فعالج سُبل التحلي بمكارم الأخلاق (وصل الفكر التربوي بالخطاب الروحي)، وأعمل أسلوب المفاتشة والبحث عن الطرق الفاعلة لإعادة الإنسان إلى حياته الفاضلة ليتخلص من حالة النسيان والبلادة التي أصابته، ويتحرر بموجبها من هذا السهو الفكري، ويحاول أن يفتح علاقة وطيدة بالمفاهيم الأخلاقية والعقلية والرياضية، ولعل من الآليات الفاضلة عند الدكتور بلعقروز عدم استغراقه في المباحث اللغوية والمصطلحات العلمية، وانما النفاذ تلقائيًّا إلى المعاني الإجرائية للوصول إلى حقيقة هذه المفاهيم، وإن كان يتناولها بالاستفادة من سياقاتها التداولية، لا سيما عند الصوفية، ويأتي ابن عربي مثالًا على نظم العلاقة بين الأخلاق والعقل في استفادته من النظر العقلي اليوناني والجهد الارتياضي الصوفي والاعتدال في فضائل القوى الثلاث الشهوانية والغضبية والعقلية، وإن كان العقل هو الأولى بقيادة زمام قوتي الدفع والجذب، إلا أنه يعتبر أن العقل الصحيح يأتي نتيجة للمجاهدة العملية، فالفكر عنده يقوم على مبدأ الحركة والتقلُّب لا على الثبات كما هو الحال عند الفلاسفة.

فالإنسان بهذا الاعتبار لا يستعيد إنسانيته إلا بالتعلُّم الذي يقوي المَلَكة العقلية عن طريق القيم الأخلاقية، فالخروج عن الغريزة الإنسانية لا يتم بالتطهير كما عند النصارى، بل بالتهذيب السلوكي، ومَن ادعى خلاف ذلك من كبتِ الدوافع النفسية والطبيعة الغريزية سقط في ما سقط فيه بعض الصوفية من استحلال المرد والسقوط الأخلاقي، مما يحفز على إنتاج معادلة أخلاقية ناضجة توازن بين المظهر والجوهر؛ لذلك كانت الفلسفة هنا ذات جدوى عملية باعتبارها علاجًا للروح من آلامه وآماله. لذلك يدعو المصنف إلى تربية فكرية معتبرة تجعل الحاضر غائبًا متفكرًا في غايات الإنسان، وليس كما هو الحال جعلت الغائب حاضرًا بمناهج الاستنباط والاستقراء، كما أن الرؤية الجزئية في تقعيد الأنظمة الأخلاقية لن تجدي نفعًا إلا آنيًّا (أخلاق البيئة/الذوق العام)، بينما الخزانة الأخلاقية عند ابن عربي مكتنزة بالأصول والقواعد العامة لعلاج هذه الإشكالات.

"فالفكر الذي ينتصر للحركة حتى في الله تعالى أحرى بأن يكون منفتحًا".

وإن كنت أرى أن ابن عربي لا يمثّل الأنموذج الأمثل الذي تتحقّق فيه هذه شروط وصل الفكر بالروح حتى عند نفس طائفته فضلًا عن الطوائف الأخرى، وقد استشهد به في مواضع عديدة يمكن أن نختلف معه فيها، ففي (ص127) يستشهد به المؤلف على جمعه بين البرهان والفيض الإلهي، ويقول: "إنه يفضل أن يوجد في برزخ بينهما متمتعًا بمقام الحيرة التي كلما زادت حدتها زاد كمال الإنسان، ولا أظن الحيرة إلا نكوصًا عن النظر وعن الكشف أيضًا، كما يقول: "لو طلبوا الحكمة من الله وليس الفكر لأصابوا" (ص124)، فكأنه يستبعد الأسباب التي وصفها الله تعالى من خلال التفكر والتدبر والتعقل. ويقول في (ص126): "فالفكر الذي ينتصر للحركة حتى في الله تعالى أحرى بأن يكون منفتحًا". وهكذا في بقية النماذج ولو أنه استعاض عنه بالجنيد البغدادي أو سهل التستري أو أبي بكر الشبلي أو البسطامي، لوجد هذا الجمع في صورته الزاهية الأولى، أو استعان بالطبقة الثانية من علماء الكلام كالمحاسبي والقشيري لكان حريًّا أن يجد هذه الشروط في سيرتهم الفلسفية، كما وجدها عند مالك بن نبي في الفصل الرابع.

وقد بحث الكتاب في هذا الفصل استحداث شروط أخلاقية لفعالية الأفكار وتحويلها من منطق صحتها إلى صلاحيتها بما أنها مبادئ سامية، وحدَّد عددًا من الشروط الأليق بهذه المهمة، ومنها: أن تكون نقطة الانطلاق في مشروع الذات هو الدين الحق الذي يمثله الإسلا ، ففي ظل هذه التحديات والمخاطر ألحَّ مالك بن نبي (صاحب منحنى التقدُّم) على أهمية الفكرة المقدسة كمرجعية في تفعيل الأفكار وإقرار حقيقة الوجود المعتدلة التي ضلَّ عنها فلاسفة الماضي والحاضر بأفكار القوة والصيرورة واللاوعي، فالمنظومة الأخلاقية الإسلامية تتكامل فيها قيم الوجدان والعقل كما تتكامل في حقوق الأنا والآخر، وتتبدى فيها صور الحقيقة والخير ناصعة لا غبش فيها، فالأجدر بنا إذن بعد الإيمان بصحة الفكرة الإسلامية وصلاحيتها للإبداع أن ننطلق منها لا أن نسلك الدروب التي سلكها الآخرون، ويدحض المؤلف هنا فكرة ارتباط الدين بالعنف كما يدَّعي بعض المفكرين، بل يرى أن نظام الدولة القومية اليوم بما ظهر من تجلياته من تقسيم العالم إلى قوى خير وقوى شر هو أبرز مرجعية مُنظِّمة للعنف، كما أن من هذه الشروط التي تنقل الفعل من الصحَّة إلى الصلاحية (تجديد الصلة بالله)، وهو مصطلح جديد لعلم جديد أيضًا لم يوضع اسمه بعدُ -وكنت أتمنى أن يشرع المؤلف في الشروع في تحديد دلالاته- لكنه يعني إيقاظ الفكرة الإيمانية الدافعة وتقوية الروح من جديد في مواجهة المُتع المادية، وستكون هذه المبررات شرطًا لإقرار قانون تغيير ما في النفوس، أما الشرط الثالث فالانهمام بالواجب الأخلاقي عوضًا عن التنادي بالحقوق إذا أردنا تجاوز العقبة والدخول بسلام في عالم التزكية، وأظهر ما تجد ذلك في العلاقة بين الفرد والحاكم والمجتمع والمؤسسات النظامية، ومتى تحرَّر الإنسان من المنفعة البغيضة وارتبط بمبدأ الإرادة والاخلاص استطاع أن يألف ويؤلف، وأن يوزع قلبه على قلوب الآخرين، أو كما قال عروة بن الورد:

أقَسِّمُ جسمي في جُسومٍ كثيرةٍ                 وأَحْسُو قَرَاحَ الماءِ، والماءُ بارد

وفي الفصل الخامس ناقش الكتاب التحول من إصلاح العقل إلى تجديد الوجدان، وفيه يحدد أن أزمة العقل الإسلامي اليوم هي في الفكر وليس غيره، وباستدعاء الشهود الحضاري للأمة الإسلامية في تالد تقدمها، يجد أن فعالية التفكير كانت سببًا رئيسًا في ذلك، وهذا يستلزم الوعي بأهمية صياغة مناهج التفكير والدراسات الإسلامية والوعي بحدود الحل الأجنبي لهذه المشكلات، مما يعني تحريره من ترسبات المنهج الوضعي وإعادة وصله من جديد بمصدره الحيِّ من الوحي إدراكًا واستشكالًا واستدلالًا، وإصلاح المؤسسة التعليمية التي تهيئ هذه الانطلاقة وتؤسس الأداء الحضاري الفعال، كما أن السمة الثانية من إصلاح هذا العقل هي بالتخلُّص من الوقوف بين تيارين متناقضين: أحدهما يريد العودة إلى التراث، والآخر يتزيَّا بالعقل الحداثي، فالتراثي يرى أن العلوم معارف ناجزة، محذرًا من المساس باجتهادات السالفين من العلماء، والحداثي يغفل عن ارتباط الأطروحات الفكرية الغربية بمرحلتها التاريخية، فيما يتبدى السبيل في الجمع بين التجريبي والعلوي أو الوصفي والمعياري والتكامل الذي يوائم به وجوده في هذا العالم، أو كما يقول المؤلف إن الحل هو توليد نظام عقلي محكم يحاكي نظام الخطاب والطبيعة والمجتمع.

إن الصحوة الدينية التي بزغت قبل عشرات السنين على ما تحمد عليه إلا أنها افتقرت إلى نظام منهجي محكم يتسلح بالعدة الاستدلالية والمنطقية، فلا تجد في بنائها تأطيرًا منهجيًّا في الحوار والمناظرة، ولا تنظيرًا علميًّا منتجًا يستفيد من النظريات اللسانية، ولا تبصّرًا فلسفيًّا مؤسسًا؛ لذلك حين انتقل المؤلف إلى الحديث عن سمات الإصلاح الوجداني جعل أولى المهام تنمية الإرادة وتفعيل التكامل بين المعرفي والوجداني، مما يستلزم إعادة بناء النفسية المسلمة واستعادة قدرتها وطاقتها الحضارية الإبداعية، فإصلاح الجانب الوجداني يجب أن يتزامن مع إصلاح الجانب المعرفي وتحرر المعرفة من الرؤية التجزيئية التي تبقي القيم في الهواء والسلوك نهبًا للرؤى المتناقضة، كما أن الوصول إلى الفعل الإصلاحي يتطلب الوعي الأخلاقي السامي الذي يحول القيم الكلية من وجودها المثالي إلى شبكة العلاقات الاجتماعية حتى تنتصر قيم الإحسان، كما أن السمة الأبرز في هذا الإصلاح الوجداني هي إحياء قلب الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي أصبح فكرة مجردة وليس حقيقة مشخصة بعد أن قضى على فطرته هذا الضخ الهائل من وسائل الاتصال الحديث التي أفرزت لديه علل التملُّك والأنانية والتجاوز والطغيان، ولا عودة للفطرة أو الحياة الثانية إلا بالتزكية التي تحرِّر نفسه من الموت الأول وتطلق حياته الروحية وتكون وفقًا للقيم الأخلاقية المأخوذة من الأسماء الحسنى استبصارًا ومن الأوامر الإلهية استدلالًا، كما تكون بالخروج من حالة الاختيان إلى حالة الائتمان المسيَّجة بخلق الحياء.

واستعرض الكتاب في الفصل السادس علاج أمراض الحضارة الاجتماعية، وفحص فيه عددًا من المشتركات الأخلاقية في المجال التداولي المعاصر، كالتسامح والتواصل والاعتراف، والترتيب هنا ذو معنى؛ لأنه يفسر التطور التاريخي لهذه المفاهيم، ويعكس سيرورة الحركة الاجتماعية الغربية التي يؤثر اللاحق فيها بالسابق، واكتشف أن التسامح غير قادر على علاج هذه الأدواء على الرغم من إطاره المفهومي الإيجابي؛ وذلك لأن انطلاقته نشأت مصحوبة بنزعة السيد على الأشياء كإحدى أدوات الإكراه والتحكُّم، كما استخدمتها بعض الأُمم القوية ضد خصومها في مرحلة لاحقة تريد أن تبسط سيطرتها عليها. ولذلك أصبح التعامل معه شبهة توحي بالتفوق على الآخر، وهذا يستدعي استبدال هذا النموذج بنموذج آخر أكثر كفاءة، بل هو البديل الملائم، وهو نموذج التواصل الذي أنتجته العديد من المعارف والعلوم، بل قررت صلاحيته، لاسيما "التفاهم اللغوي"، وان كان تعتوره بعض الإشكالات مثل انبتاته عن الجانب الروحي ومثاليته المفرطة التي تغيب عن الواقع، إلا أنه يتميز بأن المشاركين فيه يقيمون الصلة مع شيء في العالم الموضوعي والعالم الاجتماعي من أجل تفريعات مشتركة للحياة السائدة، ويصبح فيه للأخلاق مكانة رفيعة ومركزية. أما المفهوم الثاني الذي أنتجته المدرسة النقدية في فرانكفورت فهو نموذج "الاعتراف"، وهو نموذج تنطلق فلسفته من الحب والقانون والتضامن، وهو يفسر التدافعات الاجتماعية، وبوصفه أرضية لرسم نطاق مركزي أخلاقي يحفظ القداسة الإنسانية ويمنع من التعرض لكرامتها وحريتها، بل العناية بها وتشجيعها، لكن إشكالية هذا النموذج أنه محكوم في الأصل بنقيضه، وهو الرأسمالية الجديدة والتصدي لها، أي إن هذا النموذج يتماسّ مع النقد الاشتراكي، إضافة إلى أن خصوصيته المعرفية ببيئته التي نشأ فيها تباين النظريات الأخرى في نقد الرأسمالية كما عند أمارتيا صن الذي يرى العلاج في دمج الاقتصاد بالأخلاق، أو باولو فريري من تضمين التربية بقيمتي اللايقين والأمل، كما أن من إشكالياتها التي أثارها المؤلف حصرها للمعنى في تلبية الدوافع الحيوية فحسب، والنجاح عندها هو الحياة، لكنها لا ترتفع إلى المستوى الأنطولوجي، أي اعتراف الذات الإنسانية بالوجود الإلهي والوفاء بميثاق الشهادة والتوحيد؛ لأن هذا هو النواة التي تؤسس لهذ الاعتراف، ولهذا اعتبرت هذه الفلسفة صدًى لنظام ما بعد الأخلاق، فهي أقرب إلى أخلاق المتعة والحقوق الفردية منها إلى أخلاق الواجب. ويأتي المفهوم الرابع وهو التعارف بنماذجه الثلاثة السابقة، لكنه يتأسس على المعاني الإيمانية وليس المظاهر التلفيقية، فهو بناء على الشعور الديني المنسي والمشترك في ذات الإنسان المحجوب بالمطالب الحيوية والمُتع الحسية، إنه الانتساب الايماني الذي يورّث موضوعية القيم واستقلالها عن النظر الإنساني، بل هو الاعتراف بأنه الله تعالى هو مركز الطاعة فهو يستمد معناه من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فهذه الآية القرآنية تصرف الإنسان عن الاستناد إلى أفكار الجماعات الثقافية أو الأُطر القَبَلية الضيقة، كما أن هذا التعارف بقوته الروحية يقوي -إلى جانب ذلك- حركة العمران، خاصةً مع التوجه العالمي نحو ما يُسمَّى بالهوية الكوكبية أو المصائر المشتركة، فيسود بذلك التعارف بين المجتمعات في العلوم والتقنيات، وتتكشف الحجب النفسية والثقافية بينها، وتتآنس في ألوانها وألسنتها، وتتخابر في تطوير مؤسساتها الإدارية والاقتصادية والسياسية، فمنظور التعارف إذن هو بذل المهجة في إتيان الأمر الشرعي، تقوى الله سبحانه وتعالى.

كما أن من الوسائل المهمة تربية المجتمعات، فإن الشبكة الاجتماعية والعمل المشترك في جماعة ممتثلة لأدوارها فإنها تحظى بالاعتبار والتقدير، وما حصول الاضطراب بين فئات المجتمع الذي أبصر فيه الفكر الماركسي صراعًا بين الطبقات إلا فتور في تشرّب المبدأ الأخلاقي نفسيًّا واجتماعيًّا

وانتقد المؤلف في الفصل السابع حال الإنسان المعاصر الذي يرى أن تملُّك الأشياء والاستمتاع بها هي القيم النهائية التي ترسم له السعادة، بل غرق واستغرق هذا الإنسان في النزعة الجمالية، وقد جاءت كردة فعل مع تزايد اللايقين وفقدان المعنى، مما جعله يدفع نفسه دفعًا حميمًا نحو اللذة حتى أصبحت المتعية والنرجسية هما القيمتين النهائيتين في ثقافة ما بعد الأخلاق، وانحصر الهمُّ في وسائل تحصيلها، ساعدها في ذلك الثورة العارمة في وسائل الاتصال والتواصل (كل فطير.. وطير)، فالفطير لا يستدعي بقاء العجين ليختمر، والطيران لا يراعي انتظارًا وشكرًا وحمدًا للآدب المتفضل، ولأن الغرب لم يستطع أن يجد علاجًا لهذه الأدواء فإن ذلك يستدعي القيام بجهد علمي منهجي يبتغي إصلاح الإنسان وتذكيره بهويته الأخلاقية المنسية في ظل ثقافة منفصلة عن التعالي ومغموسة إلى أذنيها في معنى الجمال المائل، ومن أولى الوسائل في ذلك هو الذكاء الأخلاقي الذي يصوغ معادلة بين حاجات الطاقة الروحية ومطالب القيم الروحية، فرفع المقابلة التنافرية المزعومة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي يبدع مكانًا لها ويسمح لها في الوجود بالفعالية بين القيمة والواقع وعالم المعنى وعالم الوجود، كما أن من الوسائل المهمة تربية المجتمعات، فإن الشبكة الاجتماعية والعمل المشترك في جماعة ممتثلة لأدوارها فإنها تحظى بالاعتبار والتقدير، وما حصول الاضطراب بين فئات المجتمع الذي أبصر فيه الفكر الماركسي صراعًا بين الطبقات إلا فتور في تشرّب المبدأ الأخلاقي نفسيًّا واجتماعيًّا، وعندما يحدث انفلات للطاقة الحيوية من قانون الالتزام الأخلاقي تطفو على السطح أمراض الظلم والنرجسية والمتعية والفضاء الخصوصي.

وأخيرًا، خرج الكتاب بتوصيات عميقة تستكمل ما بدأه المؤلف من جهود في هذا المضمار، وتستأنف تشغيل أدوات نافعة من أجل تربية فكرية راشدة.

 

الهامش

[1] أشكر جزيلًا الأستاذة هاجر فرزلي، التي تولَّت تفريغ الكلمة، ثم قمتُ بمراجعتها.

 

الكلمات الدلالية