مبدأ سلطان الإرادة: من التطرف حتى الاعتدال
يُعرف العقد بأنه توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني، سواء كان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله، وقوام هذا العقد هي الإرادة، وهذه الإرادة وحدها تكفي لإنشاء الالتزام بما لا يتعارض مع النظام العام والآداب، وتحديد ما يترتب على هذا العقد من آثار، وذلك وفقًا لمبدأ سُلطان الإرادة، الذي لم يكن معروفًا في الماضي، حيث اضطر هذا المبدأ للمرور بعدَّة مراحل حتى يصل إلى ما هو عليه الآن.
لم يكن لمبدأ سلطان الإرادة وجودٌ في ذلك العصر الذي يسوده القانون الروماني، حيث لم يكن هذا الأخير يعترف بمبدأ سلطان الإرادة؛ بسبب خضوع العقود فيه لإجراءات شكلية ضرورية من إشارات وألفاظ وكتابة، وأما الإرادة وحدها فلم تكن كافيةً لإبرام العقود([1]).
- ظهور مبدأ سلطان الإرادة بثوب المذهب الفردي
يُشاع أنه في العصور الوسطى ظهرت ممارسات أشبه بأن تكون نواةً لمبدأ سلطان الإرادة، كممارسة المحاكم الكنسية والمحاكم التجارية الإيطالية، إلا أن الظهور الثابت والمُقرَّر لمبدأ سلطان الإرادة كان في القرن السابع عشر وتبلور في القرن الثامن عشر، بوصف ذلك نتيجة عكسية لما وصلت إليه الدولة في تلك الحقبة الزمنية من نفوذٍ وتدخلٍ في الروابط القانونية للأفراد، اشتدَّ بها الحال إلى الطغيان، وكثرت الفوارق الطبقية بين الأفراد، وظهرت أصواتٌ تنادي بسمو الفرد على الجماعة؛ وذلك لوجود قانون طبيعي سامٍ يُقرِّر للفرد الحقَّ في الحرية والتمتُّع بالإرادة المطلقة، والحماية لهذا الحق وتمكينه من التمتُّع بهذا الحق في مواجهة الدولة، والتأكيد على أن الفرد ليس موجودًا لفرض السيطرةِ عليه من قِبَل الجماعة أو مَن تدَّعي حماية مصالح الجماعة (الدولة)، بل إن طبيعة الفرد تمنحه الحريةَ والاستقلالية المطلقة.
وأصبحت مبادئ المذهب الفردي تُمثِّل توجُّه المشرع الرسمي، وقوامه الحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد، وألَّا تتدخل الدولة إلَّا استثناءً وفي أضيق نطاق
وراج هذا المذهب الفردي على يد الفلاسفة والكُتَّاب، وأبرزهم روسو الذي حمل لواء هذا المذهب في كتابه "العقد الاجتماعي"، والذي تبنَّت أفكاره الثورةُ الفرنسية وشقَّت طريقها متأثرةً بالمذهب الفردي. وقُنِّنَ المذهب الفردي رسميًّا في وثيقة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وأصبحت مبادئ المذهب الفردي تُمثِّل توجُّه المشرع الرسمي، وقوامه الحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد، وألَّا تتدخل الدولة إلَّا استثناءً وفي أضيق نطاق([2]). ونصَّت المادة الأولى من الإعلان على أن الناس يولَدون "أحرارًا ومتساوين في الحقوق"، ونصَّت المادة الرابعة على أن "الحرية هي فعل كل ما لا يضرّ بالغير؛ ولذلك ليس لاستعمال الحقوق الطبيعية لكل فرد من قيود إلا تلك التي تكفل لباقي الأعضاء في الجماعة التمتُّع بالحقوق نفسِها".
ويتضح أنه حيث لا تتعارض حرية الفرد مع حرية الآخرين، يكون للفرد أن يفعل ما يشاء ويُنشئ ما يشاء من الالتزامات تحقيقًا لمصلحته الخاصة، حيث يرتكز المذهب الفردي على أن تحقيق هذه المصلحة الفردية يصبُّ بشكل أو بآخر في تحقيق المصلحة العامة، فالقانون والجماعة وُجِدا لخدمة الفرد.
وبلغ مبدأ سلطان الإرادة أوجه في أواخر القرن الثامن عشر، باسم المساواة المطلقة بين الأفراد والإرادة الحرة حريةً تامةً، دون مراعاةٍ لعدم تساوي الأفراد في الواقع، وخصوصًا عدم تساويهم من زاوية القوة الاقتصادية. ونتيجةً لذلك، يكون كل ما يرتضيه المدين دينًا في ذمَّته يكون صحيحًا، وينتج أثره القانوني دون تقيُّد في حال وجود غبنٍ لحقِّ أحد المتعاقدين ما دام قد ارتضى هذا الغبن؛ لأن التزامه إنما بُنيَ على إرادته([3])، وبمجرَّد تكافؤ المتعاقدين نتيجة تمتُّع كل منهم بحرية الإرادة، يمكن لكلٍّ منهم أن يرعى مصالحه بنفسه بما يملكه من حرية الإرادة.
وقد أدى تطرف المذهب الفردي إلى نمو الرأسمالية وازدياد خطرها، حيث جعل حرية الإرادة أداةً بيد الطرف الأقوى، وتمكَّن هذا الطرف الأخير من التحكُّم بالطرف الأضعف عند اختلال الموازين الاقتصادية بين الطرفين نتيجةً لتحديد الأسعار وفقًا للعرض والطلب، فالمُلَّاك يتحكَّمون في المستأجرين، والبائعون في المشترين، وأرباب العمل في العمَّال، دون أي اعتبار لغبنٍ أو ظروفٍ طارئة، وليس للقاضي التدخلُ بالتعديل عند اختلال التوازن فيما سبق من أمثلة. فضاعت الحرية الحقيقية للمتعاقدين باسم المساواة المطلقة وسلطان الإرادة، وأظهر المذهب الفردي فساد معتقداته وتطرفه، بما أضرَّ بالمصلحة العامة للجماعة، وأهدر المصلحة الخاصة للأفراد وجعلها رهنًا لأهواء أصحاب القوة.
- تطور مبدأ سلطان الإرادة وظهور المذهب الاجتماعي
اهتزَّ مبدأ سلطان الإرادة بسبب الفساد الذي قاده إليه المذهب الفردي، ونادى أنصار المذهب الاجتماعي -الذي تولَّد نتيجةً لتطرف المذهب الفردي- بعودة سلطان الدولة، وتشديد قبضتها على الأفراد والتدخل في نشاطهم بما يحفظ المصلحة العامة للجماعة، فمتى تحقَّقت مصلحة الجماعة -المصلحة العامة- تحقَّقت معها مصلحة الفرد، حيث إن السمو هُنا للجماعة لا للفرد، الذي هو جزء من هذه الجماعة.
وكما يتضح، فإن أصحاب هذا المذهب يدعون إلى تعزيز دور الدولة لحماية الضعفاء من الأقوياء، وبسطِ سلطان الجماعة على أنشطة الأفراد كافَّة، وتقليص دور مبدأ سلطان الإرادة تقليصًا يكاد أن يُعدمه. وما لبث المذهب الاجتماعي حتى أخذَ منحًى متطرفًا، وأذاب الفرد إذابةً كليةً لصالح الجماعة تحت سقف الشيوعية، حيث أصبح العدل عن طريق تحقيق المصلحة العامة وحدها، باعتبار أن الفرد ما هو إلا كائن اجتماعي لا وجود له إلا في الجماعة وبالجماعة، ومن ثَمَّ يتعيَّن التحكُّم في حرية الفرد لصالح الجماعة([4])، وبذلك أهدر حرية الفرد، وشدَّد قبضة الدولة، وجعلها مهيمنةً هيمنةً أقرب إلى الاستبداد.
- المذهب المعتدل
رغم التطرف الذي غشى المذهبين الفردي والاجتماعي، فلا إنكار لما حمله كلُّ مذهب من أفكار إيجابية، كمسلك المذهب الفردي في إبراز كيان الفرد وحقِّه في الحرية، ومسلك المذهب الاجتماعي في إظهار أهمية الجماعة كفلكٍ يسبح فيه أعضاء الجماعة ويقوم على مصالحهم.
وأُجيز للقاضي، إذا طرأت ظروف استثنائية عامة تخلُّ بالتوازن في العقد مما يجعل التنفيذ مُرهقًا للمدين بحيث يهدِّده بخسارة فادحة، أن يردَّ الالتزام المرهق إلى الحدِّ المعقول
ولذلك كان لا بدَّ من الاعتدال والاتزان، والأخذ من المذهبين ما هو مفيد للخروج بمذهب معتدل، قوامه التوازن الذي يُعطي للفرد حقَّه في حرية الإرادة والمساواة: حرية إرادة ومساواة بلا مغالاة، حرية إرادة ومساواة تتدخل فيها الدولة باسم الجماعة للحدِّ من أضرارها التي تكون نتيجةً لحرية الإرادة والمساواة المطلقة، كما يضع هذا التوازن التزامًا على الجماعة باحترام حقوق الفرد الأساسية عند التدخل وعند فرض ما تُمليه المصلحة العامة.
وبذلك يكون مبدأ سلطان الإرادة قد وُضِعَ في نصابه الصحيح، بإعطاء الفرد حرية الإرادة بقدر ما ترتضيه قيم العدالة مع فرض عدَّة قيود على مبدأ سلطان الإرادة، أشهرها نظرية التعسُّف في استعمال الحق، كما أُعطي القاضي الحقَّ في تعديل الالتزام التعاقدي، إذا تضمَّن شروطًا تعسفية في عقود الإذعان (المادة 106 من القانون المدني القطري)، وأُجيز للقاضي، إذا طرأت ظروف استثنائية عامة تخلُّ بالتوازن في العقد مما يجعل التنفيذ مُرهقًا للمدين بحيث يهدِّده بخسارة فادحة، أن يردَّ الالتزام المرهق إلى الحدِّ المعقول (الفقرة الثانية من المادة 171 من القانون المدني القطري).
وهذه القيود -إضافةً للسلطات المعطاة للقاضي لتعديل الالتزام- هي حدود يرسمها القانون ميدانًا لسلطان الإرادة، فهو يعترف بهذا السلطان، ولكن يحصره في دائرة معقولة، تتوازن فيها الإرادة مع قيم العدالة والمصلحة العامة([5]).
- الهوامش
-
[1] محمد السعيد رشدي، النظرية العامة للالتزام، الكتاب الأول، كلية الحقوق جامعة بنها، مصر، 2018م، ص17.
[2] حسن كيرة، المدخل إلى القانون، منشأة المعارف بالإسكندرية، مصر، 1969م، ص166.
[3] عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، مصادر الالتزام، منشورات الحلبي، بيروت، 2022م، ص158.
[4] حسن حسين البراوي، المدخل إلى القانون القطري، دار نشر جامعة لوسيل، قطر، الطبعة الأولى، 2023م، ص347.
[5] عبد الرزاق السنهوري، مصدر سابق، ص162.