نحو أخلاق عالمية لِعالم العولمة
ملخَّص [1]
تعترف الأخلاق الإسلامية بدور الحدس والعقل والعادات والتقاليد، طالما أن الأخيرة تستمدُّ شرعيتها من المبادئ الإلهية، ولعل أهم ما يميّز الأخلاق الإسلامية أنها تدعو -أولًا وقبل كل شيء- إلى مبدأ التماسك والوحدة والتآلف في الحياة. أما المبدأ الأخلاقي التأسيسي الثاني الذي تدعو إليه، فيتمثَّل في الأمر بالعدل، أو القسط والإنصاف والإحسان في الحياة. ثم يأتي احترام الحياة وتعزيزها كمبادئ تالية مرتبطة ومقترنة بالمبادئ السابقة. ولا شكَّ أن دور العقل والحكم العقلاني في صنع القرار البشري يُعَدُّ أمرًا مهمًّا أيضًا. كما أن لحماية النسب والكرامة الإنسانية صلةً أيضًا بشعوب العالم بأسره. ومن هنا تتجاوز المبادئ الأخلاقية الإسلامية التي أوحى بها الله محدودية عقول البشر وخبراتهم. وهذه المبادئ ليست محلية أو إقليمية أو وطنية في أصلها. ومن ثَمَّ فإن طابعها الكُلي يجعلها قابلة للتطبيق عالميًّا، ومطلقة، وصالحة في ظل الظروف والبيئة المتغيرة. إنها أخلاقيات صديقة للإنسان وتقدِّم حلولًا ملموسة لمشكلة الإنسان في عصر العولمة هذا.
مقدمة
يشير الرُّهاب عمومًا إلى عُصاب المخاوف أو الهوس أو الخوف الشديد والمتواصل من شيء أو موقف أو نشاط معيَّن، مثل رُهاب الكلاب، ورُهاب المدرسة، ورُهاب الاحمرار. والرُّهاب هو مرض نفسيٌّ تقريبًا وغالبًا ما يرتبط بحالات مثل اضطراب الهلع أو الوسواس القهري، والتي تؤدي إلى سلوك غريب [2]. ومتى نظرنا إلى الإسلاموفوبيا، وهو مصطلح مجازي، سنجده قد استُخدم بشكل متكرر في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو يشير إلى ذلك الفهم الرجعي للإسلام والمسلمين على أنهم دوغمائيون (عقائديون متعصبون)، وأصوليون، وفي أدنى درجات سُلَّم التقدُّم الحضاري، ومناهضون للعقل، ومتخلفون، وتخريبيون وإرهابيون. ومن هنا فكثيرًا ما يُنظر إلى الإسلام من منظور الأخبار الصحفية والإعلام على أنه دينٌ يتصف بكل تلك الأشياء التي تتعارض وتنكر نظام القيم الغربية وتشكِّل تهديدًا للحضارة والعقلانية الغربية[3].
فإن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر فرضت على المستعمِر اتخاذ الإجراءات اللازمة لإبقاء المستعمَر خاضعًا. ومن أجل استيعاب المستعمَر والسيطرة عليه، حاول الإمبرياليون تعلُّم اللغات الأصلية والتعرف على الثقافات الأصلية.
إن هذه المشكلة المفاهيمية والسيكولوجية للساسة ورجال الدولة في الغرب، وخبراء الإعلام، ومراكز الفكر والباحثين، ليست ظاهرة حديثة. فلطالما نُظر إلى الإسلام والمسلمين على أنهم خصوم وأعداء ومعارضون للغرب. وخلال القرنين الماضيين، على الأقل، حدث ما يمكن تسميته بالتلاقي السياسي والفكري والثقافي بين الغرب والعالم الإسلامي. وفي ظل هذه المواجهة، كان الغرب في حالة هجوم دائم، واتخذ العالم الإسلامي في الغالب نهجًا دفاعيًّا. ومع صعود الاقتصاد الرأسمالي والنظام السياسي العلماني والتقاليد الفكرية الليبرالية في الغرب، توغلت الإمبريالية الغربية في استعمارها السياسي والاقتصادي والثقافي في أعماق العالم الإسلامي. وإحدى العلامات الدالَّة على ذلك هي أن اللغة الرسمية والتجارية للمستعمر حلَّت محلَّ اللغات الأصلية. ومن ثَمَّ ففي بعض البلدان الإسلامية (الجزائر، تونس، المغرب)، أضحت اللغة الفرنسية لغتهم الأولى في حين أصبحت اللغة العربية اللغة الثانوية؛ وفي شبه القارة الباكستانية والسودان وماليزيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا عندما كان الاستعمار البريطاني حاكمًا، كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية. وبالمثل، انتشرت اللغات الإيطالية والهولندية بين ليبيا وإندونيسيا. ومن هنا كان لاعتماد اللغة الأجنبية آثاره الاجتماعية والثقافية على الشعوب الإسلامية. وفي الوقت نفسِه، فإن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر فرضت على المستعمِر اتخاذ الإجراءات اللازمة لإبقاء المستعمَر خاضعًا. ومن أجل استيعاب المستعمَر والسيطرة عليه، حاول الإمبرياليون تعلُّم اللغات الأصلية والتعرف على الثقافات الأصلية. وهذا ما أقنع البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والهولنديين بإنشاء مراكز لدراسة الثقافات والحضارات والأديان الشرقية مع التركيز على دراسة لغات السكان الأصليين وثقافاتهم. كما قاموا بتدريب جيل من العلماء المحليين الذين انخرطوا في العقلية الغربية ومنهجية البحث وافتراضاته الأساسية.
إن جميع الحضارات المعروفة تاريخيًّا لها مفاهيمها المتميزة عن الخير والشر، حتى تلك الحضارات التي يعتبرها البعض "غير متحضرة"، ويؤمن الوثنيون بمعايير وقيم معيَّنة. إنهم يحترمون بشكل عام كبار السِّن ويعطفون على الأطفال، ويُعْظِمون قيم الصدق والأمانة والإخلاص، ويستهجنون الغشَّ والخداع. ومن المنظور التقليدي، فإن العادات والتقاليد المحلية، بعد طول ممارسة مستمرة، تتطور إلى قواعد وقوانين. وتحدِّد هذه القواعد والقوانين بالنسبة إليهم ما هو السلوك الجيد أو السيئ. وعندما يتم اعتبار السلوك الأخلاقي التزامًا وواجبًا، فإنه يُسمَّى «أخلاق الواجب» (Deontological Ethics) [4]. وعلاوة على ذلك، فعند تحديد الصواب أو الخطأ، فقد يتخذ المرء نهجًا موضوعيًّا أو شخصيًّا. فأما أولئك الذين يعتقدون أن الخير والصواب يمكن أن يُعرفوا كأشياء طبيعية، أو أن الصواب والخطأ يمكن التحقُّق منهما تجريبيًّا فيُطلق عليهم «أنصار المذهب الطبيعي في الأخلاق» (Ethical Naturalists) [5]. في حين أن أولئك الذين يعتقدون أن الصواب أو الخطأ يُعَدُّ مسألة عواطف، أو نابعة من موقف لمجموعة ما، فيُطلق عليهم «أنصار المذهب الانفعالي» (Emotivists)[6]. أما أولئك الذين يتمسكون بالنزعة اللا إدراكية أو غير المعرفية (Non-cognitivism) ويقولون بأن مواقف المجموعة هي التي تحدِّد مدى أخلاقية أو عدم أخلاقية حكم ما، فيُطلق عليهم «أنصار النسبية الأخلاقية» (Ethical Relativists).
إن كلمة «الأخلاق» (Ethics) [في اليونانية: (ēthikós)، وتأتي من كلمة (Ethos) التي تعني العرف أو الاستخدام] كمصطلح تقني تشير أيضًا إلى الآداب العامة والسلوك الشخصي. وقد استعمل شيشرون مصطلح الأخلاق (Moralis)، واعتبره معادلًا للأخلاق (ēthikós) عند أرسطو، حيث يشير كلاهما إلى النشاط أو السلوك العملي [7]. ومن هنا، فإن السلوك الأخلاقي بشكل عام يعني السلوك الجيد أو الصحيح، والتصرف وفقًا لمفهوم الصواب والخطأ، والجيد والسيئ، والفضيلة والشر. ومن ثَمَّ يصنِّف الفلاسفةُ الأخلاقَ في أقسام مختلفة، على سبيل المثال تتعامل الأخلاق المعيارية مع «أنظمة البناء المصممة لتقديم التوجيه في اتخاذ القرارات المتعلقة بالخير والشر والصواب والخطأ...»[8].
وفي ضوء هذه الملاحظات الأوَّليَّة حول معنى المصطلح، قد ننظر بإيجاز إلى الجوانب الأكسيولوجية والغائية للسلوك الأخلاقي. ويفترض الجانب الأكسيولوجي أو القيمي أن السلوك الأخلاقي يتعيَّن اعتباره خيرًا. وهذا الأخير يعني ببساطة أن الهدف الأسمى والغرض النهائي للفعل يجب أن يستهدف تحقيق ما هو خير. وفي كلتا الحالتين يعتبر الفكرُ الأخلاقي الغربي والشرقي الاتفاقَ الاجتماعي -في وقت معيَّن- بوصفه مصدرًا لشرعية الفعل الأخلاقي. وعلى الرغم من أن بعض القيم الأخلاقية تحمل على ما يبدو سمة الكلية (Universality) (أو العالمية) مثل قيمة الحقيقة، فإن التساؤل عمَّا هي الحقيقة على هذا النحو، وهل تُمارَس الحقيقة من أجل الحقيقة أو لتفادي الأذى الشخصي، أو من أجل المنفعة الجماعية للمجتمع، يمكن تناوله من وجهات نظر مختلفة.
ففي الفكر الغربي، رأى الأسقف جوزيف بتلر (Joseph Butler) (1692-1752م) أن ضمير الشخص، عندما لا يكون ملوثًا أو فاسدًا أو مشوشًا بِالبَدَاهَة، يصدر أحكامًا أخلاقية سليمة. وقد اشتُهر إيمانويل كانط (1724-1804م) بأنه اعتبر القانون الكلي أساسًا للأخلاق. ولذلك فإن السلوك الأخلاقي بالنسبة إليه هو أمر مطلق (Categorical Imperative)، واجب وحاسم. أما جيريمي بنتام (1748-1832م) فذهب إلى أن أعظم منفعة لأكبر عدد من الناس هو هدف الأخلاق. وقد طوَّر هربرت سبنسر (1820-1903م) مفهوم النفعية التطورية (Evolutionary Utilitarianism). وكذلك دافع إدوارد أ. ويسترمارك (Edward A. Westermarck) (1862-1939م) عن وجهة نظر النسبية الأخلاقية، ومن ثَمَّ اعتبر النُّظُم الأخلاقية انعكاسًا للظروف الاجتماعية. بينما اعتبر وليم الأوكامي (William of Ockham) (1290-1349م) أن الأخلاق لها أصل ديني متجسِّد في إرادة الله، حيث يعلن الأمر الإلهي ما هو صواب أو خطأ.
وباستثناء قلَّة من المفكرين والفلاسفة الدينيين، فإن معظم المفكرين -سواء في الشرق أو الغرب- يعتبرون أن الحدس أو الخير الجماعي أو الظروف الاجتماعية مسؤولة عن اعتبار الفعل صوابًا وأخلاقيًّا، أو خطأً ولا أخلاقيًّا. ومع ذلك، فإن مفاهيم معيَّنة مثل العدالة والإحسان وتجنُّب الأفعال المحظورة يتم الاتفاق عليها بشكل عام كمبادئ أخلاقية أساسية في الغرب. وعلى العكس من ذلك، فإن الأخلاق الإسلامية تستمدُّ شرعيتها من الوحي الإلهي. وهنا يأتي القرآن الكريم والسُّنة النبوية فيقدمان مبادئ أخلاقية عامة مع أوامر وإرشادات أساسية محددة حول ما هو خير، ومن ثَمَّ يقدمان لنا ما هو جائز ومسموح به (حلال)، وما هو مستحب (مباح)، وما هو شرّ وغير مسموح به (حرام)، وكذلك ما هو (مكروه).
يغطي هذان المصطلحان الشاملان (الحلال والحرام) جميع المجالات الممكنة للنشاط البشري، حيث يتخذ المرء الحكم الأخلاقي، ومن ثَمَّ يتصرف بشكل أخلاقي أو لا أخلاقي. ويتم ترسيم الحدود الأخلاقية (الحدود) للإشارة إلى تلك المناطق التي يجب تجنُّبها. وتوجد أيضًا مساحة كبيرة من المباح، حيث بموجب المبادئ الإلهية العامة، أعني مقاصد الشريعة أو أهداف القوانين الإلهية، يؤدي الاستدلال المنطقي والقياسي الفردي والجماعي (الاجتهاد) إلى أحكام ومواقف حول القضايا الطبية والمسائل الأخلاقية المستجدَّة. ويمكن توضيح الاختلاف الأساسي بين الفلسفة الأخلاقية الشرقية والغربية والنموذج الأخلاقي الإسلامي في ضوء هذا الرسم التخطيطي البسيط.
يتتبع علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ومؤرخو الثقافة أصل القيم الأخلاقية في البيئة المادية للبشر. ومع التغيير في المكان والزمان، من المتوقع أيضًا أن تتغيَّر القيم والمعايير. ومن ثَمَّ لا يُتوقع أن تكون معايير وقيم المجتمع ما قبل الصناعي ومجتمع ما بعد الحداثة متشابهة. ومن المفترض أن يتسبَّب التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في إحداث تغييرات أساسية في نظام القيم لدى الأشخاص الذين يمرون بهذه العملية. ومن هنا تكون القيم والمعايير الأخلاقية مرتبطةً بالتغيُّر الاجتماعي والاقتصادي. ومن ثَمَّ ليست الحقيقة والجمال والعدالة قيمًا مطلقة، وفقًا لهذا المنظور، لكنها تخضع للتغيير والتطور البيئي. ومن المفترض أن يضبط الإنسان سلوكه ويتصرف وفقًا لذلك.
لكن ماذا عن النموذج الإسلامي للقيم الأخلاقية؟ يمكننا وضع هذا الرسم البسيط عنه.
هنا نجد أن الأخلاق الإسلامية تعترف بدور الحدس والعقل والعادات والتقاليد، طالما أن الأخيرة تستمدُّ شرعيتها من المبادئ الإلهية. ولا يمكن لأي عادات أو تقاليد تتعارض مع مبادئ الشريعة أن تكون بمثابة أساس للسياسات والممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية. فأساس التنمية الاجتماعية والتقدُّم الاجتماعي تابع للشريعة. والتشريع الإلهي (الشريعة، بالمعنى الدقيق للكلمة) ليس نتاجًا للتطور الاجتماعي ولا خاصًّا بمكان أو شعب أو مجتمع أو سياق تاريخي بعينه. فمبادئ الشريعة ملائمة لجميع الأحوال والظروف البشرية المختلفة.
ومن ناحية أخرى، تقوم الأخلاق الإسلامية على المبادئ الإلهية للشريعة (المقاصد) التي يمكن تلخيصها على النحو التالي: هناك أولًا وقبل كل شيء مبدأ الوحدة والتآلُف في الحياة (التوحيد)، ويعني ببساطة أن السلوك الإنساني يجب أن يكون متماسكًا ومنسجمًا أو غير متناقض ويفتقر إلى عدم التناغم والترابط. وإذا كان احترام الحياة أمرًا أخلاقيًّا، فيجب اتباع المبدأ نفسه عندما يتعامل الشخص مع أصدقائه أو خصومه. ولا ينبغي أن تكون العدالة والحقيقة والشكر أو الاعتراف بالجميل قيمًا انتقائية أو مزدوجة. فإذا كان الإنسان يؤمن حقًّا بأن الله هو السلطة المطلقة في الكون، فيجب اتباع توجيهاته وأوامره ليس فقط في شهر رمضان وفي المسجد أو داخل حدود الكعبة، ولكن حتى عندما يكون الشخص في آخر حدود العالم الممكنة يجب عليه أن يراعي توجيهات الله في حياته الشخصية، وفي الأنشطة الاقتصادية، والمعاملات الاجتماعية، وكذلك في صنع القرار السياسي. ولذلك، فإن مبدأ التماسك والوحدة والتآلُف في الحياة أو التوحيد عند الممارسة يمثِّل قيمة وقاعدة ليست خاصَّة بمكان أو زمان أو أناس بعينهم.
وإذا ما أجرينا مقارنة مع الكونفوشيوسية -على سبيل المثال- فأول ما سنلاحظه أنه في ظل الكونفوشيوسية (التي أسَّسها كونفوشيوس: 551-479 قبل الميلاد)، هناك تركيز كبير على الشخص النبيل (chuntzu). ومن المتوقع أن يحترم الشخص النبيل قيمًا معينة مثل: الإنسانية، والرحمة، والشفقة (jen)، والبر (yi)، وطاعة الوالدين (xiao)، والعمل وفقًا لـ"قواعد اللياقة" أو آداب السلوك بالطريقة الأنسب، أو مراعاة الطقوس والمراسم (li).
إن الشفقة والبِر معًا يبنيان شخصًا ذا سمة أخلاقية عالية[9]. كما أن البر والشفقة كليهما في الكونفوشيوسية ليسا من أجل أي غاية نفعية. فيجب أن يكون البر من أجل البر. وهذا يذكرنا بالأمر المطلق عند كانط، أو اتباع الأخلاق كالتزام قانوني. ومن هنا لا تقبل الكونفوشيوسية النسبية الأخلاقية. وبعبارة أخرى، فإن السلوك الأخلاقي والشخص البارّ يرمز إلى "الأخلاق المستندة إلى مبادئ".
وغالبًا ما يُترجم المصطلح الكونفوشيوسي "لي" (li) إلى "طقوس" أو "تضحية". وحقيقة الأمر هي أنه يمثل أكثر من القيام بالطقوس بالطريقة المحددة. ولذلك نجد كونفوشيوس -في ردِّه على أحد الطلاب- يقول: "في الجنازات ومراسم الحداد، من الأفضل أن يشعر المعزون بحزن حقيقي، بدلًا من أن يجتهدوا في أن يكونوا على صواب تمامًا في كل تفاصيل المراسم الطقسية"[10]. ومن هنا تبدو الأخلاق في ممارساتها العملية على أنها الشغل الشاغل للكونفوشيوسية. وهي تشير إلى أن الوعي الأخلاقي والرغبة في التعاملات والسلوكيات الأخلاقية يمثلان ظاهرة كلية.
المبدأ الأول: التماسك والوحدة والتآلُف في الحياة
وفقًا للنظرة الإسلامية للعالم، فإن السلوك الأخلاقي (التقوى، والعمل الصالح)، وإدراك ما هو خير بطبيعته (المعروف)، والفضيلة (البر) تمثِّل جميعها واجبات أخلاقية. ومن هنا، يمثِّل الحكم الأخلاقي العقلاني أساس علاقة الإنسان بخالقه وأساس العمل والعبادة وعناية الله بخلقه. فكل عمل بشري ينبغي أن يقوم على المعروف والتقوى، وهما مظاهر يمكن قياسها للتوحيد أو الوحدة والتآلُف في الحياة. كما أن الإنسان ليس كيانًا اقتصاديًّا ولا حيوانًا اجتماعيًّا، ولكنه كائن أخلاقيٌّ. وقد أخبر الله ملائكته قبل خلق الزوجين البشريين الأوَّلين أنه سيخلق مُمَثِّله أو نائبه أو خَلِيفَتَه في الأرض. ولم يقل الله إنه سيخلق "حيوانًا اجتماعيًّا" أو "رجلًا اقتصاديًّا" أو "ظلَّ إله" أو "ملكًا" أو شخصًا "مهووسًا بالرغبة الجنسية". وتعني كلمة "خليفة" -من الناحية المفاهيمية- الشخص الذي يتصرف بشكل أخلاقي ومسؤول. لذلك فإن الإنسان في ضوء القرآن يمثل في جوهره كائنًا أخلاقيًّا.
وغني عن القول أن هدف الشريعة هو في الأساس أهداف للإنسانية بصفتها ذات طبيعة عالمية حقيقية. وفي هذا الصدد يدعو القرآن الإنسان بصفة عامة إلى ضبط سلوكه وفحص تعاملاته، ومن خلال تطبيق مبادئ التوحيد، وخلق الانسجام والتناغُم والتماسك والاتحاد والأُلفَة في السلوك البشري والسياسة الاجتماعية.
إن هذا المعنى للوحدة والتآلُف في الحياة يمثِّل الشرط الأول للمؤمن في الإسلام، وهذا المبدأ له تطبيق عالمي. ومن ثَمَّ فمن المهم ليس فقط بالنسبة إلى المسلم ولكن أيضًا بالنسبة إلى البوذيين والكونفوشيوسيين والمسيحيين والهندوسيين وغيرهم، التحرُّر من التناقضات في التعاملات والسلوكيات. وعلى نحو أكثر تحديدًا بالنسبة إلى المسلمين، فإن مراعاة المعايير الأخلاقية نفسها هي شرط مسبق للإيمان أو العقيدة الدينية. وهناك حديث نبوي صحيح يقول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ أو لِجارِهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" [11].
ويؤكد القرآن في عدَّة مواضع على الوحدة والتآلُف عند الفعل، والوحدة والتآلُف في السلوك والعمل كأساس للسلوك الأخلاقي. ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]. ومن هنا، فإن الوحدة والتآلُف كأول تعاليم جوهرية للإسلام تكاد تكون أيضًا أساس ما يُسمَّى بأهداف الشريعة (مقاصد الشريعة). وبما أن الوحدة والتآلُف يعنيان القضاء على المعايير المزدوجة للأخلاق والسلوكيات الأخلاقية ولتنمية الطابع الكلي في الشخصية، فإن قابليتها للتطبيق وأهميتها ليست خاصة بالمسلمين وحدهم. وغني عن القول أن هدف الشريعة هو في الأساس أهداف للإنسانية بصفتها ذات طبيعة عالمية حقيقية. وفي هذا الصدد يدعو القرآن الإنسان بصفة عامة إلى ضبط سلوكه وفحص تعاملاته، ومن خلال تطبيق مبادئ التوحيد، وخلق الانسجام والتناغُم والتماسك والاتحاد والأُلفَة في السلوك البشري والسياسة الاجتماعية. ولم يكن هذا المبدأ ممارسة قَبائِلِيَّة (عَشَائِرِيَّة) أو عربية أو خاصة بمجتمع مكة المكرمة وحدها: فقد أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن الربَّ أو المُقِيت لكل البشر هو الله وحده؛ ولذلك فهو وحده الخالق الجليل والحافِظ للكون والرزَّاق للبشرية جميعًا. إن المصطلح القرآني "الله" ليس شكلًا متطورًا من كلمة "إله" (ilah)، ولكنه الوصف الملائم والأخصُّ للخالق الجليل للبشر. وبالمثل، لم تكن الشريعة الإسلامية مسألة عادات وتقاليد عربية منحها الإسلامُ السمةَ أو الطابع المعياري. فالإسلام سبب أسلمة العرب وغير العرب. ولم يكن يستهدف ولا يرغب أبدًا في تعريب المجتمع العالمي غير الناطق باللغة العربية.
المبدأ الثاني: الأمر بالعدل أو القسط والإنصاف والإحسان
إذا نظرنا إلى المبدأ الأخلاقي التأسيسي الثاني، وهو هدف مهم من أهداف الشريعة، سنجده ممثلًا في الأمر بالعدل أو القسط والإنصاف والإحسان في الحياة. والعدل من صفات الله العليا، فهو العادل والمُقْسِط والرحيم بخلقه. وفي الوقت نفسِه، فإن هذا المبدأ ينطبق على عالم النبات، والحيوان، وعالم البحار، وكذلك على العالم البشري ككل. ولذلك يشير القرآن إلى دستور الإنسان فيما يتعلق بهذا المبدأ فيقول: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك} [الانفطار: 6-7].
وفي الإسلام أيضًا فإن السلوك الأخلاقي والسلوك الفاضل (التقوى) مرتبطان مباشرة بـ"العدل"، ولذلك يقول المولى عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]. ومن هنا، فإن العدل في القرآن الكريم مصطلح شامل. ويتضمَّن معنى الفضيلة والسمو في السلوك الأخلاقي، وكما جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وعلى الرغم من أن العدل يُنظر إليه بشكل عام على أنه مرادف للحق القانوني للشخص، فإن له دلالات وتَضمِينات أوسع بكثير. فعلى المستوى الشخصي، يعني تحقيق المرء العدالة تجاه نفسه من خلال الاعتدال والتوازن في السلوك. ولذلك إذا نام الإنسان أكثر من اللازم أو قصَّرَ في عدد ساعات نومه، أو منع الطَّعامَ عن نفسه من أجل أن يصل إلى درجة عالية من الروحانية أو إنقاص وزنه، أو على العكس من ذلك، إذا أكل أكثر من اللازم وزاد وزنه كثيرًا، ففي كلتا الحالتين يرتكب الظلم أو عدم العدالة تجاه نفسه. وبالمثل، ينبغي أن نحقق العدل على مستوى الأسرة، وقد جاء في الحديث النبوي: "إن لجسدِك عليك حقًّا، وإن لزَوجِك عليك حقًّا...". والشخص الذي يكون لطيفًا ومحبًّا ورحيمًا وراعيًا لأسرته يعتبره النبي مسلمًا حقيقيًّا. ومن هنا يجب أن يكون العدل هو أساس المجتمع كله. وقد يبقى المجتمع البشري حيًّا وقائمًا على الرغم من قلة الغذاء، ولكن لا يمكن لأي مجتمع أن يبقى بدون "العدل أو القسط". فالعدل في الأمور الاقتصادية يعني نظامًا اقتصاديًّا يقف ضد السيطرة والاحتكار والتوزيع غير العادل للثروة. كما أن العدل يدعو إلى الحرية السياسية، والحق في تكوين الجمعيات واختلاف الآراء والنقد، والحق في انتخاب الشخص الأكثر كفاءة للمناصب العامة. ومن ثَمَّ إذا كان النظام السياسي لا يوفر حرية التعبير واحترام الاختلاف في الرأي وممارسة حقوق الإنسان، فلا يمكن أن يكون نظامًا سياسيًّا عادلًا. وبالمثل، لا يمكن وصف النظام الرأسمالي العالمي -نظرًا لطبيعته القمعية- بأنه نظام عادل، وسيظل نظامًا ظالمًا طالما أنه لا يوفر النصيب العادل والمستحق للعامل.
كذلك فإن العدل في المجال الطبي يعني إظهار التميُّز المهني في مجال اختصاص الفرد وتخصُّصه، لسبب بسيط هو أن "العدل" يعني القيام بالشيء على أفضل نحو. ومن ثَمَّ فالعدل في المجال الطبي يعني تكريس أكبر اهتمام للمريض من أجل فهم طبيعة المرض تمامًا والتوصل إلى أفضل علاج ممكن. كما يعني أيضًا وصف دواء عالي الفعالية بأقل عبء مالي على المريض، وتجنُّب العبء المالي غير الضروري على المريض من خلال وصف الاختبارات المعملية غير ذات الصلة أو الأدوية عالية التكلفة عندما يكون الدواء الأقل تكلفة يمكن أن يشفي من المرض ويؤدي إلى النتيجة ذاتها. ومن ثَمَّ إذا لم نولِ الاهتمام المناسب والكافي في أي مجال من المجالات البشرية، فإن هذا يمثِّل انحرافًا عن مسار العدل.
المبدأ الثالث: احترام الحياة وتعزيزها
أما بالنسبة إلى المبدأ الأخلاقي العالمي الثالث، وهو أحد أهداف الشريعة الإسلامية، فيتمثَّل في احترام الحياة وتعزيزها. ولهذا المبدأ أيضًا دلالات أوسع نطاقًا على البشرية جَمْعَاء. والواقع أن هذا المبدأ يستمدُّ دعامته مباشرة من الأمر الإلهي بأن إنقاذ حياة إنسان واحد يماثل إنقاذ حياة البشرية جَمْعَاء، وأن انتهاك حياة إنسان واحد بغير حق يماثل قتل البشرية جَمْعَاء[12]. وهذا الأمر الإلهي يلزم كل مسلم مؤمن بتجنُّب إيذاء النفس أو القتل، إلا إذا كان ذلك في مقابل ارتكاب القتل غير العمد أو إحداث الفوضى في المجتمع[13].
وبما أن الكلمة المستخدمة في القرآن هي "النَّفْس" التي تعني الذات، والروح، والموجود الإنساني الفرد، فهي ليست خاصة بالمسلمين أو الأشخاص الذين ينتمون إلى دين أو عقيدة أو عِرق بعينه. ومن ثَمَّ لا يجوز العدوان على حياة أي فرد أو مجموعة من البشر أو الإضرار بحياتهم دون مُبرِّر أخلاقي وموضوعي أو سند قانوني لذلك. وهذا يعني أيضًا أن الحياة حتى في مراحل النمو المختلفة جديرة بالاحترام والتقدير على حدٍّ سواء. ومن ثَمَّ فللجنين نفس قدسية واحترام حياة الإنسان الناضج. ولذلك يجب تجنُّب أي أشياء يمكن أن تضرَّ بالجنين من أجل ضمان عدم تهميش نوعية الحياة أو جودتها في المستقبل. وعلى سبيل المثال، إذا كانت الأنثى أثناء الحمل مدمنة على المشروبات الكحولية أو المخدرات أو على أقل تقدير تدخن، فإن كل ذلك من الناحية الطبية سوف يضر بالجنين، ومن ثَمَّ يؤذي الطفل ويؤثر في نوعية حياته في المستقبل منذ ودلاته.
لكن اهتمام الإسلام بالسلوك المنطقي والعقلاني في الحياة الشخصية والاجتماعية ليس حكرًا على المسلمين وحدهم. فَقِيَمه الكلية لها صلة عالمية بتصرفات جميع البشر وسلوكياتهم على المستوى العالمي.
ليس هذا فقط، ولكن لهذا المبدأ أيضًا دلالات وآثار خطيرة أخرى حتى على السياسات البيئية. كما أنه ذو صلة مباشرة بتصنيع الأدوية وإنتاجها. فإذا لم يتم التحكُّم في نوعية الأدوية وجودتها، فمن المحتم أن يؤدي استخدامها إلى الإضرار بالحياة.
كذلك يرتبط هذا المبدأ بالسياسة العامة المتعلقة بالسكان. فهو لا يسمح للدولة بالتدخل في غرفة نوم الأشخاص، أو فرض حظر على الولادة أو السماح بالإجهاض. وهذه ليست سوى عدد قليل من القضايا الأخلاقية المهمة المرتبطة مباشرة بمبدأ قيمة الحياة. ومن الواضح أن هذه تمثِّل تطبيقات عالمية لهذا المبدأ وليست مقتصرة على المسلمين وحدهم.
المبدأ الرابع: حفظ العقل ودوره في عملية اتخاذ القرار السليم
يتعلق المبدأ الأخلاقي الرئيس الرابع بدور العقل والحكم العقلاني في صنع القرار البشري. فالحقيقة التي مؤداها أن البشر يجب أن يتخذوا أحكامًا تقوم على أساس من المنطق والعقل، وأن يَسمُوا بأنفسهم فوق السلوك العاطفي والرغبات والدوافع العمياء إنما هي الشغل الشاغل للشريعة. ومن ثَمَّ فإن الإسلام لا يسمح بتعليق حرية الحكم. ومثال واضح على ذلك، إذا أصبح الشخص مدمنًا على المخدرات أو مدمنًا على المُسْكِرات، فإن تعاطيها يؤثر في علاقاته الشخصية والاجتماعية، وحرية الإرادة، فضلًا عن النزاهة الشخصية.
ومن هنا ففي الإسلام نجد أن استقلال العقل والحكم العقلاني يمثل شرطًا أساسيًّا لكل المعاملات الشرعية. وقد اعتبر القرآن تعاطي المُسْكِرات أمرًا لا أخلاقيًّا (فاحشة). وهو ليس خطيئة فحسب، بل إنه محظور من الناحية القانونية أو الشرعية أيضًا. وقد أظهرت الأبحاث الطبية الحديثة الآثارَ الضارة للمخدرات والمُسْكِرات على الصحة العقلية للأشخاص بغض النظر عن عِرقهم أو لونهم أو دينهم. لكن اهتمام الإسلام بالسلوك المنطقي والعقلاني في الحياة الشخصية والاجتماعية ليس حكرًا على المسلمين وحدهم. فَقِيَمه الكلية لها صلة عالمية بتصرفات جميع البشر وسلوكياتهم على المستوى العالمي.
المبدأ الخامس: حماية النَّسَب وكرامة الأنساب
أما المبدأ الخامس، والمتعلق بحماية النَّسَب وكرامة الأنساب، فله صلة أيضًا بشعوب العالم بأسره، بغض النظر عن دينهم أو عِرقهم أو لونهم أو لغتهم. إنه يقرُّ بأن حماية الأصول الجينية وحماية النَّسَب تمثِّل التزامات أخلاقية وقانونية. ومن هنا يعتبر النظام الاجتماعي والقانوني الإسلامي أن الاختلاط الحر بين الجنسين والعلاقات الزوجية قبل الزواج هو عمل غير أخلاقي وغير شرعي. وهذا من شأنه أن يكون له آثار مهمة وخطيرة كما أظهرت العلوم الصحية والسياسة الاجتماعية والنظام القانوني. ومن هنا يمنع هذا المبدأ الأخلاقي العالمي أي شخص من الاتجار بالجين البشري وأيضًا من اختلاط الجينات (كما في حالة تأجير الأرحام). كما يساعد هذا المبدأ في الحفاظ على مستوى عالٍ من الأخلاق في المجتمع البشري. وعلاوة على ذلك، فهو لا يشجع على إخفاء هوية الجين ويساعد في الحفاظ على تقاليد شجرة تطور السلالات.
وفي ضوء ما سبق، تشير هذه المراجعة الموجزة لأهداف الشريعة الإسلامية إلى أن كل مبدأ من هذه المبادئ الخمسة له صلة عالمية بالسلوك الأخلاقي للأشخاص في أي مجتمع متحضر. أما الغرض من هذه النبذة المختصرة للمبادئ الأخلاقية الإسلامية العالمية والتأسيسية، فيتمثَّل في ثلاثة أهداف:
أولًا: دحض الفكرة التي تقول بأن الأخلاق الإسلامية خاصة بالمسلمين وحدهم.
ثانيًا: الوصول إلى فهم دقيق لأهداف هذه القيم وأصولها في التوجيه أو الهداية الإلهية.
ثالثًا: الكشف عن مدى قابليتها للتطبيق في عالمنا المعاصر.
إن مبادئ الشريعة وأهدافها -كما ذكرنا سابقًا- تمثِّل من المنظور العملي مبادئ للإنسانية كلها. وإذا كانت العديد من الاحتياجات البيولوجية والعاطفية والفكرية والاجتماعية للإنسان في العلوم الاجتماعية الغربية قد جرى تفسيرها على أنها دوافع عمياء وغرائز ورغبات حيوانية، فإن المبادئ الأخلاقية الإسلامية تُميّز بوضوح بين الأحكام التي تقوم على أساس من المنطق والعقل وتلك التي تقوم على ما يُسمَّى بالدوافع العمياء. وعلى سبيل المثال، فقد يكون لبعض الأفعال البشرية تشابهات ظاهرية لكنها قد تكون مختلفة تمامًا وتقف على طرفي نقيض: فإذا كان من الجائز لأي شخص أن يقترض من أحد البنوك بسعر فائدة متفق عليه على نحو متبادل في القيام بنشاط اقتصادي ما، فإن شخصًا آخر قد يقترض أموالًا من أحد البنوك وفقًا للمبادئ الأخلاقية الإسلامية لتقاسم الأرباح، وبدون فائدة على الإطلاق. فكلا الشخصين يتخذ قروضًا صناعية، لكن أحدهما يدعم بشكل أساسي النظام الرأسمالي الاستغلالي، بينما الآخر يشجِّع النمو التجاري والصناعي دون الاشتراك في الفائدة أو الربا، وهو أمر يحرّمه الإسلام تمامًا.
شرعية القيم الأخلاقية
قبل الختام، قد يكون من المناسب الحديث عن شرعية المبادئ الأخلاقية الإسلامية. فقد يتساءل البعض: هل تستمدُّ هذه المبادئ شرعيتها من ممارساتها العرفية، أم تستمدُّ قوتها وسلطتها من مصدر آخر؟
في الحقيقة، إن السلوك الأخلاقي في جميع مناحي الحياة تقريبًا يمثِّل الشغل الشاغل للإسلام. ومع ذلك، فإن الإسلام لا يترك الحكم الأخلاقي يصدر عن الإعجاب الشخصي أو الكراهية الشخصية، أو عن أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس، على الرغم من أن أحد مبادئ الشريعة يشير مباشرة إلى الصالح العام أو المصلحة العامة. لكن أصل القيم وشرعيتها في ضوء الرؤية العالمية الإسلامية يكمُن في الوحي الإلهي. ولا ينبغي هنا الخلط بين الوحي أو كلام الله وبين الإلهام أو الحدس وهو ظاهرة ذاتية. فالوحي أو كلام الله هو علم يأتي من فوق، ومن ثَمَّ فهو ليس ذاتيًّا بل موضوعي. وكونه كلام الله المنطوق، يجعله يتخطى محدودية الزمان والمكان. وعلى الرغم من أنه نزل باللغة العربية، فإنه يخاطب البشرية جَمْعَاء (الناس). وقد نزَلَ الوحي باللغة العربية لأن العربية هي وسيلة التفاهم والتواصل مع القوم الذين أُرسل إليهم الرسول، وبدأت الدعوة في محيطهم قبل أن تبلغ لغيرهم. ومن هنا كان الغرض من الوحي باللغة العربية هو أسلمة العرب وليس تعريب مَن يدخلون الإسلام.
وفي ضوء هذا، فإن القيم الإسلامية بطبيعتها عالمية وقابلة للتطبيق عالميًّا. ولا توجد جذور أو أصول لأيٍّ من المعايير الأخلاقية في العادات والتقاليد المحلية أو العربية. فالقيم الإسلامية ليست قيمًا زمنية محددة تتغيَّر عادةً بمرور الوقت، وإنما هي قيم كلية أو كونية لها جذورها في الوحي الإلهي الشامل. فمبدأ "العدل"، الذي ناقشناه أعلاه، ليس خاصًّا بعِرق أو لون أو مجموعات أو منطقة معينة أو فترة من التاريخ. كما أن احترام الحياة وتعزيزها يمثِّل قيمة عالمية. وبالمثل، فإن الصدق والقسط والإنصاف والحقيقة ليست قيمًا شرقية ولا غربية، فهذه قيم سارية المفعول على نحو معترف به عالميًّا.
إن الغرض من هذه القيم الإسلامية الكونية هو مساعدة البشر على تطوير رؤية مسؤولة للحياة. فاعتبار الحياة مجرد رياضة، أو لحظة متعة، إنما هو استهانة فادحة بالحياة التي ينبغي أن يكون لها معنى، والتي هي في المقام الأول أخلاق يجب أن نعيشها ونشكلها وننظمها.
إن الرؤية العالمية الإسلامية -كما أشرنا إلى معالمها سابقًا- تنظر إلى حياة الإنسان بطريقة تكاملية شمولية. وهي تدعو إلى التكامل والتماسك في الحياة، وتنأى عن التقسيمات والتحيزات. ومن هنا نستطيع أن نشيد التوحيد أو الوحدة والتآلُف في الحياة عندما نتبنَّى معيارًا واحدًا في الحياة الخاصة والعامة، وتكون جميع الأفعال البشرية مدفوعة باهتمام واحد فقط؛ أعني بأن ننال رضى الله عز وجل من خلال مراعاة قواعد الحياة الأخلاقية والمسؤولة.
يجب على المؤمن التصرف بشكل أخلاقي في الأمور الشخصية والاجتماعية والمالية والسياسية والثقافية. ولا يؤدي التغيير في المكان والزمان إلى أي تغيير في المعايير والسلوك الأخلاقي. فضمان الجودة كالتزام أخلاقي هو أحد الاهتمامات الرئيسة للقرآن الكريم. وقد أرشدنا القرآن إلى المبادئ العامة لضمان الجودة في عدة أماكن في مجموعة متنوعة من السياقات
وتأسيسًا على هذا، يمكن تلخيص الأخلاق الإسلامية في وجهَيْن: أولًا وقبل كل شيء، مراعاة حقوق الخالق؛ ممثَّلة في أن نعيش حياة أخلاقية مع ضرورة وجود وعي كامل بالمساءلة في يوم القيامة وكذلك في هذا العالم. ثانيًا: الوفاء بالالتزامات تجاه البشر الآخرين من دون انتظار الأجر أو التقدير أو التعويض، ولكن لمجرد أن ذلك يرضي الله. ومن هنا قد تكون خدمة الإنسانية من أجل الإنسانية مبررًا جيدًا، لكن ما يجعل خدمة الإنسانية عبادة عظيمة هو خدمة عباد الله في سبيله، وليس لأي تقدير دنيوي بالحصول على جَزَاء أو أَجْر أو مكافأة.
ومن هنا تؤدي الأخلاق الإسلامية في الممارسة وظيفة مهمة، وتتمثَّل في بناء تلك الشخصية المتوازنة والمسؤولة والمُنفتحة والفاعلة لصاحب العمل أو المهنة. كما تساعد القيم الأخلاقية الإسلامية الأساسية، التي ناقشناها أعلاه بإيجاز، أي شخص يتَّبعها بنصِّها وروحها بالتعبير عن نفسِه كمواطن عالمي، يتخطى حدود التمييز على أساس اللون أو العِرق أو اللغة أو الدين. ومن هنا يدعو القرآن الكريم البشرية جَمْعَاء إلى تبني الطرق والممارسات الأخلاقية، من أجل أن نكون بإزاء مجتمع سليم ومنظَّم ومتجاوب مع احتياجات الأفراد الذين يشكلون المجتمع المحلي. ومن ثَمَّ يُعرَّف المجتمع الإسلامي في القرآن بأنه مجتمع من الأشخاص ذوي الدوافع الأخلاقية {خَيْرُ أُمَّةٍ} أو مجتمع الطريق الوسط {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، الذي لا يخرج على قيم التوازن والانسجام والتناسب وينفذ الخير أو المعروف.
وهكذا فإن السلوك المسؤول من الناحية الأخلاقية يعني ذلك السلوك الذي يتَّبع المعايير والقوانين الأخلاقية العالمية ويقاوم جميع الإغراءات المباشرة وغير المباشرة. ومن هنا، فإن قوة الشخصية تعني ببساطة التقيد الصارم بالمبادئ التي يدَّعي الشخص الإيمان بها. ومن ثَمَّ فإن الأخلاقيات المهنية الإسلامية ترشد المهني أو صاحب كل عمل في جميع المواقف التي يتعيَّن فيها إصدار الحكم الأخلاقي، في العلاج الطبي وكذلك في المعاملات التجارية، والمسائل الإدارية وغيرها.
كذلك لا تشمل الأخلاق الإسلامية في الممارسة ذلك العمل الاجتماعي المعروف رسميًّا فحسب، بل تشمل عمليًّا كل عمل يقوم به الإنسان في المجتمع. كما لا تقتصر أخلاقيات العمل والمهنة في الإسلام على رضا العملاء. ذلك أنه يجب على المؤمن التصرف بشكل أخلاقي في الأمور الشخصية والاجتماعية والمالية والسياسية والثقافية. ولا يؤدي التغيير في المكان والزمان إلى أي تغيير في المعايير والسلوك الأخلاقي. فضمان الجودة كالتزام أخلاقي هو أحد الاهتمامات الرئيسة للقرآن الكريم. وقد أرشدنا القرآن إلى المبادئ العامة لضمان الجودة في عدة أماكن في مجموعة متنوعة من السياقات، منها قوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} [الشعراء: 182-183].
كما فصَّلَ القرآن الكريم ذلك بشكل أكبر عندما يوجهنا إلى أنه أثناء تبادل البضائع أو المنتجات أو السلع، لا ينبغي للمرء أن يقيس بمعيارين مزدوجين، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3].
وعلى هذا النحو، فإن طبيب الصحة -على سبيل المثال- عندما يحصل على أجره من حيث رسوم الاستشارة، فمن واجبه الأخلاقي أن ينصح المريض على نحوٍ يراعي مسؤوليته والرعاية الكاملة نحوه؛ لأنه سيُسأل عن ذلك أمام الله. والأمر نفسه ينطبق على المُعلِّم، الذي يجب أن يقدِّم المعرفة بأمانة كاملة ومسؤولية وعدالة دون إخفاء الحقيقة أو التلاعب بالحقائق. وهذا ينطبق أيضًا على الطلاب والباحثين الذين يبذلون قصارى جهدهم في البحث عن المعرفة والحقيقة، وإنتاج المعرفة مع تجنُّب الانتحال والوسائل الأخرى غير العادلة في البحث.
ومن هنا تتجاوز المبادئ الأخلاقية التي أوحى بها الله محدودية عقولنا البشرية وخبراتنا القاصرة. وهي مبادئ ليست محلية أو إقليمية أو وطنية في أصلها، فهي ليست لشعب له مِلَّة أو نِحلَة خاصة أيضًا. ومن ثَمَّ فإن طابعها الكلي يجعلها قابلة للتطبيق عالميًّا، ومطلقة، وصالحة للتطبيق في ظل الظروف والبيئة المتغيرة. إنها أخلاقيات صديقة للإنسان، ولكنها ليست نتيجة للتدخل الفكري البشري، وتقدِّم حلولًا ملموسة لمشكلة الإنسان في عصر العولمة هذا الذي نعيشه.
- الهوامش
-
[1] نُشرت هذه الدراسة بالإنجليزية في: Policy Perspectives, vol. 10, issue 1, 2013, 63-77.
[2] Ley, P.: "Phobia", in: Encyclopedia of Psychology, edited by H. J. Eysenck, et al, Vol. III, New York: The Seabury Press, 1972, P. 7.
[3] Said, Edward W.: Covering Islam, How Media and the Experts Determine How We See the Rest of the World, New York: Panthoos Book, 1981, P. 5.
[4] أخلاق الواجب: هي نوع من المبادئ الأخلاقية المعيارية التي تحكم أخلاقيات السلوك على أساس مدى ملاءمته للقواعد والمعايير الكلية. وفي بعض الأحيان، توصف هذه الأخلاق باعتبارها «واجبًا» أو «التزامًا» أو «قاعدة». وتختلف أخلاق الواجب عن «مذهب النتائج» (Consequentialism)، كما تختلف أيضًا عن الأخلاقيات البراجماتية. ويوجد الكثير من النظريات المتنوعة لأخلاق الواجب، مثل: نظرية أخلاق الواجب المرتكزة على الفاعل الأخلاقي، ونظرية أخلاق الواجب المرتكزة على المتلقي، ونظرية أخلاق الواجب التعاقدية، ونظرية أخلاق الواجب. فإذا ما نظرنا إلى نظرية «أخلاق الواجب» عند كانط سنجدها تقوم على أساس أن ضمير كل إنسان يُمثِّل إحساسه بالواجب، وتصدر عنه «أوامر مطلقة» (Categorical Imperatives)، وهي قواعد "إلزامية" (Obligatory)، و"مطلقة" (Absolute)، و"كلية" (Universal) تُرشد الإنسان إلى الفعل الذي ينبغي القيام به من المنظور الأخلاقي، لا بوصفه وسيلة للسعادة، أو كسب ثواب، أو تجنُّب عقاب، بل بوصفه غاية في ذاته، وبوصفه كذلك ضروريًّا ضرورة موضوعية باستقلال عن أيّ غاية وهدف، أو عاطفة، أو رغبة، وذلك في مقابل «الأوامر المشروطة» (Conditional Imperatives) التي تربط بين الفعل وتحقيق منفعة، والتي عندها يكون الفعل خيرًا بالقياس إلى نتيجة معينة. للتفصيل حول أخلاق الواجب، انظر: إمانويل كانط: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، مراجعة: عبد الرحمن بدوي، (ألمانيا: منشورات الجمل، 2002م)، ص81 وما بعدها؛ محمد مهران رشوان: تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر، 1998م)، ص152-174. (المترجم)
[5] المذهب الطبيعي: هو مذهب في فلسفة الأخلاق يرى أنصاره أن العبارات والجمل الأخلاقية تُعَدُّ مجرد اقتراحات وليست حقائق، وبعض هذه الاقتراحات صحيحة، وبعضها خاطئ. وتتحقق هذه الاقتراحات من خلال السمات الموضوعية للعالم. كذلك يرى أنصار المذهب الطبيعي في الأخلاق أن الخاصية المتضمنة في الأحكام الأخلاقية تُعد خاصية طبيعية، أو تجريبية، وقد رآها بعضهم خاصية عقلية، فيما رآها آخرون على أنها تمثل خاصية القدرة على إثارة انفعال ما. انظر: رمضان الصباغ، الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق، (الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 1998م)، ص83. (المترجم)
[6] الانفعالية: هي نظرية في فلسفة الأخلاق يعتقد أنصارها أن القيم الأخلاقية لا تحمل إلا معاني انفعالية إن صحَّ أن يكون لها معنى على الإطلاق، ومن أنصارها الفيلسوف الإنجليزي آير. انظر: صلاح قنصوة، نظرية القيمة في الفكر المعاصر، (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1986م)، ص56. (المترجم.
[7] Reese, William: Dictionary of Philosophy and Religion Eastern and Western Thought, New Jersey: Huamanties Press, 1980, P. 156.
[8] Ibid, P. 156.
[9] Yu-Lan, Fung: The Spirit of Chinese Philosophy, Boston: Beacon Press, 1947, PP. 10-12.
[10] Creel, H. G.: Chinese Thought from Confucius to Mao Tse-tung, Chicago: University of Chicago Press, 1953, P. 33.
[11] صحيح مسلم، الكتاب الأول، الحديث رقم 72.
[12] يقول تعالى في كتابه العزيز: {...أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
[13] المصدر السابق.