عودة التنوير الراديكالي والتحول ما بعد الأخلاقي نقد ديكولونيالي عربي إسلامي للإبادة الأخلاقية
مقدمة
في الحقبة الحداثية، ترسخ الاهتمام بـ"ما هو كائن"، واستُبعِد "ما ينبغي أن يكون"، ورُفعت القيود عن رغبات الفرد؛ وترتب عن ذلك تهميش الأخلاق، وإطلاق حريات سلبية[1]، وأخرى قبيحة (Ugly Freedoms)[2]. لكن أعاد تزايد الجرائم المرتكبة ضد الإنسان والطبيعة الاهتمامَ بموضوع "الأخلاق"، وهو اهتمام اتخذ شكل ممارسات تخليقية، تمثَّلت أساسًا في الأخلاقيات التطبيقية المؤطرة لمختلف مجالات الحياة، وفي "أخلاقيات السيرورة" (ethics of process) المتبعة أثناء اتخاذ القرار، أو تنفيذ الخطط، أو تسويق المنتجات... إلخ. لكن لم تُخرج هذه الممارسات التخليقية المُفبركة[3] مجتمعات الغرب من فشلها الأخلاقي، ولم تداوِ عَماها الأخلاقي؛ إذ تحوَّلت بسرعة إثر صعود النيوليبرالية وتوسُّع مستويات الاستهلاك إلى مرحلة ما بعد الأخلاق، التي تسود فيها أخلاقيات بلا أخلاق، وُجِدت لدعم اقتصاد السوق النيوليبرالي.
لا تعني ما بعد الأخلاق انبلاج حقبة جديدة تتميَّز بأفول الأخلاق وبروز الأخلاقيات كما يتحدَّث عن ذلك مُنظّرو النيوليبرالية، مثلما لا تعني فحسب نقد ما هو قائم دون اقتراح بديل كما يفعل مُفكّرو ما بعد الحداثة، بل تدلُّ كذلك على النظر أبعد من الحداثة وأنظمتها السياسية والقانونية والأخلاقية ونُظمها الاقتصادية، وإبيستيمها المعرفي، كما هو الشأن بالنسبة إلى المفكرين التحرُّرين والديكولونيالين، وتطمح إلى استعادة النماذج الأخلاقية التي همَّشتها الحداثة وسَخرت منها ما بعد الحداثة، واقتراح بديل يسعف بناء الإنسان الجديد، هدمًا لأسطورة استحالة البديل من خارج الحداثة الغربية. بهذا المعنى الأخير، يتحرَّر المنظور "الما بعدي" الذي نتبنَّاه[4] من "ماديته"، و"مركزيته"، و"تاريخانيته" و"إنسانويته"، و"إرث التنوير المُدمّر"، بدل أن يكرس هذه النزعات، كما تقوم بذلك ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، رغم ما تدَّعيه هذه التيارات من نقد وتفكيك للحداثة. وفقًا لمنظورنا النقدي هذا، نقصد بما بعد الأخلاق نقد النظام الأخلاقي الحديث ووريثه ما بعد الحداثي استنادًا إلى قاعدة غير حداثية، واقتراح بديل لتجاوزه؛ لأن عبارة "ما بعد" تتحدَّد في الكتابات الفكرية التحرُّرية بخلاف الحداثة وما بعد الحداثة، وفي مواجهة نقدية لهما، مثلما أن "ما بعد الأخلاق" لدى مفكرين مثل وائل حلاق وطه عبد الرحمن[5] وآخرين، كما نستنتج ذلك من أعمالهم، تعني نقد التصور الحداثي للأخلاق، وتقديم بديل له لتجاوز الحداثة نفسها، المسؤولة عمَّا آل إليه العالم من مختلف الأزمات. وهكذا تتمثَّل إشكالية الدراسة -من جهة- في نقد سردية نهاية الأخلاق[6]، وما بعد الأخلاق الرائجة، والمسكونة بإرادة تشكيل الواقع العربي الإسلامي تشكيلًا خطابيًّا-أدائيًّا. ومن جهة أخرى، الانطلاق من هذه السردية عينها لاستئناف نقد الحداثة والتنوير؛ لأننا نفترض أن مجتمعات ما بعد الأخلاق ليست إلا انبعاثًا متجددًا لتصور التنوير الراديكالي للأخلاق؛ انبعاثًا نزعم تفسيره بصعود النيوليبرالية، وتراجع مكانة الدين في المجتمعات الغربية، وتوسُّع نطاق المجتمع الاستهلاكي.
ولاستكشاف ذلك، سنبيِّن في جزء أول كيف استنبت التنوير الراديكالي بذرة المجتمع ما بعد الأخلاقي، ونبحث في الجزء ذاته لماذا سهرت ما بعد الحداثة في سياق نيوليبرالي مُعولم على نموِّ هذه البذرة وتكاثرها، ونحلِّل في جزء ثانٍ أطروحات بعض المفكرين حول مجتمع ما بعد الأخلاق، ونوضِّح سيرورة الانتقال من التخليق المُعلمن إلى المجتمع ما بعد أخلاقي، الذي تسوده أخلاقيات بلا أخلاق، وننزع في جزء ثالث الاستعمار عن سردية المجتمع ما بعد الأخلاقي، استنادًا إلى فكر الفيلسوف الأخلاقي طه عبد الرحمن، ومنظوره الإبستيمولوجي، وأعمال وائل حلاق النقدية للحداثة، قصد إعطاء عبارة "ما بعد" بُعدًا نقديًّا متحررًا من مركزية الغرب وسردياته ومقولاته.
أولًا: التنوير الحداثي الراديكالي واستنبات بذرة المجتمع ما بعد الأخلاقي
زُرِعت بذرة المجتمع ما بعد الأخلاقي منذ عصر التنوير الذي ما زال يشكِّل -حسب تشارلز تايلور (Charles Taylor)- نظرتنا الأخلاقية[7]؛ زُرِعت تحديدًا من قِبَل ممثلي التنوير الراديكالي[8]، أمثال اسبينوزا (Spinoza)، وبايل (Bayle)، وفونتنيل (Fontenelle)[9]، وديدرو (Diderot)، وهولباخ (Holbach)، الذين عارضوا اتصال الأخلاق بالدين، ودافعوا -في المقابل- عن الأصل العقلي أو الطبيعي للأخلاق. لا يعني تركيزنا على التنوير الجذري لفهم تحول مجتمعات الغرب إلى ما بعد الأخلاق أننا نبرئ التنوير المحافظ من إبادة الأخلاق الدينية لأن كلا التيارين يصدران من بنية فكرية واحدة تقوم على التمييز بين الواقع والقيمة[10]؛ إذ لا يُفسّر الاختلاف بينهما بتضارب وجهات نظرهما الفكرية والفلسفية حول الأخلاق، وإنما بملابسات السياق السياسي والديني والاقتصادي الذي عاش فيها فلاسفة التنوير.
تُعَدُّ الأخلاق في نظر فلاسفة التنوير الراديكالي "عبارة عن منظومة كونية محض علمانية أو دنيوية"[11]، قائمة على العقل، والمصلحة المشتركة، وتستهدف سعادة الفرد. وقد نظر هؤلاء الفلاسفة إلى سلوك الناس نظرة نفعية، ورأوا أن الأفراد لا يكونون أخلاقيين إلا بقدر ما يجلب لهم السلوك الأخلاقي منفعة ما. لقد أثارت فلسفة التنوير الراديكالي الأخلاقية معارضة رجال الدين المسيحيين، وآباء الكنيسة، وبعض فلاسفة التنوير مثل جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau)، الذي انتقد -من جهة- فكرة استناد الإنسان إلى العقل للتمييز بين الخير والشر[12]، وكشف -من جهة أخرى- تناقضات الأخلاق القائمة على سعادة الفرد؛ لأن الرجل العادل -مثلًا- يأتي ما يضره انسجامًا مع إيمانه بقيمة العدل[13]. اعترض آباء الكنيسة على تصور التنوير الراديكالي للأخلاق -العقلي والطبيعي- لأنه يُدمر الأعراف الداعية إلى التقشُّف والتبتُّل والعفَّة[14]، وينشر الخلاعة؛ فضلًا عن كونه يخلق اليأس في نفوس العاجزين عن الوصول للمتعة إما لمرض أو عجز صحيًّا كان أم عقليًّا أم نفسيًّا أم اقتصاديًّا. وأفضت اعتراضاتهم ضد تصور التنوير الجذري للأخلاق إلى حصر تأثير الفلسفة الأخلاقية في التنوير الجذري، واستمرار أشكال التخليق في مجالات عدَّة مثل المجال الأسري والجنسي، كما تشهد على ذلك قوانين الأسرة، والمحرمات التي تحيط بالحياة الجنسية في بريطانيا في العهد الفيكتوري في القرن التاسع عشر، التي تسربت إلى بلدان أوروبية عدَّة[15]. لقد اعتبر تشارلز تايلور الحقبة الفيكتورية "أكثر تقوى وأكثر اهتمامًا بحالة الدين مما كان عليه القرن الثامن عشر"[16]. لكن تمكَّنت فلسفة التنوير الراديكالي الأخلاقية من العودة بعد عقود، بسبب تراجع الدين المسيحي، وتوسع مستويات الاستهلاك، وصعود النيوليبرلية بدءًا من سبعينيات القرن العشرين، ما أدى إلى انبلاج العصر ما بعد الأخلاقي، الذي لم يكن ممكن الظهور لولا فكر التنوير -الجذري والمحافظ- الذي أزاح الأخلاق من نطاقها المركزي، كما ذهب إلى ذلك وائل حلاق، وزرع الاضطراب والفوضى في تصور الأخلاق، وبرَّر الأساس الحديث للأخلاق -العقلي أو الطبيعي- بالفوائد المادية التي تحققها الحداثة.
- إحداث الاضطراب في النظر إلى الأخلاق
إن "النظر الفلسفي الحديث في الأخلاق يبدو كأنه فوضى فكرية لا مطمع في الحدّ من توسّعها"[17]، وقد ورثت الفلسفة الأخلاقية الغربية المعاصرة النظرةَ المضطربة للأخلاق من عصر التنوير، ويتجلَّى هذا الاضطراب في أربعة مستويات: يتصل الأول بلفظ الأخلاق نفسه، ويتعلق الثاني بأصل الأخلاق، ويطال الثالث تعريف السلوك الخلقي، ويرتبط الرابع بالفوضى المترتبة عن إزالة فكر التنوير الأخلاقي للتمييز بين الواجب والمصلحة، وإحلال الالتزامات الاجتماعية مكان الأخلاق.
يُستعمل مفهومان مختلفان لفظًا، لكنهما متداخلان معنًى للحديث عن الأخلاق، وهما: (l’éthique)، و(La moral). وحسب طه عبد الرحمن، فقد استعمل القدماء اللفظين بمعنى واحد قبل أن يفرق المُحدَثون بين معنيهما، من دون أن ينجحوا في ذلك؛ إذ ظلت معاني أحد الألفاظ -(l’éthique) على سبيل المثال- توظف للدلالة على معنى اللفظ الآخر، أي (la morale)، وانتهى بهم الأمر إلى توظيف لفظ الإتيقا للدلالة على اللفظين معًا. وقد فسَّر طه عبد الرحمن الاضطراب المفهومي بكون "الفلاسفة غلب عليهم الاشتغال بها [المفاهيم الأخلاقية] من دون ردها إلى المجال الحقيقي الذي تنتسب إليه... وليس هذا المجال المنسي الذي بدونه لا تسكن هذه المفاهيم وتثبت ولا تتمكن إلا مجال الدينيات"[18]. ونضيف إلى ما أورده طه عبد الرحمن أن ترشيح فلاسفة الأخلاق الغربيين استعمال لفظ الإتيقا (l’éthique) بدل الأخلاق (la morale) يُعزى إلى رغبتهم في إيجاد لفظ متحرر من أي دلالة دينية؛ ولهذا اختاروا مفهوم الإتيقا للتشديد على انفصال الأخلاق عن الدين، دون أن يتوصلوا إلى إصطلاح واضح لكل لفظ.
لقد رفض فلاسفة التنوير الأصل الديني للأخلاق، وأسند غالبيتهم الأخلاق إلى العقل مثل كانط، أو الطبيعة مثل روسو وهيوم. وفي المقابل، ساوى آخرون مثل دي لاميتري (De La Mettrie) بين الأخلاق والالتزامات الاجتماعية والسياسية، فقد كتب أن الأخلاق "لا تتعلق إطلاقًا بالطبيعة، لكنها في الواقع مجرد قصة متخيلة لا غنى عنها. إنها ثمرة اعتباطية للسياسة... اختلقت لأسباب اجتماعية صرف وبطريقة اعتباطية كما أنها مفروضة بالقوة من المجتمع"[19]، وهي الفكرة ذاتها التي حدَّدت أفق التفكير الغربي في الأخلاق منذ صعود النيوليبرالية.
يطال الاضطراب كذلك معنى السلوك الأخلاقي؛ إذ ذهب فلاسفة الأخلاق المُحدَثون في ذلك مذاهب شتَّى، فمنهم من قرر أن الخلق واقع موضوعي، ومنهم من نفى ذلك، واعتبرت طائفة السلوك الأخلاقي تعبيرًا عن رغبة ذاتية، ورأت طائفة أخرى أن صفة السلوك الأخلاقي صفة موضوعية تدركها الذات بفضل شعورها الأخلاقي، وذهب غير هؤلاء إلى أن السلوك الأخلاقي هو ما نحكم عليه بأنه كذلك، قد يحتمل الخطأ والصواب، ومن فلاسفة الأخلاق المُحدَثين من يعتبر هذا السلوك مقيدًا بضوابط مطلقة، خلافًا لمن يعتبر السلوك الأخلاقي نسبيًّا ومتغيرًا حسب الظروف الثقافية والاجتماعية[20].
لقد انتبه علي عزت بيغوفيتش منذ سنوات عدَّة قبل طه عبد الرحمن إلى اضطراب المفاهيم الأخلاقية الغربية، ومن أمثلة ذلك حذف فلاسفة التنوير التقابل بين المصلحة والواجب[21]، واختزالهم الواجب في المنفعة، واختصارهم الخير في اللذَّة والشرّ في الألم. إن تصورهم يحصر الأخلاق في حدود ما تمنحه الطبيعة من لذَّات ومُتع، ما يفضي إلى إبادة نظام الأخلاق الذي يسمو على الطبيعة الحيوانية والأنانية الفردية؛ لأن الأخلاق النفعية في نظر عزت بيغوفيتش "ليست أخلاقًا حقيقية، وإنما تنتمي إلى السياسة أكثر من انتمائها لعلم الأخلاق"[22].
وضع فكر التنوير الغربي تصورين مختلفين للأخلاق، وأشكال تخليق عملية متعارضة: يعلي التصور المحافظ من فكرة الواجب، ونكران الذات كما نجد لدى روسو وكانط، ويؤمن بإمكانية استئصال الشرّ والوصول إلى الإنسان الكامل. وقد أفضى تأليه الواجب على هذا النحو، الذي دعمته المسيحية تجاه الأسرة والوطن، إلى سحقِ الذات، كما تجلَّى ذلك في العصر الفيكتوري، وفي قوانين الأسرة للقرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين. وتصور راديكالي يُعرِّفُ الأخلاق "بأنها ما يجب أن ينيرنا الطريق للوصول إلى السعادة. من هيلفيتيوس إلى هولباخ، ومن بنتام إلى ستيوارت ميل، ينحصر الخير في المتعة"[23]، ويشهد على ذلك شيوع البحث عن المُتع والتخلُّص من الواجبات الدينية منذ القرن الثامن عشر، وقد أدى تراجع التدين المسيحي منذ أواسط القرن العشرين -فضلًا عن صعود المجتمع الاستهلاكي- إلى هيمنة هذا التصور الأخلاقي المُتعوي، الذي دشَّن بروز عصر ما بعد الأخلاق في مجتمعات الغرب.
وعلى الرغم من ادعاء مفكري التنوير الأصل العقلاني أو الطبيعي أو الاجتماعي للأخلاق، فإن تصوراتهم للواجب الأخلاقي والإلزام والمسؤولية لم تكن إلا علمنة للقيم المسحية. على سبيل المثال، بيَّنت إليزابيث انسكومب (Elisabeth Anscombe)، المشهورة بنقدها للنفعية والكانطية[24]، أن فكرة الواجب "عند كانط ليست إلا هجومًا مسيحيًّا متلحفًا بعباءة عصر التنوير"[25]. وقد دعم مثل هذا الموقف تشارلز تايلور، الذي رأى أن "فكرة مصدر الأخلاق هي ذواتنا، [كما نجد لدى روسو] ليست إلا استعادة لاجتهاد القديس أوغسطين (Augustin) الذي يعتقد أن الطريق نحو الله يمرّ عبر وعينا الداخلي بذواتنا"[26].
أسَّست الليبرالية لحريات قبيحة مُدمرة، أعلت من شأن الرغبات، ومن شهوة السلطة، مثلما أدى إعلاء الحداثة من مكانة العقل إلى تسييد العقل الأداتي. ولم يعُد بإمكان تلك الميتافيزيقا أن تخفي تناقضاتها وعدوانيتها، وتُبرر مجددًا الفصل بين القيمة والواقع
استمرَّ الاضطراب في تصور الأخلاق من عصر التنوير إلى الآن، فقد لاحظ مثلًا تشارلز تايلور أن موقع المنابع الأخلاقية يحتلُّ موقعًا غريبًا في فكر التنوير الذي دمَّر جميع صياغات الخير، من دون وضع بديل لها، وتوقف ألسدير ماكنتاير (Alasdair MacIntyre) بدوره عند التسويغ العقلي للأخلاق لدى كانط وهيوم وديدرو، مبينًا قصوره، ما يوضِّح أن الاستناد إلى التصور الحداثي للأخلاق لتدشين منعطف أخلاقي جديد يَحُدُّ من تدمير الطبيعة واستغلال الإنسان، كما إن اتجاه الأخلاقية المعاصرة البيئية والنسوية غير مجدٍ لكونه يحمل تناقضات عصر التنوير، وبسبب ذلك، لا يملك الغربيون إلا الاستنجاد بتراث أخلاقي ما قبل حداثي، غير غربي لتخليق مجتمعاتهم، وهذا ما بدأ بعض العلماء يقومون به بالفعل، من قبيل الاستناد إلى اليوغا والتأمل[27] لإيجاد حلول لبعض المشكلات الجسدية والروحية للذوات الغربية المعاصرة مثل الإجهاد النفسي، غير أن المركزية الغربية، والخوف من الإسلام تحديدًا يستبعد الحل الأخلاقي، أو الاستناد إلى نظام أخلاقي إسلامي لحل مأزق الحداثة الأخلاقي.
لقد تأسست الأخلاق الحديثة وفق "ميتافيزيقا من الحرية والعقلانية الفردية التي تتجذر بدورها في نظام قيم سياسي ورأسمالي يحدِّد سمات الحرية والعقلانية"[28]. لكن أفضى كشف مساوئ الحرية والعقلانية والفردانية إلى تفكُّك ميتافيزيقا الأخلاق الحداثية التي دعمتها الدولة والمؤسسات الحديثة، فقد أسَّست الليبرالية لحريات قبيحة مُدمرة، أعلت من شأن الرغبات، ومن شهوة السلطة، مثلما أدى إعلاء الحداثة من مكانة العقل إلى تسييد العقل الأداتي. ولم يعُد بإمكان تلك الميتافيزيقا أن تخفي تناقضاتها وعدوانيتها، وتُبرر مجددًا الفصل بين القيمة والواقع على النحو الذي عبَّر عنه وائل حلاق، عندما بيَّن أن "الفوائد التي نزعم اشتقاقها من العالم الحديث هي التي تعمل على تبرئة الأساس الأخلاقي الذي منح المشروع عقلانيته ومُبرّره"[29]؛ إذ سرعان ما طغت النتائج الكارثية للمشروع الحديث على منافعه، ووقع الأساس الأخلاقي في أزمة، لكن بدل أن يقبل الغرب بالتقويم الأخلاقي الحضاري، استمرَّ في شنِّ الحرب عن كل معيار أخلاقي، وبدأ يسوغ المجتمع ما بعد الأخلاقي.
- ما بعد الحداثة وتدشين عصر ما بعد الأخلاق
سعى منظرو ما بعد الحداثة إلى تجاوز الأخلاق الكانطية، باعتبارها نظام الحداثة الأخلاقي. لكنهم سعوا في الوقت ذاته إلى رعاية بذرة التنوير الراديكالي، خصوصًا تصور هذا التنوير للأخلاق. يمكن القول مع فتحي المسكيني إن نيتشه -مدشن فكر ما بعد الحداثة- لا يقوض التنوير، بل "إنه فقط يمارس أنوارًا جديدة يدفع بها بعيدًا عن أي أنوار سابقة"[30]، لكن خلافًا لذلك لا يتجاوز نيتشه الأنوار "التي سُميت راهنًا باسم الأنوار الجذرية"[31]؛ لأن اعتبار الأخلاق مجرَّد أعراف وعادات كان فكرة تنويرية، كما بيَّنَّا ذلك لدى بعض ممثلي التنوير الراديكالي مثل دي لاميتري.
لقد رأى نيتشه أن ثنائية الارتباط بالأعراف التقليدية أو التنصُّل منها هي التي حدَّدت تمييز الناس لما هو أخلاقي وما هو لا أخلاقي[32]، وحصر غاية الأخلاق في الحفاظ على الجماعة البشرية، وتصوَّر الشر تصورًا إيجابيًّا، فهو في نظر نيتشه يُقترف إما بدافع غريزة البقاء أو إرادة المتعة، وتجنُّب الأحاسيس الكريهة[33].
وفقًا لتأويل فتحي المسكيني[34]، يكشف نيتشه أننا نعيش في عصر غير أخلاقي؛ لأن عصرنا خالٍ من العادات والتقاليد، إذ ليس هناك في نظر هذا الفيلسوف فرقٌ بين سلطة العادات والأعراف وبين الشعور الخلقي، فهو يؤكد أن "أخلاق العادات والتقاليد... أقدم وأرسخ أصلًا من جميع الأنواع الأخرى"[35]. وقد استلهم كثير من مُنظّري ما بعد الحداثة التصور النيتشوي للأخلاق، مثل ميشيل مافيزولي، بينما لم يتخلَّص آخرون مثل فرنسوا ليوطار (François Lyotard) -حسب أكسيل هونيث (Axel Honneth)- من التصور الكانطي للأخلاق[36]، ولم يسائلوا معنى الأخلاق خارج نظام القواعد والمعايير كما فعل جاك دريدا (Jacques Derrida).
إن الفكر "الما بعدي" -في بعض صوره ما بعد الحداثية الأشد تأثرًا بفكر نيتشه، خلافًا لباقي "المابعديات"- لا يستلزم القطع مع الماضي؛ لأن في القطيعة تأكيدًا على مفهوم التقدُّم "الأنواري" الذي تتزعم ما بعد الحداثة نقده. يمكن "لما بعد" أن يشهد عودة للنماذج الماضية على نحو ما بيَّن ميشيل مافيزولي، مُنظر المجتمعات ما بعد الحداثية، الذي يرى أن البنية المجتمعية ما بعد الحداثية تتسم بعودة القبليات والطقوس والوثنيات[37]، والروح الديونيزوسية[38]، وكل أشكال المعتقدات التي قاومتها الأنظمة الأخلاقية التقليدية والدينية، بهذا المعنى نفهم كيف عادت في الفترة ما بعد الحداثية تصوراتٌ تدميرية لجوهر الأخلاق، هي عينها تصور التنوير الراديكالي للأخلاق.
خلافًا لما بعد الحداثة التي تذهب إلى أن ما بعد الأخلاق ليست شيئًا آخر سوى عودة لبعض النماذج الأخلاقية الغابرة الديونيزوسية، نعتبر التصور ما بعد الحداثي للأخلاق إحياءً لبذرة أخلاق التنوير الراديكالي، الذي استوعب فلسفات يونانية مثل الأبيقورية[39]، هذه التي اعتبرها مونيسكيو سبب فساد الرومان أواخر العهد الجمهوري[40]. إن ما بعد الحداثة، رغم كل انتقادها للحداثة، ليست إلا استكمالًا للسيرورة التاريخية الحداثية في صيغها الأكثر راديكالية. ونستدلُّ على ذلك بالتقاطعات الجليَّة بين منظور التنوير الراديكالي للأخلاق والشر. فبينما آمنت الأديان بالأخلاق للقضاء على الشرّ، دمّرت ما بعد الحداثة وما بعد الأخلاق الحدودَ بين الخير والشر، ناسفةً بذلك موضوع البحث الأخلاقي. وعلى خلاف التنوير المحافظ، الذي يرى إمكانية القضاء على الشرّ عن طريق التربية، ويؤمن بتحقيق الإنسان الكامل، ينظر التنوير الراديكالي وما بعد الحداثة إلى الشرّ نظرة إيجابية. حيث تدعو ما بعد الحداثة إلى "الإقرار بوجود حصة الشيطان في كل شيء"[41]؛ لأن في قبول ذلك إقرارًا بالحياة. وتعِدنا ما بعد الحداثة -كما نظر لها مافيزولي- بأن "قبول الشر وتقبُّله، بأوجهه الوافرة، سيجعلنا أكثر رغبةً في العيش، وسيضخّ في حياتنا أقساطًا معتبرة من الفرح والابتهاج"[42]. وفقًا لهذا المنظور، تعوق الأخلاق توسُّع المجتمع الاستهلاكي، بينما يُسهم الشرُّ في توسُّعه، ولهذا نصبت الحداثة مبدأ الحياد القيمي لبعث الشرّ، وبرَّرت السلوكيات الشيطانية -بالمعنى المجازي- بالمنافع الاقتصادية التي يحققها.
ثانيًا: حالة مجتمع ما بعد الأخلاق
اختلف المفكرون حول توصيف حالة المجتمعات المعاصرة، فمن بين هؤلاء مَن يقول بمرور هذه المجتمعات إلى مرحلة التخليق، ومنهم كذلك مَن يتحدَّث عن المجتمع ما بعد الأخلاقي، غير أن هؤلاء رغم اختلاف مقارباتهم للموضوع قد اتفقوا على دور التحوُّل النيوليبرالي العولمي وتوسُّع مجتمعات الاستهلاك في التحول إلى "نظام أخلاقي جديد"، بلا أخلاق.
- المجتمع ما بعد التخليقي
يرى جيل ليبوفتسكي (Gilles Libovetskyk) أن التحولات القيمية التي تشهدها المجتمعات الغربية منذ عقود تؤشر على تحوُّل هذه المجتمعات إلى مرحلة ما بعد التخليق. ويعني بما بعد الأخلاقية اصطناع بعض الممنوعات، وإعادة الاعتبار لبعض القيم. وفقًا لهذا المفكر، يتميز المجتمع ما بعد التخليقي بسيادة نوع "ثالث من الأخلاق"، لا يستمدُّ نموذجه "الأعلى من القيم الدينية التقليدية، ولا من تلك الأخلاق الحديثة المأخوذة من الواجب العلماني القطعي والمتشدد"[43]. وفي الواقع، تتمثَّل ممارسات التخليق، التي تُنعت كذلك بـ"الأخلاق الجديدة"، بإطلاق المزيد من الحريات الفردية السلبية المدعمة لتوسع الإنتاج والاستهلاك، أي الاستمرار في النمط الحداثي نفسه لتشكيل الذوات تشكيلًا ماديًّا نفعيًّا، بينما ينعدم الاهتمام ببناء الذات الأخلاقية الفاضلة كما شهدته مجتمعات ما قبل الحداثة. لقد اختصرت المجتمعات الغربية المعاصرة التخليق بمدونات "قواعد إجرائية" لتنظيم نشاط إنتاجي معيَّن أو قيادة فعل من الأفعال، كما تبيِّن ذلك الأخلاقيات التطبيقية وأخلاقيات السيرورة.
تعني أخلاق السيرورة (ethics of process) "مجموعة من الإجراءات التي يتفق عليها أعضاء مجتمع ما"[44]، سواء وافقت هذه الإجراءات الأخلاق أم انزاحت عنها. وتهتمُّ أخلاق السيرورة بالنتائج أكثر من اهتمامها بالمبادئ الأخلاقية والمُثُل العليا؛ لأن هدف هذه الأخلاق هو الحفاظ على سُمعة المنشآت الربحية وتدبير النزاع تدبيرًا محكمًا يحُدُّ من توقف الإنتاج، وتراجع الاستهلاك، ومراكمة الثورة. يخدم هذا النوع من الأخلاق النفعية المادية الرأسمالية التي تحولت إلى نطاق مركزي، تعمل باقي القطاعات على دعمه، بل إن فاعلية تلك القطاعات الفرعية تُقاس بما تقدِّمه من دعم لهذا النطاق المركزي على نحو ما بيَّن وائل حلاق[45].
وتدلُّ الأخلاقيات التطبيقية على "مجموعة من القواعد الأخلاقية العملية النوعية، التي تسعى لتنظيم الممارسة داخل مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا، وما يرتبط بها من أنشطة اجتماعية واقتصادية ومهنية، كما تحاول أن تحلَّ المشاكل الأخلاقية التي تطرحها تلك الميادين، لا انطلاقًا من معايير أخلاقية جاهزة ومطبقة، بل اعتمادًا على ما يتم التوصل إليه بواسطة التداول والتوافق، وعلى المعالجة الأخلاقية للحالات الخاصة والمعقدة أو المستعصية"[46]. إن هذه الأخلاقيات، مثلها مثل أخلاق السيرورة، لا تُسهم في تخليق المجتمع، وإن كانت توظف في خطابها مفاهيم مثل الواجب والمسؤولية والكرامة؛ لأن "المنطق الناظم لهذه الأخلاقيات هو منطق الصيانة (maintenance) وليس العدالة أو الأخلاق"[47]. وخلافًا لتصور ليبوفتسكي، نحاجج بأن الحداثة لم تنتج ممارسات الأخلاقية بدافع أخلاقي، بل بهدف تعزيز الرأسمالية، أما الممارسات الأخلاقية التي كانت مؤثرة في الغرب فقد قادتها تيارات دينية. ففي أوروبا -على سبيل المثال- كانت القوة المُحرّكة للحركة البريطانية المضادة للعبودية ومذهب الإبطال أو الإلغاء الأمريكي قوة دينية"[48]، إلا أن تراجع الدين في الغرب قد أنهى تأثير الأخلاق ذات الأصل الديني، وعوَّضها بأخلاقيات علمانية.
لقد أنتجت الحداثة -دون شكّ- ممارسات تخليقية علمانية، تؤمن بمعالجة المشكلات الأخلاقية دون إيمان، ودون تربية دينية، وبرز هذا النوع من الأخلاق في مجال التربية والعمل الإحساني لصالح الفقراء، وتمدَّد إلى مجالات أخرى بيئية واقتصادية...إلخ. لكن تلك الممارسات التخليقية لا تحرّكها دوافع الفضيلة، وإنما ضرورات الإنتاج والسوق، فضلًا عن كونها لا تبتغي بناء الإنسان الأخلاقي، الذي يتعارض مع نموذج الإنسان الاقتصادي (Homo Economicus) الذي تنشده الرأسمالية، ما أفضى إلى ولادة المجتمع ما بعد الأخلاقي.
- المجتمع ما بعد الأخلاقي
بخلاف المجتمع التخليقي الذي تسوده قواعد متفق عليها، ومحرمات مصطنعة لا صلة لها بالأخلاق، يرفض المجتمع ما بعد الأخلاقي "بلاغة الواجب المتزمت والمتكامل والمانوي[49]، وبموازاة ذلك يرفع من قيمة الحقوق الفردية في الاستقلالية والرغبة والسعادة. إنه مجتمع متخلّص في عمقه من المواعظ المتطرفة، ولا يعتني إلا بالمعايير غير المؤلمة للحياة الأخلاقية"[50]. ويتسم مجتمع ما بعد الأخلاق بـ"أفول الواجب"، وانهيار التمييز بين الخير والشر، وطغيان البحث عن سعادة الذات، والانشغال بإشباع رغباتها التي لا يكفّ التسويق التجاري عن خلقها. وحسب ليبوفتسكي، الذي نستند إلى بعض من أفكاره لتوصيف المجتمع ما بعد الأخلاقي، فقد "أذاب منطق الاستهلاك الجماهيري عالم المواعظ التخليقية، وقضى على الإلزامات المتشدِّدة، وأنجب ثقافة تتغلب فيها السعادة على الأوامر الأخلاقية، والمُتع على الممنوع، والإغراء على الإلزام"[51]. إذ لم يعد الإنسان الغربي قادرًا على الالتزام بالمُثُل العليا، والقيم الفاضلة. اجتهد المفكرون لتفسير هذا التحول، وركَّز بعضهم مثل زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) وجيل ليبوفتسكي على تحولات الرأسمالية، وتوسع حضارة الاستهلاك، بينما فسَّر مافيزولي هذا التحوُّل بعودة النماذج الأخلاقية الغابرة. وقد قدَّم هؤلاء توصيفًا لمجتمع ما بعد الأخلاق كما يلي:
- عصر ما بعد الأخلاق هو عصر سيادة الأخلاق السائلة في نظر زيغمونت باومان؛ لأن الحداثة السائلة استنزفت القوة الإقناعية لحجتين أخلاقيتين حداثيتين: حجة هوبز وفرويد ودركايم المسوغة للضوابط والمعايير الأخلاقية، لتشييد الحضارة، وتفادي حرب الكل ضد الكل، وتجنُّب الأنوميا الاجتماعية. وحجة إمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) حول التحدي الأخلاقي الذي يتعرض له البشر نتيجةً لوجود الآخرين ذاته[52]. ونتج عن إبعاد هاتين الحجتين ظهور صورة الشيطان المجازية "لتدمير السلطة الشرعية وهدم الأنظمة الاجتماعية والأخلاقية السائدة"[53]، وتحرّر السلوك الإنساني على نحو سلبي، وانبعثت الغرائز؛ إذ "حلَّت الإثارة محلَّ القسر، والإغراء محلَّ الفرض العنيف للأنماط السلوكية"[54]. حُرِّرت غرائز اللذة من عقائلها لكونها تَعِدُ بفوائد تجارية لا مثيل لها، وعوّض الرعب النفسي الذي يحسّ به مرتكب الذنب بقلق الإحساس بالعجز الأشد إيلامًا للذات، والمسبب للاكتئاب؛ لأن الحداثة السائلة فوّضت الفرد واجب تحمّل مسؤولية ذاته لوحده، وأخضعت إياه لمنطق حساب المخاطر، وولّد ذلك في نفسه الشعور الدائم بالحيرة والإحساس بالإهانة الذاتية اللذين يقيدان الفرد لمجتمع الاستهلاك، ومؤسسات التأمين، وأجهزة المراقبة...إلخ.
- عصر ما بعد الأخلاق هو عصر سيادة أخلاقيات (Ethics) بلا أخلاق (Morals)[55]، كما يصرح بذلك ميشيل مافيزولي، الذي رأى أن الأخلاقيات مجردة من جميع معاني الأخلاق المتداولة، وتتسم بالنسبية، لكنها قادرة على تأسيس الجماعات؛ إذ تنطلق الأخلاقيات في أوساط جماعة، وتتسم ببعض الخصوصيات. في عصر ما بعد الحداثة، تُجسِّد الأخلاقيات الخروج عن المُثُل العليا، ليس الأخلاقية فقط، مثل الخير والفضيلة، وإنما المُثُل الأيديولوجية من قبيل الاشتراكية والديمقراطية، مثلما تفقد كلمات المعنى والغاية والقيمة معانيها؛ لأن الأخلاقيات لا تهتمُّ إلا بإنتاج الإنسان المُتعوي، والإنسان الجمالي. تنزع الجماليات التي حلت محلَّ الأخلاق الكلاسيكية نحو المُتع، والتجارب الوجودية الممزوجة بالأفراح التي لا يحدُّ منها أي واجب أخلاقي. وباختصار، "إن النزوع الجمالي -على النقيض من النزعة الأخلاقية المستهلكة- يحيل رأسًا على عقب فكرة القبول بالواقع والرضا بالحياة كما هي، لا كما ينبغي أن تكون"[56]، أي القبول بالشر، وتحرير الغريزة، في مقابل نكران الفضيلة...إلخ.
- عصر ما بعد الأخلاق حسب ليبوفتسكي هو عصر إعياء أخلاق التنوير في صيغتها الروسوية (نسبة إلى روسو) والكانطية التي استثارت نقمةً وسخطًا أدَّيا إلى الانقلاب عليهما. إنه كذلك عصر أفول الواجب، وسيادة أخلاق لا تكرس نفسها لغايات، ولا تقيم تمييزًا بين الخير والشر. لقد دمرت حضارة الاستهلاك الواجب والإلزام الأخلاقي، وظهرت في أعقاب ذلك أخلاق المتعة الواعدة بمنافع تجارية عظيمة، وانتقلنا من حضارة الواجب إلى ثقافة السعادة الذاتية؛ المدعمة لاقتصاد السوق النيوليبرالي. لا يؤدي انهيار أخلاق الواجب حسب ليبوفتسكي إلى انهيار المجتمعات، وسقوطها في فوضى مُعممة؛ لأن هناك اصطناعًا دائمًا لبعض الممنوعات، وتشديدًا على بعض القيم التي يتطلبها اقتصاد السوق الرأسمالي، وتُقبل عليها مجتمعات الاستهلاك.
إن التفكير في عصر ما بعد الأخلاق في الغرب هو توصيف للفشل الأخلاقي الغربي، دون اقتراح بديل أو تدشين فكري لمنعطف أخلاقي واضح المعالم. ويمكن لهذا التوصيف أن يفضي إلى إدانة العمى الأخلاقي الغربي[57]، كما فعل زيغمونت باومان، لكنه يحمل -في حالات أخرى- دعوى تقبل العيش في مجتمعات بلا أخلاق، كما نستنتج من أعمال مافيزولي وليبوفتسكي. وفي المقابل، يدشن التفكير ما بعد الأخلاقي في المنطقة العربية الإسلامية منعطفًا أخلاقيًّا، ويعرض سُبل الخروج من مأزق الحداثة الأخلاقي، كما نجد ذلك مكرسًا في أعمال طه عبد الرحمن ووائل حلاق.
ثالثًا: ما بعد الأخلاق باعتبارها تجاوزًا لأخلاق الحداثة
تكتسي ما بعد الأخلاق في السياق العربي الإسلامي دلالة نقدية؛ لأنها تستهدف نقد الرؤية الحضارية المادية التي أفضت إلى تدمير الأخلاق، وتقييم الفكر الغربي وفقًا لمآلاته الأخلاقية. إن ما بعد الأخلاق تُعبّر عن مشكلة الحضارة الغربية المادية، ولا يمكن لعبارة "ما بعد" في السياق العربي الإسلامي إلا أن تكون نقدًا للمنظور الحداثي وما بعد الحداثي للأخلاق، استنادًا إلى ذخيرة أخلاق إسلامية، وذلك بهدف إعادة بناء الإنسان الجديد.
انتشار سرديات الحداثة الضاغطة يمنع الانخراط في مثل هذا المجهود النقدي، ما يستلزم تصور إبيستيمولوجيا نقدية تمكِّن من إنزال الأخلاق منزلة النطاق المركزي؛ لأن التفكير في الأخلاق من داخل الإبستيم الحداثي يمنع رؤية البديل الأخلاقي ويجعلها مستحيلة.
- الأخلاق الإسلامية: ذخيرة نقدية
لم تتعرض الأخلاق الإسلامية للاضطراب مثلما تعرضت له الأخلاق في الغرب منذ عصر التنوير إلى الآن. وتتمثَّل قوة النموذج الأخلاقي الإسلامي في كونه يمثِّل ذخيرة نقدية للتراث الفكري الغربي. ويسوغ هذا الطرح كَون الأخلاق في الإسلام لم تكن مصدرًا للأزمات المدمرة التي عرفها العالم المعاصر، كما كشفت ذلك المشكلات الأخلاقية التي عرفتها أوروبا من قبيل إجراء التجارب الصحية المميتة. فحسب تشارلز تايلور، تقف وراء العقل الأداتي الغربي المدمر منظومةٌ قيميةٌ تعلي من قيمة الفعالية، والتحكُّم في الطبيعة واستغلالها.
لا يزال التراث الإسلامي يكشف عن حيويته؛ لأنه يزخر بقيمٍ فُضلى وأخلاق اقتصادية وبيئية ومالية...تؤطر -ولو نظريًّا- سلوكيات المسلمين، قبل أن يفبرك الغرب الأخلاقيات التطبيقية بقرون، ما يبيِّن أهمية التفكير الأخلاقي ما قبل الحداثي، وتزداد هذه الأهمية إذا علمنا كذلك أن الفلسفات الغربية النقدية للحداثة لم تنجح في تدشين منعطف أخلاقي. إن أخلاق التواصل لهابرماس -على سبيل المثال- لم تتخلَّص من فكرة الواجب الكانطية الموروثة عن المسيحية.
لا يمكن تجاوز اضطراب التصور الغربي للأخلاق بإصلاحاتٍ يستمدها الفكر الحداثي الأخلاقي من داخله، بل باستناده إلى تراث أخلاقي آخر، لا سيما أن الحداثة دمرت جميع تصورات الأخلاق. ولذلك يُرشَّح التراث الأخلاقي الإسلامي للنهوض بإصلاح آفات النظام الأخلاقي المعاصر. فحسب وائل حلاق، يلزم "هذا النظام الأخلاقي، وهو رأس مال لا يُقدَّر بثمن، أن يدعم وجهتين للعمل على الأقل: إحداهما داخلية، والأخرى خارجية"[58]، غير أن انتشار سرديات الحداثة الضاغطة يمنع الانخراط في مثل هذا المجهود النقدي، ما يستلزم تصور إبيستيمولوجيا نقدية تمكِّن من إنزال الأخلاق منزلة النطاق المركزي؛ لأن التفكير في الأخلاق من داخل الإبستيم الحداثي يمنع رؤية البديل الأخلاقي ويجعلها مستحيلة.
- ما بعد الأخلاق: إبستيمولوجيا نقدية
لقد أرسى الفكر النقدى العربي -ممثلًا بأعمال طه عبد الرحمن- إبستيمولوجيا مغايرة، تمكِّن من النظر إلى ما بعد الأخلاق نظرة معرفية جديدة. وتقوم هذه النظرة أساسًا على نقد مفهومي العقل والحرية اللذين يستند إليهما الفكر الأخلاقي المعاصر.
إن العقل الأداتي السائد لا يمكن أن يكون أساس الأخلاق، بل إن طبيعة العقل الحديث الأداتية هي التي قادت إلى مجتمع ما بعد الأخلاق. إن هذا العقل مثلًا يقبل باللامساواة في الدَّخْل والفرص، ويبرِّرها بالنمو الاقتصادي[59]، ويتجاهل دعوات حماية الطبيعة لأسباب اقتصادية تتعلق بالحفاظ على مستويات مرتفعة من الإنتاجية، كما يتمثَّل ذلك في موقف الولايات المتحدة الأمريكية الرافض للتوقيع على اتفاقية كيوطو بشأن تغيُّر المناخ. ويبيِّن هذان المثالان محدودية الفضيلة المستندة إلى العقل الأداتي، ويكشفان أهمية استبدال الإبستيمولوجيا الحداثية التي تعلي من مكانة العقل، بإبستيمولوجيا مغايرة تشيد بالإنسان الفاضل. وتتمثَّل معالم التفكير الإبستيمولوجي المؤسس للأخلاق ما بعد الحداثية، كما هو مستخلص من بعض أعمال طه عبد الرحمن، في تعريف الإنسان بأنه كائن أخلاقي، خلافًا للتصور الهيوماني، الذي يعتبر الإنسان ذاتًا حُرة عاقلة؛ لأن "الإنسانية والأخلاق متلازمان"[60]. وسيترتب عن هذا الاعتبار إعطاء الأولوية للأخلاقية بدل العقلانية الأداتية التي كشفت الوقائع خطورتها. ولذلك يدافع طه عبد الرحمن عن عقلانية مُسدَّدة بالأخلاقية[61]؛ لأن الإنسان -في نظره- يختصُّ دون غيره من المخلوقات بالعقلانية المُسدَّدة، أما العقلانية المجردة من الأخلاقية فيشترك فيها الإنسان مع البهيمة[62].
يقوم فقه المعرفة أو الإبستيمولوجيا بالمعنى المستحدث لطه عبد الرحمن على نقد مفهوم الحرية، الذي يقع في صلب الجدالات الحداثية حول الأخلاق، فباسم تصوُّر مُعيَّن للحرية أزيلت الأخلاق إلى الهامش. لقد حلَّل طه عبد الرحمن تصور التيارات الكبرى للحرية: الليبرالية والديمقراطية والجمهورية والاشتراكية، وبعد أن بيَّن أن تعريف هذه التيارات للحرية يكون إما بالسلب (عدم التدخل، وعدم التسلُّط) أو بالإيجاب (وجود المشاركة السياسية والقدرة على المشاركة السياسية)، لاحظ أن تصوراتها للحرية منقوصة ومبتورة ومتوهمة[63]، كما أن التصورات السياسية للحرية لم تهتمّ إلا بالتحرّر من الاستعباد الظاهر، الذي لا يَقي من الاستعباد الداخلي، أو استعمار الكينونة الذي يهتم نقَّاد ديكولونياليون من أمريكا اللاتينية بدراسته[64]؛ لأن الأفراد يخضعون في النظام الرأسمالي لمؤثرات إعلامية وتجارية خارجة عن إرادتهم. لقد دمرت الحداثة الليبرالية الحريةَ، وفرضت بآلياتها المتعدِّدة العبوديةَ للسوق، مثلما أبادت الأخلاق لمَّا استبدلت التنافس لتحصيل القيم بالتنافس على القيم المادية. ولن يكون من الممكن التخلُّص من الاستعباد الداخلي -حسب طه عبد الرحمن- سوى بالعمل التزكوي والاجتهاد في التعبُّد لله[65].
خلافًا للأسطورة الحداثية التي سوغت زمنًا طويلًا تهميش الأخلاق باسم الدفاع عن الحرية، وتصورت الأخلاق خارج الدين، رأى طه عبد الرحمن أن الحريات الحديثة منقوصة ومبتورة ومتوهمة، فلا أخلاق ولا حرية في نظره بدون دين، بل إنه فسَّر سبب اضطراب النظرية الحداثية حول الأخلاق وانحراف الحريات الحديثة برفض الدين. لقد وافقت الحداثة على الأخلاق المُعَلمنة المفصولة عن الدين، وعززت حريات سلبية، مُستَعبدة للذوات المعاصرة، ما أبقى الحداثة بمنأى عن كل نقدٍ يكشف أساطيرها.
تعيد هذه الإبستيمولوجيا الأخلاق إلى نطاقها المركزي، وتعرّف الإنسان تعريفًا مناقضًا للتعريف الإنسانوي القائم على منظور ليبرالي للحرية وعلى عقلانية أداتية، ويعلن فقه المعرفة هذا أن مفاهيم الأخلاق لا تستقرّ إلا في المجال الديني، ولا تزدهر إلا بالتخلّص من المنظور الحداثي لسيادة الذات، والعقلانية الأداتية، والحرية السلبية...إلخ.
إن ما بعد الأخلاق -وفقا للمنظور الحضاري العربي الإسلامي، كما نستشفه من أعمال طه عبد الرحمن ووائل حلاق- هي النظر أبعد من الأخلاق الحداثية المضطربة، نظر إبستيمولوجيّ يقلب التراتبيات التي أسَّستها الحداثة، نظر يقوم على نقد جذري لمفاهيم الحداثة: العقل والحرية والذات والدولة؛ إذ لا يمكن في نظرنا تجاوز مأزق الحداثة الغربية الأخلاقي إلا بإبستيمولوجيا مغايرة تمامًا تمكِّننا من تصور البديل خارج الشرط الحداثي.
لقد عجزت المجتمعات الغربية عن تصور سياسات أخلاقية، على الرغم من مسؤولية "نظامها الأخلاقي" الحديث في تدمير الطبيعة واستغلال الشعوب؛ إذ لم تتمكَّن الأخلاقيات المُفبركة وأشكال التخليق المُطبقة من وقف مآسي الحداثة التي لم يعُد ممكنًا إخفاؤها بالمنافع المادية والتقنية التي يخلقها النظام الحديث.
خاتمة
بعثت النيوليبرالية من جديد تصوُّر التنوير الراديكالي للأخلاق، نظرًا لما يعد به من فوائد لا مثيل لها للنظام الرأسمالي المُعولم. وفضلًا عن ذلك، ساعد التراجع المهول للتدين في الغرب من جهة، وتوسُّع حضارة الاستهلاك من جهة أخرى على إزالة التمييز بين الخير والشر، وبين الأخلاق والالتزامات الاجتماعية، وترتَّب عن ذلك التحوُّل مرور المجتمعات الغربية إلى مرحلة ما بعد الأخلاق التي تعود أصولها إلى فكر التنوير الراديكالي، الذي استوعب فلسفات أخلاق قديمة مثل الأبيقورية. لقد عجزت المجتمعات الغربية عن تصور سياسات أخلاقية، على الرغم من مسؤولية "نظامها الأخلاقي" الحديث في تدمير الطبيعة واستغلال الشعوب؛ إذ لم تتمكَّن الأخلاقيات المُفبركة وأشكال التخليق المُطبقة من وقف مآسي الحداثة التي لم يعُد ممكنًا إخفاؤها بالمنافع المادية والتقنية التي يخلقها النظام الحديث.
ولم تُسفر انتقادات مفكرين مثل باومان ومافيزولي وليبوفتسكي الذين حلَّلوا مجتمع ما بعد الأخلاق عن بديل أخلاقي، بل إنهم شرعنوا هذا التحوُّل إما ضمنيًّا أو بشكل صريح. لقد اعتبر ليبوفتسكي مثلًا أن أفول الواجب وانهيار القواعد الأخلاقية لا يستتبعه سقوط المجتمعات في الفوضى، كما كانت تتوقَّع ذلك النظرية الاجتماعية الكلاسيكية. وبالمثل رأى باومان أن انبعاث الشرّ السائل استنزف القوة الإقناعية للحجج الحداثية التي تؤمن بدور القيم والقواعد الاجتماعية في استقرار المجتمعات، دون أن تنهار المجتمعات الغربية. أما مافيزولي فقد صرح أن الأخلاقيات البعيدة عن الأخلاق بمعناها المتعارف عليه قد أضحت تحقِّق إرادة العيش في المجتمعات ما بعد الحداثية.
في مقابل ذلك، انشغل بعض المفكرين العرب مثل طه عبد الرحمن ووائل حلاق بالبديل الأخلاقي، وهذا ما أضفى على التفكير في ما بعد الأخلاق في السياق العربي الإسلامي بعدًا نقديًّا إيجابيًّا؛ إذ لا تعني ما بعد الأخلاق -حسب هذين المفكرين- الانتقال من الأخلاق الكلاسيكية إلى نموذج أخلاقي آخر، أو تفكيك نظام الأخلاق السائد، وإنما تعني نقد الأخلاق الحديثة، عبر استعادة المنظور الأخلاقي الإسلامي الذي أزاحته الحداثة جانبًا، واستثماره لتقويض الحداثة، ونقد نزعتها العقلانية، وتصورها الإنسانوي العلماني، واختراق إبستيمولوجيا الحداثة العقلانية التي تمنع انبثاق البديل من خارج نطاق الحداثة.
- المراجع
-
ابن النديم، الفهرست، بيروت: دار المعرفة، د.ت.
أحمد عبد الحليم عطية، الأخلاق النظرية والتطبيقية، القاهرة: دفاتر فلسفية، 2016م.
ألسدير ماكنتاير، بعد الفضيلة: بحث في النظرية الأخلاقية، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، مراجعة: هيثم غالب الناهي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2013م.
آيزايا بيرلن، الحرية، إعداد: هنري هاردي، ترجمة: معين الإمام، مسقط: منشورات دار الكتب، 2015م.
تشارلز تايلور، منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014م.
جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة: عبد الله العروي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012م.
جوناثان إسرائيل، ثورة العقل: التنوير الجذري والأصول الفكرية للديمقراطية الحديثة، ترجمة: حمد الريّس، الكويت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م.
جوناثان آي. إزرايل، التنوير متنازعًا فيه: الفلسفة والحداثة وانعتاق الإنسان (1670-1752م)، ترجمة: محمد زاهي المغيربي، ونجيب الحصادي، البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2020م.
جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب: الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة، ترجمة: البشير عصام المراكشي، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2018م.
رشيد بن بيه، "الحداثة والكولونيالية والإبادة"، مجلة المستقبل العربي، العدد 503، 2021م، الصفحات 7-25.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، "الوجوه المظلمة للحداثة الغربية وخفاياها: نقد ديكولونيالي"، مجلة المستقبل العربي، العدد 517، 2022م، الصفحات 61-77.
زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية، القاهرة: مكتبة مصر، د.ت.
زيغمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة: سعد البازغي وبثينة الإبراهيم، أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مشروع "كلمة"، 2016م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، وليونيداس دونسكيس، الشر السائل: العيش مع اللابديل، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رؤوف عزت، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، والنشر، 2018م.
زيغمونت باومان، وليونيداس دونسكيس، العمى الأخلاقي: فقدان الحساسية في الحداثة السائلة، ترجمة: محمود أحمد عبد الله، البصرة: دار شهريار للنشر والترجمة، 2022م.
طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012م.
عبد العزيز بومسهولي، نهاية الأخلاق أو الانعطاف نحو المبدأ الإيتيقي المحايث، القنيطرة: دار الحرف للنشر والتوزيع، 2009م.
عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م.
فريدريتش نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الكتاب الأول، ترجمة: علي مصباح، بيروت: منشورات الجمل، 2014م.
فريدريتش نيتشه، في جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: محمد محجوب، تونس: دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، 2010م.
مشيل فوكو، تاريخ الجنسانية I: إرادة المعرفة، ترجمة: جورج أبي صالح، ترجمة ومراجعة وتقديم: مطاع صفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م.
مونتسكيو، تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط، ترجمة: عبد الله العروي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2011م.
ميشيل مافيزولي، حصة الشيطان: الشر المحتوم وتجلياته، ترجمة: عبد الله زارو، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2020م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، دنيا المظاهر وحياة الأقنعة: لأجل أخلاقيات جمالية، ترجمة: عبد الله زارو، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2017م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، نظام الأشياء: التفكير في مابعد الحداثة، ترجمة: سعود المولى، ورنا دياب، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020م.
وائل حلاق، "سجالات الدولة المستحيلة: ردود وتعقيبات"، حاوره عثمان أمكور، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م، على الرابط: https://urlz.fr/kqhb
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة: عمرو عثمان، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019م.
Charles Taylor, « What's wrong with negative liberty ». In Philosophical Papers, Cambridge : Cambridge University, 1985, pp. 211-229.
Charles Taylor, Le malaise de la modernité, Trad. Charlotte Melançon, « Humanités », Paris, Les éditions du CERFP, 2008.
Claire Pagès, « Les postmodernismes philosophiques en question », Tumultes 2010/1 (n° 34), pp.115 à 134
Elisabeth R. Anker, Ugly Freedoms, Duke University Press, Durham and London, 2022.
Falcón, Luis Nieves, et al., Antología Del Pensamiento Crítico Puertorriqueño Contemporáneo. Edited by Anayra Santory Jorge and Mareia Quintero Rivera, CLACSO, 2018
John N. Gray, « on négative and positive liberty », Political Sludws, Vol. XXVIII. No. 4, 1980, pp. 507 526.
Jon Kabat-Zinn, Au cœur de la tourmente : la plaine conscience, J’ai lu, Paris, 2012.
Rachid Benbih, « L’épistémologie de la partialité des savoirs modernes : Abdelwahab El-Messiri et sa mise pratique de la décolonialité », Revue études décoloniales, N°5, novembre 2021.
Elisabeth Anscombe, « La philosophie morale moderne », Traduit de l’anglais par Geneviève Ginvert et Patrick Ducray, Introduit par Patrick Ducray, KLESIS – Revue philosophique / actualité de la philosophie analytique, n° 9, 2008, pp. 9-31.
- الهوامش
-
[1] لمزيد من التفصيل حول الحريات السلبية والإيجابية والقبيحة، ترجى العودة إلى الأعمال التالية:
John N. Gray, « on négative and positive liberty », Political Sludws, Vol. XXVIII. No. 4, 1980, pp. 507 526.
Charles Taylor, « What's wrong with negative liberty ». In Philosophical Papers, Cambridge: Cambridge University, 1985, pp. 211-229.
آيزايا بيرلن، "مفهومان للحرية"، في: الحرية، إعداد هنري هاردي، ترجمة: معين الإمام، (مسقط: منشورات دار الكتب، 2015م)، ص227-288.
[2]حسب إليزابيث أنكر، تعني الحرية المؤسسة على إرادة الرجل الأبيض المتسيدة، والمنتجة "للإقصاء والامتياز والضرر". ينظر:
Elisabeth R. Anker, Ugly Freedoms, Duke University Press, Durham and London, 2022.
إليزابيث أنكر، "الحريات القبيحة في السياسة الأمريكية"، جريدة الشرق الأوسط، عدد 15839، بتاريخ 10 أبريل 2022م.
[3] نوظف مصطلح الفبركة للدلالة على الطابع المصطنع لأخلاق الحداثة.
[4] نحاول منذ مدَّة بناء منظور نقدي يخالف النقد ما بعد الكولونيالي، والديكولونيالي، وما بعد البنيوي، وذلك استنادًا إلى إرث مفكرين من الجنوب انتبهوا منذ مدَّة إلى كولونيالية الحداثة، وعدائية التنوير، مثل: انريك دوسيل، وأنيبال كيخانو، ووالتر مينيولو، وعلي شريعتي، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمن، ووائل حلاق، وسيد فريد العطاس...إلخ. ونطمح إلى استكمال هذه الأعمال وإصدارها في كتاب، وقد نشرنا منها من قبل ثلاث دراسات:
- "الحداثة والكولونيالية والإبادة"، مجلة المستقبل العربي، العدد 503، 2021م، ص7-25.
- "الوجوه المظلمة للحداثة الغربية وخفاياها: نقد ديكولونيالي"، المستقبل العربي، العدد 517، 2022م، ص61-77.
- « L’épistémologie de la partialité des savoirs modernes : Abdelwahab El-Messiri et sa mise pratique de la décolonialité », Revue études décoloniales, N°6, novembre 2021.
[5] وظَّف طه عبد الرحمن مفهوم ما بعد الأخلاق مقرونًا بعلامات التنصيص في مقاله "ما بعد الأسرة وما بعد الأخلاق: انقلاب في قيم الحداثة"، المنشور في كتاب جماعي بعنوان "أزمة القيم ودور الأسرة في تطور المجتمع المعاصر"، (الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 2001م)، ص313-362. ويبدو أنه استعار هذا المفهوم من جيل ليبوفتسكي الذي أحال إلىه في مراجع المقال، وقد اقترح طه عبد الرحمن مفهوم "الأخلاق المحدثة" مرادفًا لما بعد الأخلاق، للدلالة على سلوك لا يأخذ بأخلاق الحداثة. انظر: ص314.
[6] بعد صدور كتاب فرانسيس فوكوياما، جارى بعض الباحثين سردية النهايات، مفترضين نهاية الأخلاق المفارقة: المعيارية والثيولوجية، وحصول انعطاف حول مبدأ إتيقي محايث للحرية، وفي نظرهم يُعدّ هذا التماهي بين الإتيقا والحرية أساس استقلال الكائن الإنساني الذي لن يعتمد على مرجعية أخرى سوى خاصيته الإنسانية، انظر: عبد العزيز بومسهولي، نهاية الأخلاق أو الانعطاف نحو المبدأ الإيتيقي المحايث، (القنيطرة: دار الحرف للنشر والتوزيع، 2009م)، ص84.
[7] تشارلز تايلور، منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014م)، ص573.
[8] للاستزادة بخصوص التمييز بين التنوير الراديكالي والمحافظ الذي لم يحظَ لموافقة غالبية مؤرخي الفكر، ينظر: جوناثان آي. إزرايل، التنوير متنازعًا فيه: الفلسفة والحداثة وانعتاق الإنسان (1670-1752م)، ترجمة: محمد زاهي المغيربي، ونجيب الحصادي، (البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2020م).
[9] جوناثان آي. إزرايل، مرجع سابق، ص888.
[10] لقد تهافت في الإبيستيمولوحيا الحديثة التمييزُ بين القيمة والواقع، لكن ما زال الفكر الغربي يتصرف تجاه الطبيعة والإنسان غير الغربي باعتبارهما دون قيمة، للمزيد عن اتصال القيمة بالواقع يراجع: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007م)، ص35-36.
[11] جوناثان إسرائيل، ثورة العقل: التنوير الجذري والأصول الفكرية للديمقراطية الحديثة، ترجمة: حمد الريّس، (الكويت: مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م)، ص153.
[12] ينظر: جان جاك روسو، دين الفطرة، ترجمة: عبد الله العروي، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012م)، ص78.
[13] المرجع نفسه، ص75.
[14] جوناثان إسرائيل، ثورة العقل: التنوير الجذري، مرجع سابق، ص163.
[15] ينظر الفصل الأول الموسوم: نحن الفيكتوريين في كتاب مشيل فوكو، تاريخ الجنسانية I: إرادة المعرفة، ترجمة: جورج أبي صالح، ترجمة ومراجعة وتقديم: مطاع صفدي، (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م)، ص26.
[16] تشارلز تايلور، مرجع سابق، ص579.
[17] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000م)، ص16.
[18] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص25.
[19]جوناثان آي. إزرايل، التنوير متنازعًا فيه، ص888.
[20] انظر عرضًا مفصلًا لهذه الاتجاهات في كتاب طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص15-16.
[21] علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: محمد يوسف عدس، تقديم: عبد الوهاب المسيري، (القاهرة: دار الشروق، 2019م، ص196 .
[22] المرجع نفسه، ص203.
[23] جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب: الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة، ترجمة: البشير عصام المراكشي، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، سلسلة ترجمات 32، 2018م)، ص39.
[24] Voir Elisabeth Anscombe, « La philosophie morale moderne », Traduit de l’anglais par Geneviève Ginvert et Patrick Ducray, Introduit par Patrick Ducray, KLESIS – Revue philosophique / actualité de la philosophie analytique, n° 9, 2008, p. 10.
[25] وائل حلاق، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019م)، ص157.
[26] Charles Taylor, Le malaise de la modernité, Trad. Charlotte Melançon, « Humanités », Paris, Les éditions du CERFP, 2008, p. 34.
[27] Voir Jon Kabat-Zinn, Au cœur de la tourmante, la plaine conscience, éditeur J’ai lu, Paris, 2012.
[28] وائل حلاق، مرجع سابق، ص353.
[29] المرجع نفسه، ص352.
[30] انظر مقدمة فتحي المسكيني لكتاب فريدريتش نيتشه، في جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: محمد محجوب، (تونس: دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، 2010م)، ص10.
[31] المرجع نفسه.
[32] فريدريتش نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الكتاب الأول، ترجمة: علي مصباح، (بيروت: منشورات الجمل، 2014م)، ص97.
[33] المرجع نفسه، ص100.
[34] فتحي المسكيني، مقدمة كتاب فريدريتش نيتشه، في جينيالوجيا الأخلاق، مرجع سابق.
[35] المرجع نفسه، ص18.
[36] Claire Pagès, « Les postmodernismes philosophiques en question », Tumultes 2010/1 (n° 34), p.133.
[37] ميشيل مافيزولي، نظام الأشياء: التفكير في ما بعد الحداثة، ترجمة: سعود المولى، ورنا دياب، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020م)، ص119.
[38] حسب مافيزولي، يُعد ديونيزوس (Dionysos) إله الخمر عند الإغريق، الأمير السري لهذا العصر الذي يعرف إقبالًا محمومًا على المتع وإطلاقًا لقيود الغرائز.
[39] نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (341-270ق.م) الذي رأى أن اللذَّة هي "الخير الأعظم أو الغاية القصوى لمعظم الأفعال البشرية"، ودعا "إلى تفضيل اللذات التي يمكن أن تدوم"، و"أعلى من شأن اللذات الروحية"، مثل الصداقة والحكمة والجمال. ينظر: زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية، مشكلات فلسفية 6، (القاهرة: مكتبة مصر، د.ت)، ص116.
[40] مونتسكيو، تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط، ترجمة: عبد الله العروي، (بيروت/الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2011م)، ص95.
[41] ميشيل مافيزولي، حصة الشيطان: الشر المحتوم وتجلياته، ترجمة: عبد الله زارو، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2020م)، ص16.
[42] المرجع نفسه، ص22.
[43] جيل ليبوفتسكي، مرجع سابق، ص13.
[44] ترجم عبد الوهاب المسيري مصطلح (Process) بالصيرورة التي تفيد التحول من حالة أخرى، بينما فضلت ترجمته بالسيرورة؛ لأن هدف هذا النمط المصطنع من الأخلاق هو إخضاع كل مرحلة أو عملية من عمليات التدبير أو العمل إلى أخلاقيات متفاوض حولها. ينظر: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م)، ص183.
[45] وائل حلاق، مرجع سابق، ص73.
[46] أحمد عبد الحليم عطية، الأخلاق النظرية والتطبيقية، (القاهرة: دفاتر فلسفية، 2016م)، ص275.
[47] وائل حلاق، "سجالات الدولة المستحيلة: ردود وتعقيبات"، حاوره عثمان أمكور، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2022م، على الرابط:
[48] تشارلز تايلور، مرجع سابق، ص580.
[49] نسبة إلى مذهب المانوية الذي أسَّسه ماني بن فتق بابك بن أبي برزام (216-277م)، وبشَّر به ابتداءً من عام 240م. يرى هذا المذهب أن العالم كونان: أحدهما نور والآخر ظلمة، كل واحد منهما منفصل عن الآخر. وقد أثَّرت المانوية لمدة طويلة في عدة مناطق في الشرق الأوسط وإفريقيا وغيرها. أُعدم ماني سنة 277م، وتعرض أتباع ديانته للاضطهاد من قِبَل الزراداشتية. ينظر: ابن النديم، الفهرست، (بيروت: دار المعرفة، د.ت)، ص456.
[50] جيل ليبوفتسكي، مرجع سابق، ص15.
[51] المرجع نفسه، ص57.
[52] زيغمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة: سعد البازغي وبثينة الإبراهيم، (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مشروع كلمة، 2016م)، ص72-73.
[53] زيغمونت باومان، وليونيداس دونسكيس، الشر السائل: العيش مع اللابديل، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزت، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2018م)، ص49.
[54] زيغمونت باومان، الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، مرجع سابق، 75 .
[55] تعني الأخلاق مبادئ كونية عامة مُلزِمة ومطلقة حول الخير والشر، بينما تدلُّ الأخلاقيات على معايير متفق عليها بين أعضاء جماعات معينة، وتتصف بالنسبية والتعدُّد وضعف الإلزام وتلاشي الحدود بين الخير والشر.
[56] ميشيل مافيزولي، دنيا المظاهر وحياة الأقنعة: لأجل أخلاقيات جمالية، ترجمة: عبد الله زارو، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2017م)، ص46.
[57] ينظر: زيغمونت باومان، وليونيداس دونسكيس، العمى الأخلاقي: فقدان الحساسية في الحداثة السائلة، ترجمة: محمود أحمد عبد الله، (البصرة: دار شهريار للنشر والترجمة، 2022م).
[58] وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان، (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014م)، ص293.
[59] Charles Taylor, Op.cit. p. 13.
[60] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ص292.
[61] طه عبد الرحمن، مرجع سابق، ص13.
[62] للتوسع في هذه الفكرة، أحيل القارئ على كتاب طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012م)، ص82 وما بعدها.
[63] المرجع السابق، ص168.
[64] Voir Nelson Maldonado-Torres, « Sobre la colonialidad del ser: contribuciones al desarrollo de un concepto », in : Falcón, Luis Nieves, et al., Antología Del Pensamiento Crítico Puertorriqueño Contemporáneo. Edited by Anayra Santory Jorge and Mareia Quintero Rivera, CLACSO, 2018, pp. pp.565-610, https://doi.org/10.2307/j.ctvnp0jr5. Accessed 19/1/2023.
[65] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص160.