قضية "براون ضد مجلس التعليم" (1954م)

مستلة - قضية براون ضد مجلس التعليم - الديمقراطية والمساواة

أصدرَت المحكمة العليا قرارًا يُعَدُّ الأهم في تاريخها في قضية "براون ضد مجلس التعليم"([1]). حيث قضى قرار "براون" -وهو قرارٌ أصدرته المحكمة بالإجماع في شهر مايو 1954م- بمنع الفصل العنصري في المدارس الحكومية، بموجب "بند الحماية المتساوية" (Equal Protection Clause) في "التعديل الدستوري الرابع عشر" (Fourteenth Amendment). ويُعَدُّ قرار "براون" أيقونةً اليوم. ولا يمكن لأحدٍ في صلب القانون الأمريكي القولُ بأن القرار لم يصدر بشكل صحيح. ويُشكِّل قرار "براون" المحورَ الأساسي لأهم مساعي محكمة وارن المتمثِّلة في مكافحة الفصل العنصري الذي فرضته قوانين "جيم كرو" في الجنوب الأمريكي. وقد أسهَم هذا القرار أكثر من غيره في بلورة رؤية محكمة وارن للدستور، وكان له تأثيرٌ عميقٌ في جميع جوانب القانون الدستوري.

"المرافق التعليمية المنفصلة غير متساوية بطبيعتها"

أيَّد القرار الذي صدر في قضية "بليسّي ضد فيرغسون"([2]) (Plessy v. Ferguson) في عام 1896م -وهو معروف بكونه مشينًا بقدر ما يُعَد قرار "براون" أيقونيًّا- أحد تشريعات ولاية لويزيانا (Louisiana)، التي ألزمَت خطوط السكك الحديدية بتوفير "إقامة متساوية ولكن منفصلة" للركَّاب السود والبِيض. وقد كان الفصل العنصري نمطًا حياتيًّا في كثيرٍ من الولايات الأمريكية الجنوبية من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين؛ حيث طال الفصلُ العنصري الصارم كلًّا من وسائل النقل العام والحدائق العامة والمدارس الحكومية. لكن ذلك لا يعني أن الفصل العنصري لم يكن معروفًا في الولايات الشمالية كذلك، إلَّا أن نظام التبعية العِرقية العلني -الذي لم يتَّسم بالفصل العنصري فحسب، بل أيضًا بالحرمان من الحقوق وممارسة العنف- كان أكثر قساوةً وشموليةً في مناطق الجنوب، ولا سيما في "الجنوب العميق" (Deep South).

إلَّا أن هذا النظام بدأ يضعُف بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية([3]). فأُلغي الفصل العنصري في بعض المرافق العامة، لا سيما في الولايات الحدودية. وفي أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، حكمت المحكمة العليا لصالح الطلاب الأمريكيين من أصول أفريقية الذين اعترضوا على الفصل العنصري في التعليم العالي، على الرغم من استناد المحكمة في تعليلها لهذا الحكم على مبدأ "منفصلون ولكن متساوون" الذي تبنَّاه قرار "بليسّي"([4]). ولكن مع ذلك، ظلَّ الفصل العنصري سائدًا في جوانب مختلفة من الحياة. إذ قاومت المدارسُ الابتدائية الحكومية -على وجه الخصوص- هذه الحركةَ التحرُّرية المعتدلة، إذ كان نهج "تفوُّق العِرق الأبيض" (White Supremacy) متجذِّرًا فيها. فقد استمرَّ تطبيق الفصل العنصري التام في مدارس "الجنوب العميق"، بل أيضًا في الولايات الحدودية وفي مقاطعة كولومبيا (District of Columbia)([5]). وكانت سبع عشرة ولايةً تطالِب مدارسها الحكومية بتطبيق الفصل العنصري، في حين منحَت أربعُ ولايات أخرى مجالسَ المدارس المحلية صلاحيةَ فرض الفصل العنصري.

Image removed.
          ليندا كارول براون

لقد جاءت الحالات التي شكَّلت قضية "براون ضد مجلس التعليم" نتيجةَ تراكمات لحملة تقاضٍ استمرَّت لعقود طويلة من قِبل المحامين المنضمّين إلى "الجمعية الوطنية للنهوض بالمُلوَّنين" (NAACP). وقد أصبحت هذه الحملة نموذجًا لجهود مماثلة مبذولة من قِبل المحامين الذين يريدون اللجوء إلى التقاضي للنهوض بقضية ما. إذ حاول أصحابُ حملات المناصَرة من الاتجاهات السياسية كافَّة السيرَ على خُطى محامي "الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين"، سعيًا منهم للفوز في نسخهم الخاصة من قضية "براون ضد مجلس التعليم"؛ فمنهم مَنْ حارب من أجل تحقيق المساواة للمرأة وإلغاء عقوبة الإعدام وحماية حقوق المثليين، في حين كافح البعض الآخر من أجل الحق في امتلاك سلاح ناري وإنهاء سياسات وممارسات التمييز الإيجابي وتقييد الحق في الإجهاض وتأمين المعونة العامة للتعليم الديني. وقد قامت الاستراتيجية التي اتبعها محامو "الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين"، وخلفاؤهم كذلك، على انتقاء قضاياهم بعناية لتجنُّب خَلْق سابقة [قضائية] سلبية (bad precedent). فقد بحثوا عن قضايا ذات معطيات مؤثِّرة وعملاء يحظون بالتعاطف والتضامن، والأهم من ذلك أنهم حرصوا على ألَّا يتمادوا في مطالبهم في وقتٍ قصير، وألَّا يهدِّدوا الوضع الراهن آنذاك بشكلٍ كبير. فبدلًا من مطالبة المحاكم برفض مبدأ "منفصلون ولكن متساوون" من أساسه، اكتفوا تحديدًا بالاعتراض بشكلٍ عامٍّ على انعدام المساواة في مؤسسات معيَّنة تمارس الفصل العنصري، وتجنَّبوا مواجهة الفصل العنصري في المدارس الابتدائية بشكلٍ مباشر. ولكن بحلول أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، أصبحوا مستعدّين لمواجهة هذه المسألة باتخاذ تلك الخطوات الأكثر جرأة.

استمعت المحكمة العليا للمرة الأولى إلى مرافعات شفويَّة في قضية "براون" في خريف عام 1952م، عندما كان سلَفُ إيرل وارن -وهو فريد فينسون (Fred Vinson)- يشغل منصبَ رئيس قضاة المحكمة العليا. وتُشير ملاحظات قضاة المحكمة العليا، التي دوَّنوها في أثناء اجتماعهم، إلى انقسام المحكمة وافتقارها إلى الأغلبية المؤيِّدة لإنهاء الفصل العنصري. وفي شهر يونيو 1953م، قرَّرت المحكمة تأجيلَ إصدار قرارها، حيث طلبت جولة أخرى من تقديم المذكرات والمرافعات بشأن القضايا المعنيَّة. لكن فينسون توفي في سبتمبر 1953م قبل أن تسنح الفرصة بإعادة تقديم المرافعات، وحلَّ محلَّه إيرل وارن في منصب رئيس قضاة المحكمة العليا. وغالبًا ما يُنسب الفضل في اتخاذ قرار بالإجماع في قضية "براون" إلى رئيس القضاة وارن، الذي عُرف بكونه سياسيًّا ناجحًا ذا مؤهلات استثنائية.

جاء رأي وارن في المحكمة بالرفض القاطع لمبدأ "منفصلون ولكن متساوون" في قضية "براون"؛ فمن وجهة نظر المحكمة، تُعَدُّ "المرافق التعليمية المنفصلة غير متساوية بطبيعتها"([6]). كان التعتيم الذي رافق رأي القاضي وارن واضحًا -ومتعمَّدًا، وفقًا لتصريحه في وقتٍ لاحقٍ- وذلك بهدف تجنُّب -إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ- استعداءَ الأشخاص الذين كانت المحكمة تتحدَّى أسلوب حياتهم. لقد ركَّز رأي المحكمة بصورةٍ حصريةٍ على قطاع التعليم، وعلى الأذى الذي ألحقته المدارس التي تُمارس الفصل العنصري بالأطفال الأمريكيين من أصول أفريقية. لكنَّ رأي المحكمة لم يتضمَّن أيَّ إشارة واضحة إلى التحيُّز العنصري أو "تفوُّق العِرق الأبيض"، بل أقصى ما وصل إليه في حدَّة الخطاب كان سطرًا واحدًا عن طلاب المدارس الابتدائية السود، جاء فيه أن الفصل العنصري "قد يؤثر في قلوبهم وعقولهم بطريقةٍ قد يستحيل تصحيحها"([7]).

سرعان ما اتَّضح -إن لم يكن ذلك واضحًا بالفعل عند صدور قرار "براون"- أن هذه القضية، بالرغم من تمحورها حول المدارس، نجحت في الواقع بإقرار عدم دستورية الفصل العنصري بقوانين "جيم كرو" عمومًا. وبعد فترةٍ وجيزةٍ من إصدار قرار "براون"، أصدرت المحكمة سلسلةً من الأوامر الموجزة التي حظرت ممارسة الفصل العنصري في الحافلات وملاعب الغولف والشواطئ العامة([8]). ولكن المدارس الحكومية كانت هي مركز الاهتمام الرئيس، وبعد مرور عامٍ على صدور قرار "براون"، قضت المحكمة العليا في قضية عُرفت باسم قضية "براون 2"([9]) (Brown II) أن محاكم الدرجة الأدنى المسؤولة عن إنفاذ قرار إلغاء الفصل العنصري في المدارس يجب أن تمضي "بالسرعة التي تراها مطلوبةفي إشارةٍ إلى عدم إصرار المحكمة العليا على الامتثال الفوري لقرارها.

لم يتفاجأ قضاة المحكمة العليا عندما لقي قرار "براون" معارضةً حازمة بل عنيفة في بعض الأحيان. فقد وقَّع حوالي مئة عضو في الكونغرس -منهم تسعة عشر عضوًا في مجلس الشيوخ (Senateوجميعهم من "الولايات الكونفدرالية" (Confederacy) السابقة- على وثيقةٍ أصبحت تُعرف باسم "البيان الجنوبي" (Southern Manifesto)، (رسميًّا: إعلان المبادئ الدستورية Declaration of Constitutional Principles)، مُعلنين أن قرار "براون" "استبدل السلطة المجرَّدة بالقانون الراسخ"، مما يُعَدُّ "إبساءة استغلال واضحة للسلطة القضائيةوتعهَّدوا بتسخير الوسائل القانونية كافَّة لمقاومة القرار([10]). وذهب العديد من السياسيين على مستوى الولايات والمستوى المحلي إلى أبعد من ذلك، مُصرّحين أنهم لن يوافقوا أبدًا على الإدماج([11]). وقد اختلقت مجالس المدارس على مستوى الولايات والمستوى المحلي طُرُقًا للتهرُّب من تنفيذ قرار "براون"، في حين كانت تتظاهر بالامتثال له. ولكن لمدَّة عقدٍ من الزمن بعد صدور قرار "براون"، واصلت المحكمة اتباع السياسة التدرُّجية التي انعكست في قرار "براون 2"؛ فلم تتدخَّل سوى في قضية واحدة مرتبطة بإلغاء الفصل العنصري في المدارس، وذلك عندما أمر حاكم ولاية أركنساس (Arkansas)، أورفيل فوبوس (Orville Faubus)، قواتِ الحرس الوطني بمنع إلغاء الفصل العنصري في "المدرسة الثانوية المركزية" (Central High School) بمدينة ليتل روك (Little Rock). فأرسل الرئيس دوايت أيزنهاور (Dwight Eisenhower) قواتٍ فيدرالية لإنفاذ الامتثال لأمر المحكمة، الذي يقضي بإدماج الطلاب، ولحماية السود فيهم من الأعمال الهمجية التي حرَّض عليها الحاكم فوبوس. أما في قضية "كوبر ضد آرون"([12]) (Cooper v. Aaron)، فقد كتبت المحكمة رأيًا استثنائيًّا وقَّع عليه القضاة التسعة جميعهم، مؤكّدةً فيه أن قرار "براون" هو القانون السائد في الدولة، وحكمت بأنه لا يجوز تأخير عملية الإدماج بفعل الأعمال الهمجية المعرقِلة. ولكن بخلاف ذلك، ظلَّت المحكمة العليا على الحياد في قضايا إلغاء الفصل العنصري في المدارس حتى عام 1964م، تاركةً أمر تطبيق قرار "براون" للمحاكم الفيدرالية الأدنى.

لا شكَّ أن صدور "قانون الحقوق المدنية" لعام 1964م كان له دور بالغ الأهمية، ولكن لو لم تتصرّف المحكمة في عام 1954م وتُغيّر شروط المناقشة، فلا ندري متى أو حتى ما إذا كان سيجري سنّ هذا القانون على الإطلاق.

بطبيعة الحال، لم يُنفَّذ قرار إلغاء الفصل العنصري على نطاقٍ واسع. فعندما تهرَّبت مجالس المدارس من تنفيذ قرار "براون" أو رفضت الامتثال له، اضطرَّت العائلات الأمريكية من أصول أفريقية إلى رفع دعاوى قضائية لإنفاذ قرار إلغاء الفصل العنصري. وبعد مرور عقدٍ من الزمن على صدور قرار "براون"، لم يُنفَّذ الإدماج إلا في قليلٍ من المدارس التي كانت تُمارس الفصل العنصري سابقًا. لكن جاءت نقطة التحوُّل مع إقرار "قانون الحقوق المدنية" (Civil Rights Act) لعام 1964م، الذي نصَّ بأحكامه -من بين أمور أخرى- على إمكانية وقف التمويل الفيدرالي إن لم تلتزم المنطقة التعليمية بإلغاء الفصل العنصري. وبالفعل، هذا ما أحدث الفرْق: فقد تزايد معدل إلغاء الفصل العنصري بسرعةٍ ملحوظة([13]).

وبهذه الطريقة، بيَّن قرار "براون" -على الرغم من أهميته الأكيدة- حدودَ السلطة القضائية. وثمة جدلٌ بين المؤرخين حول ما إذا كان النهج التدرُّجي الذي اتبعته المحكمة -والذي انعكس في قضية "براون 2وفي سلبية المحكمة في العقد الذي أعقب قرار "براون"- قد شجَّع المقاومة أم أنه كان مراعاةً عقلانيةً للواقع؛ فربما كان الضغط بقوةٍ أكبر سيُصعّب الأمور. ولكن على أي حال، أظهرَت الآثار التي أعقبَت قرار "براون" كم يصعُب على المحاكم اجتثاث الممارسات الراسخة من جذورها، في ظل المقاومة الهائلة، دون الحصول على مساعدة الكونغرس والسلطة التنفيذية. إلا أن هذه الحدود المؤسسية لا تعني بالطبع أن قرار "براون" لم يلعب دورًا حاسمًا في إنهاء الفصل العنصري. نعم، لا شكَّ أن صدور "قانون الحقوق المدنية" لعام 1964م كان له دور بالغ الأهمية، ولكن لو لم تتصرّف المحكمة في عام 1954م وتُغيّر شروط المناقشة، فلا ندري متى أو حتى ما إذا كان سيجري سنّ هذا القانون على الإطلاق.

قرار "براون" ودور المحكمة العليا

بصرف النظر عن العقبات العملية، كان المحور الأهمّ في عمل محكمة وارن هو إلغاء الفصل العنصري الذي فَرَضته قوانين "جيم كرو". فبحلول عام 1954م، ساد نظام قمعيٌّ عنيف يؤيد عقيدة "تفوُّق العِرق الأبيض"، وسيطر لعقودٍ على أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة. ولكن في المقابل، لم يسنّ الكونغرس أيَّ قوانين جادة للحقوق المدنية، ولا حتى قانونًا يَعُد الإعدامَ دون محاكمة جريمةً فيدراليةً. فيما سخَّرت قضية "براون" هيبةَ المحكمة العليا بشكلٍ واضحٍ لدعم المساواة العِرقية (racial equality)، وذلك في وقتٍ لم تكن فيه بقية الحكومة الفيدرالية مستعدَّة للقيام بذلك. وبعد قضية "براون"، استطاع قادة حركة الحقوق المدنية (civil rights movement) -بدعمٍ من سلطة المحكمة العليا- القولَ إن الدستور في صفِّهم. وعلى عكس إلغاء الفصل العنصري في المدارس، ثمة آثار أخرى غير ملموسة يصعُب قياسها، إلَّا أنها كانت حقيقية ومهمة بلا شكّ.

مع مرور الزمن، أصبح اجتثاث عقيدة "تفوُّق العِرق الأبيض" من جذورها محورًا بارزًا في عمل محكمة وارن، وانطبق ذلك حتى في المجالات التي لم ترتبط بشكلٍ واضحٍ بالتمييز العنصري. فعلى سبيل المثال، جاءت القضية التاريخية المعروفة بقضية "صحيفة نيويورك تايمز ضد سوليفان"([14])، والمرتبطة بـ"التعديل الدستوري الأول"، نتيجةَ جهودٍ بذلتها إحدى الولايات التي تطبِّق الفصل العنصري في ذروة نشاط حركة الحقوق المدنية، بهدف إسكات وسائل الإعلام الإخبارية الوطنية. وقد وسَّعت قرارات محكمة وارن الأخرى القائمة على "التعديل الدستوري الأول" حقوقَ المتظاهرين من أجل الحقوق المدنية([15]). وأسهمَت إحدى المبادرات الرئيسة لمحكمة وارن -المتمثِّلة في تطبيق الضمانات الواردة في "وثيقة الحقوق" (Bill of Rights) في الولايات- بإصلاح أنظمة العدالة الجنائية في الولايات التي كانت تعمل بمثابة مُحرّكات مُعزّزة للتمييز العنصري([16]). لقد توسَّعت قرارات محكمة وارن في تفسير نصوص الدستور التي منحت سلطةً للكونغرس، من أجل دعم تشريع الحقوق المدنية التاريخي في الستينيات. وقد كانت قضية "براون" هي الخطوة الأولى في هذه الرحلة إلى حدٍّ ما([17]).

لم تكن قرارات محكمة وارن هذه سليمةً من الناحية الأخلاقية فحسب، على الرغم من أنها كانت كذلك بلا شكّ؛ بل الأهم أنها استندت إلى رؤية للدستور ولدور المحكمة العليا قائمة على المبادئ. ربما لم يُعبِّر قضاة محكمة وارن عن هذه الرؤية بصورة واضحة أو منهجية دائمًا (مع أن بعض التعليقات المسجَّلة في الملاحظات المدوَّنة خلال اجتماعاتهم الخاصة كادت أن تفعلإلَّا أنها تتجلَّى في قراراتهم. واليوم يتضح لنا أن قرار "براون" -كغيره الكثير من قرارات محكمة وارن- كان لا بدَّ أن يصدر بالطريقة التي صدر بها فعليًّا، ولكن لم يكن هذا واضحًا في ذلك الوقت. في الواقع، بدَا بالنسبة إلى القضاة الذين أصدروا قرار "براون" أن أحد الدروس المستفادة من التاريخ الحديث هو أنه ليس من شأن المحكمة محاولة اتخاذ خطوة مثيرة للجدل وهائلة مثل حظر الفصل العنصري. ولذا كان على محكمة وارن -إزاءَ هذه الخلفية- أن تضعَ تصورًا جديدًا لدورها.

على وجه التحديد، كان الصدام الذي وقع بين المحكمة العليا والرئيس فرانكلين روزفلت (Franklin Roosevelt) في ثلاثينيات القرن الماضي حدثًا مؤثِّرًا بالنسبة إلى قضاة محكمة وارن وجيلهم من المحامين. وفي الثلث الأول من القرن العشرين، أبطلت المحكمة العليا قوانين الرعاية الاجتماعية والقوانين التنظيمية التي تبنَّاها الكونغرس والمجالس التشريعية في الولايات استجابةً للتغيرات الهائلة التي كان يمرُّ بها الاقتصاد والمجتمع الأمريكيان؛ وهي قوانين الحد الأقصى لساعات العمل والحد الأدنى للأجور، والقوانين التي تحظر عمالة الأطفال، والقوانين التي عزَّزت المساومة الجماعية (collective bargaining)([18]). كان الكثير من هذه القوانين يحظى بشعبية كبيرة، واتَّهمها منتقدو المحكمة العليا بأنها مؤسسة رجعية تمنع ممثلي الشعب المنتخَبين من معالجة المشكلات الملحَّة. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، مواصلةً عملها في هذا السياق، أبطلت المحكمة التشريع الذي كان يُعَدُّ محوريًّا بالنسبة إلى "الصفقة الجديدة" (New Deal)، وكان ردّ الرئيس روزفلت هو مهاجمة المحكمة ومحاولة التأثير في تكوين هيئة القضاة من خلال اقتراح زيادة عدد القضاة فيها؛ بيد أن خطَّة زيادة عدد أعضاء هيئة القضاة قد رُفِضَت، ولكن غيَّرت المحكمة مسارها بعد عام 1937م. واتَّضح بعد ذلك أن الدرس المستفاد هو أن القضايا المعقَّدة والمثيرة للجدل يجب حلُّها من قِبل المسؤولين المنتخَبين، لا المحكمة، وأن محكمة "ما قبل الصفقة الجديدة" تصرَّفت بشكلٍ غير مناسب، وعرَّضت شرعيتها للخطر عندما تحدَّت فروع الحكومة المنتخَبة ديمقراطيًّا. وعندما أُتيحت الفرصة للرئيس روزفلت لملء الشواغر في المحكمة، اختار القضاة الذين كانت لديهم وجهة النظر هذه حول دور المحكمة. فخمسةٌ من الأعضاء الأوائل لمحكمة وارن كان قد عيَّنهم الرئيس روزفلت.

كيف يختلف إعلان عدم دستورية الفصل العنصري عمَّا أُنكِر على محكمة "ما قبل الصفقة الجديدة"؟ لقد شكَّلت العلاقات بين الأعراق مشكلة اجتماعية معقَّدة، فأيَّد المسؤولون المنتخبون في الولايات الجنوبية الفصلَ العنصري بشدَّة، باعتباره الوسيلة الأفضل للتعامل مع هذه المسألة. وقد امتنع الكونغرس عن التدخُّل، وسمح على الدوام للولايات المؤيدة للفصل العنصري بمعالجة المسألة على النحو الذي تراه مناسبًا. ربما أظهر التقدُّم المحدود الذي أُحرِز بعد الحرب العالمية الثانية أن الفروع السياسية لحكومات الولايات والحكومة الفيدرالية قادرةٌ على التعامل مع الموضوع بأسلوبٍ مرنٍ وملائم. لقد توقَّعت المحكمة -ولم يخُنها توقُّعها- أن معارضة أي قرارٍ يحظر الفصل العنصري ستكون معارضة شرسة. وعلى أي حال، لِمَ لا يكون هذا مثالًا آخرًا على تجاوز المحكمة حدود اختصاصها؟

ولكن في وقت ظهور قضية "براون"، لم تكن العملية الديمقراطية تسير على نحو سليم. ففي ذلك الوقت، حُرِم الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية من مصادر السلطة السياسية والاقتصادية، وكانوا محرومين فعليًّا من حقوقهم في العديد من الولايات التي مارست الفصل العنصري..

كانت هناك إجابة مقترَحة في الحاشية المقترنة برأي المحكمة في قضية "الولايات المتحدة ضد شركة كارولين برودكتس"([19]) (United States v. Carolene Products Co.) عام 1938م، وهي الحاشية التي صارت مشهورة في يومنا هذا؛ فالقرار الذي صدر بشأن هذه القضية بُعَيد المواجهة التي دارت مع الرئيس روزفلت، أقرَّ نظامًا اقتصاديًّا كانت المحكمة ستُبطله إن اتُّخِذَ القرار قبل بضع سنواتٍ من ذلك الوقت. وقد حدَّدت الحاشية الرابعة المقترنة برأي المحكمة في قضية "شركة كارولين برودكتس"، التي كتبها رئيس المحكمة العليا هارلان فيسك ستون (Harlan Fiske Stone)، دورًا جديدًا للمحكمة الآن، بعد أن أقلعت عن إبطال قوانين الرعاية الاجتماعية والقوانين التنظيمية. واقترحت الحاشية -من بين أمور أخرى- أن "التشريع الذي من شأنه أن يُقيّد الإجراءات السياسية التي عادةً ما تؤدي إلى إلغاء تشريع غير مُستحَب" ينبغي أن "يخضع لتدقيق قضائي أكثر صرامةً"، وأن "التحيُّز ضد الأقليات المنفصلة والانعزالية... الذي يُقيّد بشدَّة من نشاط تلك الإجراءات السياسية المعتمَد عليها عادةً لحماية الأقليات... قد يستدعي... مزيدًا من التحقيق القضائي". وبعبارةٍ أخرى: عندما تفتقر الفئات المحرومة أو المُعرَّضة للتمييز في المجتمع على مدى التاريخ إلى نصيبها العادل في السلطة السياسية، فلا يمكنها الاعتماد على العملية الديمقراطية لتنال الحماية، وذلك يُبرِّر اضطلاع المحاكم بدورٍ أكثر حزمًا.

عملت الحاشية المقترنة برأي المحكمة في قضية "شركة كارولين برودكتس" كوسيلة للتوفيق بين المراجعة القضائية والدرس المستمد من مواجهة الصفقة الجديدة، الذي يُفيد أنه في ظل النظام الديمقراطي يجب حلُّ القضايا الأهم عن طريق الممثلين المنتخَبين، لا القضاة؛ فدور القضاة لا يتمثَّل في انتقاد القرارات الديمقراطية -وهو ما أخطأت فيه محكمة "ما قبل الصفقة الجديدة"- بل في الحرص على سَير العملية الديمقراطية على نحو سليم. ولكن في وقت ظهور قضية "براون"، لم تكن العملية الديمقراطية تسير على نحو سليم. ففي ذلك الوقت، حُرِم الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية من مصادر السلطة السياسية والاقتصادية، وكانوا محرومين فعليًّا من حقوقهم في العديد من الولايات التي مارست الفصل العنصري. وقد منَعَ أعضاءُ مجلس الشيوخ في الولايات المؤيدة للفصل العنصري الكونغرس من اتخاذ أي إجراءات، على الرغم من أنهم كانوا يشكِّلون الأقليَّة.

لذا يُعَدُّ الأمريكيون من أصول أفريقية -الذين عانوا في ظل قوانين "جيم كرو" في الولايات الجنوبية- مثالًا نموذجيًّا للأقليات "المنفصلة والانعزالية" التي أشار إليها القرار الصادر في قضية "شركة كارولين برودكتس". ومع أن قرار "براون" لم يستشهد بالحاشية المقترنة برأي المحكمة في قضية "شركة كارولين برودكتس"، لكنها عكست الرؤية التي تبنَّتها محكمة وارن. فقد أعطت هذه الحاشيةُ المحكمةَ دورًا متسقًا مع الالتزام بالسياسات الديمقراطية، ومكَّنت المحكمة أيضًا من التأكيد على أهمية عمل الديمقراطية بطريقة مُنصِفة ومُنفتِحة. وبهذه الطريقة، مهَّد قرار "براون" الطريق لكثير مما فعلته محكمة وارن، وأسهم أيضًا في تحديد الدور المبدئي للمحكمة العليا في الحكومة الأمريكية.

قرار "براون" ودستورنا الحيّ

كان لقرار "براون" أيضًا تأثيراتٌ بعيدة المدى على القانون الدستوري. وعلى وجه الخصوص، يُبرهن قرار "براون" اليوم على أن معنى الدستور يتطوَّر مع مرور الوقت، ويُشكِّل أيضًا تحديًا مستمرًّا لأولئك الذين يتبنَّون وجهة النظر المعاكسة، والقائلة بأن التفسير الصحيح لنصِّ الدستور يُحدَّد من خلال القرارات المتخذة من قِبل أولئك الذين تبنَّوا النصَّ قبل قرن أو اثنين. وقد برز هذا الجدل بين وجهتي النظر المعروفتين عمومًا بـ"النزعة الدستورية الحيَّة" (living constitutionalism) و"النزعة الأصولية" (originalism) خلال العقود العديدة الماضية، وامتدَّ عبر جوانب القانون الدستوري.

يُعَدُّ قرار "براون" اليوم أيقونةً لا جدال عليها، ولكنه لم يكن كذلك وقتَ صدوره؛ إذ تعرَّض للهجوم المتكرر من قِبل مؤيدي الفصل العنصري. ولم يقتصر الأمر عليهم، بل شكَّك أشخاصٌ آخرون أيضًا في شرعية هذا القرار، حتى إن بعض القضاة خشوا أن يُعَدَّ تصويتُهم لإنهاء مبدأ "منفصلون ولكن متساوون" قرارًا سياسيًّا وليس قانونيًّا. وفضلًا عن ذلك، علَّق البعض -رغم معارضتهم الشديدة لممارسات الفصل العنصري- أن قرار "براون" لم يكن مُبرَّرًا من الناحية القانونية.

تمثَّلت العقبة الأكبر بعد ما اتضح أن "التعديل الدستوري الرابع عشر"، عندما اعتُمِد عام 1868م، لم يَفهَمه مؤيدوه أو معارضوه أو عامَّة الشعب على أنه حظرٌ لنظام الفصل العنصري بين المدارس. وفي ذلك العام كانت المدارس التي تُمارس الفصل العنصري منتشرةً حتى في مناطق الشمال. وقد قال مؤيدو "التعديل الدستوري الرابع عشر" إنهم لا يحاولون إدماج الطلاب في المدارس، وسمح الكونغرس الذي تبنَّى "التعديل الدستوري الرابع عشر" بممارسة الفصل العنصري في مدارس مقاطعة كولومبيا، بل جلس الحضور في أثناء مناقشة مجلس الشيوخ لمسألة "التعديل الدستوري الرابع عشر" في قاعات منفصلة حسب العِرق([20]).

اتضحت الأمور إثر تعامل محكمة وارن مع تاريخ "التعديل الدستوري الرابع عشر" في قضية "براون". فعندما أمرت المحكمة بإجراء جولة جديدة من تقديم المذكرات في القضية عام 1953م، وجَّهت الأطراف إلى الإجابة -من بين أمور أخرى- عن أسئلة حول تصوُّرات متبنّي "التعديل الدستوري الرابع عشر": هل كانوا يعتقدون أنه يلغي الفصل العنصري في المدارس، أو أنه يمنح المحكمة الصلاحية للقيام بذلك([21])؟ ولكن عندما أصدرت المحكمة قرار "براون" في العام التالي، لم تدَّعِ أن تاريخ "التعديل الدستوري الرابع عشر" يدعم حُكْمَها. بل أشارت المحكمة إلى المصادر التاريخية بكونها "على أفضل تقدير... غير حاسمة". في الواقع، بدَا أن المحكمة تقرُّ بأن هذا التاريخ يشكِّل عقبة، قائلةً: "لا يمكننا الرجوع بالزمن إلى عام 1868م، عندما اعتُمِد التعديل الدستوري، أو حتى إلى عام 1896م عندما صِيغَ القرار في قضية ’بليسّي ضد فيرغسون"([22]).

وتكشف ملاحظات القضاة المدوَّنة خلال مداولاتهم حول قضية "براون" أنهم كانوا قلقين من أن التصوُّرات الأصلية لا تدعم القرار الذي طُلِبَ منهم التوصُّل إليه، وقد أكَّد "البيان الجنوبي" على أن قرار "براون" خالف التصورات التاريخية. ولم يعترض على هذا من ذلك الحين سوى قليل من العلماء والباحثين. في ذلك الوقت، مثَّل هذا مشكلةً بالنسبة إلى قرار "براون"، أما الآن فقد أصبح هذا مشكلة بالنسبة إلى النزعة الأصولية، ومَردُّ ذلك -جزئيًّا- إلى المكانة التي وصل إليها قرار "براون". وقد حاول مؤيدو النزعة الأصولية -بشتَّى الوسائل- تفادي هذه الأزمة، إلَّا أنها لا تزال واحدة من أكثر التحديات إلحاحًا بالنسبة إلى تلك النزعة.

تُشكِّل إحدى القضايا التي جرى البتُّ فيها في اليوم نفسِه الذي صدر فيه قرار "براون"، والمعروفة باسم قضية "بولينغ ضد شارب"([23]) (Bolling v. Sharpeتحدّيًا أكبر في وجه النزعة الأصولية. فقد كانت المدارس الحكومية في مقاطعة كولومبيا لا تزال تمارس الفصل العنصري عام 1954م، ولكن النص الدستوري الذي صدر بموجبه قرار "براون" -أي "بند الحماية المتساوية"- يسري بشروطه على الولايات فحسب، ومقاطعة كولومبيا ليست ولاية، بل تخضع لسيطرة الحكومة الفيدرالية. ومن أجل إقرار عدم دستورية الفصل العنصري في مدارس المقاطعة أيضًا، استندت المحكمة إلى "بند مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية" (Due Process Clause) في "التعديل الدستوري الخامس" (Fifth Amendment)، الذي يسري على الحكومة الفيدرالية. ولكن حين جرى تبنّي "التعديل الدستوري الخامس"، كانت ممارسات العبودية لا تزال تُعَدّ قانونية في الولايات المتحدة؛ ومن ثَمَّ إذا تقبَّل هذا البند مفهومَ العبودية، فمن الطبيعي ألَّا يُفهَم على أنه يحظر ممارسة الفصل العنصري في المدارس. وهناك أيضًا بعض الغرابة من الناحية اللغوية. فعلى عكس "بند الحماية المتساوية"، لا يُشير "بند مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية" إلى المساواة، بل ينصُّ على التالي: "لا يجوز حرمان أي شخص... من الحياة أو الحرية أو الممتلكات، دون مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية"، وليس واضحًا أن بالإمكان تفسير هذه اللغة للقول بأن ممارسة الفصل العنصري في المدارس تُعَدُّ غير دستورية. ولكن في الوقت نفسِه، ومثلما ذكرت المحكمة في رأيها في قضية "بولينغ"لا يُعقل" السماح بممارسة الفصل العنصري المدرسي في عاصمة البلاد بعد إعلان عدم دستوريته في الولايات([24]). ونظرًا لقرار "براون"، لا بدَّ أن يكون قرار "بولينغ" مُحِقًّا ببساطة، على الرغم من التشكيك الهائل في أُسسه القانونية.

إذن، كيف يمكن تبريرُ قراري "براون" و"بولينغ"؟ في الواقع، لم يكن القانون الدستوري أبدًا مجرَّد محاولة للارتداد عن القرارات التي اتُّخِذت عند اعتماد الدستور أو المصادقة على تعديلاته. بل اتَّسم القانون الدستوري بالطابع التطوُّري دومًا. وما يضبط القضاة ويمنعهم من فرض رؤاهم الخاصة هو مصادر أخرى للقانون، مثل السوابق القضائية، التي تُعَدُّ مصدرًا مهمًّا للقانون في الولايات المتحدة منذ البداية، وتوفِّر هذه السوابق تبريرًا قويًّا لقرار "براون".

قد يبدو هذا الادعاء مفاجئًا؛ إذ نقض قرار "براون" -في الواقع- سابقتَه القضائية الأبرز، وهي قضية "بليسّي ضد فيرغسون". ولكن بحلول الوقت الذي عُرِضت فيه قضية "براون" أمام المحكمة، كان قرار "بليسّي" قد ضعُف أثرُه للغاية ولم يَبقَ منه سوى القليل، والفضل في ذلك يرجع -إلى حدٍّ كبيرٍ- إلى حملة "الجمعية الوطنية للنهوض بالمُلوَّنين". أما في قضية "غاينز ضد كندا فيما يتعلَّق بجامعة ميزوري"([25]) (Missouri ex rel. Gaines v. Canada)، عام 1938م، فقد رُفِض طالب أمريكي من أصول أفريقية في كلية القانون بجامعة ميزوري التي كانت مُخصَّصةً حصرًا للطلاب من العِرق الأبيض، ولكن مُنح هذا الطالب عرضًا آخر: أن ترتِّب الولاية له الالتحاق بكلية القانون في ولاية أخرى وتتكفَّل بأقساطه الدراسية. رأت محكمة هيوز (Hughes Court) أن هذه الخطَّة لا تتوافق مع مبدأ "منفصلون ولكن متساوون"، ولكنها لم تقُل إن الفرص المتاحة للطالب خارج الولاية كانت أدنى بشكلٍ ملموسٍ من تلك المتوفرة في ولاية ميزوري؛ بل قالت إن ولاية ميزوري نفسها مسؤولة عن توفير فرصٍ متكافئةٍ للدراسات العليا للطلاب السود والبِيض.

هنيري براون
  القاضي هنري بيلينغز براون، مؤلف رأي الأغلبية في قضية بليسي

في عام 1950م، رأت محكمة فينسون (Vinson Court) في قضية "سويت ضد باينتر"([26]) (Sweatt v. Painter) أن كلية القانون المنفصلة التي أنشأتها ولاية تكساس للأمريكيين من أصول أفريقية لا تُكافِئ كلية القانون بجامعة تكساس (University of Texas School of Law). فقد كانت التفاوتات واضحةً وملموسةً بين الكليتَيْن، ولكن بذلت المحكمة قصارى جهدها لتقول إن "تلك الصفات غير القابلة للقياس الموضوعي، والتي تمثِّل مصدر عظمة أي كلية حقوق" تُعَدُّ "أهمَّ"([27]). فبالطبع لا يمكن أن تتطابق الكلية المنشأة حديثًا مع جامعة تكساس في هذه النواحي. ثم كانت قضية "ماك لورين ضد مجلس أوصياء ولاية أوكلاهوما [للتعليم العالي]"([28]) (McLaurin v. Oklahoma State Regents) التي صدر قرارٌ بشأنها في  اليوم نفسِه الذي صدر فيه قرار "سويت"، وفيها رأت محكمة فينسون أن مبدأ "منفصلون ولكن متساوون" لم يُطبَّق عندما قُبِلَ طالب أمريكي من أصول أفريقية في كلية للدراسات العليا كانت مُخصَّصةً سابقًا للبِيض حصرًا، مع إجباره على الجلوس في مقعد محدَّد في الصف، وبمفرده في الكافيتريا، وعلى طاولة خاصة في المكتبة.

وبحلول وقت صدور قرار "براون"، لم يُسمح للولاية التي أرادت الفصل بين الطلاب في كليات الدراسات العليا بتطبيق مبدأ "منفصلون ولكن متساوون" من خلال دفع تكاليف تعليم ذي مستوى معادل في ولاية أخرى، أو من خلال إنشاء كلية جديدة للدراسات العليا مُخصَّصة للسود حصرًا، أو عن طريق عزل الأمريكيين من أصول أفريقية داخل الكلية القائمة المخصَّصة للبِيض. إذن، ماذا بقي من مبدأ "منفصلون ولكن متساوون"؟ كما أشار الأستاذ الجامعي مايكل سيدمان (Michael Seidmanفي ضوء كل ما سبق، فإن السؤال الحقيقي هو: لماذا توجَّب اتخاذ قرار ’براون‘ في المقام الأول؟"([29]). عندما أعلنت محكمة وارن في قرار "براون" أن المنفصلين يستحيل أن يكونوا متساوين، يمكن القول إنها كانت فقط توضِّح -بشكلٍ صريحٍ- ما قد أثبتَته القضايا السابقة بصورةٍ أو بأخرى.

ويبيِّن قرار "براون" -في الواقع- عبقريةَ نظامنا الدستوري، فالمبادئ الدستورية لا تبقى ثابتةً مع مرور الزمن؛ بل تتطوَّر مع تغيُّر المجتمع واغتناء تصوراتنا من خلال التجارب.

بالطبع لم يكن هناك شيء حتميٌّ من الناحية المنطقية بشأن قرار "براون". قد يكون الفصل العنصري في المدارس الابتدائية مُبرَّرًا أكثر -إلى حدٍّ ما- من الفصل في كليات الدراسات العليا. وربما لو خُصِّصت موارد أكبر لمدارس الأمريكيين من أصول أفريقية المنفصلة، مقارنةً بمدارس البِيض، لكان ذلك يفي بمبدأ "منفصلون ولكن متساوون". إلَّا أن المنتقدين اتَّهموا قرارَ "براون" بأنه "مخالِف للقانونوكان القضاة أيضًا يخشون أن يكون كذلك فعلًا. لكنه لم يكن كذلك، بل كان له أساسٌ متينٌ في سابقته القضائية، وكان يُعَدُّ خطوةً مناسبةً بعد القضايا السابقة التي بتَّت فيها المحكمة. إن حقيقة أن الأشخاص الذين اعتمدوا "التعديل الدستوري الرابع عشر" لم يظنوا أنهم يحظرون الفصل العنصري تمثِّل إشكاليةً للنزعة الأصولية، ولكن ذلك لا يعني أن قرار "براون" غير شرعيّ.

فقرار "براون" يستحقُّ مكانته المميزة لمهاجمته الفصلَ العنصري الذي فَرَضته قوانين "جيم كرو"، ولكن ليس ذلك السبب الوحيد لأهميته. فقد أثَّر قرار "براون" تأثيرًا قويًّا في آرائنا تجاه المحكمة العليا والدستور. ويبيِّن قرار "براون" -في الواقع- عبقريةَ نظامنا الدستوري، فالمبادئ الدستورية لا تبقى ثابتةً مع مرور الزمن؛ بل تتطوَّر مع تغيُّر المجتمع واغتناء تصوراتنا من خلال التجارب. ربما لم يُدرك واضعو "التعديل الدستوري الرابع عشر" أنهم كانوا يحظرون الفصل العنصري في المدارس، ولكن كانت لديهم رؤية للمساواة، وقد نفذت محكمة وارن هذه الرؤيةَ وكـيَّـفتها مع عصرنا. وبهذه الطريقة، قد يكون قرار "براون" المثالَ الوحيد والأكثر إقناعًا عن الطابع الجوهري للقانون الدستوري الأمريكي.

الهوامش

[1] 347 U.S. 483 (1954).

[2] 163 U.S. 537 (1896).

[3]  انظر على سبيل المثال:

Michael J. Klarman, From Jim Crow to Civil Rights: The Supreme Court and the Struggle for Racial Equality (Oxford University Press, 2004), 236-89.

[4]  انظر: قضية "سويت ضد باينتر" (Sweatt v. Painter)، 339 U.S. 629 (1950)؛ وقضية "ماك لورين ضد مجلس أوصياء ولاية أوكلاهوما [للتعليم العالي]" (McLaurin v. Oklahoma State Regents)، 339 U.S. 637 (1950).

[5]  انظر:

Klarman, supra note 3, at 291.

[6] 347 U.S. 483, 495 (1954).

[7] Ibid. at 494.

[8]  انظر: قضية "غايل ضد برودير" (Gayle v. Browder)، 352 U.S. 903 (1956) (الحافلات العامة)؛ وقضية "هولمز ضد مدينة أتلانتا" (Holmes v. City of Atlanta)، 350 U.S. 879 (1955) (ملاعب الغولف المحلية)؛ وقضية "عُمدة مدينة بالتيمور ضد داوسون" (Mayor of Baltimore v. Dawson)، 350 U.S. 877(1955) (الشواطئ العامة والحمامات العمومية).

[9]  قضية "براون ضد مجلس التعليم في مدينة توبيكا" (Brown v. Board of Education of Topeka)، 349 U.S. 294 (1955).

[10]  سجلات الكونغرس (102 Cong. Rec. H3948, 4004) (الطبعة اليومية بتاريخ 12 مارس 1956م). انظر:

Justin Driver, “Supremacies and the Southern Manifesto,” Texas Law Review 92 (2014): 1053, 1054.

[11]  انظر على سبيل المثال:

Robert B. McKay, “With All Deliberate Speed: A Study of School Desegregation,” New York University Law Review 31: 991: (1956): 1016-20.

[12] 358 U.S. 1 (1958).

[13]  انظر على سبيل المثال:

J. Harvie Wilkinson III, From Brown to Bakke: The Supreme Court and School Integration: 1954-1978 (Oxford University Press, 1979), 102-8; Davison M. Douglas, “The Rhetoric of Moderation: Desegregating the South During the Decade After Brown,” 89 Northwestern University Law Review 92 (1994): 139 n. 212; James R. Dunn, “Title VI, the Guidelines and School Desegregation in the South,” Virginia Law Review 53 (1967): 42, 43-4.

[14] 376 U.S. 254 (1964) (انظر: الفصل الخامس).

[15]  انظر على سبيل المثال: قضية "كوكس ضد ولاية لويزيانا" (Cox v. Louisiana)، 379 U.S. 536 (1965)؛ وقضية "إدواردز ضد ولاية كارولينا الجنوبية" (Edwards v. South Carolina)، 372 U.S. 229 (1963).

[16] انظر على سبيل المثال: قضية "ميراندا ضد ولاية أريزونا"، 384 U.S. 436 (1966)؛ وقضية "جدعون ضد واينرايت" (Gideon v. Wainwright)، 372 U.S. 335 (1963)؛ وقضية "ماب ضد ولاية أوهايو"، 367 U.S. 643 (1961) (انظر: الفصول الثامن والرابع والثاني).

[17]  انظر على سبيل المثال: "نُزُل هارت أوف أتلانتا ضد الولايات المتحدة" (Heart of Atlanta Motel v. United States)، 379 U.S. 241 (1964)؛ وقضية "كاتزنباخ ضد مكلونغ"، 379 U.S. 294 (1964).

[18]  انظر على سبيل المثال: قضية "مصرف لويزفيل جوينت ستوك لاند ضد رادفورد" (Louisville Joint Stock Land Bank v. Radford)، 295 U.S. 555 (1935)؛ وقضية "آدكنز ضد مستشفى الأطفال" (Adkins v. Children’s Hospital)، 261 U.S. 525؛ وقضية "هامر ضد داغنهارت" (Hammer v. Dagenhart)، 247 U.S. 251 (1918)؛ وقضية "لوتشنر ضد ولاية نيويورك" (Lochner v. New York)، 198 U.S. 45 (1905).

[19] 304 U.S. 144, 152 n. 4 (1938).

[20]  انظر:

Richard Kluger, Simple Justice: The History of Brown v. Board of Education and Black America’s Struggle for Equality (Vintage, 1975), 633-4; John P. Frank and Robert F. Munro, “The Original Understanding of the ‘Equal Protection of the Laws,’” 1972 Washington University Law Quarterly (1972): 421, 432-3.

[21]  انظر:

345 U.S. 972 (1953).

[22] 347 U.S., at 483, 489, 492.

[23] 347 U.S. 497 (1954).

[24] Ibid. at 500.

[25] 305 U.S. 337 (1938).

[26] 339 U.S. 629 (1950).

[27] Ibid. at 634.

[28] 339 U.S. 637 (1950).

[29] Louis Michael Seidman, “Brown and Miranda,” California Law Review 80 (1992): 673, 708.