التجديد المعاصر لمنطق الحجاج: تولمين وبيرلمان

إن علاقة المنطق الصوري بالممارسة الاستدلالية الطبيعية، وباللغة الطبيعية بشكل عام، كانت محورًا لمناقشات طويلة بين المناطقة؛ بل إن الجدل حول علاقة المنطق باللغة الطبيعية كان محركًا لتطوير المنطق المعاصر. وبقدر ما ساهمت الآليات المنطقية الصورية في تطوير الدراسات اللسانية التي تناولت اللغة الطبيعية، كما ظهرت مع عدد من النظريات اللسانية المعاصرة، ساهمت مقاربة اللغة الطبيعية من وجهة نظر منطقية في بيان حدود المنطق الصوري التطبيقية من جهة وفي تطوير المنطق الصوري نفسه من جهة أخرى. فقد اجتهد المناطقة في تطوير التصورات الدلالية المنطقية، وبخاصة مفهوم الصدق، وإخراجه من النزعة الدلالية الصورية، التي تتميز بتركيزها على الجانب الماصدقي في العبارات، إلى دلاليات وتداوليات منطقية ذات بعد مفهومي. وجرى تطوير نظريات وأنساق منطقية تأخذ بعين الاعتبار العناصر المفهومية، بما يثري المنطق ويقربه من الممارسة الاستدلالية كما تمارس في اللغات الطبيعية. فانفتح المنطق بهذا الطريق على أنساق لا تلتزم بثنائية القيم (الصدق والكذب)؛ فمنها التي جعلت القيم ثلاثة (وهو المنطق الثلاثي القيم)، والتي جعلته أكثر من ذلك (وهي أنساق المنطق المتعدد القيم)، ومنها التي جعلت الصدق والكذب طرفين لمجال من القيم يقترب ويبتعد عن أحدهما إلى الآخر (وهو المنطق المشتبه)، كما تطورت الدلاليات المنطقية من الدلاليات التي تربط الصدق بتحقق واحد إلى دلاليات تربطه بإمكانات تحققية متعددة (نظرية العوالم الممكنة). وقد كانت هذه التطورات ناتجة عن بروز عجز الدلاليات الصورية للمنطق الكلاسيكي عن إدماج الملابسات السياقية المتعددة التي تتميز بها اللغة الطبيعية. وقد استمر هذا العجز -في نظر نقاد المنطق الصوري- حتى مع هذه المحاولات المذكورة. وبذلك، فإن التعامل المنطقي مع اللغة الطبيعية عانى عبر التاريخ من عقدة عدم الكفاية والاختزال، أي عدم كفاية آلياته ومعاييره لوصف اللغة الطبيعية وتقويمها، مع الثراء السياقي الذي تتميز بها، واختزاله الاستدلال فقط في جوانب محددة منه.
سيتخذ منظرو الحجاج والاستدلال الطبيعي المعاصرون مسألة عدم الكفاية والاختزال بوصفها اعتراضًا أساسيًّا على المنطق الصوري. فقد صارت عدم كفاية المنطق الصوري لوصف الاستدلال الطبيعي وتقويمه الدعوى التي سيتقلدونها في مواجهته، بصيغ متعددة ومنطلقات مختلفة. وقد كان ستيفن تولمين وبول لورنتزن (P. Lorenzen) وشايم بيرلمان الرواد الأوائل لهذا النقد، كل من منطلقه ورهانه. ويخرج قارئ هذه الانتقادات إلى أن التصور المنطقي الصوري للاستدلال هو تصور مضيَّق ومضيِّق لأنه يتناول نوعًا واحدًا من أنواع الاستدلال الكثيرة، وأن التصوير المنطقي الصوري للاستدلال الطبيعي هو تصوير اختزالي لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار جميع العناصر المقومة والفاعلة في الاستدلال الطبيعي. فالتصور المنطقي الصوري للاستدلال تصور ضيق؛ لأنه في الأصل معياري وبنيوي، يحدد مسبقًا نموذجًا معياريًّا للكيفية التي يجب أن يكون عليها الاستدلال، وليس وصفًا للاستدلال كما يرد في الواقع في تجلياته المختلفة، كما أنه يركز أساسًا على بنية الاستدلال وصورته، وبذلك يغفل عددًا من العناصر الأساسية التي تُشكل الاستدلال الطبيعي كما يرد في الواقع.
-
- تولمين والمنطق التطبيقي
أصدر ستيفن تولمين كتابه المؤثر "استعمالات الاستدلال" سنة 1958، وأوقفه على نقد عميق للمنطق السائد، وبخاصة فيما يتعلق بتحليلها وتقويمها للاستدلالات غير التحليلية، داعيًا إلى منطق تطبيقي يأخذ بعين الاعتبار مختلف أنواع الاستدلال. لقد أكد تولمين على وجود بون شاسع بين ما يقرره المنطق الصوري من معايير الصحة والدلالة من جهة؛ وما يوجد في واقع الحجاج التطبيقي، من جهة أخرى.[1] وذلك أن تلك المعايير -وبشهادة المناطقة الصوريين أنفسهم- تبقى بعيدة عن التطبيق أو محدودة التطبيق على الاستدلالات في الواقع. انتقد تولمين تلك النزعة المنطقية الرامية إلى جعل معايير الاستدلال موحدة في كل المباحث النظرية، أو باصطلاحه جعلها متعلقة بالحقل (Field-dependent) ودافع عن استقلال كل حقل معرفي بمعاييره الخاصة، مع القبول بإمكان استعمال النموذج البنيوي نفسه للاستدلال. بهذا المعنى فإن تولمين جعل من التمييز بين أنواع الاستدلالات والاستدلالات وعلاقتها بالحقل وسيلته لنقد المنطق الصوري والانفتاح على تصوره الخاص للاستدلال من خلال النموذج الذي قدمه للاستدلال.
ما رضي تولمين بالمنطق الصوري والرياضي حاكمًا على عموم الاستدلال، إنما قصر دائرة اشتغاله على نوع مخصوص من الاستدلالات. لذلك لم ير اعتباره منطقًا بإطلاق، وإنما هو منطق مخصوص يتخذ من نوع مخصوص من الاستدلال موضوعًا له. ودافع عن محدودية المنطق الرياضي لمحدودية موضوعه؛ وذلك أن اللباس الصوري الرياضي الذي أُلبِسَه المنطق أدى به إلى تضييق مجال مفهوم الاستدلال، ليقتصر فقط على النموذج القياسي، سواء الأرسطي منه أو الرمزي المعاصر. ولذلك فالمطلوب هو توسيع مجال الاستدلال، وهذا لا يتأتى إلا بتوسيع مجال المنطق. وقد اقترح أن يكون المنطق الموسع البديل منطقًا عمليًّا. إن هذا التَّوسيع سيؤدي إلى أن يشمل موضوع المنطق، بالإضافة إلى الاستدلالات ذات الطابع الصوري، استدلالات أخرى تتسم بدرجة أقل من الصورية، أو تنعدم فيها الصورية أصلاً. فيصير المنطق، بذلك، ميزانًا شاملاً لكل هذه الأنواع من الاستدلالات. فما هي هذه الأنواع من الاستدلالات التي دعا تولمين إلى الأخذ بها؟ وما خصوصية النوع الذي انحصر فيه المنطق الصُّوري الرَّمزي؟
وبلغة تولمين فإن "ع، ت إذن ن"[4] تعتبر تحليلية إذا وفقط إذا كان تأسيس الضمانة يحتوي صراحة أو ضمنًا على المعلومة التي توجد مسبقا في النتيجة. في هذه الحالة، تصير "ع، ت إذن ن" ذات نظام توتولوجي؛ وفي مقابلها إذا كانت "ت" لا تحتوي على المعلومة المستخلصة في النتيجة، فإن العبارة "ع، ت إذن ن" تصير ذات نظام مادي (جوهري).
وجب ألا يُفهم مما سبق أن تولمين قد رفض النموذج القياسي الصوري رفضًا مطلقًا، وإنَّما اعتبره نوعًا مخصوصًا من الأنواع الممكنة للاستدلال. وهذه الأنواع كثيرة، لكن يمكن معرفتها بمعرفة مقامها في سلم من المتقابلات الخمس التالية: 1- استدلالات تحليلية واستدلالات جوهرية؛ 2- استدلالات سليمة من الناحية الصورية واستدلالات غير سليمة من الناحية الصورية؛ 3- استدلالات تستعمل ضمانة واستدلالات تؤسِّس ضمانة؛ 4- استدلالات تحتوي ألفاظًا منطقية واستدلالات لا تحتوي ألفاظًا منطقية؛ 5- استدلالات ضرورية واستدلالات احتمالية. ولا تعني هذه التقابلات المثنوية الخمسة لأنواع الاستدلالات وجود صنفين من الاستدلالات أحدهما يمثل جانبًا من التقابلات المذكورة والصنف الآخر يمثل الجانب الآخر؛ بل إن كل تمييز منها مستقل ومختلف عن التمييز الآخر والعلاقة بينها في الاستدلالات علاقة تقاطع[2]. والقياس في هذا السياق ما هو إلا تأليف من التأليفات الممكنة بين هذه الأطراف، ويمثل هذا التأليف التأليفَ الأكثر صورية، وعليه، فهو الأقل تمثيلية ونموذجية لمجموع الاستدلالات. فيعتبر من الاستدلالات التحليلية، بالنظر إلى التقابل بين الاستدلالات الجوهرية والاستدلالات التحليلية. ويختص هذا النوع بأنه ذو نظام توتولوجي، أي أن المقدمات تحتوي على المعلومة المستخلصة من النتيجة. ويجمع النموذج القياسي الاستنباطي للاستدلال التأليف الأكثر تطرفًا من الأنواع الخمسة للاستدلال. فهو -في الوقت نفسه- تحليلي وسليم صوريًّا ولغته متواطئة وهو من النوع الذي يَستعمل ضمانة[3]. وبلغة تولمين فإن "ع، ت إذن ن"[4] تعتبر تحليلية إذا وفقط إذا كان تأسيس الضمانة يحتوي صراحة أو ضمنًا على المعلومة التي توجد مسبقا في النتيجة. في هذه الحالة، تصير "ع، ت إذن ن" ذات نظام توتولوجي؛ وفي مقابلها إذا كانت "ت" لا تحتوي على المعلومة المستخلصة في النتيجة، فإن العبارة "ع، ت إذن ن" تصير ذات نظام مادي (جوهري).
إن هذا النوع من الاستدلالات قد ضيّق من المجال التطبيقي للمنطق ليقتصر على أصناف محددة من المباحث النظرية، وجعله أبعد عن الإحاطة بجميع أنواع الاستدلال عند التطبيق. استحضر تولمين نماذج من أعمال بعض المناطقة من أجل بيان تجليات مشكلة التطبيق بالنسبة لنموذج المنطق الصوري الاستنباطي ومعاييره، منها، على سبيل المثال، التمايز الذي أقامه نيل (Kneele) بين الاستدلالات التحليلية (المستخدمة في الرياضيات الخالصة) والاستدلالات الجوهرية (المستعملة في العلوم التجريبية)، وأفاد هذا التمييز في رفض الدعاوى القطعية للعلوم التجريبية، لأنها تختص فقط بدرجة عالية من الاحتمالية[5]. يؤاخذ تولمين على نيل أنه لم يذهب بتحليله لطبيعة الاستدلالات وأنواعها والمنطق الملائم لها إلى المدى المناسب، بعدما اكتشف أن معيار القطعية وضوابطها تناسب الاستدلالات التحليلية وأنها لا تنطبق على الاستدلالات الجوهرية، بناء على تمييزه بين الاستدلالات التحليلية المستعملة في الرياضيات الخالصة والاستدلالات الجوهرية المستعملة في العلوم التجريبية، ومع أنه قدم هذه النتيجة على شكل مفارقة، إلا أن التفسير الذي قدمه لها كان تفسيرًا بعيدًا، أو هو أشبه بنوع من التهرب من النتيجة المنطقية التي يؤدي إليها مسار التحليل[6].
ولم يكن نيل وحده من تخلص من هذه المفارقة بعدما اكتشفها وتركها دون حل، فهذا ستراوسن اعترف بالتمايز بين الاستدلالات الاستنباطية والاستدلالات الاستقرائية وبالأخطاء المرتكبة عند الحكم على الاستدلالات الاستقرائية بمعايير الاستنباطية. إلا أن ستراوسن لم يقترح حلا لهذا التمايز -في نظر تولمين- بل الأسوأ أنه استعمل لغة الاستدلالات التحليلية ومعاييرها -كما فعل نيل- لتقرير التمايز بين الاستدلالات الجوهرية والاستدلالات التحليلية، ليجد أن الاستدلالات الجوهرية ليست ندّا ولا في مستوى الاستدلالات التحليلية. إن الخلط بين التمييزات الخمس المذكورة للاستدلال والخلط بين الأسئلة حول الصحة الصورية والضرورة والأسئلة حول التحليلية هي مصدر هذه المشكلة[7].
إن الحدود التطبيقية للنموذج القياسي الاستنباطي تجعل من الضروري استحضار الفروق بين الاستدلالات المختلفة. ذلك أن كل استدلال أو نوع من الاستدلالات يكون مرتبطًا من حيث خصائصه الأنطولوجية بنوع منطقي معين. من هنا، تبدو الحاجة إلى نوع آخر من التمييز يكون هذه المرة بين الأنواع المنطقية المختلفة. وفي هذا التمييز تمييز بين الاستدلالات الواقعية في الميادين المعرفية والعلمية المختلفة، ويتسنَّى بها أو وفقها التمييز بين أنواع الاستدلالات المختلفة. وفي هذا الإطار، أدخل تولمين مفهوم "الحقل الحجاجي"، بوصفه أحد المفاهيم الأساسية في نظريته الحجاجية، ليكون آلة لهذا التمييز، ولكي يؤخذ بعين الاعتبار انتماء الاستدلال إلى نمط منطقي مخصوص. يسدّ هذا المفهوم الباب في وجه واحدية النموذج الصوري للاستدلال، ويفتح الباب أمام الأنواع المختلفة للاستدلال، غير الاستدلال القياسي الصوري المعروف. عرّف تولمين مفهوم الحقل الحجاجي تعريفًا غير مباشر بهذه الصيغة: "نقول إن استدلالين ينتميان إلى الحقل الحجاجي نفسه عندما تكون المعطيات والنتائج المشكلة لكل من الاستدلالين من نمط منطقي واحد"[8] والعكس بالعكس، مع اعتبار أن كل الاستدلالات لها أهمية متكافئة وألّا وجود لتفاضل ولا هرمية بين الحقول الحجاجية. لكن هل يعني هذا أنه ليس هناك من الخصائص ما يجمع بين الاستدلالات، وعليه، ليست هناك معايير موحدة يمكن بها تقويم كل الاستدلالات؟ إن وُجد ما هو مشترك بين جميع الاستدلالات كيف يمكن التمييز بين ما هو مخصوص بالحقل الحجاجي وما هو مشترك بين كل الحقول الحجاجية؟
للتعامل الجيد مع هذا الإشكال، اقترح تولمين مفهومين جديدين، بالنظر إلى وجود عناصر تبقى هي نفسها في كل الحقول الحجاجية وعناصر أخرى تتغير من حقل لآخر، فإن تلك الملامح الحجاجية العامة التي تشترك فيها جميع الحقول قد سماها تولمين بالثابتة في كل الحقول "Field-invariant"؛ وتلك الملامح الخاصة التي تختلف من حقل حجاجي لآخر سُمِّيت بالمتعلقة بالحقل "Field-Dependent". ولتوضيح هذه العلاقة التي تجمع بين الاستدلال و"الحقل الحجاجي" استحضر تولمين النموذج الاستدلالي القانوني وعقد تمثيلا بين المسطرة القانونية والمسطرة الحجاجية، مشيرًا إلى تشابهات مهمة في الإجراءات المتبعة لمعالجة مختلف أنواع الحالات القضائية حتى مع وجود اختلاف في العناصر المشكلة للاستدلال. فمن الممكن تحديد مراحل مشتركة لتطور الاستدلالات رغم انتمائها إلى حقول متمايزة ومع وجود تعدد كبير في التأليفات الممكنة من كل استدلال- قضية. بهذه الطريقة يمكن تحديد العلاقة بين الاستدلال والحقل الحجاجي: أي الاتصال والانفصال بينهما، من جهة؛ والاشتراك والاختلاف بينهما، من جهة أخرى. وكان لهذا النوع من التمييز أثر على معايير التقويم. ويظهر ذلك بعد التمييز الذي أقامه تولمين بين المعيار والقوة، والذي يتضح باستعمال ألفاظ الجهات التي تُحدد درجة الظن والاحتمال والضرورة في الاستدلال، ونموذجه لفظ "لا يمكن" (استعمله بدلاً من لفظ محال)، حيث إن "لا يمكن" لها نفس القوة (والتي تعرف كـ"اقتضاء عملي لاستعمالها") في حقول الحجاج المتنوعة، أما المعيار (وهي المبررات التي تُلجِئ إلى ألفاظ الجهات) ستختلف من حقل لآخر[9]. فالقوة، بهذا المعنى، من المفاهيم الثابتة في كل الحقول، والمعيار من تلك المفاهيم المتعلقة بحقل مخصوص. ويظهر من هذا أن قوة ألفاظ الجهات، مثل الضرورة والإمكان والمحال، حسب تولمين، هي من النوع "الثابت في كل الحقول"، في حين أن المعايير -وهي التي تستعمل لتحديد ما إذا كان لفظ من ألفاظ الجهات قد استعمل في مقام مخصوص استعمالا جيدًا أو خاطئًا- هي من النوع "المتعلق بحقل مخصوص"[10]. وقد لخص تولمين ذلك بقوله "كل قوانين نقد الاستدلالات واختبارها […]، في الممارسة، خاضعة لحقل مخصوص، في حين أن كل ألفاظ الاختبار هي في قوتها ثابتة في حقل"[11].
ولئن نجح تولمين في إبراز جوانب الاختلاف في أنواع الاستدلالات من جهة تعلقها بالحقول الحجاجية، وفي بيان محدودية النموذج القياسي الذي اعتد به المنطق الصوري، فإنه نجح أيضًا في إثارة الجدل المنطقي بخصوص نموذج جديد اقترحه للاستدلال. وهو نموذج موحد جامع لمختلف الاستدلالات من حيث صورته لكنه نموذج أوسع من النموذج القياسي لأن مكوناته تسمح بالاختلاف بين أنواع الاستدلالات (في الضمانة والتأسيس والجهة مثلا). يتألف نموذج تولمين للاستدلال من عناصر خمسة هي: الدعوى ((Claim، ونرمز لها بالرمز "د"، وهي تعني النتيجة التي يروم المدلل إثباتها؛ والجهة، ونرمز لها بالرمز "ج"، وهي الجهة التي تقرر بها الدعوى مثل الضرورة أو القطع أو الاحتمال أو غير ذلك؛ والمعطيات (Data)، ونرمز لها بالرمز "ع"، وهي تعني المضامين (مقدمات مضمونية) التي جرى الانطلاق منها؛ والضمانة (Warrant)، ونرمز لها بالرمز "ض" وهي تتخذ صيغة افتراضية على صورة "إذا ... فـ...."، وغالبا ما تكون مضمرة وتمثل عادة إما حكما عامًّا أو قانونًا أو عادة أو غير ذلك مما تتأسس عليه المقدمات؛ والتأسيس (Backing)، ونرمز له بالرمز "س"، وهو أحكام ومعلومات عامة تؤسس للضمانة؛ وأخيرًا، شروط الإبطال (Rebuttal)، ونرمز لها بالرمز "ط"، وهي استثناءات أو شروط قابلة لأن تخرم النتيجة، ومن ثمَّ تبطلها. وبهذه المكونات يتشكل الاستدلال في الصورة الآتية[12]:

وقد قدم تولمين بعض الأمثلة البيانية لكيفية تحليل استدلال ما بواسطة هذا النموذج، مثل هذا المثال[13]:

ويحتاج اعتبار هذا النموذج الموسع إلى منطق موسع. وذلك أن المنطق الصوري قد جرى تضييقه ونمذجته فصار منطقًا منمذجًا، لأنه استند إلى عينة ضيقة ومخصوصة جدًا من الاستدلالات، وهذا ما جعله أبعد عن مسالك التدليل الواقعي. والمطلوب -في نظر تولمين- بدلا من ذلك، اجتراح نمط جديد من التمنطق يأخذ بالاعتبار المجال الواسع للاستدلالات، وهذا يعني أننا في حاجة إلى منطق عملي (Working Logic). وسيجد صدى لدعوته لاحقًا ببروز نظريات منطقية متعددة تدعي وصلا بالمنطق العملي.
-
- بيرلمان والخطابة الجديدة
في السنة نفسها لصدور كتاب تولمين، 1958، أصدر كل من خايم بيرلمان ولوسي أولبريخت-تيتكا كتابا بعنوان "رسالة في الحجاج: الخطابة الجديدة"[14]، كان له تأثير مماثل في بروز موجة جديدة من التفكير في الاستدلال والحجاج. وقد تضمن الكتاب محاولة نقدية لما آل إليه النظر في الاستدلال، بتأثير من العقلانية الديكارتية والاتجاه الصوري التجريبي الذي مثلته الوضعية المنطقية، سعيًا لإبطال رؤية كانت تجعل مجال العقلانية محصورًا في تلك الصور الاستدلالية التي تدَّعي البرهان القطعي على هيئة النموذج الرياضي الهندسي من جهة؛ أو في ما يقبل التحقق التجريبي على النموذج الاستقرائي التجريبي السائد في العلوم الطبيعية من جهة أخرى. وهي رؤية سعت إلى استبعاد كل معرفة أو قول ينتمي إلى مجال الممكن والمحتمل والظن خارج إطار المنطق والعقلانية[15]. لذلك دعا الكاتبان إلى وجوب نقد فكرة البداهة البرهانية من حيث إنها صفة للتفكير العقلاني، حتى يتسنى لنا تأسيس نظرية في الحجاج تقبل استعمال العقل لتوجيه أفعالنا والتأثير على أفعال الآخرين[16].
انطلقت الخطابة الجديدة من الجدل والخطابة الأرسطيين لكنها انفصلت عنهما في الوقت نفسه؛ فتوجه اهتمامها إلى الاستدلالات التي وسمها أرسطو بالجدلية، ودرسها في كتاب "الطوبيقا" وطبقها في كتاب "الخطابة"[17]. ويقابل هذا المجال مجالَ الاستدلال التحليلي المستعمل في البرهان. فالأول يعتمد على الحجاج منهجًا وعلى الظن قصدًا، فيما يعتمد الثاني على البرهان منهجًا وعلى القطع قصدًا. من هنا فإن "نقطة انطلاق الخطابة الجديدة، كما هو الشأن أيضًا في الخطابة القديمة، هي التمييز الذي أقامه أرسطو بين الاستدلال التحليلي والاستدلال الجدلي"[18]. وما دام المنطق قد سار بالاستدلال التحليلي إلى أبعد الحدود بالاستناد إلى النموذج الاستدلالي الرياضي، فإن الوقت قد حان ليتوجه المناطقة لتقديم نظرية في الحجاج تُكمل نظرية البرهان، تنطلق من دراسة الاستدلالات المتداولة في الفلسفة والقانون والعلوم الإنسانية.[19] وهذا هو مشروع الخطابة الجديدة.
يُوحي عنوان الخطابة الذي سمَّى به بيرلمان وتيتكا نظريتهما بتشابه مع الخطابة الأرسطية، إلا أن الواقع أن الخطابة الجديدة تتميَّز عن الخطابة الأرسطية بعدَّة مميزات بحيث يجوز القول إنها نظرية جديدة تُفيد من النظرية الأرسطية، إذ إنه:" وهو منطلق في سعيه للبحث عن منطق للقيم، وجد بيرلمان في طريقه الخطابة الأرسطية والخطابة القديمة[20]. لذلك ما كان من بيرلمان وتيتكا إلا أن أعلنا انخراطهما في المشروع الخطابي الأرسطي لكن مع إعادة صياغة الخطابة إعادة جذرية لتلبي متطلبات نظرية الحجاج، وتحقق غاياتها، وذلك بانتشالها من غلبة التوجه الأسلوبي الذي ركز على جمالية الخطاب ليظهر منها جانبها الإقناعي. ومع أن أرسطو قد أكد سابقًا على جوهرية الوجه الحجاجي من الخطابة، إلا أن الخطابة الجديدة ذهبت إلى أبعد منه في تأكيد هذا الوجه. من هنا يجب إيلاء الاهتمام بجانب من مميزات الخطابة الجديدة عن الخطابة الأرسطية. فبينما انحصر اهتمام الأخيرة في الطريقة الشفوية، والتوجه إلى جماعة -في مواضيع مخصوصة- غلب عليها الطابع السياسي والقضائي، أخذت الخطابة الجديدة بعين الاعتبار الطريقة الكتابية كما هو الشأن في الشفوية، ولا تشترط التوجه إلى الجماعة فقط، فقد يكون المخاطب فردًا واحدًا كما يُمكن أن يكون غير متعيِّنٍ لا جماعة ولا فردًا، بل قد يخاطب المرء نفسه، كما أن المواضيع لا تنحصر في ذوات الطابع السياسي والقضائي؛ بل إن أي موضوع يجوز أن يكون مادة للحجاج في الخطابة الجديدة[21]. يُضاف إلى هذا، أن الخطابة الجديدة تُضيف إلى الخطابة الأرسطية الجدل كذلك، بحيث صارت الخطابة الجديدة تجمع بينهما، وذلك ما جعل بعض الباحثين المعاصرين يؤكدون أن من أهم ما يُميز الخطابة الجديدة عن القديمة هو جوهرية الجانب الجدلي فيها، حيث إنه من الممكن تسميتها بالجدل الجديد كذلك[22]. وقد عدَّد بيرلمان وتيتكا مبررات عدم تسمية الكتاب بالجدل، ولعل أهمها أن استعمال اصطلاح "الجدل" في الفلسفة كان في غير معناه الأصلي: فاستُعمل قديمًا للدلالة على المنطق واستُعمل حديثًا من قِبل هيجل في معنى فلسفي بعيد عن المعنى الأصلي[23]. وعلى هذا، فإن الصورة النهائية للخطابة الجديدة تُشكل نظرية في الحجاج جديدة مُكمِّلة للنظر المنطقي في البرهان وتقوم أساسًا على الجدل والخطابة، وتهدف إلى "دراسة التقنيات التخاطبية التي تمكّن من تحقيق -أو رفع درجة- اقتناع العقول بالأوضاع المطروحة عليها"[24].
لعل أهم التجديدات التي أضافتها الخطابة الجديدة إلى نظرية الحجاج هو ما تعلق بالمتلقي سواء من حيث أهميته في الحجاج أو من حيث طبيعته. فقد أولت أهمية كبرى للمستمع أو المتلقي، وهو أهم عنصر فيها سواء من جهة بناء الاستدلال أو من جهة قبوله. فمن جهة بناء الاستدلال، أُخِذ المستمع بعين الاعتبار عند بنائه، لأن الحجاج لا يمكن أن يتم إذا لم يَستحضِر الخطيبُ مستمعَه، فـفي الحجاج "لا يكفي أن تتكلم أو تكتب فقط، بل يجب أن يُسمع ويُقرأ لك"[25]. إن الحجاج لا يكون من جانب واحد، كما هو الشأن في التصور العقلاني والمنطقي للبرهان، لذلك وجب على الخطيب في أثناء بنائه للاستدلال أن يستحضر كل الملابسات المتعلقة بالمستمع، وكذلك الأمور المشتركة بين الخطيب والمستمع. وعلى هذا فإن نقطة انطلاق الحجاج -لدى الخطابة الجديدة- هي تلك العلاقة الموجودة بين طائفة من العقول في زمان ما وباتفاق مسبق ضمنيًّا كان أو ظاهرًا. تشكل هذه العلاقة ظرفًا للتخاطب يختلف من آنٍ لآنٍ بحسب مكونات هذه العلاقة والظروف الزمانية والمناسباتية. فالكتابة الأكاديمية، مثلا، خطابة إقناعية تكون بين طائفة مخصوصة من العقول يجمع بينها التخصص العلمي. وعليه، يبقى المستمع المفترض عند المدلِّل افتراضًا مبنيًّا بدرجة من درجات النسقية[26].
ومع أن الافتراضات ليست وقائع يُطلب التحقق منها أو حقائق مركبة من وقائع، إلا أنها تنتمي أيضا إلى المواد التي عادة ما يحصل عليها الاتفاق، كما أنها قد تحوز على القبول من المتلقي الكلي، وذلك باعتبارها، في الغالب، منطلقات للحجاج مع توقع تقويتها لاحقًا بعناصر داعمة.
أما من جهة تلقي الاستدلال أو قبوله، فقد يحصل من جهة متلقٍّ معين، وهو الذي يمثله فرد أو جماعة مخصوصيْن، مُحدَّدَيْن في الزمان والمكان، أو من جهة متلقٍّ كليٍّ مفترض، وهو الذي يمثله متلق اعتباري ينوب عن كل ذي عقل سليم. ويختلف هذا المتلقي الكلي من متكلم لآخر، لكنه في النهاية متلق نموذجي يبنيه المستدل من خلال الغرض الذي يريد تحقيقه، كأن تكون الجماعة الأكاديمية في تخصص ما هي المتلقي الكلي لخطيب أكاديمي في التخصص نفسه، وهكذا. ويمكن للمتلقي المخصوص أن يصبح متلقيًا كليًّا ويجوز العكس، لكن العلاقة بين هذين النوعين معقَّدة، ويبقى للخطيب الاختيار في أن يجعل من متلقيه تجسيدًا للمتلقي الكلي أو للمتلقي المخصوص. يُضاف إلى النوعين السابقين نوع ثالث من المتلقين هو الذات، في المحاورة الباطنية أو المناجاة، وهي ذات اعتبارية وليست حقيقية، لكنها تلعب أحيانا دور المحاور الحقيقي[27]، لأن المستدل يمكنه أن ينجز أفعالا من الاعتراض والتحاور التخاطبي مع نفسه، شبيهًا بالذي يكون مع غيره. ويستتبع التمييز بين النوعين الأولين من الاستماع، تمييز آخر بين نوعين من المسموعية هما الإقناع (persuader) وهو حجاج يروم التسليم من قبل متلق مخصوص؛ والاقتناع (conviction) وهو يكون نتيجة حجاج يفترض قبوله من قبل كل ذي عقل[28].
لما كانت غاية الحجاج في الخطابة الجديدة هي تحقيق اقتناع المتلقي أو الرفع من درجة هذا الاقتناع عنده، فإن الوصول إلى هذه الغاية يتطلب تحديد نقطة الانطلاق والمسار الذي سيقطعه السعي. ومنطلقات الاستدلالات هي المواد والمقدمات التي يُفترض أن تكون مواد ومقدمات يقبلها المتلقي، فلا يمكن للخطيب أن ينطلق من مقدمات يرفضها المتلقي، لأنها ستصير نفسها مطالب للحجاج. وعلى هذا يُعول الخطيب، في استعماله لمقدمات تؤسس بناء استدلاله، على قبول المتلقي لمقدمات الانطلاق[29]. وعلى هذا يكون النظر في المقدمات التي يُفترض أن تكون منطلقًا للحجاج في مستويات ثلاث: مستوى الاتفاق عليها؛ ومستوى الاختيار بينها؛ ومستوى عرضها على المتلقي حتى تكون أيسر للقبول.
ففي مستوى الاتفاق، تُصنف المقدمات التي يمكن أن تفيد في العملية الحجاجية إلى صنفين اثنين: صنف متعلق بالواقع، ويتضمن الوقائع والحقائق والافتراضات، وهي معلقة بصلاحيتها للقبول من قبل المتلقي الكلي، بحكم اختلاف التصورات الفلسفية لما هو الواقع؛ والصنف الآخر متعلق بالتفضيل، ويتألف من القيم وتراتبيات التفضيل ومواضع التفضيل، وهي متعلقة بوجهة نظر محددة قد تطابق وجهة نظر متلقٍّ خاص، وذلك لأنها لا تسعى إلى التطابق مع واقع سابق الوجود[30].
يتجسد صنف المقدمات المتعلقة بالواقع في الوقائع والحقائق والافتراضات. ولأن تعريف مفهوم "الواقعة" أمر عزيز لوجود الاختلاف فيه، اكتفى بيرلمان وتيتكا بوصف عام يشير إلى الفكرة التي نملكها بخصوص معطيات معنية، تحيل إلى واقع موضوعي وتُميِّز، في نهاية التحليل، ما هو مشترك بين كثير من الكائنات المفكرة أو بين جميعها[31]. إنها بكل بساطة المقدمات التي يُراد منها الإحالة والتطابق مع معطيات في الواقع سواء تحقق هذا التطابق أو لم يتحقق. لكن الوقائع تبقى منعزلة ومنفردة ما لم تتشكل في صيغ مركبة، وهذه الصيغ المركبة هي التي تختص في الخطابة الجديدة بمصطلح "الحقائق"؛ فالحقائق "أنساق هي أكثر تعقيدًا من الوقائع، تتعلق بالروابط بين الوقائع، كما تتمثل في النظريات العلمية أو التصورات الفلسفية أو الدينية المتعالية على التجربة"[32]. ومع أن الافتراضات ليست وقائع يُطلب التحقق منها أو حقائق مركبة من وقائع، إلا أنها تنتمي أيضا إلى المواد التي عادة ما يحصل عليها الاتفاق، كما أنها قد تحوز على القبول من المتلقي الكلي، وذلك باعتبارها، في الغالب، منطلقات للحجاج مع توقع تقويتها لاحقًا بعناصر داعمة. وتتعلق الافتراضات في كل حالة من الحالات بالمواد الجارية والمحتملة[33].
وبينما اكتفت المقاربات المنطقية المختلفة بالمقدمات المتعلقة بالواقع أو بجزء منها، اعتدت الخطابة الجديدة بنوع آخر من المقدمات هي تلك التي تتعلق بالتفضيل؛ من جهة قيم التفضيل وتراتبيته ومواضعه. لكن هذا النوع من المقدمات يطمع فقط في قبول مجموعات مخصوصة. ويتوجه التفضيل أساسًا إلى القيم، وهي حاضرة في جميع أنواع الحجاج، بما فيه الاستدلال العلمي، خاصة في أثناء مرحلة التكوين والانبثاق، لكنها تتجلى في جميع مراحل الاستدلال الواقع في المجالات القانونية والسياسية والفلسفية وهي على نوعين: قيم مجردة وقيم مخصوصة ومجسدة، لكن العلاقة بينهما جدلية؛ إذ تستعمل المجسدة لتأسيس المجردة، والعكس صحيح[34]. ولا يكون التفضيل بقيم معنية فقط، بل أيضا باستثمار التراتبية التفضيلية في القيم المجردة والقيم والأشياء المجسدة؛ يتجلى ذلك في العلاقات التراتبية التفاضلية بين قيم مثل تفضيل قيمة العدل على قيمة المنفعة أو بين أشياء محسوسة مثل تفضيل فئة الإنسان على فئة الحيوان، في إطار شبكات من العلاقات التراتبية داخل القيم والأشياء بالتوسل بمعايير متعددة في التفضيل[35]؛ وليس من السهل استحضار القيم والتراتبية فيها وفي الأشياء ما لم يُرجع إلى المقدمات الجامعة المعروفة بالمواضع، والتي كان لأرسطو فضل السبق في التنظير لها في كتابي "الجدل" و"الخطابة". ومع أن بيرلمان وتيتكا استحضرا النظر الأرسطي في المواضع العامة والخاصة، إلا أنهما اختارا التركيز على تلك التي تكون مقدمات عامة تفيد في التأسيس للقيم وللتراتبية التفاضلية، والتي درسها أرسطو في "مواضع العَرَض"[36]. وميزا في هذا السياق بين أنواع من المواضع، انطلاقًا من مساهمتها الفعلية في الممارسة الحجاجية.
المستوى الثاني من منطلقات الحجاج هو مستوى اختيار المقدمات، وتتجلى أهميته في كثرة المعطيات والمقدمات وتعددها، وضرورة اختيار تلك التي تكون صالحة لتحقيق الاقتناع مع استثمارها بالوجه الذي تحقق به ذلك، ويكون ذلك بالاستحضار الذهني للمقصود إثباته وتأويل المعطى المقدم لتوجيهه نحو المعنى المطلوب واختيار النعوت والأوصاف لتقويم شخص ما أو موضوع ما وفق الوجهة الحجاجية المقصودة. وإذا كان الاختيار محدودًا ومنضبطًا بدقة في المجالات العلمية الدقيقة، كالعلوم الطبيعية، فإنه يكون أقل انضباطًا في العلوم الإنسانية، مثلاً.
ويحتاج الخطيب، في المستوى الثالث، إلى إجادة العرض ليخدم غرض تحقيق اقتناع المتلقي: فليست المقدمات وحدها كافية لتحقيق ذلك؛ بل يحتاج إلى عمل من الترتيب والأسلوب ووسائل العرض الخطابية الأخرى، وجانب مهم من هذه الوسائل مبني على الأساليب اللغوية والبلاغية والجمالية.
وعلى منوال هذا الزوج المفاهيمي -(الظاهر/الواقع)-، تعمل أزواج فلسفية أخرى في البحث الفلسفي كما هو شأن: الوسيلة-الغاية، النتيجة-الفعل أو المبدأ، الفعل-الشخص، العرض-الجوهر، النسبي-المطلق، الذاتي-الموضوعي، التعدد-الوحدة، الجزئي-الكلي، الخاص-العام، النظرية-التطبيق، اللغة-الفكر، وأزواج أخرى غيرها.
وكما أن المنطلق في حاجة إلى قبول المتلقي، فكذلك أمر السعي الحجاجي، الذي يكون باستعمال تقنيات حجاجية تتخذ صورة خطاطات استدلالية يقبلها المتلقي. ولا تظهر هذه التقنيات أو الخطاطات، التي يمكن اعتبارها مواضع للحجاج[37]، في الاستدلالات الواقعية، لكن القبول بها قد يكون ضمنيًّا؛ بل قد لا يعيها الخطيب أو المتلقي بوضوح إلا بجهد تفسيري قلما يُبذل[38]. والمشترك في هذه التقنيات عمومًا هو انبناؤها على عمليتين علاقيتين منهجيتين: الوصل (العقل) والفصل (التمييز). ولقد صُنفت تقنيات الحجاج إلى أربعة أصناف يمثل كل صنف منها كيفية من كيفيات التعالق في الحجج:
- الحجج شبه المنطقية: وهي التي تتشكل علاقاتها على غرار الاستدلالات الصورية أو المنطقية أو الرياضية. وهي استدلالات حجاجية وليست برهانية منطقية، لكنها شُبهت بها بما أُضيف إليها من الاختزال أو الدقة، حتى بدت في مظهرها منطقية[39]. ومع أن الأصل في المقاربة الخطابية هو تفضيل الطرق الحجاجية في الاستدلال عند مقارنتها بالطرق البرهانية، إلا أن ذلك لا يمنع الخطابة الجديدة من اعتبار قوة هذا النوع من الحجج -المسماة بالحجج شبه المنطقية- مستمدة من النماذج الصورية التي تَتَشبَّه بها دون التطابق معها كليًّا. ومن العلاقات المُعتبَرَة في هذا النوع علاقات منطقية كالتناقض والمساواة الجزئية أو الكلية والتعدية؛ كما اُعتبرت فيها علاقات رياضية، كانتماء الجزء إلى الكل وعلاقة من الأصغر إلى الأكبر وعلاقة التردد وعلاقات أخرى قريبة من هذه مثل الحد والتطابق وعدم التطابق والتبادلية والاحتمالات.
- الحجج المُؤسَّسَة على بنية الواقع: بما أن القول المتضمن في الاستدلال قد يكون حقائق أو آراء أو افتراضات متعلقة بالواقع، فإن دراسة الحجج المُؤسَّسَة على بنية الواقع لا يُراد منها التوجه إلى "الوصف الموضوعي للواقع، وإنما إلى الطريقة التي تُقَدَّم بها الآراء المتعلقة بالواقع."[40] وتنبني الاستدلالات المؤسَّسَة على بنية الواقع على علاقاتٍ كثيرةٍ صُنِّفت إلى صنفين رئيسين:
-
- علاقات تتابعية: وهي الرابطة للقضية بأسبابها أو بنتائجها، كما هو شأن العلاقة السببية، التي تُعلِّق النتيجة بسبب أو أسباب كما تُعلِّق الهدف بوسيلة أو وسائل؛ وشأن "استدلال الهدر"، الذي يُعتمد فيه على علاقة تتابعية غير سببية تفيد تتابع الأحداث والمواقف دون أن يكون بين السابق منها واللاحق علاقة سببية. ومن صورها، مثلا، أنك إذا بدأت شيئا فيجب أن تكمله دون أن يكون بين البداية والنهاية علاقة سببية، وقد تُستعمَل أيضًا عند تشجيع صاحب موهبة أو كفاءة أو مهارة ما على الاستمرار في استثمار موهبته إلى أبعد حد. ولها صور أخرى غير هاتين، لكنها تشترك في أهمية التتابع حتى لا تهدر الأفعال السابقة نتيجة عدم الاستمرار[41]؛ وكشأن الاستدلال في الاتجاه، ويُقصَد به الاستدلال الذي يُخصِّص مطلوبًا لمرحلة أولى في نفس اتجاه المطلوب الرئيسي لاستدلاله، فكأنه يجزئ المشكلة إلى أجزاء فرعية[42].
- علاقات الوجود: وهي تربط بين حقيقتين من مستويين مختلفين، إحداهما أولى تأسيسًا أو تفسيرًا من الأخرى، بخلاف العلاقة التتابعية التي تربط بين عنصرين من المستوى نفسه. ومن صور هذه العلاقة تلك الرابطة لشخص بصفاته وأفعاله وأحكامه والتقدير الذي يناله من الغير. وفي هذه العلاقة إشكالات متعددة لعل أهمها كيفية التفاعل بين الشخص والفعل وطبيعة السلطة التي تجعل من الشخص جزءًا من الاستدلال؛ ومن صورها أيضًا، العلاقة التي تربط مجموعة ما بأفرادها. وهي وإن كانت مُشاكِلة للعلاقة بين الشخص وأفعاله إلا أنها أكثر تعقيدًا منها، لأن الفرد قد يكون عضوًا في أكثر من مجموعة من جهة، ولأن تعيين مفهوم المجموعة يصير صعبًا أو محالا بالنظر إلى تكوُّن أنماط من المجموعات في كل علاقة يدخل فيها الأفراد في ما بينهم، وهي أنماط تُضاف إلى التقسيمات المجموعية المتداولة: القومية والدينية والسياسية وغير ذلك[43]. ويستعمل الاستدلال بالتوسل بهذه العلاقة لنقل أحكام الفرد وأوصافه إلى المجموعة أو العكس نقلا قد يكون مشروعًا وقد لا يكون؛ وهناك صور أخرى لعلاقة الوجود كالعلاقة الرابطة للجوهر بتجلياته أو للرمز بما يرمز إليه.
-
- أما العلاقات المُؤسِّسَة لبنية الواقع: فهي التي تُؤسِّسُ الواقعَ انطلاقًا من الحالات الخاصة، التي قد تَتَّخِذ صورة مثال يُنطلَق منه لتعميم حُكْم أو شاهد دالّ على وجود انتظام سابق أو نموذج يستدعي التقليد[44]. ويتميز المثال عن الشاهد بكونه منطلقًا لتعميم قاعدة، في حين أن الشاهد يشهد للقاعدة فيكون تاليًا على وجود القاعدة؛ أما النموذج فيمتاز عليهما بكونه مقدَّرا ومعتبرًا كنموذج للاقتداء والتقليد، فهو بذلك أصل لغيره، حتى ولو كان حالة خاصة. ولكل صورة من هذه الصور إشكالاتها المخصوصة التي تُحدد كيفية استثمارها إيجابًا أو سلبًا في الحجاج. والآلية المستعملة لتأسيس هذه العلاقات هي أساسًا آلية الاستدلال التمثيلي، وهي التي يُنتقَل بها من حكم جزئي إلى حكم جزئي آخر بناء على شَبَه (علة) جامع بينهما. ومع التخسيس الذي تعرضت له هذه الآلية بالمقارنة مع الآليتين الأخريين المعتبرتين في المنطق والمنهج وهما: الاستنباط والاستقراء، تنزع الخطابة الجديدة إلى تثمينها وتحليل إمكاناتها الاستدلالية في الحجاج[45]. ويمكن النظر إلى هذا التحليل كمقدمة لإنشاء منطق مخصوص بالاستدلال التمثيلي يراعي خصوصية الاستدلال الحجاجي والقيمي.
- أما التفريق في المفاهيم: وهو فصل المفاهيم بعضها عن بعض وبعضها من بعض، فيفيد في إعادة صياغة المعطيات المفاهيمية التي يتأسس عليها الحجاج. ويكون هذا التفريق أكثر استعمالا في الأبحاث النظرية، والفلسفية خاصة. وفي هذه الأخيرة، يمثل التفريق بين الظاهر والواقع الشاهد الأمثل لكيفية عمل التفريق المفاهيمي. ورغم أن النظر إلى هذا الزوج الفلسفي (الظاهر/الواقع) يختلف من فلسفة إلى فلسفة، إلى حد التخلي عنه كليًّا من قبل فلسفات أخرى، إلا أن الموقف منه يُفيد في التعبير عن رؤية للعالم، مشكلة نظامًا تراتبيًّا للقيم ومعايير للتقويم. وعلى منوال هذا الزوج المفاهيمي، تعمل أزواج فلسفية أخرى في البحث الفلسفي كما هو شأن: الوسيلة-الغاية، النتيجة-الفعل أو المبدأ، الفعل-الشخص، العرض-الجوهر، النسبي-المطلق، الذاتي-الموضوعي، التعدد-الوحدة، الجزئي-الكلي، الخاص-العام، النظرية-التطبيق، اللغة-الفكر، وأزواج أخرى غيرها.
تُستثمر خطاطات الحجاج في الانتقال من منطلقات الحجاج إلى تحقيق الغاية من الخطابة، وهي أن يحصل اقتناع المتلقي بالدعاوى. لكن هذا الاقتناع ليس من جنس الاقتناع النفسي الخالص، الذي أَخَذَ من نظار الخطابة قبل أرسطو وبعده حيزًا مهمًّا من تنظيرهم للخطابة. بل هو اقتناع عقلاني مُؤَسَّس على قبوله مسبقًا بالمنطلقات والتقنيات معا. وقد يُفهم من التفصيل في تحليل منطلقات الحجاج وتقنياته تضخيم الخطابة الجديدة للجانب المنطقي والجدلي، ما يجعلها أكثر معيارية من الخطابة الأرسطية. وقد تعزز هذا البعد المعياري بالأهمية التي اكتستها "القيم" في هذه النظرية، وهي أهمية تضاهي أهمية القضايا الإخبارية التي اعتد بها المنطق. لقد أريد من الخطابة الجديدة أن تكون منهجًا في العلوم الإنسانية، وفي الفلسفة والقانون خاصة.
لقد كان لما كتبه تولمين من جهة وبيرلمان وتيتكا من جهة أخرى، بالإضافة إلى موجات نظرية سابقة دعت إلى تغيير مناهج دراسة موضوعات اللغة الطبيعية مع فيتجنشتاين ومدرسة أكسفورد للغة الطبيعية وغيرهما، أثر كبير في عودة الاهتمام إلى الاستدلال الطبيعي موضوع الدراسة بمناهج غير المناهج الصورية التي اعتمدت سابقًا. ولم تكن الأبحاث الموجهة بهذا التأثير ذات اتجاه واحد، بل تشعبت اتجاهاتها، فمنها ما اتخذ بعدًا خطابيًّا ركز في الاستدلال على البعد الإقناعي في الخطابات العامة أو المناظرات السياسية والقضائية وغيرها، وكان هذا الاتجاه الغالب على طائفة من نظار الخطاب والاستدلال الأمريكيين بزعامة دوغلاس اهنينغر (D. Ehninger) وواين يروكرايد (W. Brockreide)؛ ومنها ما اتَّخذ بعدًا لغويًّا بتركيزه على البحث عن منطق مخصوص باللغة الطبيعية داخل اللغة الطبيعية نفسها وهو ما اشتركت فيها مدرسة الحجاجيات اللغوية الفرنسية بزعامة أوزوالد دوكرو (O. Ducrot) والمدرسة التداولية الإنجليزية بتأثير من بول غرايس (P. Grice)؛ ومنها تلك التي حاولت الجمع بين اللسانيات وعلوم إنسانية أخرى لاجتراح منطق طبيعي، كما فعل جون بليز غريز (G. B. Grize)؛ ومنها تلك التي انصب تركيزها على الجانب الجدلي من الاستدلال، وبرزت فيها نظريات متعددة أشهرها الجدليات الصورية لشارلز هامبلان (Ch. Hamblin) ومنطق الحوار لبول لورزنتزن (P. Lorenzen) وكينو لورنز (K. Lorenz) والتداوليات الجدلية لمدرسة أمستردام بزعامة فرانس فان ايميرن (F. Van Eemeren) وروب خروتوندورست (R. Grootendorst) والجدل الجديد الذي سمى دوغلاس والتون (D. Walton) به ما أنتجه في مرحلة من مراحل تطوره في التنظير للحجاج؛ ومنها تلك التي تمسَّكت بالبُعد المنطقي للاستدلال مع السعي لتخفيف الطابع الصوري الذي ألبسه في المنطق الصوري، فكان من نتائج ذلك محاولات حثيثة تسمَّت أو سُميت بالمنطق غير الصوري. يصعب عرض كل هذه النظريات وغيرها في هذا المقام، لذلك نكتفي بمسارين كبيرين في مضمار تقديم بديل حجاجي للمنطق الصوري[46]، وهما: مسار منطق الحوار الجدلي ومسار المنطق غير الصوري.
- الهوامش
-
[1] Toulmin, Stephen E. 2003. The Uses of Argument. Cambridge: Cambridge University Press, p. 136.
[2] Ibid, p. 137-138.
[3] Ibid., p. 139.
[4] تعني "ع" المعطيات (Data)، في نموذج تولمين للاستدلال الذي سنذكره لاحقًا؛ وتعني "ت" التأسيس وهي تفيد المعنى الذي قصده تولمين بـ(Backing)؛ و تعني "ن" النتيجة (Conclusion).
[5] Ibid., p. 144.
[6] Ibid., p.145.
[7] Ibid., p. 147.
[8] Ibid., p. 14.
[9] Ibid., p. 30.
[10] Frans H van Eemeren (et al). 1996. Fundamentals of Argumentation Theory, Dodrecht: Springer, p. 137
[11] Toulmin, Op. Cit., p. 35
[12] Ibid., p. 97.
[13] Ibid., pp. 97-98.
[14] Chaim Perelman and Lucie Olbrechts-tyteca.1958. Traité de L’argumentation, Paris: PUF.
[15] Ibid, p. 2.
[16] Ibid,, p. 4.
[17] Ibid., p. 6.
[18] Philippe Breton and Gilles Gauthier. 2000. Histoires des théories de l’argumentation. Paris: La découverte, p. 36
[19] Chaim Perelman and Lucie Olbrechts-tyteca, Traité de L’argumentation, Op. Cit., p.13.
[20] Ibid., p. 35
[21] Ibid., pp. 7-9.
[22] Van Eemeren, et al, Fundamentals of Argumentation Theory, Op. Cit., p. 96.
[23] Chaim Perelman and Lucie Olbrechts-tyteca, Traité de L’argumentation, Op. Cit., p.6-7.
[24] Ibid., p., p. 5
[25] Ibid., p. 22.
[26] Ibid.,p. 25.
[27] Ibid., p. 39-40.
[28] Eemeren, Frans H van et al. 1996. Fundamentals of Argumentation Theory, Op. Cit., p. 99
[29] Chaim Perelman and Lucie Olbrechts-tyteca, Traité de L’argumentation, p. 87.
[30] Ibid., p. 88.
[31] Ibid., p. 89.
[32] Ibid., p. 92.
[33] Ibid., p. 94-95.
[34] Ibid., p. 99-106.
[35] Ibid., p. 107-109.
[36] Ibid., p. 113.
[37] Ibid., p. 255.
[38] Ibid., p. 252.
[39] Ibid., p. 259.
[40] Ibid., p. 253.
[41] Ibid., p. 376.
[42] Ibid., p. 379.
[43] Ibid., p. 433-434.
[44] Ibid., p. 471.
[45] Ibid., p. 499-549.
[46] للتعرف على خريطة شبه جامعة لمعظم نظريات الحجاج، يمكن العودة إلى هذا الكتاب الجماعي الضخم والمهم:
Frans Van Eemern (and Als). 2014. Handbook of Argumentation Theory, Dordrecht: Springer, 2014.