حقوق المعارض السياسي

حقوق المعارض السياسي - الدين ونظام الحكم

التمهید

يتمتّع المعارض السیاسي بستّة حقوق أساسیّة في الفقه الإسلامي، هي: حقّ مراقبة الحکومة، وحقّ حرّیة التعبیر عن الرأي، وحقّ التنظیم السیاسي، وحقّ الوصول إلی السلطة، وحقّ تغییر الحکّام، وحقّ تغییر النظام والهیاکل السیاسية. وسوف ندرس في هذا المقال تلك الحقوق من منظور الفقه الشیعي وحده.

لقد خُلِقَ الإنسان وجُبل على أن يكون حرًّا، فأصل الاختیار والحرّیة[1] تکوین[2] حقیقيّ ووجدانيّ شهوديّ. إن الإنسان یمکنه التحدید والاختيار بناءً على ما حدّده، وفي هذه الحالة، إمّا أن یقبل تلك الأفکار أو الأنظمة أو القوانین أو الساسة أو الأسالیب السیاسیة القائمة وهو على وعيٍ بها مصدق لها، وإمّا أن يأباها ولا یقبلها لشعوره بالظلم أو التخلّف أو الاستبداد أو التضييق أو الفساد أو الفقر أو غیر ذلك. إن الاختلاف والتفاوت في الفهم والإدراك أمرٌ طبیعيّ؛ إذ يتفاوت الناس في إدراکهم للأشياء وفي فهمهم للألفاظ، ولكل ذي معنی؛ وذلك لتفاوت المدارك والأفهام، سواء من جهة الرغائب والنيات والبنية النفسية للأفراد، أو من جهة درايتهم العلمیة وإحاطتهم بما یتعلّق بالموضوع، أو من جهة الآراء والتحلیلات، فکلٌّ ینظر إلى الموضوع من جهةٍ مختلفة وزاویة مباينة[3]؛ لذا تختلف رؤية كل فرد عن غیره ممّن له رؤية مغایرة، والمهمّ هو کیفیة إدارة الاختلاف؟ وهل یکون ذلك بالوسائل السلمیة کالحوار والوساطة والتحکیم أو يكون بالعنف والشدّة والحرب؟

إن الاختلاف موجود في المجتمع الواحد؛ بل بین أتباع الدین والمذهب الواحد، وبین أتباع الدیانات والمدارس المختلفة، وفي الفضاء السیاسي وغیر السیاسي، فهو طبيعي مألوف، والسؤال الأساسي هو: لو أنّ امرأ أو جماعةً توصّلت إلی تحديد وتحلیل مخالف للشائع والسائد، فهل له أو لهم الحقّ من الوجهة الدینية [المقصود هنا الدین الإسلامي] في عدم قبول الرأي الآخر والمعارضة والمطالبة بخلافه؟ أم لیس له أو لهم الحقّ في ذلك وعليهم الخضوع لحکم الأغلبیة القائمة؟ إذا کان الجواب بنعم، فما أساس هذا الحقّ؟ وما حدّه وحدوده؟

إن الجواب عن ذلك السؤال یعتمد علی الأسس والأصول التي نختارها لشرعیة الحکومة والسلطة. [وبحسب الفقهاء،] یوجد أساسان وأصلان لتسويغ شرعیة الحکم الدیني: أصل النصب [أو نظریة التنصیب والتعیین]، وأصل الانتخاب [أو نظریة  الانتخاب][4].

یمکن للحاکم المنصوب أن یتصرّف في هذه الأرض کیفما یشاء، بل یمکنه [حسب ادعاء أحد الفقهاء] تعطیل [بعض حدود الله] -ومنها التوحید- تعطيلًا مؤقّتًا كذلك

[أ- نظریة التنصیب والتعیین]

يقول المؤمنون بالأصل الأوّل، أصل "التنصیب والتعیین": إنّ الله قد عیّن للمسلمین في زمن الغیبة [أي غیبة الإمام المهدي عند الشیعة] أولياء، وقادة سیاسیين، وهم الفقهاء العدول المقتدرون الذین یتولّون أمور السیاسة كلها، وعلی الشعب طاعتهم والانقیاد لهم ولا یحقّ لهم مخالفتهم، وإن بدت سياساتهم ظالمة وأساليبهم غیر سلیمة. ویضیف هؤلاء أن الشخص المنصوب من قِبل الله [عن طريق الإمام الغائب] له الولایة المطلقة علی أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم؛ لأن له قدرات وصلاحیات خاصّة،  كما أن له القدرة على تحديد ما إذا كان شخص أو جماعة معارضة على طریق الهدایة أم على طریق الضلال، فإن کانت الجماعة من أهل الهدایة ستتوقّف عن معارضة الحکومة، وإن لم تكن منهم وجب إبعادها من الساحة السیاسیة حتّی لا تزاحم المؤمنین. إن الولي [ولي الأمر] منصوب من قِبل الله، وهو عین الله، ولسانه، ویده، وما یفعله كائن بمشیئة الله وفعله، لذا لا تجوز مخالفته.

تلك هي رؤية أصحاب نظریة التنصیب والتعیین في أبعد مراميها. ویُلاحظ أنهم يستشهدون أحیانًا بروایة: «الأرض کلُّها لنا»[5]، یقولون إنّ المنصوب للولایة هو خلیفة الإمام [المعصوم]، لذا فإنّ الأرض کلّها له. واللام في هذا الحدیث هي لام الملك؛ لذا یمکن للحاکم المنصوب أن یتصرّف في هذه الأرض کیفما یشاء، بل یمکنه [حسب ادعاء أحد الفقهاء] تعطیل [بعض حدود الله] -ومنها التوحید- تعطيلًا مؤقّتًا كذلك[6]. ومن أدلّة هذا الرأي الرئیسة حدیث مقبولة عمر بن حنظلة وحدیث مشهورة أبي خدیجة، ولکن ثبت أنّ هذه النظریة قابلة للقدح فيها إثباتًا وتصوّرًا، فلا تبلغ إثبات ذلك بالأدلّة اللفظیة[7]. والأدلّة اللفظیة ذات الصلة، مع التغاضي عن ضعف أسانیدها، فإنّها لا تفيد أکثر من صلاحية الفقهاء المستوفين للشروط الأخری في التصدّي لإدارة المجتمع الإسلامي.

[ب- نظریة الانتخاب]

تنصّ نظریة الانتخاب علی أنّ إرادة الإنسان المسلم واختیاره لم يحددا أو يقيدا تقييدًا واضحًا في المجال السیاسي، [إذن فهو إنسان حُرّ ذو اختیار]، وثمة أدلّة نقلیة کثیرة تدلّ علی ذلك[8]، هذا بالإضافة إلى الأصل القائل بأن الإنسان مسلّط علی نفسه، وهذه السلطة محترمة في رأي الدین[9]. إذن الإنسان في الأصل حرٌّ في ممارسة سُلطاته، وإن ممارسة السلطة والاختیار في المجال السیاسي یجب أن تصبّ عقلًا في صالحه. ولقد أيّدت النصوص الدینية هذه الحریة تأييدًا عامًّا وجزئيًّا في بعض الأحيان، وارتضاها العقل كذلك. وفي هذه النظریة لم يُحدد شکل خاصّ لنظام الحکومة في الشریعة، لذا فالناس أحرارٌ من منظور العقل والنقل في اختیار الولاة والمتصدّین لأمورهم [السیاسیة]، وهذا هو أساس نظریة الانتخاب.

وَفقًا لهذه النظریة، فإن الإنسان مسلّطٌ علی نفسه، ولا یمکن التحکّم فیه دون رضاه، بل إن الله خالق البشر لا یفرض على البشر حاکمًا (إمامًا أو خلیفة)[10] بغير رضاهم وإرادتهم، ولو کان هذا الحاکم رسولًا أو نبیًّا. ویشهد التاریخ بأن الأنبیاء الذين کانت لهم حکومة ما قد حکموا برضا الناس وإرادتهم. إن الناس أحرار في مبایعة أيّ إنسان مستوفٍ للشروط والکفاءة اللازمة لإدارة المجتمع، ومن هذه الشروط المعرفة بالدین والاتّصاف بالأخلاق الحمیدة والسلوك الدینيّ المرضيّ. وقد يكون الانتخاب مباشرًا أو غیر مباشر، یدلي الناس بأصواتهم ویُنتخب إنسانٌ واحدٌ حاکمًا أو يَعقد عدّة أشخاصٍ مجلسًا حکومیًّا، ولهذا المجلس الحکومي ما يسوغه عقلًا؛ إذ من الممکن أن تذهب ثلث الأصوات إلى إنسان ما، ويذهب ثلثها الثاني إلى إنسان آخر وثلثها الثالث إلى شخص ثالث. ولدرء الصراع والاختلاف فإنّهم یستطیعون أن یشکّلوا مجلسًا إداریًّا فينشأ کیان قانوني موحّد، وتكون القرارات الصادرة صادرةً عن       ذلك الكيان الموحد لا عن شخص واحد. وما روي عن الإمام عليّ عليه السلام في قوله: «الشرکةُ في الملك تُؤدّي إلی الاضطراب»[11]، لا یتنافی مع نظام الحکومة الجماعیة؛ لأنّ هذا الاضطراب یحصل بسبب تفرّق الآراء، أما إذا اتّفق جمیع أعضاء المجلس الحکومي للتوصّل إلی قرارٍ موحّدٍ، فلن یکون ثمة اضطراب في الملك.

بعد تشکیل الحکومة على هذا النحو تُقرّ حقوق المعارضة؛ وذلك أنّ الحکومة المنتخبة إمّا أن تتصرّف وفقًا للوعود التي قطعتها والأقوال التي قدّمتها وتعمل حسب القانون والاتفاق، وإمّا أن تلجأ إلی الغدر والتنصّل من الوفاء بالعهود وإلى الظلم والفساد واحتکار السلطة وقمع المعارضة. إن التعالیم الواردة في النصوص والآثار وما يقتضيه العقل كل ذلك يمنح الإنسان الحقّ والإذن في مخالفة ما يراه خلاف الحقّ[12]، کما قال القرآن الكريم: {وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء: 151].

عندما یصوّت الإنسان لشخصٍ ویمنحه السلطة، فإنّه یمنحه السلطة لتحدید حریته الشخصیة؛ فهو یقید نفسه في تحدید الأمور ویمنح هذا الحقّ للحاکم. لکن لو کان بإمکان الناس إدارة شؤونهم مع حفظ حرّیاتهم الطبیعیة واستقلالهم، لَما احتاجوا إلی حکومة، وإن الحاجة إلی الحکومة لتشتدّ حین یتعذّر علی الناس القیام ببعض المهام دون اختلاف، من ذلك علی سبیل المثال أنه لا یمکن للجمیع أن يتفاوضوا مع طرف أجنبيّ في قضیةٍ ما، وإن الضرورة لتحتّم هنا انتخاب شخصٍ واحدٍ أو مجموعة واحدة تمثّلهم ويمنحونهما صلاحیة التفاوض.

في هذا النهج، يُعَد مبدأ وجود الحکومة حاجةً عرضیةً تنشأ من الضرورة الاجتماعیة، وفي سیاق غياب الحكمة عن الناس حين لا یتصرّفون في بعض المجالات بمقتضی العقل والحکمة، ویندفعون إلى الظلم والعدوان والجشع والفساد، هنا تُقيّد حرية الإنسان ويُحدّ اختياره بما تقدره الضرورة [بمنح الآخرین السلطة]، وهذا ما يثمر تنظیم الشؤون العامّة. أما إذا لم تكن ثمة حاجة لهذا التقييد فلا داعي له.

وعلی هذا الأساس، فإن الإنسان العاقل لا يمنح کلّ سلطاته لشخصٍ واحدٍ، فإذا ما انحرف ذلك الشخص لا یمکنه دفع انحرافه، فالمرشّح للحکومة إنسانٌ عاديٌّ اکتسب مؤهّلات یفترض أنّها تشمل المعرفة بالدین والفقه [القانون]، لذا فإنّ فصل سلطات الحکومة [السلطات الثلاث] أمرٌ عقلانيٌّ حتّی في حال کون الفقیه هو الحاکم والوليّ. والفقیه بالمعنی الاصطلاحي قد یکون مفتیًا قدیرًا، ولکن ربما لا یکون حاکمًا صالحًا بالضرورة؛ بمعنی أنّه لا تلازم بین الفقیه المتمکّن في فقهه والحاکم الصالح للحکم. ففي الوقت الذي یصوّت فیه الناس لتأمین حاجتهم في انتخاب الحکومة [السلطة التنفیذیة]، يمكنهم أن يطالبوا بفصل السلطات [الثلاث]، في هذه الحالة فإنّهم لا يمنحون کلّ حقوقهم وسلطاتهم شخصًا واحدًا، سواء بالرأي أو البیعة. وعلی فرض أنّ بعض الأعمال تكون إما تنفیذیة وإما تشریعیة وإما قضائیة، فإنه یمکنهم أن يشكّلوا قوّة تتناسب مع الشروط والمتطلّبات، وإن تفویض السلطة من قِبل الشعب لرؤساء هذه القوی الثلاث سیکون بالقدر الذي یتطلّبه المجال العامّ [ولیست سلطة مطلقة]، فمن المعقول أن یحتفظ الناس ببعض سلطاتهم لأنفسهم، وذلك بمقتضى حقّ الإشراف والمراقبة وحقوق أخری سنذکرها.

وعلی هذا، فإنّه بعد البیعة [والتصویت حسب التعبیر المعاصر] إذا لاحظ شخصٌ أو جماعةٌ أنّ من بایعوه ینحرف ویتصرّف تصرفًا يضرّ بمصلحته أو بمصالح الآخرین، فإنّ بإمکانه المعارضة؛ لأنّه ما انتخب إلا تلبیة للضرورة في حال أنّه غیر معصومٍ من الخطأ، وعلیه یمکن مخالفته في حالات الیقین بحصول الخطأ. وهذا الأصل هو مصدر كثير من حقوق المعارضة السیاسیة، التي سنوضّحها فيما يلي.

[حقوق المعارضة السیاسیة]

حقوق المعارضة السياسية

1- الحقّ في مراقبة عمل السیاسیّین

إن للناس عامّة -بمقتضى النصوص الإسلامية- الحقّ والحرّیة في مراقبة أداء رجال السیاسة والإدارة الحکومیة الذین ارتقوا إلی السلطة بالانتخابات، وذلك من أجل الحفاظ علی سلامتهم وعدم إساءة استخدام السلطة أو الانجراف إلى الفساد والخیانة.

إن کلّ الآیات التي تشير إلی الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر تثبت هذا الحقّ وهذه الحرّیة (أي مراقبة سلوك المديرين ورجال السیاسة)، بل إنها تعدُّ ذلك تکلیفًا شرعیًّا واجبًا، كما في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. ولکنّ هذه المراقبة منوطةٌ بالفهم ومترتّبة علی معرفةٍ دقیقةٍ بأفعال المسؤولین، وهو الأمر الذي یتطلّب الشفافیة. ویمکن أن تكون المراقبة من خلال منظّمات شعبیة ومؤسّسات مدنیة وسیاسیة، کالصحافة والأحزاب وممثّلي الشعب في البرلمان والمنظمات الرقابیة الخاصّة.

2- الحقّ في التعبیر السیاسي

من جملة حقوق المعارض حقّ التعبیر عن الرأي، الذي تعضده أدلّة کثیرة [في المصادر الدینیة]، وهي على النحو الآتي:

1- لا دلیل یثبت أنّ کلّ ما یقوله أو یفعله الساسة حقٌّ لا مرية فيه، وعليه فإنه یحقّ للمعارض السیاسي أن یقول ما یراه صوابًا وإن خالف أقوالهم وأفعالهم.

2- قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17-18]؛ فلا بدّ من حرّیة الکلام والتعبیر عمّا في الضمیر لكي یکون الاستماع والانتخاب ممکنًا، وبخاصة في المجال السیاسي، وفي معارضة النشاط والقوانین والسیاسات والقرارات والأسالیب التنفیذیة للحکومة. إن القیود التي یفرضها الشرع والعقل علی حرّیة الناس في المراقبة يفرضها حين تكون أفعالهم الرقابیة مضرّة وجالبة للفساد ومضلّلة ومخادعة وخائنة.

3- وقال الله تعالى: {الرَّحْمنُ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-3]؛ لقد خُلِقَ الإنسان ليفصح عمّا بداخله ويظهر ما یعتلج بصدره إلی عالم الشهود، حتّی یفهمه الآخرون ویصلوا إلی المراد، وإذا لم یکن التعبیر مباحًا ما أمكن التواصل، ولتعطّل الفهم والإفهام بين الناس، فلا تظهر الحقیقة ولا تتمیّز عن الباطل. وفي غیاب حرّیة التعبیر عن الرأي لا یستطیع الأنبیاء مخاطبة الناس، ولا یتمکّن الدُّعاة من إرشادهم. إن حقّ الحرّیة في التعبیر عن الرأي هو أساس الحوار، وبالحوار المباشر تزول كثير من العُقد الفکریة والعقائدیة، وتقلّ المواجهات والصراعات بین الناس حتى تنعدم.

4-  مما تفيده بعض آيات القرآن في هذا الحقّ ما نقلته من كلام جماعة هدّدت قائلة[13]: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وکانوا یقصدون النبيّ صلى الله عليه وسلم، وظنّ بعض الناس أنّ النبيّ بعد سماعه ذلك سیأمر بقتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، فأتی ابن عبد الله إلی النبيّ وقال: یا رسول الله، بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال له النبي: «بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا»[14]، فکان ذلك.

5- تُفهم حرّیة النقد السیاسي من آية أخرى هي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. بل یُستفاد من آیة ثانية أنّ المخالف إذا سلك طریقًا غیر طریق المؤمنین فلا يجابه بالقسر والقهر: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. کما قال في موضع آخر: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]؛ أي لا يحقّ لك أن تجبر المخالفین علی الإیمان بك وبعقیدتك وسلوكك.

وجليّ أنّ هذه الحقوق لا یمکن سلبها، إن الطغاة وحدهم ومن یتصوّرون أنّ لهم الحقّ في ذلك قد یقومون بمنعها، کما قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].

وبهذا یحقّ لأيّ امرئ أن یعبّر عن رأیه وفکره المخالف، في مختلف القضایا السیاسیة، بأي وسيلة تتيحها الإمکانات المعاصرة، ولا یحقّ للحکومة إسکات المعارض وحرمانه من الحقوق الاجتماعیة وقمعه واعتقاله.

یمکن حلّ ما يقع من خلافات في هذه الأمور بالحوار أو بتوسّط طرف آخر، ولکن إذا أبى الطرفان أو أحدهما الحوار ورفض المصالحة وارتکب جریمة، فتنظر القضية في محکمة صالحة مرضیّة عند الطرفین، کما قال تعالی: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].

ولأنّ الإنسان المتعالي يفقد صلاحيته بذلك، فإنّه یستخدم أسالیب فاسدة للوصول إلی السلطة، ولا شك أنّه يفسد المجتمع عند تصدّره للحکم.

3- الحقّ في تأسیس الکیانات السیاسية

ولأنّ الإنسان المتعالي يفقد صلاحيته بذلك، فإنّه یستخدم أسالیب فاسدة للوصول إلی السلطة، ولا شك أنّه يفسد المجتمع عند تصدّره للحکم.

ومن حقوق المخالف حقّ تأسيس التنظیمات السیاسية. والمعارض لا يكون واحدًا، فهناك آخرون يعارضون، وهؤلاء یمکنهم الاجتماع والانتظام في حزب أو أيّ کیان آخر؛ لمناقشة الخلافات فیما بینهم وإیجاد وسيلة لتصحیح الأمور.

ویمکن الاستدلال علی جواز إنشاء التنظیمات السیاسیة من النصوص والآثار، مثل قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. فإن للناس الحقّ في المشورة والتشاور فیما بینهم ويمكنهم الاجتماع لتبادل الآراء ومناقشة أمورهم العامّة وعلی رأسها الأمور السیاسیة وسُبل إصلاحها.

إن إنشاء الأحزاب طریقة سلمیة تصبّ في خدمة أصوات الشعب وکسبها، وهذا غیر صفة العلوّ المذمومة في الآیة الكريمة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا} [القصص: 83]. ولأنّ الإنسان المتعالي يفقد صلاحيته بذلك، فإنّه یستخدم أسالیب فاسدة للوصول إلی السلطة، ولا شك أنّه يفسد المجتمع عند تصدّره للحکم.

من الواضح أنّ التصدّي للعمل الاجتماعي وظیفة ومسؤولیة فردیة، والتصدّي لأيّ وظیفة متاحٌ لکلّ من تأهل لشغلها، وعلیه فإنّ جمیع الناس أحرارٌ، ولهم أن يُحصِّلوا ما يمكنهم من التأهل للمناصب العامّة، ولا یقتصر هذا الطریق علی فئة دون فئة أو طبقة دون طبقة. وإن أهمّ غايات التنظیمات السیاسیّة هي المشارکة في الهیکل السیاسي لإدارة البلاد.

إن القرآن يعدُّ هذه الساحة منحدرًا زلقًا للأفراد ومزلّة للأقدام، ولا يقدر على سلوك هذه الطریق إلا من هيّأ نفسه لها علمیًّا وأخلاقیًّا وعمليًّا واجتاز الاختبار اللازم، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35].

4- الحقّ في الوصول إلى السلطة

إن لکلّ إنسان الحقّ في تقریر مصیره السیاسي والمشارکة فيه، وعدم السماح بجرّه إلى ما لا یریده، لذا قال الله تعالی: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. إن أهمّ شيءٍ في أي مجتمع هو حکومته التي ینبغي أن تتأسّس كما أشار القرآن علی الشوری، وتبادل الرأي، واستفتاء الشعب.

واستنادًا لحرّیة التعبیر عن الرأي فإن للإنسان الحقّ في دعوة الآخرین إلى ما یراه صلاحًا وخیرًا، وإلى أن یدلوا بأصواتهم ليفوز بالانتخابات ويصل إلی السلطة، فیکون مؤثّرًا في هذا الجانب.

إن الملاحظ في المجتمعات الاستبدادیة هو منع التعبیر عن الحقائق، تلك الحقائق التي إذا اطّلع علیها الناس ستُطوی صفحة أصحاب المال والقوّة والخداع الإعلامي. ولقد نصّ الإسلام علی هذه الحرّیة خصوصًا، وأوجب إذاعة الحقائق التي یسعی أصحاب السلطة والقوّة والخداع الإعلامي إلی إخفائها على مرأی ومسمع من الناس. إن العقل والشرع لا یدعوان إلى أن تستعبد فئة قليلة المجتمع كله، وتتلاعب بمصیره کیف شاءت، سواء جرى ذلك في إطار الحدود المتعارف عليها أم في خارجها، بل لا يجيزان ذلك.

ومن أهداف الجهاد بالمعنی العام إنقاذ الإنسان من العبودیة، وقد حدّد الإمام محمّد الباقر (ت: 114ق) في رسالةٍ له لبعض خلفاء بني أُمیّة الغرض من الجهاد، فقال: «...وأوّلُ ذلك الدعاءُ إلی طاعة الله عزّ وجلّ مِن طاعة العباد، وإلی عبادة الله من عبادة العباد، وإلی ولایة الله من ولایة العباد... ولیس الدعاء من طاعة عبدٍ إلی طاعة عبدٍ مثله»[15].

ومما يختصُّ بالأهمية في هذا المجال الدقّة والوضوح والخبرة، فإذا کان النشاط السیاسي والتحرّر لا يستقيم على المنهج والأصول والعلم برجال من أهل التقوی والصلاح، فقد يستعبد الفاسدون الناس باسم الدین والعدالة والحرّیة. لذا فالناس أحرارٌ في تحصيل المهارات اللازمة في طریق السعي إلى نیل السلطة السیاسیة والإفادة من الوسائل المتاحة لذلك کالأحزاب وغیرها [من الکیانات المجتمعیة].

5- الحقّ في تغییر النظام والحاکم السیاسي

إذا تعهد النظام السیاسي بتحقيق العدالة والنموّ الاقتصادي وتأمین رفاهیة الشعب، فعمل على تأمین الحاجات والرفاهیة وإتاحة الحرّیات والحقوق على نحو عادل، فإنه یحظی بتأیید الشعب، وفي هذه الحالة إذا سعت المعارضة إلى إنشاء أحزاب ولو بالطرق السلمیة رغبةً منها في القضاء علی هذا النظام البنّاء المفید، فإن الشعب يتصدى لها. ولکن إذا لم تستطع الحکومة -في نظر المعارضة- تلبیة حاجات الشعب لأيّ سببٍ من الأسباب، فإنّه یحقّ لها تقويمها أو تغییرها کلّیًّا.

وإذا فشل الحاکم -في رأي المعارضة- في تلبیة احتیاجات الشعب بسبب الإهمال أو الخطأ وحاد عن الجادة في تحقیق الأهداف، فإنّه یحقّ للمعارضة أن تتّخذ الخطوات الآتية:

الأولی: مساءلة الحاكم أو استجوابه، ومطالبته بشرح سبب قیامه بهذا العمل أو اتّخاذه لذلك القرار، فإذا لم یکن جوابه منطقیًّا ومقنعًا، وفشل في إقناع المعارضة، تلك المعارضة التي تستند إلى حقّها في حرّیة التعبیر عن الرأي وتحظى بثقة شریحة من المجتمع أو بثقة غالبیته، هنا يكون لها الحقّ في اتّخاذ إجراءات أخری.

الثانية: مطالبة الحاكم أو الهیئة الحاکمة بالتنحّي، ویمکن أن تنتهي هذه العملیة سلمیًّا بتنحي الحاکم أو أيّ مسؤولٍ جرت محاسبته.

الثالثة: إن لم یفعل، یحقّ للمعارضة أن تزيد في معارضتها سلميًّا بالاجتماع وإلقاء الخطب والتظاهر؛ لتوضیح أنّ کلام المتصدّي للحكم أو الهیئة الحاکمة وسلوكهما یسبّب لهم الأذی.

الرابعة: إذا لم تلقَ الاحتجاجات استجابة فعالة واتّسعت رقعتها، فإن للمعارضة الحقّ في مواصلة معارضتها السلمیة بوتیرةٍ أشدّ، حتّی يزاح الحاکم أو الهیئة الحاکمة من السلطة.

6- الحقّ في تغییر الهیکل السیاسي للسلطة

إذا كان الفساد والانحراف والظلم والقمع الذي تمارسه الحکومة ناتجًا عن بنیة فاسدة وغیر فعّالة، فإنّ جمیع الحقوق التي ذُكرت آنفًا تکون حقًّا واجبًا لمعارضيها. یتکوّن الهیکل السیاسي لأي للأييي نظام من مكونات عدّة، مثل: الثقافة (وتشمل التعالیم والخلفیات التاریخیة والقومیة وکذلك القوانین والأهداف)، ومنظومة العلاقات والمؤسّسات، وأسالیب الحراك السیاسي، وهذه الأمور یمکن أن توصف بأنّها سیئة أو جیّدة، متقدّمة أو متأخّرة، [وللشعب الحق في المطالبة بالتغییر]، وفي هذا الشأن یقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

إن کلّ أُمّة أو شعب في أيّ حقبة من حقب الزمان، يكون لها وضع سیاسي واجتماعي واقتصادي ما، ولو لم یکن هذا الوضع مرضیًّا وَفق القیم الإلهية ولم یقبله العقل العام لوجب تغییره. وتعتمد التغییرات الخارجیة، مثل تغییر الهیکل السیاسي للمجتمع، علی التغییرات الداخلیة لأفراد المجتمع، فلن تحدث تغییرات خارجیة واجتماعیة إیجابیة ما لم تکن هناك تغییرات إیجابیة لدى أفراد المجتمع.

عندما تعجز أقلّیة المعارضة أو غالبیة الشعب عن تغییر المؤسّسة السیاسیة علنًا وسلميًّا عن طريق البیعة والانتخابات أو عجزوا عن تغییر نظامٍ وقانونٍ رأوا أنّه ضارّ بهم، فقد یلجؤون إلی وسائل أخری كالنضال السلبي أو غير ذلك مما يجرّ النظام السیاسي إلی هاویة الانهیار والسقوط.

[حقوق المعارض السیاسي في نظام البیعة]

لقد عُرضت حقوق المعارض السیاسي الذي لم يبايع بإيجاز، ولکن كيف يكون الأمر إذا بايع الناس شخصًا وأسّسوا نظامًا وهم الأغلبية، إذ إن الإجماع مستبعدٌ ونادرٌ، ثمّ بلغ بهم الأمر إلی العصیان وعدم الطاعة؟

ثمة افتراضان: في التعاهد والتعاقد بین طرفین، یمکن القول إنّه إذا قبل شخصٌ بالتزامات ما في مقابل وعودٍ تلقاها، فعند تحقّق الوعود یجب علیه الوفاء بالتزاماته، وإن لم یفِ بها أُجبر على الوفاء بها. ولکن في حالة عدم وفاء الطرف الآخر بوعده، فإنّه یحقّ لمن صوت له ألّا يفي بوعده؛ لأنه لم يحقّق له مراده، وإکراهه لیس له مسوغ دیني أو عقلي.

لقد رُوي عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حقّ أناس بایعوه ثم نكثوا عهودهم ونبذوا طاعته، أنه قال: «لیس لي أن أحمِلَکُم علی ما تکرهون»[16]، فما المقصود بهذا الکلام؟ هل المقصود أنّه في حال رفضكم تأييدنا لتحقیق الأهداف المرجوّة، ليس لنا أن نرغمكم علی التسلیم أو نجبركم على الطاعة؟ أم المقصود أن الإمام غير قادر على الإلزام والإكراه؟ إن الجواب الأخیر بعیدٌ جدًّا؛ لأنّ معاویة تمکّن من جمع الناس بالمخادعة، والإغراء والتهدید، إذن المقصود هو أنّه لیس لي الحقّ، لکن لِمَ؟ لأنّهم لم یحقّقوا أهدافهم، فإن من بایعوه أرادوا التخلّص من الظلم والخلاف والصراع علی السلطة بین أهل القبلة الواحدة، ومن ثمّ تحقیق الرخاء والراحة، ولمّا لم يبلغوا حاجتهم، وقد أنهكتهم الحروب والصراعات، وفَقَدوا رفاهیتهم وراحتهم، جهروا بالعصيان وعدم الطاعة، وكلام الإمام المذكور آنفًا يؤيد ذلك إلى حدٍّ ما. لذا فإنه من الواجب علی الحکومة أن تحصل علی تأييد الشعب ورضاه في کلّ قرارٍ تتّخذه، وبخاصة القرارات التي يكون لها تأثیرٌ أساسيٌّ في حیاتهم وممتلكاتهم.

إنّ مصلحة المجتمع یجب أن تكون صدًى لتفاعل الأفکار والثقافات مهما بدت متناقضة ومتخالفة، وقد خاطب الله تعالى نبيَّه قائلًا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}

تجدر الإشارة إلی أنّ رأي الأغلبية -بما هي أغلبية من الناحیة المعرفیة- لیس کاشفًا عن الحقّ والحقیقة، فربّما تصل الأغلبية إلى رأي في الوقت الذي يتوصّل فيه شخصٌ إلى رأي مغایر، فلا يجد ما يدعوه إلى تخطئة نفسه وتجاهل ما توصّل إلیه بعلمه لیقول إنّني مخطئٌ لأنّ الأغلبية ترى خلاف ما أراه. أمّا الأغلبية من جهة القوّة فتلك مسألةٌ أخری، والراجح أنّ الأغلبية قادرةٌ علی قمع الأقلّیة، لکن في الفضاء الدیني المعقول لا یحقّ للأغلبية استغلال سلطتها لتضییع حقٍّ من الحقوق. إن المعارض له فهمه الخاصّ، ولو کان شخصًا واحدًا، وله حقّ تقریر مصیره بیده، ولا یحقّ لأحدٍ إجباره علی التنازل عن حقّه ولو بطريق البیعة.

في قصة معارضة الإمام الحسین بن علي (عليه السلام) لیزید بن معاوية أراد عمّال یزید إكراه الحسین على البيعة بالقوة، فأبى الحسین أن يُكرَه على مبايعة يزيد؛ لأن أمره بيده، فلمّا هدّدوه وقالوا: إمّا البیعة بذلّةٍ أو القتل، فقال: «هیهات منّا الذلّة»[17]. لن نذلّ ولن نبايع ولو كان دون ذلك قتلنا.

ولمّا كانت تلك الحقوق التي ذکرناها صحیحة بالاستناد إلى حق الإنسان في الحرّیة الشخصیة والاستقلال الفکري، وصحيحة بمقتضى الآیات والآثار المتعدّدة كآیات الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، التي تشمل أصحاب السلطة السیاسیة كذلك، فإنّ ما يصدر عن أي مواطن من قول أو فعل إذا كان معقولًا سليمًا موافقًا للآثار لا یُعدّ جرمًا، بل إن من یمنع المواطن من أهل السلطة أو یحجر عليه، أو یحبسه أویعذّبه ویضایقه، فقد أجرم في حقّه.

إن هذا السلوك مع الشعب مرفوض من باب المصلحة العامة؛ لأنّه إذا کان المقصود بالمصلحة مصلحة أصحاب السلطة، فإنّها لن تتحقّق بالمخالفة للعقل والشرع، وإذا كان المقصود بها مصلحة المجتمع، فإنّ مصلحة المجتمع یجب أن تكون صدًى لتفاعل الأفکار والثقافات مهما بدت متناقضة ومتخالفة، وقد خاطب الله تعالى نبيَّه قائلًا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

الالتزام بالحدود والقوانین المحلية

إن المعارض السیاسي، سواء کان من الأقلّیة التي لم تبايع أم من الأغلبية، یجب أن یلتزم بالحدود والقوانین في نضاله من أجل حقوقه المشروعة، فعلى سبيل المثال لا یحقّ له أن يظلم الآخرین أو أن يضطهدهم في أثناء دفاعه عن حقّه، أو أن یتعاون مع عدوّ البلاد ويمنحه أسراره، أو أن يصرّ على ن مطالبه مع علمه أنها غیر صحیحة. أي لا ینبغي بوجه عام أن تقترن المطالبة بحقٍّ ما بتضییع حقٍّ آخر. وإذا التُزمت تلك الحدود، فإنّ حقوق المعارض السیاسي تکون محفوظة، وإن لم تُلتزم تلك الحدود وارتُکبت جریمة، فتجب معاملة المجرم السیاسي کما يُعامل سائر المجرمین.

أدلّة تُوهِم نفي حقّ المخالفة

أدلّة تُوهِم نفي حقّ المخالفة

ثمة آیات مثل آیات البغي والإرجاف والمحاربة قد تکون مصدرًا لسوء الفهم، وتوهم نفيها لحقّ المخالفة؛ لذا كان من الضروري أن ننظر فيها. فقد أشير في بعض الآيات[18] إلی مصدرین للاختلاف: أحدهما الاختلاف في ادّعاء الحقّ بلا دلیل، والآخر الاختلاف في منع الحقّ بلا دلیل. ومنع الحقّ أعمّ من الامتناع عن أداء الحقّ ومنع إشاعة الحقّ الاعتقادي والعملي[19].

أما عن المصدر الأوّل فیقول تعالی: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. فعند ظهور الاختلاف بین المسلمین تُبذل الجهود والتوسّط للمصالحة بينهم، وإذا لم تنجح المساعي الحمیدة في إقرار الصلح والسلام، فینبغي ابتداءً طرح النزاع في محکمةٍ مرضیةٍ للطرفین، وعند تحدید الطرف الباغي[20] ورفضه الخضوع للصلح وإطاعة حُکم الحَکم، يكون اللجوء إلی القوّة وإعلان الحرب عليه.

      ویقول تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 41-42]. وهذه الآیة مطلقة، تشمل المسلم والکافر، وتفتح الطریق لردّ الظالم المستبدّ، حیث يُستمع إلى دعاوی الطرفین وحيثياتها في محکمة ترضاها الأطراف المتنازعة ويُحدد فيها الطرف الباغي الذي لا یرغب في الخضوع للحقّ. وفي هذه المرحلة یمکن إلزامه بما ألزم به هو نفسه، وإن کان غیر صحیحٍ في رأي المسلمین[21].

قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]؛ هذه الآیة مطلقة في دلالتها وتشمل النزاعات في الدائرة الإسلامیة كذلك. والإذن بالحرب إنما يكون بعد طيّ صفحة المصالحة بالحوار والتحکیم.

وأما عن المصدر الثاني فیقول تعالی: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 60-61]. في هاتين الآيتين: 

أولًا: ما كان يجب عليهم أن يمتنعوا عنه لم یُذکَر، وبحسب القرآن فإن ذلك الشيء لا بدّ أن یکون عملًا سیّئًا أو منکرًا أو بغیًا[22] لا شكّ في قبحه.

ثانیًا: لم یرد ذکر الحوار والمصالحة، فإن دلیل العقل وما صرحت به الآیة السابقة بعدم الحوار وعدم التوصّل إلی الصلح والرجوع إلی التحکیم وحکم «الإغراء»، هو حسنٌ وجائزٌ. کما یتطلّب استقرار المجتمع وأمنه وإقامة العدل إلقاء القبض علی المجرمین ومعاقبتهم علی أفعالهم بعد انتهاء الإجراءات القضائیة (بحقّهم).

جاء في لسان العرب: «الرجفان: الاضطراب الشدید...وأرجف القوم: إذا خاضوا في الأخبار السیّئة وذکر الفتن...والمرجفون: الذين یولدون الأخبار الکاذبة التي یکون معها اضطراب في الناس»[23]. فالإرجاف نوعٌ من الحرب النفسیّة وبثّ المعلومات غیر الصحیحة في الناس، مما يتسبّب في البلبلة وإرباك الأذهان.

یقول تعالى في آیةٍ أخری: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ والظاهر أنّ المراد بالمحاربة في هذه الآیة العمل المسلّح، وإن کان الله في آیة الربا قد أطلق اسم المحاربة إزاء أکل الربا. وليس في الآیة أيّ إشارة إلی الاختلافات الفکریة والعقدیة، ولکن کلمة "یُحاربون" تشير إلى شدّة الاختلاف وعمقه، مما يقود إلی العمل المسلّح والعقاب بالقتل، والصلب وقطع الید والرجل والتهجير. وفي لسان العرب: "المحاربة" مأخوذة من معصیة الله ورسوله ومخالفة حکمهما[24]. وظاهر کلام الطباطبائي في تفسیر المیزان یعطي هذا المعنی نفسه[25]. وفي بعض الروایات أنّ هذه الآیة تنطبق علی قاطع الطریق والسارق المسلّح[26] واللصّ[27]، ولیس ببعید أنّ هذه الصور مستفادة من العقوبات المذکورة في الآیة.

وعلی کلّ حال، فإنّ العقوبات المذکورة في الآیة هي الأحکام المبیّنة بعد استکمال الإجراءت القضائیة بما يناسب الجرم والأفعال المخالفة للقواعد والأحکام المعروفة لدیهم، ولیس فیها دلالة علی نفي المخالفة للحقّ في الأُطر المعقولة والمنطقیة.

ویقول تعالى في آیة أخری: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107-108]؛ في هذه الآیة أطلعَ اللهُ تعالی نبیّه علی نيّات هؤلاء وما تنطوي عليه قلوبهم ودوافعهم التي تتناقض مع أهداف المسلمین تناقضًا صارخًا، وهم یقسمون بأغلظ الأيمان أنّهم لم یقصدوا إلّا الخیر. لذا فإنّ هذه الآیة لا یمکن أن تکون دليلًا للحاکم في معاملة المخالفین والمعارضین على أساس نيّاتهم، وهل یمکن للحاکم إثبات النيّات ودوافع المعارضة بأنّ یقول إن الله قد أوحی له بها، والله مع علمه بدوافع هؤلاء ونیّاتهم قال:{«لا تقم فیه أبدًا} [فلا یجوز للحاکم المعاقبة على النيّات]، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن یعلن امتثالًا لأمر الله أنهم لن یصلّوا في هذا المسجد أبدًا، وکان ذلك کافیًا لمنعهم من تحقیق أهدافهم وحلّ المشکلة. لذا لم یأتِ في الآیة أيّ ذکر لهدم المسجد أو مصادرته أو تحویله إلی شيءٍ آخر، فلم یتّخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ إجراءٍ قبل الاطّلاع علی نیّاتهم.

قد توحي الآیات المذکورة بأنّ المعارضة غیر مسموحٍ بها علی الإطلاق، وأنّه لا مانع عند الضرورة من قمعها بالقوة والحرب، ولکن بالنظر في مضمون الآیات یتضح أنّ هذه الآیات تكشف عن حدود المخالفة والمعارضة فقط، کما یُستفاد من آیاتٍ أخری سنذکرها لاحقًا أنّ الأساس في القرآن والإسلام قائمٌ علی التفاهم وتقارب العقول [ولیس على العقاب والتنافر].

آیاتٌ مفسّرةٌ

بالإضافة إلی تلك الآیات التي تناولت حقوق المعارضة، فإنّنا بصدد عرض آیاتٍ أخری تسعى إلی رفع الخلاف بالوسائل السلمیة، مثل: الحوار، والوساطة، والتحکیم.

لقد استخدم الأنبیاء -رفعًا للاختلاف وخلقًا للتفاهم والمودة- أسالیبَ مختلفةً في الحوار، مثل: أسلوب الحکمة، والموعظة، والمجادلة، وأسلوب الاستعطاف، والتفاهم، والتذکیر، والتقارب وإیصال الطرف الثاني لمطلوبه، وأسلوب سرد القصص والاعتبار، وأسلوب تکرار النصح، وغیر ذلك من الأساليب.

قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]؛ یُفهم من هذه الآیة ثلاث طرق للحوار [مع المعارضة]:

الحکمة: حیث یکون الغرض إثبات الحقّ ودفع الطرف المحاور إلی تقبّله والاعتراف به، في حال أنّه لا یقبله بلا دلیل، وهو يدور عامّة في فلك الحکمة والبرهان؛ فإن التعبیر عن الحقّ والحقیقة لا بدّ أن يكون بالحكمة.

الموعظة: في حال کون الهدف ترقیق قلب الطرف الآخر وإثارة مشاعره، فإنّه يستفاد في ذلك من الخطابة والوعظ[28]، والتذکیر بما يرقّق القلوب.

المجادلة: في حال کون الغرض هو الدفاع عن الرأي والعقیدة والتغلّب علی الخصم وإدانته، فيستفاد هنا من أسلوب الجدل. وبما أن السياق سیاق جدال فيمكن التوسّل بالتحقیر والإهانة والأسالیب المغلوطة والشعر، والقرآن یُقیّد الجدل بالإحسان[29]، إلا مع أولئك الذین یتجاوزون الحدود في الجدال[30]، فلا يكون للحوار أو مجادلتهم بالتي هي أحسن معنى.

وقال تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]؛ وكلمة «التي» في الآیتین تشير إلی الطریقة التي ينبغي أن يكون عليها الحوار كذلك.

وقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43-44]؛ ففي الآيات يأمرهما أن یذهبا إلی فرعون وأن یتحدّثا إليه لحلّ مشکلة بني إسرائیل[31]. وفيها بيان لمنهج المحاورة: {فقولا له قولًا لیّنًا}.

تدلّ تلك الآیات على أن القرآن يأمر أتباعه بمحاورة المعارضة وكل من یختلفون معهم، سواء كان اختلافهم في الأصول الفکرية أم في الفروع. وتدلّ على أن التصدي لمحاورة الآخرین في أيّ أمر یستلزم الإحاطة العلمیة بهذا الأمر، سواء کان الأمر نظریًّا أم عملیًّا، وسواء كان ذهنیًّا أم عینیًّا أم شخصیًّا أم شأنًا عامًّا.

المصادر

القرآن الکریم، الترجمة الفارسیة، محمّد مهدي فولادوند.

الآمدي، عبد الواحد، غرر الحکم ودرر الکلم، طهران: نشر جامعة طهران، الطبعة الثالثة، 1360ش/[1981م].

ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار إحیاء التراث العربي، الطبعة الثانیة، 1412هـ.

ابن هشام، أبو محمّد عبد الملك، السیرة النبویة، قم: نشر إیران، 1363ش/[1984م].

الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشیعة، طهران: المکتبة الإسلامیة، 1389هـ.

الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، دمشق: دار القلم، الطبعة الأولی، 1393هـ.

الطباطبائي، محمّد حسین، المیزان في تفسیر القرآن، قم: مؤسّسة مطبوعاتي إسماعیلیان، دون تاریخ.

الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البیان في تفسیر القرآن، طهران: نشر ناصر خسرو، الطبعة الأولی، 1365ش/[1986م].

الکلیني، محمّد بن یعقوب، الکافي، طهران: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة، 1363ش/[1984م].

فیض الإسلام، علي نقي، ترجمة وشرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، دون تاریخ.

تطبیق فقه أهل البیت، النسخة 2، قرص مضغوط، إنتاج مرکز تحقیقات کامپیوتري علوم إسلامي في قم.

المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، طهران: منشورات المکتبة الإسلامیة، الطبعة الثانیة، 1398هـ.

محمّد رضا باطني؛ فاطمة آذرمهر، فرهنگ معاصر [=القاموس المعاصر]، في اللغة الفارسية، طهران: نشر مکتبة فرهنگ معاصر.

المنتظري، حسین علي، نظام الحکم الدیني، نشر سرایي، الطبعة الثانیة، طهران، 1385ش/[2006م].

المنتظري، حسين علي، نظام الحكم الديني وحقوق الإنسان، ترجمة وتحقیق صادق العبادي، قم: دار ارغوان دانش، 1429هـ.

الهوامش

[1] تعني الحرّیة (آزادی) في اللغة الفارسیة: التحرّر، والانعتاق، وهي ضد العبودیة. والحرّ (آزاد) هو: المتحرّر، والبطل، والناجي، وغیر المقیّد ومن ليس بعبد (عمید، القاموس الفارسي). وفي اللغة الإنجلیزیة یبدو أنّ هذا المفهوم مشتقٌّ من (freedom) بمعنی الحرّیة والمتحرّر، والنجاة، وصاحب الاختیار والحقّ في التمتّع (باطني، فرهنگ معاصر [=القاموس المعاصر]).

[2]  یشار أحیانًا إلی هذا الأصل بأصل الحرّیة وهو قریب من أصل الإباحة عند القدماء، یقول الشیخ الطوسي (ت460هـ: «إنّ الأصل (الإباحة) و(الحظر) یحتاج إلی دلیل» (الخلاف، ج1، ص98)؛ وهذا یعني أنه قبل المنع أنت حرّ، یقول الشیخ الصدوق (ت381هـ): «اعتقادنا أنّ الأشیاء کلّها (مطلقة) حتی یرد في شيء منها (نهيٌ)» (الصدوق، الاعتقادات في دین الإمامیة، ص114). وفي هذا یقول العلّامة حسین الطباطبائي (ت1981م): «الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور وإرادة، له في کلّ فعل یقف علیه أن یختار جانب الفعل، وله أن یختار جانب الترك. فهو مضطرٌّ في التلبّس والاتّصاف بأصل الاختیار، لکنّه مختار في الأفعال المنتسبة إلیه. وهو المراد بحرّیة الإنسان (تکوینًا)» (الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج10، ص370).

[3] إن الاختلاف الناشئ من اختلاف وجهات النظر لا ينحصر في عالم الإنسان، فبينما یری الله -وهو الخالق- أن الإنسان مؤهل للخلافة علی الأرض، رأت الملائکة عدم استحقاقه لها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].

[4] لانتقال الولاية والسلطة من «الله» إلی «الفقيه» طرح الفقهاء نظریتین: «نظرية التنصيب» و«نظرية الانتخاب». أما نظرية التنصيب فتدعو إلی مشروعية تنصیب الفقیه وتعيينه من قِبل الله عن طريق الإمام المعصوم، وقد تبنّی هذا الرأي محمد تقي مصباح الیزدي (وهو فقیه معاصر)، إذ یری أن الولي الفقیه لا یحصل علی شرعیته من الشعب، وإنما هو نائب للإمام المهدي الغائب المنصوب من قِبل النبي والله، فإن الشعب لا یختار الوليّ حتی يمنحه الشرعية وإنما هو بذلك یکشفه، لذا لا یحق للشعب عزل الولي الفقیه. أما نظرية الانتخاب فإنها تدعو إلى مشروعية انتخاب الفقیه المستوفي للشروط اللازمة من طرف الشعب، وقد تبنّی هذا الرأي الإمام الخمیني (ت1989م) ومرتضی المطهري (ت1979م) ومحمد حسین بهشتي (ت1981م) وحسین علي المنتظري (ت2009م) وآخرون، حیث یرون أن الولاية الحقیقية لله والنبي والإمام، وفي عصر الغیبة یستطیع الفقیه أن ینوب عن الإمام بعد استيفاء شروط النیابة ويأخذ شرعیته من الشعب بانتخابات مباشرة أو غیر مباشرة (انظر: محاضر جلسات کتابة دستور الجمهورية الإسلامية في إیران عام 1980م). یقول حسین علي المنتظري في حق الولاية إن ثمة نظريتين عند الفقهاء: نظریة التنصیب، وهي أن الله الذي له «الولاية الحقيقية والمطلقة والعامّة» على جميع الناس هو الذي منح «الفقيه الجامع للشرائط» نوعًا من الولاية و[صلاحية] التصدّي للشؤون الاجتماعية في عصر الغيبة دون تدخل من الناس، هذا بناءً على مقتضى «نظرية التنصيب». أما النظرية الثانية «نظرية الانتخاب» [فليست للفقيه الجامع للشرائط مثل هذه الولاية [ابتداء]، ولكن إذا انتخبه الشعب لإدارة شؤونه، ستكون له مثل هذه الولاية والسلطة من طرف «الشعب» و[هذا یعني أنه] لا یتمتّع بأي «ولاية شرعیة» دون الحصول على «تصويت الشعب». انظر: حسين علي المنتظري، نظام الحكم الديني وحقوق الإنسان، ترجمة وتحقیق: صادق العبادي، (قم: دار ارغوان دانش، 1429هـ.ق)، ص35. (المترجم)

[5] الکلیني، الکافي، ج1، ص407، ح1 عن الإمام محمد بن علي الباقر.

[6] بعد شهر من وفاة الإمام الخمیني سنة 1989م، وبعد شهر من تعیین السید علي الخامنئي مرشدًا ووليًّا فقیهًا مکانه، کتب آذري قمي مقالًا بعنوان "انتخاب مجلس الخبراء وولایة الفقیه"، قال فیه: "یحقّ للولي الفقیه من أجل مصالح البلاد أن یعطل بعض الأحکام الشرعیة، بل له أن يعطل التوحید مؤقتًا"، انظر: جریدة رسالت، بتاریخ 10 يوليو 1989م. وقد ظهرت ردود ونقد لهذا الرأي في حینها. [کان هذا رأي الفقیه آذري قمي في البدایة ولم یوضح مقصوده، ثم عدل عنه وأصبح مخالفًا للولي الفقیه إلى أن توفي سنة 1998م وهو تحت الإقامة الجبریة. (المترجم)].

[7] الإشکال الثبوتي [مشکلة الإثبات] هي أنّه یستحیل أن یکون الشارع المقدّس والحکیم قد نصب الفقهاء فعليًّا للولایة في زمان الغیبة؛ ذلك لأنّ وظیفة الفقیه الإفتاء [وهي وظیفة تشریعیة في مجال الأحکام والقوانین]، أما الولایة والإدارة السیاسیة للمجتمع فهي وظیفة تنفیذیة تتطلّب صلاحیات أخری، وإن جمیع الفرضیات التي طرحت لدعم نظریة تنصیب الفقیه یمکن أن تواجه إشكالات، وهذه الفرضیات عبارة عن:

أ- أن يكون المراد انتقال التنصیب من حق الولایة العامّة إلی تنصیب الولي الفقیه، فإن هذا الافتراض ذهنيٌّ ونظريٌّ لیس له مصداقیة واقعیة في الخارج.

ب- أن یکون المراد تنصیب جمیع الفقهاء في جملتهم على وجه العموم، فیظهر أمام هذا الافتراض إشکالات عدَّة:

 أولًا: أنّ حدود الفقهاء المنصوبین غیر واضحة ولا نعرف هل المراد الفقهاء الأصولیون أم الأخباریون من أهل الحدیث؟ وهل المراد بالفقهاء الأصولیین القائلین بولایة الفقیه أم أن ذلك یشمل النافین لها؟ وإذا کان المراد الفقهاء الأصولیین القائلين بولایة الفقیه، فهل المراد القائلون بولایة الفقیه المطلقة أم القائلون بولایة الفقیه المقيدة؟

ثانیًا: علی فرض معرفة حدود الفقهاء، فإنّه من غیر الواضح کیف یمکنهم العمل معًا؟ هل یطبّقون جمیعهم صلاحیة الولایة کل علی حدة وفي کل موضوع أم یلجؤون إلی طریقة الانتخاب أو الاقتراع؟

ج- أن يكون المراد تنصیب جمیع الفقهاء بشرط اتّفاقهم علی واحدٍ من بینهم. وإشکال هذا الافتراض، بالإضافة إلی عیوب الافتراض السابق، یوضّح أنّ التنصیب في الواقع غیر مکتمل، واکتماله لشخصٍ واحدٍ أو عدّة أشخاصٍ یتطلّب تصویت بقیّة الفقهاء وبيعتهم.

د- أن يكون المقصود تنصیب فقیهٍ أو عدّة فقهاء، شريطة أن يبايعه سائر الفقهاء والناس. وهذا أیضًا لا یُعدّ تنصیبًا حقًّا؛ لأنّ کمال هذا الافتراض وتمامه یعتمد علی رأي الفقهاء والناس وبيعتهم [وهو غیر ثابت].

هـ- أن يكون المقصود تنصیب أيّ فقیهٍ تنصيبًا منفردًا، وفساد هذا الرأي واضحٌ؛ لأنّه اعتراف بالهرج والمرج واضطراب النظام وذلك ممنوع عقلًا، ولا یتناسب مع مقام الشارع الحکیم. وإذا کان لأجل رفع محذور المفسدة یرون ضرورة تعیین شخصٍ عن طریق الشوری والبیعة، نقول: هذا خلاف الفرض.

[8] من هذه الأدلة قول الإمام عليّ: «لا تکن عبد غیرك وقد جعلك الله حرًّا» (نهج البلاغة، طبعة فیض الإسلام، ص929).

[9] جاء في الحدیث: «إنّ الناس مُسلّطون علی أموالهم» (المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص272). معنى هذه الروایة مفهوم في بعض الآیات، مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، وتؤيده روايات أخرى، مثل ما نقله أبو بصیر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق حیث یقول: «إنّ لصاحب المال أن یعمل بماله ما شاء، ما دام حیًّا» (الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج13، ص381). وإذا قبلنا أنّ الناس مسلّطون علی أموالهم، فمن باب أولی أن نقبل أنّ الناس مسلّطون علی أنفسهم كذلك؛ لأنّ السلطة علی النفس سببٌ إلى السلطة علی المال.

[10] إن بعض الآیات مثل قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]، و{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} {ص: 26}، لیس فیها دلالة علی الجعل والتنصیب القسري والإجباري؛ لذا لو لم یقبل الناس بیعة النبي إبراهیم عليه السلام، ما كان للجعل أيّ أثر، ما لم یتصرّف هو بطریقةٍ أو أخری لدعوتهم إلى بیعته طواعیة.

[11] الآمدي، غرر الحکم، ج2، ص86.

[12] قیل في المعنی اللغوي للاختلاف والمخالفة: «الاختلاف والمخالفة أن یأخذ کلّ واحد طریقًا غیر طریق الآخر في حاله أو قوله» (الراغب الأصفهاني، المفردات في غریب القرآن، ص294). ویقول الإمام علي بن أبي طالب: «فاسمعوا له وأطیعوه فیما طابقَ الحقَّ» (نهج البلاغة، فیض الإسلام، ص952).

[13] الظاهر كما في المصادر التاریخیة أنّ القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول.

[14] ابن هشام، السیرة النبویة، ج2، ص147.

[15] الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج11، ص7، ح8.

[16] فیض الإسلام، نهج البلاغة، ص661.

[17] المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص50 و83.

[18] ليس القرآن کتابًا عقديًّا محضًا وليس بكتاب فقهٍ وقوانین وأخلاقٍ محضٍ، کما أنّه لیس بکتاب تاریخ أو سیاسة أو اقتصاد أو اجتماع، وإنّما هو کتاب هدایة. فلو کان کتاب فقهٍ لأفرد قسمًا أو فصلًا منه لقوانین الحرب.

[19] یقول الإمام علي: «إنّي أُقاتِلُ رجُلین: رجُلًا ادّعی ما لیس له، وآخر منعَ الذي علیه» (فیض الإسلام، نهج البلاغة).

[20] یقول الراغب في مفرداته: «البَغيُ: طَلَبُ تجاوز الاقتصاد فیما یُتَحَرّی، تَجاوَزَه أم لم یَتَجاوَزه» (الراغب، المفردات في غریب القرآن، ص55).

[21] بمقتضی قاعدة الإلزام، وهذه القاعدة مستفادة من بعض الروایات (الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج15، ص321)، وفي الجملة هي مصدر تأیید سیرة العقلاء كذلك؛ وذلك لأنّ العقلاء یرون أنّ مجادلة الخصم تُبنى علی ما یعتقد هو وإلزامه بذلك علی قبول الحقّ.

[22] حیث یقول: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].

[23] ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص112-113، مادّة «رجف».

[24] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادّة «حرب».

[25] راجع: الطباطبائي، تفسیر المیزان، ذیل الآیة.

[26] الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج18، ص536.

[27] عن منصور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «اللصُّ محاربٌ لله ولرسوله فاقتلوه، فما دخل علیك فعليّ» [أي أنا ضامن ذلك] (وسائل الشیعة، ج18، ص542). ویذکر الشهید العاملي (ت965هـ) في کتاب المسالك وکتاب الروضة: اللصّ إن شهر سلاحًا وما في معناه فهو محاربٌ حقیقةً، وإن لم یکن معه سلاح؛ بل یُرید اختلاس المال والهرب، فهو في معنی المحارب في جواز دفعه ولو بالقتل إذا توقّف الدفع علیه (الشهید الثاني، مسالك الأفهام، ج15، شرح ص15).

[28] «الوعظ: التذکیر بالخیر فیما یرقّ له القلب» (الراغب الإصفهاني، المفردات في غریب القرآن، ص877).

[29] {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

[30] {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنکبوت: 46]. یقول الطبرسي في تفسیره: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}: «الأولی أن یکون معناه: إلّا الذین ظلموك في جدالهم أو في غیره ممّا یقتضي الإغلاظ لهم، فیجوز أن یسلکوا معهم طریقة الغلظة» (الطبرسي، مجمع البیان، ج8، ص449). ویقول الطباطبائي: «لمّا نهی عن مجادلتهم إلّا بالتي هي أحسن استثنی منه الذین ظلموا منهم، فإنّ المراد بالظلم بقرینة السیاق کون الخصم بحیث لا ینفعه الرفق واللین والاقتراب من المطلوب، بل یتلقّی حسن الجدال نوع مذلّة وهوان للمجادل، ویعتبره تمویهًا واحتیالًا لصرفه عن معتقده، فهؤلاء الظالمون لا تنجح معهم المجادلة بالأحسن» (الطباطبائي، تفسیر المیزان، ج16، ص137).

[31] {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47].