دراسة تحليلية: كتاب الحكومة الدستورية في الولايات المتحدة

...

(1)

ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻳُﺒْــﺪﺃ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﻳﺴــﺘﻌﺮﺽ ﻓﻜﺮًﺍ ﺃﻭ ﻛﺘﺎﺑﺎﺕ ﻟﻤﻔﻜــﺮ ﻫﻮ ﺃﻥ ﻳﻌﻴَّﻦ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻇﻬﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺃﻭ ﻇﻬﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌﺎ -ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻫﺬﻩ- ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺯﻣﺎﻥ ﻭﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻓﻜﺮﻧﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪﻱ ﻧﺘﺞ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴــﻴﺎﻕ، ﺛﻢ ﻫﻮ ﻓﻜﺮ ﺃﻳﻀًﺎ ﺗﻮﺟﻪ ﻓﻲ ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ ﺯﻣﺎﻥ ﻭﺃﻫﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﻻ  ﺗﻈﻬﺮ ﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ ﻷﻱ ﺧﻄﺎﺏ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺑﺸﺮ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻧﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻮﺟﻪ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﻓﻬﻢ ﺩﻻﻟﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ، ﻭﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﺍﻧﺘﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺯﻣﺎﻥ ﺃﻭ ﻣﻜﺎﻥ ﺁﺧﺮ، ﻓﻬﻮ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻬﻤًﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﺸﺎﺑﻪ ﻭﻭﺟﻮﻩ ﺍﻻﺧﺘﻼﻑ ﻓﻲ ﺍﻹﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻲ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻔﻜﺮ، ﻭﺇﻻ ﻗﺪ ﻧﻔﺎﺟﺄ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ.    
ﻭﻟﻘﺪ ﺃﻋﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﻤﻌﺮﺏ ﻋــﻦ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻟﻬــﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ «ﻭﻭﺩﺭﻭ ﻭﻟﺴﻦ»: ﻋﻦ ﻣﺪﺓ ﺣﻴﺎﺗﻪ، ﻭﺃﺳﺘﺎﺫﻳﺘﻪ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻭﺭﺋﺎﺳﺘﻪ ﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺑﺮﻧﺴﺘﻮﻥ ﺑﻴﻦ ﻋﺎﻣﻲ 1902م ﻭ1910م، ﺛــﻢ ﺭﺋﺎﺳــﺘﻪ ﻟﻠﻮﻻﻳــﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤــﺪﺓ ﺍلأﻣﺮﻳﻜﻴــﺔ ﻋــﻦ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ، ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﻋﺎﻣﻲ 1913م ﻭ1921م، ﻭﻋﻦ ﺇﻋﺪﺍﺩه ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻓﻲ ﺳــﻨﺔ 1908م ﻭﻭﻓﺎﺗﻪ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1924م ﻋﻦ ﺛﻤﺎﻥ ﻭﺳﺘﻴﻦ ﺳﻨﺔ.

ﻭﻛﺎﺗﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻄﻮﺭ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ -ﻭﻫﻮ ﺃﻧﺎ- ﻣﺼﺮﻱ ﻋﺮﺑﻲ ﻣﺴﻠﻢ ﻋﺎﺵ ﻓﻲ ﻣﺼﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻠﺜﻴﻦ ﺍﻷﺧﻴﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ، ﻭﺍﻧﺸﻐﻞ  ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺑﻤﻬﻨﺘﻪ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻭﺑﻨﺸــﺎﻃﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ. ﺃﻗﻮﻝ ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ -ﺃﻱ: ﻭﺿﻊ ﺃﻱ ﺃﻣﺮ ﻓﻲ ﻇﺮﻭﻑ ﻣﻨﺸﺌﻪ ﻭﺃﺣﻮﺍﻝ ﺇﻋﻤﺎﻟﻪ-، ﻭﺇﻥ ﺃﻱ ﻣﻘﺮﻭﺀ ﻫــﻮ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﻛﺎﺗــﺐ ﻭﻗﺎﺭﺉ ﻣﻦ ﺣﻴــﺚ ﺍﻟﺪﻻﻟــﺔ ﺍﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺴﺘﻔﺎﺩﺓ. ﺇﻥ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ -ﺃﻭ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ- ﻫــﻲ ﺫﺍﺕ ﺑﻌﺪﻳﻦ: ﺑﻌﺪٌ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﺒﺤﻮﺛﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺠــﺎﻝ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ، ﻭﺑﻌﺪ ﺫﺍﺗﻲ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺒﺎﺣﺚ ﺃﻭ ﺍﻟﺪﺍﺭﺱ: ﻳﺘﻌﻠــﻖ ﺑﻘﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻠﻘﻲ، ﻭﺑﺨﺒﺮﺍﺗﻪ ﺍﻟﻤﺘﺮﺍﻛﻤﺔ، ﻭﺯﺍﻭﻳﺔ ﻧﻈﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻣﻮﺭ، ﻭﻫﻤﻮﻣﻪ ﻭﺷﻮﺍﻏﻠﻪ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺔ ﻟﺪﻳﻪ.

ﻳﺼﺪﻕ ﻫﺬﺍ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺠﺎﻻﺕ ﺍﻟﻨﺸــﺎﻁ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﻧﻈﺮﺓ ﺍﻟﻤﺆﺭﺥ ﻟﻤﺎ ﺛﺒﺖ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ ﻭﻗﺎﺋﻊ، ﻭﻫﻮ ﻳﺼﺪﻕ ﺑﺨﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺗﺒﻴﻨﻪ ﻟﺮﻭﺍﺑﻂ ﺍﻟﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻤﺘﺘﺎﻟﻴﺔ -ﺑﻴﻦ ﺃﻱٍّ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﺴــﺎﺑﻘﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﺴــﺒﺐ ﻟﻠﺤﺪﺙ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ- . ﻛﻤﺎ ﻳﺼﺪﻕ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﻭﺭﺟﻞ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﺍﻟﺜﺎﺑﺘــﺔ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺻﻒ ﺍﻟــﺬﻱ ﻳﺼﻔﻬﺎ ﺑﻪ؛ ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻴﺘﺤﺪﺩ ﻟﺪﻳﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﺣﻜﻢ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﺻﺤﺔ ﺃﻭ ﺑﻄﻼﻧًﺎ، ﻭﻟﺘﺘﺤﺪﺩ ﺍﻵﺛﺎﺭ ﺍﻟﻤﺘﺮﺗﺒﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺮﺗﺒﻬﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﻛﻤﺎ ﻳﺼﺪﻕ ﺫﻟﻚ ﺃﻳﻀًﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻹﺧﺒﺎﺭﻱ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﺪﺙ ﻛﻤﺎ ﻭﻗﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻹﺧﺒﺎﺭ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪﺙ ﻣﻮﺻﻮﻓًﺎ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻣﻌﻨﻰ ﻣﻌﻴﻦ. ﻭﺣﺘﻰ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﺐ: ﻳﺼﺪﻕ ﺫﻟﻚ ﺑﻴﻦ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻇﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﻭﺑﻴﻦ ﺗﺸــﺨﻴﺺ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﺑﺘﺴــﻤﻴﺘﻪ ﺑﺎﻟﻮﺻﻒ ﺍﻟﺬﻱ يحدده ﻟﻪ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﻭﻳﺘﺤﺪﺩ ﺑﻪ ﺍﻟﻌﻼﺝ.

(2)

ﻭﻛﺎﺗﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻌﺮﻑ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺃﺳﺘﺎﺫًﺍ ﺟﺎﻣﻌﻴًّﺎ ﻭﺭﺋﻴﺴًﺎ ﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺗﻌﻠﻴﻤﻴﺔ، ﺛﻢ ﺻﺎﺭ ﺭﺋﻴﺴـًـﺎ ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻣﺮﺷــﺤًﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﻭﻣﻨﺘﺨﺒًﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻫﻴﺮ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻴﻦـ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻌﺮﻑ ﺫﻟﻚ ﻧﺪﺭﻙ ﺳﺮﻳﻌًﺎ ﺃﻧﻪ ﺷﺨﺺ ﺟﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺨﺒﺮﺍﺕ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﻧﻈﻢ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ. ﻭﺇﻥ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﻋﻨﺪﻩ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻋﺎﻟﻤًﺎ ﻻ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ، ﻭﺇﻥ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﻟﺪﻳﻪ ﻳﺆﻭﻝ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﻩ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺸﻂ ﻓﻴﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻜﺮ.

وودرو ولسن

وودرو ولسن

ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻌﺮﻑ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔـ ﻧﻌﺮﻑ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﻟﺒﻠﺪ ﺗﺸﻜﻞ ﺳﻜﺎﻧﻴًّﺎ ﺗﺸﻜﻼً ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻧﺴﺒﻴًّﺎ، ﻻ ﻛﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺑﻼﺩ ﺁﺳﻴﺎ ﻭﺃﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻭﺃﻭﺭﻭﺑﺎ، ﻓﻬﻮ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﺳــﻤﻲ «ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ» -ﺃﻱ: ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺘﻴﻦ- ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻜﻞ ﺷﻌﺒﻴًّﺎ ﻭﻧﻈﺎﻣﻴًّﺎ ﻭﺳﻜﺎﻧًﺎ ﻭﻣﺆﺳﺴــﺎﺕ ﻋﻠﻰ ﻣﺪﻯ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻮﻟﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ.

ﻛﻤﺎ ﻧﻌﻠﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﻟﺒﻠﺪ ﻭﻟﺸــﻌﺐ ﻟﻢ ﻳﺘﻜﻮﻥ ﺗﻜﻮﻳﻨًﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻓﻘﻂ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻋﺎﺕ ﺷﺘﻰ ﻣﻬﺎﺟﺮﺓ ﻣﻦ ﺑﻼﺩﻫﺎ ﺍﻷﺻﻠﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﺧﺘﻼﻓﺎﺕ ﻧﻮﻋﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺎﺕ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﺩﺍﺕ ﻭﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ، ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮﺓ ﺇﻳﺒﺮﻳﺎ (ﺇﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻭﺍﻟﺒﺮﺗﻐﺎﻝ) ﺃﻭ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺠﻠﻮ ﺳﺎﻛﺴﻮﻥ (ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰ) ﺃﻭ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺮﻣﺎﻥ ﺍﻹﻟﻤﺎﻥ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺍﻟﻼﺗﻴﻦ (ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻭﺇﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ). ﻭﻛﻞ ﻫﺆﻻﺀ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻔــﺮﻭﻕ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻣــﺎ ﻳﺘﺤﺪﻯ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻤﺴــﻚ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﻨﺎﺷــﺌﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺣﺪﻳﺜًﺎ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻏﺒــﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺠﻤﻊ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﺍﻟﻮﺍﻓﺪﻳﻦ ﻣﻌﻬﻢ ﻟــﻸﺭﺽ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻱ ﻟﺪﻳﻬــﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻘﺎﺭﺏ ﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻤﻨﺸــﻮﺩ، ﻭﺑﻀﺮﻭﺭﺓ ﺍﻟﺘﺂﺯﺭ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﻈﺮﻭﻑ ﺍﻟﻤﻤﺎﺛﻠﺔ.

ﻛﻤﺎ ﻧﻌــﺮﻑ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻷﻧﺠﻠﻮ ﺳﺎﻛﺴــﻮﻥ ﺍﻵﺗﻴــﻦ ﻣﻦ ﺑــﻼﺩ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺸــﻜﻠﻮﻥ ﺟﺰﺀًﺍ ﻫﺎﻣًّﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺨﺒﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴــﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻨﻔﻮﺫ ﻓﻲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻭﺍﻟﺴــﻠﻄﺔ، ﻭﺫﻭﻱ ﺍﻷﺛﺮ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻭﺫﻭﻱ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺍﻟﺴــﺎﺋﺪﺓ، ﻭﺫﻭﻱ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻟﻤﺸــﺘﺮﻛﺔ ﻣﻊ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧــﺖ ﺗﺤﻜﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳــﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻗﺒﻞ ﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﻋﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ ٦٧٧١ﻡ ـ ﺃﻱ: ﻗﺒﻞ ﻣﻴﻼﺩ «ﻭﻟﺴﻦ» ﺑﺜﻤﺎﻧﻴﻦ ﺳﻨﺔـ ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻓﻲ بلاده ﺍﻟﺬﻱ ﺧﺎﺽ ﺣﺮﺏ ﺇﻟﻐﺎﺀ ﺍﻟﺮﻗﻴﻖ ﺿﺪ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ ﻓﻲ ستينيات ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸــﺮ ـﺑﻌﺪ ﻣﻮﻟﺪ «ﻭﻟﺴﻦ» ﺑﺄﺭﺑﻊ ﺳــﻨﻮﺍﺕـ ، ﻭﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﺼﺎﺭ ﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ ﺑﺈﻟﻐﺎﺀ ﺍﻟﺮﻗﻴﻖ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸﻓﺎﺭﻗﺔ ﺍﻟﺴﻮﺩ ﺍﻟﻤﺴﺘﺠﻠﺒﻴﻦ ﺑﺎﻟﻘﻨﺺ ﻣﻦ أفريقيا- ﻓﻘﺪ ﺑﻘﻲ ﺍﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮﻱ ﻗﺎﺋﻤًﺎ ﻭﻗﺘﻬﺎ ﻭﺑﻌﺪ.

(3)

ﺻﻔﺘﺎﻥ ﻳﺘﺼﻒ بهما ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌــﺮﺽ ﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ـﻭﻫﻤﺎ ﺍﻟﺼﻔﺘﺎﻥ ﺍﻟﻠﺘﺎﻥ ﺩﻓﻌﺘﺎﻧﻲ ﻹﻋﺪﺍﺩ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﻋﻨﻪ، ﺃﻭﻟﻰ ﻫﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﺼﻔﺘﻴﻦ: أﻥ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻻ ﺑﺤﺴــﺒﺎﻧﻪ ﻧﻈﺮﻳﺎﺕ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﺃﻭ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﻓﻜﺮﻳــﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺻﻤــﺎﺀ، ﻭﻻ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻲ ﻣﺠــﺎﻝ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻴﺔ ﻓﻲ ﺻﺒﻐﺘﻬﺎ ﺍﻟﻼﺋﺤﻴﺔ ﺍﻟﻤﺠﺮﺩﺓ، ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻌﻪ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺱ ﻭﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺗﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ ﻣﻌﻪ ﻭﺗﺠﺎﺭﺏ ﺑﻠﺪﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻭﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ، ﻭﻳﻌﺮﺿﻬﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﻴﺎﻕ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ، ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﺧﻠﻔﻴﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻟﻨﻈﺮﻩ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻲ ﺍﻟﻤﻠﻤﻮﺱ.

ﻭﺛﺎﻧﻴﺔ ﻫﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﺼﻔﺘﻴﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻔﺮﻉ ﻋﻦ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻠﺰﻭﻡ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ: ﻫﻮ ﺃﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺗﻔﺎﻋﻞ ﻫﻴﺌﺎﺗﻪ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻭﺍﻟﺘﺄﺛﺮ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻝ بينها- ﻧﺠﺪ ﺃﻥ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﺍﻟﺤﻲ ﻭﻣﺎ ﺗﺘﺪﺍﻋﻰ ﺇﻟﻴﻪ أعضاؤه، ﻣﻦ ﺗﻔﺎﻋﻞ ﻭﺗﺒﺎﺩﻝ ﻟﻠﺘﺄﺛﺮ ﻭﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻭﺗﺒﺎﺩﻝ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻭﺭﺩﻭﺩ ﺍﻟﻔﻌﻞ.

ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺆﻟّﻒ ﻳﺠﻤﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﻨﻈﺮﻱ ﺍﻷﻛﺎﺩﻳﻤﻲ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﺰﺑﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴــﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﻬﺞ ﻓﻲ ﺑﺤﺜﻬــﺎ ﺍﻷﻛﺎﺩﻳﻤﻲ ﺍﻟﻨﻬﺞ ﺍﻟﺒﺮﻏﻤﺎﺗﻲ ﺍﻟﺬﺭﺍﺋﻌﻲ ﻓــﻲ ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻭﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻬــﺎ ﻭﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﺎ، ﺃﻱ: ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻻ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺼﻮﺍﺏ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻟﻬﺎ ﺃﻭ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﺑﻨﻈﺮ ﻳﺼﺪﺭ ﻓﻘﻂ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍﻟﻨﻈﺮﻳﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻓــﻲ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ ﻭﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬﻱ ﻭﻣﺎ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺛﺮ ﻭﺍﻗﻌﻲ ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ ﺃﻭ ﺍﻷﺿﺮﺍﺭ، ﻭﺃﻥ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺠﺮﺩﺓ ﺑﺬﺍﺗﻬﺎ، ﻭﻟﻜﻨﻬــﺎ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﺃﻣﻮﺭ ﻣﻨﻈﻮﺭ ﺇﻟــﻰ ﺃﺛﺮﻫﺎ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻲ ﻓﻲ ﺳــﻴﺎﻗﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﺩﺙاﻟﻤﺘﺤﻘﻖ.

ﻭﺃﻧﺎ ﻟﺴﺖ ﺫﺭﺍﺋﻌﻴًّﺎ ﺃﺟﻴﺰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻲ، ﻭﻻ أﻛﺘﻔﻲ ﺑﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻨﻔﻊ ﺍﻵﻧﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻀــﺮﺭ ﺍﻵﻧﻲ ﻓــﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠــﻰ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴــﻢ ﻭﺍﻟﻘﻴــﻢ ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺋــﺪ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﺒﺮﻏﻤﺎﺗﻴﻮﻥ، ﻓﺜﻤﺔ ﺃﺻﻮﻝ ﻭﻗﻴﻢ ﻭﻣﺒﺎﺩﺉ ﻭﻣﻌﺘﻘﺪﺍﺕ ﻳﺘﻌﻴَّﻦ ﺃﻥ ﻧﺪﻳﻦ ﺑﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﺩﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻭﺍﻟﻀــﺎﺭـ ﻭﻟﻜﻨﻨﻲ ﺃﺗﻔﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻔﻀﻲ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻭﻣﺎ ﺗﺆﺩﻱ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺟﻬﺎﺕ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻣﻦ ﻧﻔﻊ ﻣﺒﺘﻐﻰ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺿﺮﺭ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺗﺠﻨﺒﻪ ﻭﺗﻔﺎﺩﻳﻪ.

ﻣﻨﻬﺞ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻫﻮ ﺃﻥ ﻧﺼﻞ ﺑﺎﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺀ ﺇﻟﻰ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ، ﺛﻢ ﻧﻄﺒﻖ ﻣﺎ ﻭﺻﻠﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺟﺪَّ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫــﺮ ﻟﻠﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﻣﺼﺪﺍﻗﻴﺔ ﺍﻷﺻﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺀ.

ﻭﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻟﻴﺆﻛﺪ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺏ ﺍﻹﻳﻤــﺎﻥ ﺑﺎﻟﻐﻴﺐ ﻛﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺼﺪﻗﺔ، ﻭﻭﺟﻮﺏ ﺍﻋﺘﻨﺎﻕ ﺍﻟﻤﺒــﺎﺩﺉ ﻭﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﻤﻮﺻــى ﺑﻬﺎ ـ ﻭﻓــﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻮﺟﻮﺏ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﺍﻷﺛﺮ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻟﻠﻈﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳﺸــﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﻤﺴــﺘﻔﺎﺩ ﻣــﻦ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴــﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ﴾ [ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ: 189]. ﻛﻤــﺎ ﺃﻥ ﻣﻨﻬﺞ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻫﻮ ﺃﻥ ﻧﺼﻞ ﺑﺎﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺀ ﺇﻟﻰ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ، ﺛﻢ ﻧﻄﺒﻖ ﻣﺎ ﻭﺻﻠﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺟﺪَّ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫــﺮ ﻟﻠﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﻣﺼﺪﺍﻗﻴﺔ ﺍﻷﺻﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺀ.

ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻠﻤﻮﺱ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﻔﻊ ﺃﻭ ﺍﻟﻀﺮﺭ ـ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻷﺛﺮ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﺍﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﺪﺙـ ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﻭﺣﺪﻩ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺬﺭﺍﺋﻌﻲ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻄﻮﺓ ﻣﻦ ﺧﻄﻮﺍﺕ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﻭﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ، ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﺒﺮﻏﻤﺎﺗﻲ ﺍﻟﺬﺭﺍﺋﻌﻲ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺨﻄﻮﺓ ﻭﺣﺪﻫﺎ ﺩﻭﻥ ﻣﺎ ﻳﺴــﺒﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪﺍﺕ ﻭﺩﻭﻥ ﻣــﺎ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﺼﺎﺣﺒﻬــﺎ ﻣﻦ ﺧﻄﻮﺍﺕ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺀ ﻋﻠﻤﻲ.

(4)

ﻧﻠﺤﻆ ﻣﻦ ﺳﻴﺎﻕ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ -ﺃﻥ ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻳﺼﻔﻪ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻭﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺃﻭﻝ ﻟﺤﻈﺔ-: ﺃﻧﻪ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﺍﻷﻧﺠﻠﻮ ﺳﻜﺴــﻮﻧﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻭﺟــﻪ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ، ﻓﻲ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ. ﻭﻫﻮ ﻳﺒﺪﺃ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻳﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻭﻋﻦ ﺍﻟﻮﺿــﻊ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤــﺪﺓـ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ «ﺍﻟﻤﺎﻏﻨﺎ ﻛﺎﺭﺗﺎ» ﻭﻫﻮ ﺃﻭﻝ ﻭﺛﻴﻘﺔ ﺇﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺑُﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺳــﻬﺎ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1215ﻡ، ﻭﻫﻮ ﻳﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺍﻟﻨﻴﺎﺑﻴﺔ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ، ﻭﻗﺪ ﺗﻄﻮﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺣﺘﻰ ﺍﻛﺘﻤﻞ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ.

«ﻭﺍﻟﻤﺎﻏﻨﺎ ﻛﺎﺭﺗﺎ» ﻛﺎﻥ ﺻﺪﺭ ﻓﻲ ﺇﻧﺠﻠﺘﺮﺍ ﻟﻴﺲ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1787ﻡ ﻓﻘﻂ، ﻭﻟﻴﺲ ﻗﺒﻞ ﺍﺳــﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺮﻯ ﻓﻲ ﺳــﻨﺔ 1776ﻡ ﻓﻘﻂ ـ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺻﺪﺭ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻨﺸﺄ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ ﺑﺎﻟﻬﺠﺮﺍﺕ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﻣﻨﺬ ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﻟﻸﻣﺮﻳﻜﺘﻴﻦ ﻭﺇﺑﺤﺎﺭ «ﻛﺮﻳﺴــﺘﻮﻓﺮ ﻛﻮﻟﻤﺒﺲ» ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1492م، ﻭﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﺍﻟﻤﻜﺘﺸﻔﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﺃﻣﺮﻳﻜﺎ.

ﺭﻏﻢ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﻟﻤﺆﻟﻒ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻋﻨﻪ ﺍﻣﺘﺪﺍﺩًﺍ ﻧﻈﺎﻣﻴَّﺎ ﻭﺛﻘﺎﻓﻴًّﺎ ﻭﺩﺳﺘﻮﺭﻳًّﺎ ﻹﻧﺠﻠﺘﺮﺍ ـﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺘﻠﺔ ﻷﻣﺮﻳﻜﺎ ﻭﺍﺳﺘﻘﻠﺖ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻘﺖ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓـ ، ﻭﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﺑﺤﺴﺒﺎﻧﻬﺎ ﺍﻣﺘﺪﺍﺩًﺍ ﺛﻘﺎﻓﻴًّﺎ ﻭﺣﻀﺎﺭﻳًّﺎ ﻭﻧﻈﺎﻣﻴًّﺎ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺮﻯ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﻋﻨﻪ.

ﻭﺍﻟﻜﺘــﺎﺏ ﻳُﻘﻴﻢ ﻧﺴــﻘﻪ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ ﻋﻠــﻰ ﺗﺂﻟﻒ ﺗــﺎﻡ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ؛ ﺑﺤﺴﺒﺎﻧﻪ ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻟﻤﺮﺟﻮﻉ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﺣﺮﻳﺺ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﺬﻛﺮ ﺟﻮﺍﻧﺐ ﺍﻟﺘﻮﺍﻓﻖ ﻭﻭﺟﻮﻩ ﺍﻟﺘﺨﺎﻟﻒ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻣﻴﻦ، ﻭﻣﺎ ﺍﺧﺘﺎﺭﺗﻪ ﺃﻣﺮﻳﻜﺎ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ ﻓﻲ ﻇﺮﻭﻓﻬﺎ ﺍﻟﻤﺨﺎﻟﻔﺔ. ﻭﻻ ﻳﻜﺎﺩ ﻳُﺸــﻴﺮ ـﺇﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺰﺭ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ﺟﺪًّﺍـ ﻟﺘﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻟﺸــﻌﻮﺏ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻭﻟﻠﻨﻈﻢ ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴــﻴﺔ ﺃﻭ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍلأﻟﻤﺎﻧﻴﺔ ﺃﻭ ﻋﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻟﺘﺤﺮﺭ ﻭﺍﻟﺘﻮﺣﻴــﺪ ﺍﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ، ﻣﻤﺎ ﺟﺮﻯ ﻛﻠﻪ ﻣﻦ ﻧﻬﺎﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸــﺮ ﻭﺑﺪﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳــﻊ ﻋﺸــﺮ، ﺭﻏﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻋﺮﻓﺖ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﺳــﺘﻘﻼﻝ ﻋــﻦ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﻭﺣﺮﻛــﺔ ﺗﻮﺣﻴﺪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻭﺣﺮﻛﺔ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ.
ﻭﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ـ ﻓﻬﻤًﺎ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ـ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﺪﻯ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻷﻧﻈﻤﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭًﺍ ﻭﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭًﺍ ﻣﻨﺬ ﺻﺪﺭ «ﺍﻟﻤﺎﻏﻨﺎ ﻛﺎﺭﺗﺎ» ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻳﺸﻜﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻱ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭًﺍ ﻭﺍﻧﺘﻈﺎﻣًﺎ ﻣﻨﺬ ﺻﺪﻭﺭ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺿﻊ ﻓﻲ ﺳــﻨﺔ ٧٨٧١ﻡ، ﻭﺃﺑﺮﻣﺘﻪ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﻗﺘﻬﺎ ﺳﻨﺔ ٨٨٧١ﻡ ﻭﺑﺪﺃ ﺇﻧﻔﺎﺫﻩ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺳــﻨﺔ ٩٨٧١ﻡ. ﻭﻫﻮ ﺩﺳﺘﻮﺭ ﻟﻢ ﻳﺠﺮ ﺗﻌﺪﻳﻞ ﻟﻪ ـ ﺇﻻ ﻣﺮﺍﺕ ﻓﺮﻋﻴﺔ ﻗﻠﻴﻠــﺔ ﺟﺪًّﺍـ ﻋﻠﻰ ﻫــﺬﺍ ﺍﻟﻤﺪﻯ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺍﻟــﺬﻱ ﻳﻘﺎﺭﺏ ﻣﺎﺋﺔ ﻭﻋﺸــﺮﻳﻦ ﺳــﻨﺔ ﻋﻨﺪ ﺻﺪﻭﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻓﻲ ﺳــﻨﺔ ٨٠٩١ﻡ، ﻭﻣﺎ ﻳﻌﺎﺩﻝ ﻣﺎﺋﺘﻴﻦ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ ﺳﻨﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ.

ﻭﺇﺫﺍ ﻗﺎﺭﻧﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻭﺍﻻﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﺑﻔﺮﻧﺴــﺎ ﻣﺜﻼً ﺻﺎﺣﺒﺔ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺛﻮﺭﺓ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ـﻧﺠﺪ أﻥ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻧﺸﺒﺖ ﺳﻨﺔ 1789م ﻟﻜﻦ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺮﻑ ﻧﻈﺎﻣًﺎ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴًّﺎ ﻓﻌﻠﻴًّﺎ ﻣﺴﺘﻘﺮًّﺍ ﻭﻣﺴــﺘﻤﺮًّﺍ ﺇﻻ ﻣﻨﺬ ﺳــﻨﺔ 1870م ﺑﻌﺪ ﻫﺰﻳﻤﺘﻬﺎ ﻣﻦ أﻟﻤﺎﻧﻴﺎ، ﻓﻲ ﺣﺮﺏ ﻓﻘﺪﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺇﻗﻠﻴﻤَﻲ ﺍﻷﻟﺰﺍﺱ ﻭﺍﻟﻠﻮﺭﻳﻦ، ﻭﻟﻢ ﺗﺴﺘﺮﺩﻫﻤﺎ ﺇﻻ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺎﺕ ﺳﻨﺔ 1918م.

ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﺭﻥ ﺫﻟﻚ ﺑﺄﻟﻤﺎﻧﻴﺎ ﺑﻤﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ ﺩﺳﺘﻮﺭ «ﻓﺎﻳﻤﺮ» ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻘﺮﺭ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1919م ﺑﻌﺪ ﻫﺰﻳﻤﺔ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﺛﻢ ﻣﺎ ﻟﺒﺚ ﺃﻥ ﺍﻧﺘﻜﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻧﻘﻼﺏ «ﻫﺘﻠﺮ» ﺍﻟﻨﺎﺯﻱ ﺳــﻨﺔ 1933م ﻭﻟــﻢ ﻳﻨﺘﻪ ﺇﻻ ﺑﻬﺰﻳﻤــﺔ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻧﻘﺴﺎﻣﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺑﻠﺪﻳﻦ ﻏﺮﺑﻴﺔ ﻭﺷــﺮﻗﻴﺔ. ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﺭﻥ ﺑﺈﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺖ ﻭﺣﺪﺗﻬﺎ ﻭﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻹﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻨﻤﺴــﺎﻭﻳﺔ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻭﺍﻧﺘﻜﺴﺖ ﺑﻨﻈﺎﻣﻬﺎ ﻓﺎﺷﻴﺔ ﻣﻮﺳﻮﻟﻴﻨﻲ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1922م ﺣﺘﻰ ﻫﺰﻳﻤﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺳﻨﺔ 1945م. ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺮﻑ ﻻ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻻ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻣﻦ ﻧﻈﺎﻣﻴﻬﻤﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻻﻧﺘﻜﺎﺳﺎﺕ ﻭﺍﻻﻧﻘﻄﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌﻨﻴﻔﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ.

(5)

ﺗُﻈﻬﺮ ﻟﻨﺎ ﺍﻹﺷــﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﺳــﺘﺒﺪﺍﺩﻱ ﺇﻻ ﻭﺍﻧﺘﻬﻰ ﺑﻬﺰﻳﻤﺔ ﻭﻃﻨﻴﺔ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳــﺪﻝ ﺩﻻﻟﺔ ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺍﻟﻮﺛﻴﻘــﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺆﻛﺪﻩ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ؛  ﻷﻧﻬﺎ ﺗُﻈﻬﺮ ﺑﻮﺿــﻮﺡ ﻣﺪﻯ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺭﺗﺒﺎﻁ ﺑﻴﻦ ﺍﻻﺳــﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻃﻨــﻲ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻭﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺇﻥ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﺘﻮﺍﺭﻳﺦ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻳُﺒﻴﻦ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﺳــﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﺑﻴﻦ ﺑﺪﺀ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﺸﺮ ﺳﻨﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﻭﺣﺪﺓ ﻭﻻﻳﺎﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﺩﻭﻟﺘﻬﺎ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺯﻣﺎﻥ ﻣﺎ، ﻭﺍﻗﺘﺮﻥ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴًّﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻭﺍﻡ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺤﺎﻟﻲ. ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻤﺎ ﻳُﻌﺒــﺮ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻓﻲ ﻫــﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ «ﺑﺎﻟﺤﺮﻳــﺔ»، ﻭﺑﺄﻥ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ، ﻭﻫﻮ ﻳﺒﺪﺃ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﻮﺛﻴﻘﺔ ﺍﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ، ﻭﻳﺘﻮﺣﺪ ﻟﺪﻳﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻷﻭﻃﺎﻥ ﻣﻊ ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ. ﻭﻳﻜﺎﺩ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺃﻭﻝ ﺩﺭﺱ ﻳﻀﻌﻪ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﻗﺎﺭﺋﻪ، ﻭﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻻ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﻟﻠﻤﻮﺍﻃﻦ.

ﻭﻟﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻂ ﺍﻟﻮﺛﻴﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﻨﻔﻚ ﻟﺪﻯ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻴﻦ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺣﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﻭﺍﻟﺤﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣــﺔ ﻟﺪﻳﻬﻢ، ﻓﻨﺤﻦ ﻧﻌﻠﻢ ﻣــﻦ ﺗﺠﺎﺭﺏ ﺑﻼﺩﻧﺎ ﺍﻟﺸــﺮﻗﻴﺔ ﺃﻧﻨﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﺼﻠﻨﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻻﺳــﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﻭﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲـ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﻭﻣﺎ ﻟﺒﺚ ﺃﻥ ﺯﺍﻝ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺫﺍﺗﻪ.

ﻭﻧﻠﺤﻆ ﻣﺜﻼً ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴــﻴﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ـﺑﻠﺪ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴــﻴﺔ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﺤﺮﻳﺎﺕـ ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺘﻬﺖ ﺃﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺑﺘﻮﻟﻲ «ﻧﺎﺑﻠﻴﻮﻥ» ﺣﻜﻤﻬﺎ ﻓﺮﺩﻳًّﺎ، ﻭﺍﻧﺘﻬﻰ ﺫﻟﻚ ﺑﻬﺰﻳﻤﺔ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺳﻨﺔ 1814م، ﺛﻢ ﺧﺮﻭﺝ ﻧﺎﺑﻠﻴﻮﻥ ﺛﻢ ﻋﻮﺩﺗﻪ ﺛﻢ ﻫﺰﻳﻤﺘﻪ ﺳــﻨﺔ 1815م. ﺛﻢ ﺗﻮﻟﻰ ﺍﻟﺤﻜﻢ «ﻟﻮﻳﺲ ﺍﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸــﺮ» ﻣﻠﻜًﺎ ﻣﻄﻠﻘًﺎ ﺣﺘﻰ ﺳﻘﻂ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1830م، ﺛﻢ «ﻟﻮﻳﺲ ﻓﻴﻠﻴﺐ» ﺣﺎﻛﻤًﺎ ﻣﻄﻠﻘًﺎ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻣﺖ ﺛﻮﺭﺓ 1848م ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺗﺖ ﺑﻨﺎﺑﻠﻴﻮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﺭﺋﻴﺴـًـﺎ، ﺛﻢ ﺍﻧﻘﻠﺐ ﻋﻠــﻰ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺣﻜﻢ بلاده ﺣﻜﻤًﺎ ﻣﻄﻠﻘًﺎ ﺣﺘﻰ ﻫﺰﻳﻤﺘﻪ ﻭﻫﺰﻳﻤﺘﻬﺎ ﺳﻨﺔ 1870م. ﻭﻫﺬﻩ ﺗﺠﺎﺭﺏ ﻭﺃﺣﺪﺍﺙ ﺗﻔﻴﺪ ﻣﺎ ﺻﺪﺭ ﻋﻨﻪ ﻛﺘﺎﺏ «ﻭﻟﺴﻦ»  ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻴﻦ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ، ﻣﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻻ ﺗﺘﺠﺰﺃ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﺃﻗﺴﺎﻃًﺎ ﺳﻮﺍﺀ ﻟﻸﻭﻃﺎﻥ ﺃﻭ ﻟﻸﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ.

 ﻭﻧﻠﺤﻆ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻳُﻌﺮِّﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺗﻌﺮﻳﻔًﺎ ﻋﻤﻠﻴًّﺎ ﻭﺗﻄﺒﻴﻘﻴًّﺎ ﺑﺤﺘًﺎ؛ ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺃﻛﺜــﺮ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺣﺮﻳﺔ ﻫﻲ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﺣﺘــﻜﺎﻙ ﺃﻭ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﺑﻴﻦ ﺳﻠﻄﺘﻬﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻣﺘﻴﺎﺯﺍﺕ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ ﻓﻴﻬﺎ، ﺇﻻ ﻓﻲ ﺃﻗﻞ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ؛ ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﺪﻳﻪ ﺑﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻮﻃﻦ ـﺃﻱ: ﺑﺎﺳﺘﻘﻼﻟﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲـ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺑﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ.

(6)

ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮﺓ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻬــﺎ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﻪـ ﺃﻥ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺳﺮﻳﻌًﺎ ﻣﻦ ﺫﻛﺮ ﻣﻔﻬﻮﻡ «ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ» ﺍﻟﻤﺠﺮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻨﻔﻴﺬﻩ ﻭﺗﺤﻘﻴﻘﻪ، ﻭﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻦ ﺫﻫﻦ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﻟﻪ ﺃﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴــﺘﺨﺪﻡ ﻟﻔﻆ «ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻳﺔ» ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻘﺼﺪ  ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻠﻔﻆ ﺍﻟﺪﺍﻝ ﻋﻠﻰ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺍﻟﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ. ﻭﻫــﻮ ﺫﺍﺗﻪ ﺍﻟﻤﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟــﺬﻱ ﻳﻘﻮﺩﻧﺎ ﻣﺒﺎﺷــﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﺗﻔﻬﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺒﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻳﺔ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠــﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺗﺸﻜﻼً ﻣﺆﺳﺴﻴًّﺎ ﺗﺘﺠﺴﺪ ﻓﻲ ﻫﻴﺌﺎﺕ ﻭﺗﺘﺨﺬ ﺃﺳﻠﻮﺑًﺎ ﺗﻨﻈﻴﻤﻴًّﺎ. ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺣﺪﺙ ﻓﻌﻼً ﺑﻮﺿﻮﺡ ﻭﻓﻲ ﺳﻼﺳــﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴــﺒﺔ ﻟﻠﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺍﻟﻤﺄﺧﻮﺫﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺍﻟﻨﺎﻗﻠﺔ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻳُﺬﻛِّﺮ ﻗﺎﺭﺋﻪ ﺑﺄﻥ ﺇﻧﺠﻠﺘﺮﺍ ﺣﻘﻘﺖ ﻫﺪﻓﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﻫﻤﻴﺔ «ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺑﺮﻟﻤﺎﻥ ﺣﺮ»، ﻭﻗﺎﺭﻥ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺠﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻋﻠﻨﺖ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﻟﻢ ﺗﺤﻘﻘﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺪﺭﻙ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻮﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ.

اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﻀﺎﻣﻦ ﻟﻠﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻷﻱ ﻫﺪﻑ ﻓﻜﺮﻱ ﻣﻄﻠﻮﺏ، ﻭﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺟﺪﻳﺔ ﺃﻱ ﻫﺪﻑ ﻓﻜﺮﻱ ﺃﻭ ﻧﻈﺮﻱ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﺪﺩ ﻭﻳُﻨﻔﺬ ﻓﻌﻼً ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺗﺸﻜﻞ ﻣﺆﺳﺴﻲ ﺗﻨﻈﻴﻤﻲ ﻳﻜﻔﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ.

ﻭﻫﺬﺍ ﻳﻮﺿﺢ ﺍﻷﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﻘﺼﻮﻯ ﻟﻠﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻤﺆﺳــﺲ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻤﻲ ﻷﻱ ﻣﺒﺪﺃ ﺃﻭ ﻣﺬﻫﺐ ﺃﻭ ﻣﻄﻠﺐ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻳﻘﺎﻝ ﺃﻭ ﻳﻄﺎﻟﺐ ﺑﻪ ﺃﻭ ﻳﺘﺨﺬ، ﻭﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺗﻜﻤﻦ ﺍﻹﺟﺎﺑﺔ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﻋﻠﻰ ﺳﺆﺍﻝ «ﻛﻴﻒ ﻳﺘﺤﻘﻖ؟» ﻭﺇﻥ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ ﻭﺳــﻠﻄﺎﺗﻪ ﻭﺇﺩﺍﺭﺗﻪ ﻭﻛﻴﻔﻴﺔ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﻓﻴﻪ ﻭﻋﻼﻗﺎﺗﻪ ﺑﺎﻟﺘﺸــﻜﻴﻼﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻭﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﺔ ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﻥ ﻳﺘﺴــﻊ ﻣﺪﻯ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻨﻔﻴــﺬ ﻣﺎ ﻳﺘﺨﺬ ﻣﻦ ﻗﺮﺍﺭﺍﺕ ﺑﻮﺍﺳــﻄﺔ ﺍﻟﻬﻴﺌﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬ ﻳﻨﺒﻐــﻲ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﻣﺎﺩﻱـ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﻜِّﻨﻪ ﻣﻦ ﺃﺩﺍﺋﻪ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻲ ﺍﻟﻔﻌﺎﻝ ﻟﻠﻬﺪﻑ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻜﻞ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ إنجازه ﻣﻦ ﺑﻌﺪ. ﻓﻴﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳُﺼﺎﻍ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ ﺑﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻨﻪ ﻓﻌﻼً ﺍﻟﻬﺪﻑ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻭﺍﻟﻤﺮﺳﻮﻡ ﻟﻪ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﻋﻤﻠﻲ ﻟﻠﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻖ. ﻓﺎﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﻀﺎﻣﻦ ﻟﻠﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻷﻱ ﻫﺪﻑ ﻓﻜﺮﻱ ﻣﻄﻠﻮﺏ، ﻭﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺟﺪﻳﺔ ﺃﻱ ﻫﺪﻑ ﻓﻜﺮﻱ ﺃﻭ ﻧﻈﺮﻱ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﺘﺤﺪﺩ ﻭﻳُﻨﻔﺬ ﻓﻌﻼً ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺗﺸﻜﻞ ﻣﺆﺳﺴﻲ ﺗﻨﻈﻴﻤﻲ ﻳﻜﻔﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﻘﻖ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﺸــﻜﻴﻞ ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴﺔ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻼﺕ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻴﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﻤﺸــﻴﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺍﻟﺤﻘﻮﻕ، ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﻔﻴﺪ ﺑﺬﺍﺗﻬﺎ ﺗﺤﻘﻘًﺎ ﻋﻤﻠﻴًّﺎ ﻟﻤﺴﻤﻴﺎﺗﻬﺎ؛ ﻷﻥ ﺃﻳﺔ ﻓﻜﺮﺓ ﻋﺎﻣﺔ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺃﻥ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﻭﺍﻗﻊ ﻣﺎﺩﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺇﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﺆﺳﺲ ﻳﺮﻋﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﻭﻓﻲ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﻣﻊ ﻏﻴﺮﻫﺎ، ﻭﺍﻟﻤﺴــﺄﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺑﺸﺮ ﻳﻨﺘﻤﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﻭﺟﻤﺎﻋﺎﺕ.

(7)

ﻧﺴﺘﻄﺮﺩ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳُﺠﺮِّﺩ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺃﻭ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﻴﻦ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻓﺮﺩﻳﺘﻬﻢ ﻭﻣﻦ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﺃﻱ ﻣﻨﻬــﻢ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻭﻳﻘﻠﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺸــﻜﻠﻮﻥ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ. ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺎ ﺗﺘﺸﻜﻞ ﻣﻦ ﺃﺷــﺨﺎﺹ ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻢ ـﺃﻭ ﻟﻜﻞ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻨﻬﻢـ ﺗﺨﺼﺺ ﻣﺤﺪﺩ ﻭﻧﺸﺎﻁ ﺟﺰﺋﻲ ﻣﻌﻴﻦ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻤﺴﺎﻫﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ.

ﻭﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺷﺨﺺ ﻣﻌﻨﻮﻱ ﻳﺘﺨﺬ ﺷــﻜﻞ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺗﺘﻮﺯﻉ ﻓﻴﻪ ﺟﺰﺋﻴﺎﺕ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﻭﺟﻮﻫﻬﺎ ﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﻳﺸﻐﻠﻮﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﻛﺰ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ، ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺸﻜﻞ ﻋﻤﻠﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌًﺎ ـﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﻀﻢ ﺑﻌﻀﻪ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾـ ﻋﻤــﻼً ﻭﺍﺣﺪًﺍ ﻳﺼﺪﺭ ﺑﻪ ﻗﺮﺍﺭ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻳُﺘﺨﺬ ﺑﻪ ﻣﻮﻗﻒ ﻭﺍﺣﺪ، ﻭﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺷﺎﺭﻛﻮﺍ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺟﻬﺪ ﺷﺎﺋﻊ ﻣﻊ ﻏﻴﺮﻩ ﻏﻴﺮ ﻣﻨﻔﺮﺯ ﻋﻨﻪ. ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻧﻌﺮﻑ ﻭﺟﻮﻩ ﺍﻟﺘﻜﺎﻣﻞ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻲ ﻷﻱ ﻣــﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﺑﻬﺎ ﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﺸــﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﻬﺎﺯ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﻤﻠﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻋﺒﺮ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺃﻥ ﺗﺘﻮﺍﻓﻖ أجزاؤه ﻭﺃﺟﻬﺰﺗﻪ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ ﻭﻣﺸﺮﻭﻋﺎﺗﻪ ﻭﺃﻥ ﺗﺘﻜﺎﻣﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ. ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﺃﻭﻝ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﻤﻴﺰ ﻋﻤﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﺎﺕ، ﻭﻫﻮ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﻜﺜﺮﻳﺔ، ﻭﻟﻠﻜﺜﺮﻳﺔ ﻣﻌﻨﻴﺎﻥ: ﺃﻭﻟﻬﻤﺎ: ﺃﻥ ﻳﺼﺪﺭ ﺍﻟﻘــﺮﺍﺭ ﻻ ﻣﻦ ﻓﺮﺩ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻛﺰﻫﻢ ﺗﺠﺎﻩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ، ﻭﺳﺎﻋﺘﻬﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺑﺄﻏﻠﺒﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻉ ﻣﻦ ﺷﺎﺭﻛﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻳُﻨﺴﺐ ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻌﻬﻢ ﻛﻠﻪ ﻻ ﺇﻟﻰ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﻣﻦ ﺃﻳّﺪﻩ.

ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻟﻠﻜﺜﺮﻳﺔ ﻣﻌﻨﻰ ﺛﺎنٍ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺗﺘــﻮﺯﻉ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﻭﻣﺮﺍﺣﻞ اتخاذه ﻋﻠﻰ ﺟﺰﺋﻴﺎﺕ ﺷــﺘﻰ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻹﻋﺪﺍﺩ ﻭﺍﻟﺪﺭﺍﺳــﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻼﺀﻣﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ، ﻭﺗﺘﻮﺯﻉ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺷﺘﻰ ﻓﻲ ﺍﻹﻋﺪﺍﺩ ﺟﻤﻌًﺎ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ، ﻭﺗﻨﺴﻴﻘًﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ، ﻭﺗﻔﻜﺮًﺍ ﻓﻲ ﻣﺆﺩﺍﻫﺎ، ﻭﺗﺤﺪﻳﺪًﺍ ﻟﻠﻤﻄﻠﻮﺏ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺐ، ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻣﺪﻯ ﺍﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺕ، ﺛﻢ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ. ﻭﻫﺬﺍ مفاده ﺍﻟﺘﻜﺎﻣﻞ؛ ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﺔ ﻣﺜﻞ ﺍﻵﻟــﺔ ﺍﻟﻤﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﻭﻭﺣــﺪﺍﺕ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻭﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﻓﻲ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﺎ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗُﺸﻜﻞ ﻧﺴــﻘًﺎ ﻭﺍﺣﺪًﺍ ﻭﻣﻨﺘﺠًﺎ ﻭﺍﺣﺪًﺍ ﻳﺆﺩﻱ ﺃﺩﺍﺀ ﻣﺘﻜﺎﻣﻼً.

ﻭﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺎﺕ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﻴﺔ؛ ﺇﺫ ﺗﺘﻮﺯﻉ ﺍﻻﺧﺘﺼﺎﺻﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺎﺕ ﺣﺴــﺐ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻧﻮﻋﻴًّﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺘﺄﻫﻞ ﺍﻟﻨﻮﻋﻲ ﻭﻭﺟﻪ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﺘﺪﺭﻳﺠﻲ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻲ، ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﺃﻱ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺎﺕ ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻟﻤﻜﻤﻠﺔ ﻭﺟﻪ ﻫﻴﻤﻨﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻭﺣﺎﺳــﻤﺔ ﺗﻔﻘﺪﻩ ﺫﺍﺗﻴﺘﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﻤﺎﺭﺳــﺔ ﻭﺟﻪ ﻧﺸــﺎﻃﻪ ﺑﺘﻤﻴﺰ ﻣﻬﻨــﻲ ﻭﺣﺮﻓﻲ ﻭﺫﺍﺗﻲ ﻣﻄﻠﻮﺏ، ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳُﻬﻴﻤﻦ ﻗﺴﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻭﻳﻔﻘﺪﻫﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﺍﻟﻤﺘﻤﻴﺰ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻓﻲ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻮﻗﻒ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﺍﻟﻤﺘﻜﺎﻣﻞ.

ﺇﻥ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻮﺟﻬﻴﻦ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﻩ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﻴﺔ ﻳﺤﺘﻤﺎﻥ ﻭﺟﻬًﺎ ﺛﺎﻟﺜًﺎ، ﻭﻫﻮ: ﺗﺪﺍﻭﻝ ﺍﻷﺷــﺨﺎﺹ ﻟﻸﻋﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻤﻬﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﻛــﺰ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟــﻜﻞ ﻣﺮﻛﺰ ﻭﻇﻴﻔﻲ ﺃﺷﺨﺎﺹ ﻳﺘﻐﻴﺮﻭﻥ ﻭﻳﺘﺒﺎﺩﻟﻮﻥ ﻣﻮﺍﻗﻔﻬﻢ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ، ﺑﺤﻜﻢ ﻓﻮﺍﺕ ﻋﺪﺩ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻣﺤﺪﺩ ﺳــﻠﻔًﺎ، ﺃﻭ ﺑﺎﻟﺘﻨﻘﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ، ﺃﻭ ﺑﺒﻠﻮﻍ ﺳــﻦ ﻣﻌﻴﻨﺔ، ﺃﻭ ﺑﻐﻴﺮ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﺘﺄﻗﻴﺖ؛ ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻳﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺃﺩﻧﻰ ﺣﺪ ﺃﺛﺮ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮ ﺍﻟﻔﺮﺩﻱ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻟﻶﺩﻣﻴﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﺳــﺘﻤﺮﺍﺭﻳﺔ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻭﺣﺘﻰ ﺗﻐﻠﺐ ﺍﻟﺸــﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴــﻴﺔ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺷــﺨﺼﻴﺎﺕ ﺍﻷﻓــﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﻴﻦ ﻟﻬﺎ، ﻭﺣﺘــﻰ ﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﻓﺮﺩﻱ. ﻭﺇﻥ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺘﻮﻟﻰ ﻋﻤﻼً ﻓﻲ ﺟﻬﺎﺯ ﻣﺆﺳﺴﻲ ﻳﺠﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺤﻜﻮﻣًﺎ ﺑﻔﻌﻞ ﺃﺳﻼﻑ ﻟﻪ ﻓﻴﻪ، ﻭﻣﺘﺼﻼً ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺣﺪﻭﺩ ﻣﺪﺓ ﻭﻻﻳﺘﻪ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﻣﻔﻬﻮﻡ «ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭﻳﺔ» ﻛﺒﺪﻳﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ «ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ»؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺠﻤﻊ ﺍﻟﻜﺜﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺤﺪ ﻭﺗﻨﺘﻈﻤﻬﻢ ﻓﻲ ﻋﻤﻞ ﻭﺍﺣﺪ. ﻭﻗﺪ ﻋﺮﻑ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﺍﻹﺳــﻼﻣﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺼﻮﺭ ﻗﺪﻳﻤًﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﻢـ ﻋﺮﻓﻪ ﻓﻲ ﻧﻈﺎﻡ ﺑﻴﺖ ﺍﻟﻤﺎﻝ، ﻭﻓﻲ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﻮﻗﻒ، ﻭﻓﻲ ﻣﻠﻜﻴﺔ المسجد ﻭﻣﺎ ﻳﺘﺒﻌﻪ، ﻭﻋﺮﻓــﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻨﻈــﺮﻱ ﺍﻟﻤﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑــﺄﻥ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﷲ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺃﻧﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻣﺴﺘﺨﻠﻔﻮﻥ ﻓﻴﻪ.

(8)

ﻭﺍﺳﺘﻄﺮﺍﺩًﺍ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻤﺎ ﺳﺒﻖ ﻳﺘﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﻋﺎﻣﺔ، ﻭﺇﻳﻀﺎﺣًﺎ ﻟﺼﻔﺔ ﺍﻟﻌﻤــﻮﻡ ﻫﺬﻩ ﻭﺑﺪﺀًﺍ ﺑﺈﺩﺭﺍﻙ ﻣﺆﺩﺍﻫــﺎ، ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺬﻛﺮ ﺃﻥ ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﻢ إﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺬﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻣﺎﻟﻪ، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻐﻴﺮﻫﻢ، ﻓﻲ ﺷــﺄﻥ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﺍﻟﻤﺎﻝ، ﻭﺍﻷﺻﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﺍﻟﺴــﺎﺋﺪ ـﻗﺪﻳﻤًﺎ وحديثًا- ﺃﻥ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺣﻖ ﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺷــﺄﻥ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻣﺎﻟﻪ ﻣﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻭﺭﺷﺪﻩ ﻣﺘﻮﺍﻓﺮﺓ ﻟﺪﻳﻪ: ﺑﺄﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺭﺷﻴﺪًﺍ ﺳﻮﻳًّﺎ، ﻭﻻ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺻﻞ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺜﻨﻴﻪ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﻪ.

ﺃﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻐﻴﺮ ـﻧﻔﺴــًﺎ ﺃﻭ ﻣﺎﻻًـ ﻓﺎﻷﺻﻞ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴــﺖ ﻟﺪﻳﻪ ﻭﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺷــﺄﻥ ﻏﻴﺮﻩ ﺇﻻ ﺑﺘﺨﻮﻳﻞ ﻳُﺘﻴﺤﻪ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ، ﻭﻓﻲ ﺣﺪﻭﺩ ﻣﺎ ﻳﺘﻴﺤﻪ ﺻﺮﺍﺣﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﻭﺑﺎﻟﺸﺮﻭﻁ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻮﺟﺒﻬﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺄﻥ. ﻭﻭﻻﻳﺔ ﺍﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻐﻴﺮ ﻫﻲ ﺇﻣﺎ ﻭﻻﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻛﻮﻻﻳﺔ ﺍﻷﺏ ﻋﻠﻰ ﺍﺑﻨﻪ ﺍﻟﻘﺎﺻﺮ ﻭﻭﻻﻳﺔ ﺍﻟﻮﻛﻴﻞ ﻋﻦ ﻣﻮﻛﻠﻪ ﻓﻲ ﺷﺄﻥ ﺫﺍﺗﻲ ﺧﺎﺹ، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻭﻻﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ تكفل ﻟﻠﻮﻟﻲ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﺩ ﻣﻦ ﻧﺎﺱ ﺃﻭ ﻗﻮﻡ ﺃﻭ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﻌﻴﻦ ﺁﺣﺎﺩﻫﺎ ﺑﺬﻭﺍﺗﻬﻢ.

ﻭﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍﻟﻔﺬ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻫﻮ ﻭﻻﻳــﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺃﺟﻬﺰﺗﻬﺎ ﻭﺭﺟﺎﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻣﻴﻦ، ﻭﺇﻥ ﺃﻱ ﻗﺮﺍﺭ ﺃﻭ ﺗﺼﺮﻑ ﻳﺼﺪﺭ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭﻻﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻣﻦ ﺷــﺆﻭﻥ ﺍﻟﺨﺎﺿﻌﻴﻦ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔـ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺘﻌﻴــﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺻﺎﺩﺭًﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﻤﻮﻛﻮﻝ ﺇﻟﻴﻬﺎ إصداره ﻭﺑﺈﺟﺎﺯﺓ ﺷﺮﻋﻴﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ، ﻭﺃﻥ ﺗﺴﺘﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﺸﺮﻭﻁ ﻭﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻁ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻬﺎ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻠﻚ ﺗﺨﻮﻳﻞ ﻫﺬﻩ الولاية، وأن تكون هذه الجهة هي الأخرى قد خوِّلت ولايتها بما تملك ممن تملك شرعية  إجراء هذا التخويل. ﻭﺇﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺳﻢ ﺃﺳﺲ ﻭﺃﺻﻮﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺨﻮﻳﻞ ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺑﺄﻧﻪ «ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ»، ﻭﻫﻮ ﻧﻈﺎﻡ ﻣﻜﺘﻮﺏ ﻭﻣﻌﺮﻭﻑ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﻬﺎ، ﺑﻤﻮﺟﺐ ﻣﺎ ﻭﻗﺮ ﻓﻲ ﺛﻘﺎﻓﺘﻬﺎ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺄﺻﻞ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻟﻬﺎ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺍﺭﺗﻀﺖ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ ﻛﺸــﺮﻋﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻧﺸــﺎﻃﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻭﺗﻌﺎﻣﻼﺗﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻧﻔﻬﻢ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﺸــﺄ ﺇﻻ ﺑﻴﻦ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ. ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﻫﻲ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺗﻀﻤﻬﻢ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻧﺘﻤﺎﺀ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺗﺸﻴﻊ ﻓﻴﻬﻢ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﺭﻛﺔ ﺑﻴﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺪﻯ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺍﻷﻃﻮﻝ، ﺃﻱ ﺑﺤﺴــﺐ ﺗﻌﺒﻴﺮ ﻣﺆﻟﻒ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ: «ﻳﺪﺭﻛﻮﻥ ﺇﺩﺭﺍﻛًﺎ ﺗﺎﻣًّﺎ ﺃﻥ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻣﺸﺘﺮﻛﺔ ﻭأخلاقًا ﻭﻋــﺎﺩﺍﺕ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ، ﻣﺮﺗﺒﻄﻴــﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﺒﻌﺾ ﻭﻣﺘﺤﺪﻳــﻦ ﻣﺘﺂﻟﻔﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻤﻞ» ﺑﻤﻌﻨــﻰ ﺃﻥ ﻟﺪﻳﻬﻢ «ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻐﺮﻳﺰﺓ ﺍﻟﻤﺸــﺘﺮﻛﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻘﺎﺭﺏ» ﻭ«ﺍﻟﺸــﻌﻮﺭ ﻭﺍﻹﺣﺴﺎﺱ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ».

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺘﺼﻞ ﻭﻳﺮﺗﺒﻂ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ، ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺃﻳﻀًﺎ ﺃﻥ ﻣﻦ ﻳﻤــﺎﺭﺱ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻋﻠــﻰ ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﺍﻟﻤﺮﺳﻮﻣﺔ ﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺘﻪ ﺇﻳﺎﻫﺎ، ﺃﻭ ﻳﺘﻌﺪﻯ ﺣﺪﻭﺩ ﻣﺎ ﺗﺘﻴﺤﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ، ﺃﻭ ﻳﻔﺘﻘﺪ ﻓﻲ ﻣﻤﺎﺭﺳــﺘﻪ ﻟﻀﻮﺍﺑﻄﻬﺎ ـﻣﻦ ﻳﻔﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﻤﻠﻪ ﺑﺎﻃﻼً ﻓﻘﻂ ﻭﻏﻴﺮ ﻣﺆﺛﺮ ﺃﺛﺮًﺍ ﺗﻘﺒﻠﻪ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﺑﻞ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺪ ﺃﺗﻰ ﻋﻤﻼً ﻋﺪﻭﺍﻧﻴًّﺎ ﺑﺤﺘًﺎ ﻳﺴــﺄﻝ ﻋﻨﻪ ﻛﻔﺮﺩ ﻣﻦ ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ. ﻓﺎﻟﻤﻮﻇﻒ ﺍﻟﻌــﺎﻡ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯ ﻻ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻣﻮﻇﻔًﺎ ﻋﺎﻣًّﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﻓﻴﻪ، ﺑﻞ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﺮﺩًﺍ ﻋﺎﺩﻳًّﺎ ﻣﻌﺘﺪﻳًّﺎ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮﻩ، ﻭﻳﺠﻴﺰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﻤﺸــﺮﻭﺡ ﻫﻨﺎ ﺃﻥ ﺗﺮﻓﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺪﻋﺎﻭﻯ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ ﻟﻤﺤﺎﺳﺒﺘﻪ ﻋﻤﺎ ﺍﺭﺗﻜﺐ.

(9)

ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ ﺿﻤﺎﻧﺎﺕ ﺗﺸﻜﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺍﻟﺴﻠﻴﻢ ﻭﺗﺤﻘﻖ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻣﻴﻦ ـ ﻫﻮ ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺳــﻠﻄﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﻭﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﻭﺍﻟﺘﺸــﻜﻼﺕ ﺍﻟﺴﻠﻄﻮﻳﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ـ ﺣﺴﺐ ﺗﻌﺒﻴﺮ "ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﺒﺮ" ـ ﻣﻦ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﻨﻒ اﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﻓﺈﻥ ﺍﻻﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﻛﻞ ﺍﻻﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻛﺎﻣﻼً ﺇﺫﺍ ﺍﺟﺘﻤﻌﺖ ﻭﺳــﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﻳﺪ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺃﻭ ﻓﻲ ﻫﻴﺌﺔ ﺃﻭ ﺟﻬﺎﺯ ﻭﺍﺣﺪ.

ﺇﻥ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﺒﺪ ﺑﺎﻷﻣﺮ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﻤﺘﻠﻜﻪ ﻛﺎﻣًﻼ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻌًﺎ، ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﺠﻤﻊ ﻓﻲ ﻳﺪﻩ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﻛﻞ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻭﺍﻟﺘﺼــﺮﻑ، ﻭﺇﻥ ﺃﻫﻢ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻔﻲ ﺑﻪ ﺍﻻﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺸــﺎﺭﻛﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺼﺮﻑ، ﺃﻱ: ﻻ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻤﺆﺩﻱ ﻓﻲ ﻳﺪ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺗﻘﺮﻳــﺮًﺍ ﻭﺗﻨﻔﻴﺬًﺍ ﻭﺗﺮﺗﻴﺒًﺎ ﻵﺛــﺎﺭ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻥ ﺃﻭﻝ ﻋﻼﺝ ﻟﻬــﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻟﻨﻔﻴﻪ ﻭﻟﺘﻮﻗﻲ ﺣﺪﻭﺛﻪ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻠﻚ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺎﺭﺱ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘــﺮﺍﺭ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻠﻚ ﻭﺳــﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺮﺭ ﻣﺸﺮﻭﻋﻴﺔ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻨﻒ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﺛﻤﺔ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﺗﺮﺍﻗﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﻴﺮﻳﺔ ﻭﺗﺤﻤﻲ ﺑﻘﺎﺀﻫﺎ ﻭﺗﺮﺗﺐ ﻧﺘﺎﺋﺠﻬﺎ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻭﺟﺐ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺇﻟﻰ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﻋﺪﻳﺪﺓ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻳﻨﺎﻁ ﺑﻪ ﺇﺻﺪﺍﺭ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﻭﺗﻌﻴﻴﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﺎﺕ ﻏﻴﺮ ﻣﻦ ﻳﻨﻔﺬ ﻫــﺬﻩ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﻭﻏﻴﺮ ﻣﻦ ﻳﻤﺎﺭﺱ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﻨﻒ ﻭﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻀﺒﻂ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﻦ ﻳُﻘﺮﺭ ﺷﺮﻋﻴﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺳﺘﺨﺪﺍﻡ، ﺳــﻮﺍﺀ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻋﺎﻡ ﺃﻭ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺨﺼﻮﺻﺔ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﻳﺮﺍﻗﺐ ﺫﻟﻚ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ ﻭﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﻘﺮﺭ.

الدستور الأمريكي

ﻭﻟﻌﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻫﻮ ﻣــﻦ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻟﻨﻈﻢ ﻓﺼــﻼً ﺑﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺜﻼﺙ، ﻭﻟﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺃﺑﻘﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺴﺘﻘﺮًﺍ ﻭﻣﺘﻤﺎﺳﻜًﺎ ﻭﻣﺤﻘﻘًﺎ ﻟﻐﺮﺿﻪ ﺍﻷﺳﺎﺳﻲ. ﻭﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﻣﻦ ﺃﺻﺎﻟﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﺃﻥ ﻛﻼًّ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﺸﺄ ﻭﻳﺘﻜﻮﻥ ﻭﺗﺘﺸــﻜﻞ ﻋﻨﺎﺻﺮﻩ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺏ ﻣــﻦ ﺍﻟﺸــﻌﺐ، ﻓﺎﻟﺮﺋﻴﺲ ينتخب ﻣﻦ ﺍﻟﺸــﻌﺐ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ، ﻭﺍﻟﻤﺠﻠﺴــﺎﻥ ﺍﻟﺘﺸــﺮﻳﻌﻴﺎﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ ﺭﺟﺎﻟﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻻﻧﺘﺨﺎﺏ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻭﻋــﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳــﺎﺕ، ﻭﺍﻟﻘﻀﺎﺓ يختارون ﻓﻲ ﺍﻷﺳــﺎﺱ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺏ، ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻮﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺏ ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﺮﺋﻴﺲٍ ﺳــﻠﻄﺔ ﻣﺒﺎﺷــﺮﺓ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻭﻣﻦ ﺛَﻢَّ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﺴــﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟــﺔ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻴﺲ ﻹﺣﺪﺍﻫﺎ ﺳﻠﻄﺔ ﻓﻲ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺗﻌﻴﻴﻨًﺎ ﻟﺮﺟﺎﻟﻬﺎ. ﻭﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﻫﻨﺎ ﺃﻇﻬﺮ ﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺍﻟﻤﺄﺧﻮﺫ ﻋﻨﻪ.

ﻫﻨﺎﻙ ﻻ ﺷﻚ ﺗﺄﺛﻴﺮﺍﺕ ﻣﺘﺒﺎﺩﻟﺔ ﻭﻗﻮﻯ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﺑﺎﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺕ، ﻭﻧﺤﻦ ﻓﻲ ﺇﻳــﺮﺍﺩ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧــﺎ ﺃﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻧﻜﻮﻥ ﺗﺼﻮﻳــﺮًﺍ ﻟﻸﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﺻــﻮﺭﺓ ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﻣﻼﺋﻜﻴﺔ، ﻭﻧﺤﻦ ﻧﺪﺭﻙ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻟﺔ ﻭﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻀﻐﻮﻁ ﻭﺍﻟﻐﻮﺍﻳﺔ ﻭﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻭﺍﻟﻀﻐﻮﻁ، ﻭﻟﻜﻨﻨﺎ ﻓﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺛﺮ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺸــﻜﻞ ﻭﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺟﺮﻯ ﺑﻪ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﺤﻜﻢ، ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻹﺣﺪﺍﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺘﻴﻦ ﺍﻷﺧﺮﻳﻴﻦ ﺇﻣﻜﺎﻥ ﺳــﻴﻄﺮﺓ ﻋﻀﻮﻳﺔ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻌﻴﻴﻦ ﻟﺮﺟﺎﻟﻬﺎ، ﻭﻫﺬﺍ ﺃﻣﺮ ﻳﺘﻴــﺢ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻗﺪﺭًﺍ ﻣــﻦ ﺇﻣﻜﺎﻥ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻭﻳﺘﻴﺢ ﻗﺪﺭًﺍ ﻣﻦ ﺇﻣــﻜﺎﻥ ﺍﻟﻤﻐﺎﻳﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﻗﺪﺭًﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻮﺍﺯﻥ.

ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﻧﻈﺎﻣﻨﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺴــﺎﺑﻖ ﻣﻦ ﻋﺼﻮﺭ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻹﺳــﻼﻣﻴﺔ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ ﺃﻭ ﺃﻣﻴــﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺃﻭ ﺍﻟﻮﺍﻟــﻲ ﻣﻤﻦ ﻳﺘﻮﻟﻰ ﻣﺎ ﻧﺴــﻤﻴﻪ ﺍﻵﻥ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺔ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬﻳﺔـ ﻋﻨﺪﻣــﺎ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﻀﻊ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ؛ ﻷﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺘﺸــﺮﻳﻌﻲ ﻛﺎﻥ ﻳﺼﺪﺭ ﻣﺒﺎﺷــﺮﺓ ﻋﻦ ﻣﺼﺪﺭﻳﻦ ﻫﻤﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻮﻝ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ  ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﺣﺪﻳﺚ ﻷﻭﻝ ﺣﺎﻛﻢ ﺇﺳﻼﻣﻲ ﺑﻌﺪ ﺗﻤﺎﻡ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ: «ﺃﻃﻴﻌﻮﻧﻲ ﻣﺎ ﺃﻃﻌﺖ ﺍﷲ ﻭﺭﺳــﻮﻟﻪ». ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻫﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻣﻮﻥ ﺑﺎﻟﺘﻔﺮﻳﻊ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ ﻻ ﻳﻌﻴﻨﻬﻢ ﺣﺎﻛﻢ ﻭﻻ ﻭﺍﻝ ﻭﻻ ﺳﻠﻄﺎﻥ، ﻭﻟﻜﻦ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺘﺮﻑ ﺑﻬﻢ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻣﺠﺎﻟﺴﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻭﻳﻠﺠﺌﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺼﻮﺍﺏ ﻭﺍﻟﺨﻄﺄ؛ ﺑﻤﺎ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﺳﻤﻌﺔ ﻭﻣﻜﺎﻧﺔ ﺃﻫﻠﻴﺔ، ﻓﻴﻠﺠﺄ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻟﻴﻔﺘﻮﻫﻢ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﻢ ﻭﺃﻣﻮﺭ ﻣﻌﺎﺷﻬﻢ. ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻘﻀﺎﺓ ﻳﻌﻴﻨﻬﻢ ﺍﻟﺤﻜﺎﻡ ﻭﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﺼﺪﺭﻭﻥ ﻓﻲ ﻗﻀﺎﺋﻬﻢ ﻋﻦ ﺭﺅﻳﺘﻬﻢ ﻫﻢ ﻟﻠﺘﺸﺮﻳﻊ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻰ ﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺮﻫﻢ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﺃﻭ ﺑﻤﺎ ﻳﺄﺧﺬﻭﻧﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻦ.

(10)

ﻋﻮﺩ ﻋﻠــﻰ ﺑﺪﺀ ﺇﻟــﻰ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ، ﻓﻘﺪ ﺳــﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻹﻣــﻜﺎﻥ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﻟﻮﺿﻊ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻭﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻬﺞـ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﺟﻤﺎﻋﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻣﻦ ﻣﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻋﺪﻳﺪﺓ ﻭﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ـ ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻖ ﺃﻥ ﺃﺷﺮﺕـ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﺒﺎﺕ ﺍﻟﺘﻌﺎﻳﺶ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻗﺪﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﻭﻧﺔ ﻭﺍﻟﺴﻌﺔ ﻭﺍﻟﺘﺒﺎﻳﻦ ﻭﺍﻟﺘﻤﺎﻳﺰ، ﻭﺃﻥ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻘﺪﺭ ﻭﺍﺳﻊ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ، ﻭﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺛﻘﺎﻓﻴًّﺎ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴًّﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺄﻓﺴﺢ ﻗﺪﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﺍﻟﻐﺎﻟﺒﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺸﻜﻞ ﻓﻲ ﻇﻞ ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ ﺍﻷﺻﻞ، ﻭﻫﻲ ﺳﻌﺔ ﻭﺳﻌﺖ ﻛﻞ ﻫﺆﻻﺀ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﺿﺎﻗﺖ ﺿﻴﻘًﺎ ﺷﺪﻳﺪًﺍ ﻋﻦ ﺍﺳﺘﻴﻌﺎﺏ ﺍﻵﺗﻴﻦ ﻣﻦ ﺃﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﺮﻕ. 

ﻋﻨﺼﺮ ﺛﺎﻥٍ ﺃﺗﺎﺡ ﻫــﺬﻩ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸــﺎﺭ ﺇﻟﻴﻬــﺎ، ﻫﻮ: ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳــﻦ ﺍﻹﺩﺍﺭﻱ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻲ ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﻛﺎﻥ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻥ ﻳﺤﺘﺮﻡ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺃﻧﻬﺎ ﻭﻻﻳﺎﺕ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺗﻨﻈﻴﻤًﺎ ﺣﺎﻛﻤًﺎ ﻭﺇﺩﺍﺭﻳًّﺎ ﻭﺍﺣﺪًﺍ، ﻟﻘﺪ ﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻣﻊ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﻭﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻊ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ ﺑﺘﺴﻊ ﻭﻻﻳﺎﺕ ﻓﻘﻂ، ﺛﻢ ﺗﻮﺳﻌﺖ ﺑﻀﻢ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺣﺘﻰ ﺻﺎﺭﺕ ﺛﻤﺎﻥ ﻭﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﻭﻻﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ، ﺛﻢ ﺻﺎﺭﺕ ﺍﻵﻥ ﺧﻤﺴﻴﻦ ﻭﻻﻳﺔ. ﻭﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻥ ﻛﻼًّ ﻣﻨﻬﺎ ﺫﺍﺕ ﺣﻜﻢ ﺫﺍﺗﻲ ﺑﺴﻠﻄﺎﺕ ﺗﺸﺮﻳﻊ ﻭﺗﻨﻔﻴﺬ ﻭﻗﻀﺎﺀ، ﻭﻫﻮ ﻣﺴــﺘﻘﻞ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻭﻻﻳﺘﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻭﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻭﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻭﺗﻨﻈﻴﻢ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﺭﻗﺎﺑﺔ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ، ﻭﺗﺸــﻤﻞ ﻭﻻﻳﺘﻪ ﺳﻴﺎﺳــﺘﻬﺎ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ ﻭﺃﻭﺿﺎﻋﻬــﺎ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺃﻧﻤــﺎﻁ ﺇﻧﺘﺎﺟﻬﺎ ﻭﻣﻬﺎﺭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ، ﺑﺤﻜﻢ ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻴﺎ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻭﻧﻤﻂ ﺍﻷﻫﺎﻟﻲ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﻴﻦ ﻟﻬﺎ ﺣﺴﺐ ﺃﺻﻮﻟﻬﻢ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﺳﻮﺍﺑﻖ ﺛﻘﺎﻓﺘﻬﻢ ﻭﻋﻮﺍﺋﺪﻫﻢ، ﻭﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﻨﻌﻜﺲ ﻓﻲ ﻗﻮﺍﻧﻴﻨﻬﻢ ﻭﻧﻈﻤﻬﻢ.

ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺇﻥ ﻧﻈﻢ ﺍﻻﺗﺼﺎﻻﺕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﺻﻼﺕ ﻗﺪ ﺿﻴﻘﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺎﺕ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺟﻤﻴﻌًﺎ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺗﺸــﻜﻞ ﻭﺗﺮﺳﺨﺖ ﻗﻮﺍﺋﻤﻪ ﻭﺃﺭﻛﺎﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺪﻯ ﺯﻣﻨﻲ ﻋﻜﺲ ﻗﺪﺭًﺍ ﻣﻌﺘﺒﺮًﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺒﺎﻳﻦ، ﺭﻏﻢ ﺍﻻﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ ﻟﺘﻀﻴﻴﻖ ﺍﻟﻬﻮﺓ ﻭﺍﻻﺗﺴﺎﻉ ﺍﻟﻤﻄﺮﺩ ﻟﻠﻤﺸــﺘﺮﻛﺎﺕ. ﻭﻗﺪ ﺍﻧﻌﻜﺲ ﺫﻟﻚ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳَﺠﺪُّ ﺧﻼﻑ ﺑﻴﻦ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺳﻠﻄﺔ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺠﺎﺭﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻧــﺺ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺳــﻠﻄﺔ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳــﺔ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻫﻮ ﺍﻻﺳــﺘﺜﻨﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﺻﻞ ﺍﺳــﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﻣﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﺳــﻠﻄﺎﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﺇﻣﻜﺎﻧﺎﺕ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻥ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳــﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺯﺍﺩﺕ ﻣﻊ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻭﺧﺎﺻﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺸــﺆﻭﻥ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻀﻌﻒ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺸﺆﻭﻧﻬﺎ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﺍﻷﺻﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﺠﻐﺮﺍﻓﻲ ـﻛﺎﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ ﺍﻷﺳﺎﺳــﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺍﺟﻪ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻓﻲ ﺳﻌﻴﻬﺎ ﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻗﻮﺓ ﺩﻭﻟﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﺳــﺘﻄﺎﻉ ﺃﻥ ﻳﻮﺍﺟﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ ﺑﺤﻜﻤﺔ، ﻭﺃﻥ ﻳﻀﻊ ﻟﻪ ﺍﻟﺤﻠﻮﻝ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻼَّﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻟﻠﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ.

ﻭﻓﻲ ﻇﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﺳﺎﺱ ﻧﺠﺎﺡ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﻭﺗﺒﻮﺀ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻣﻜﺎﻧﺘﻬﺎ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺑﺪﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ـ ﺳﺒﺒﻪ ومصدره ﺃﻧﻬﻢ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﻮﺍ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﺠﻴﺒﻮﺍ ﻟﺘﺤﺪﻱ ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﻭﺍﻟﺘﺒﺎﻳﻦ ﻭﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﺑﺮﺳــﻢ ﻧﻈﺎﻡ ﻳﺠﻤﻊ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩﻳﺔ ﺍﻹﺩﺍﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ، ﺑﻐﻴﺮ ﺿﻐﻂ ﻭﻻ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻭﻻ ﺍﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﻋﻨﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﻢ ﻓﻲ ﺇﻃــﺎﺭ ﺍﻧﺘﻤﺎﺋﻬﻢ ﺍﻟﻤﺸــﺘﺮﻙ ﻟﻠﺤﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ، ﻭﺭﺳــﻤﻮﺍ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻧﻈﺎﻣًﺎ ﺩﺳﺘﻮﺭﻳًّﺎ ﻳﻌﻜﺲ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻮﺣﺪ ﻭﺍﻟﺘﺸﺎﺭﻙ، ﻣﻊ ﺍﺳﺘﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﻭﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﻓﻲ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ. ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪﺍ ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﺒﺮﻭﺍ ﻣﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻣﻦ ﺳﻜﺎﻥ ﺑﻼﺩﻫﻢ، ﺳﻮﺍﺀ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﺍﻟﻬﻨﻮﺩ ﺍﻟﺤﻤﺮ ﺃﻭ ﺍﻷﻓﺮﻳﻘﻴﻮﻥ الذين ﺍﺳﺘُﺠﻠِﺒﻮﺍ ﻛﺮﻗﻴﻖ ﻣﻦ ﺃﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻥ ﻻ ﻛﻌﻤﺎﻝ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻭﻟﻜﻦ ﻛﻘﻮﺓ ﻣﺤﺮﻛﺔ.

ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﻭﻧﺔ ﻓــﻲ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﺮﻭﺍﺑــﻂ ﻭﺍﻟﺘﻤﺎﻳﺰﺍﺕ ﺑﻴــﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻼﺳــﺔ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻂ ﻭﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ـ ﻫﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺜﺎﻻً ﻳﺤﺘﺬﻯ ﻓﻲ ﺃﻳﺔ ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ ﻭﺣﺪﻭﻳﺔ ﺗﺸﺮﻉ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻳﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﺴﺘﻘﺒﻼً ﻟﺘﻘﻴﻢ ﻭﺣﺪﺓ ﺑﻴﻦ ﺃﻫﺎﻟﻲ ﺃﻗﻄﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍلأﻓﺮﻳﻘﻲ. ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﻌﺮﺽ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﻣﻨﺎ ﺗﺒﻴﻦ ﺣﺪﻭﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺠﺎﺡ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ، ﻭﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ﺟﺮﻯ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻣﻦ ﻳﺸــﻤﻠﻬﻢ ﺍﻷﺻﻞ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ ﻓﻘﻂ، ﻭﺃُﻏﻠﻖ ﻭﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﻣﻐﻠﻘًﺎ ﺩﻭﻥ ﺫﻭﻱ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻷﻓﺮﻳﻘﻴﺔ ﻭﺍﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ﺑﻌﺎﻣﺔ.

(11)

ﻳُﻌﺒِّﺮ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﺑﻠﻔﻆ «ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ» ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﻣﻔﻬﻮﻡ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺇﺯﺍﺀ ﺳــﻠﻄﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ، ﻭﻳﺆﻛﺪ ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ «ﺇﺣﺪﻯ ﺧﻮﺍﺹ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻻ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ»، ﻭﺍﻟﻌﻠﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﻟﻠﺤﺮﻳﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺘﺒﻊ ﺃﺳﻠﻮﺑﻪ ﺍﻟﻌﻤﻠﻲ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻻﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ؛ ﺣﺬﺭ ﺃﻥ ﺗﺴــﺘﺨﺪﻡ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﻭﺍﻗﻌﻬﺎ ﺍﻟﻨﻔﻌﻲ ﺍﻟﻤﻠﻤﻮﺱ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻨﺎﺱ. ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﻗﺼﺪﻩ ﻓﻼ ﻧﺠﺪ ﺍﻋﺘﺮﺍﺿًﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﺤﺼﻴﻠﺔ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ؛ ﻷﻥ ﻏﺎﻟﺐ ﻣﺎ ﻳﺴــﺘﺨﺪﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴــﻢ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ ﻛﻤﻔﻬﻮﻡ «ﺍﻟﺸﻌﺐ» «ﺍﻷﻣﺔ» ﻭﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﻭﺍﻷﻭﻃﺎﻥ ـ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪﻡ ﻛﺜﻴﺮًﺍ ﻟﺴﺘﺮ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩﻳﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻬﺔ ﺿﺪ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺃﻭ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ، ﻭﺑﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺴــﻮﻳﻎ ﺍﻟﺪﻋﺎﺋﻲ ﻭﺍﻹﻋﻼﻣﻲ ﻟﻜﺒﺖ ﺍﻟﺤﺮﻳﺎﺕ ﻭﺇﺷــﺎﻋﺔ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ ﻟﻸﻓﺮﺍﺩ ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ، ﻭﻋﺎﺩﺓ ﻣﺎ ﺗﺴﺘﺨﺪﻡ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﻟﻐﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪﻳﻦ ﻭﻣﻄﻠﻘﻲ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﺎﻡ.

ﻭﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻮﺿﺢ ﺍﻵﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻔــﺮﺩ ﺍﻟﻤﻔﺮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﻫﻮ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﺎ، ﺑﻞ ﺇﻧﻪ ﺑﻤﻮﺟﺐ ﺗﻌﺪﺩ ﺃﻧﺸــﻄﺘﻪ ﻭﺗﻌﺎﻣﻼﺗــﻪ ﻭﻋﻼﻗﺎﺗﻪ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻬﻨﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻳﻨﺘﻤﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ ﻓﻲ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ، ﺛﻤﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﺃﺳــﺮﻳﺔ، ﻭﺛﻤﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺇﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﺳﻜﻨﻴﺔ، ﻭﺛﻤﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻣﻬﻨﻴﺔ ﺃﻭ ﺣﺮﻓﻴﺔ، ﻭﺛﻤﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ، ﻭﺛﻤﺔ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ... ﻭﻏﻴﺮ ﺫﻟﻚ، ﻭﻣﺎ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ ﻳﺆﺩﻳﻪ ﺃﻭ ﻧﺸــﺎﻁ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻪ ﺃﻭ ﺣﻖ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﺃﻭ ﻭﺍﺟــﺐ ﻳﻠﺰﻣﻪ ﺇﻻ ﻭﻟﻪ ﺷــﺮﻛﺎﺀ ﻣﻤﺎﺛﻠﻴﻦ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻌﻪ، ﻭﻣﺎ ﻣﻦ ﺣﻖ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﺇﻻ ﻭﻟﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﻤﺎﺛﻠﻮﻥ، ﻭﺇﻥ ﺣﺮﻳﺘﻪ ﺍﻟﺤﻘﺔ ﻳﻜﺘﺴﺒﻬﺎ ﻭﻳﻤﺎﺭﺳﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻻﻧﺘﻤﺎﺀﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﻌﺪﺩﺓ.

ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻻﻧﺘﻤﺎﺀﺍﺕ ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﺤﻤﻴﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋــﻲ ﻟﻸﺣﺪﺍﺙ ﻭﻟﻠﻌﻼﻗﺎﺕ؛ ﻷﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻳﻌﻴﺶ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ، ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺴــﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺤﻴﻂ ﺑﻪ، ﺃﻭ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻤﻨﺘﺞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺎﺭﺳﻪ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺯﺭﺍﻋﺔ ﺃﻭ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﺃﻭ ﻣﻬﻨﺔ، ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺸﺎﻛﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺍﺟﻬﻪـ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ.

ﻭﺇﻥ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻋﻨﺪﻣــﺎ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻔــﺮﺩ ﻭﺣﺮﻳﺘﻪ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺟــﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺪ ﻭﺍﻹﻃﻼﻕ،  ﻳﻌﻮﺩ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﻕ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻓﻲ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻳﺔ ﻓﻴﺮﻛﺰ  ﻭﻳﺰﻳﺪ ﻭﻳﻌﻴﺪ ﻋــﻦ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ «ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌــﺎﻡ»، ﻭﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺟﻤﺎﻋﻲ ﻭﻻ ﻳﺘﺼﻮﺭ ﺗﻮﺍﻓﺮﻩ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺟﻤﺎﻋــﺎﺕ، ﺃﻱ: 
ﺃﻧﻪ ﺭﺃﻱ ﺟﻤﺎﻋﻲ ﻷﻥ ﺍﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ «ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ» ﻭﻫﻲ ﺿﺪ «ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ».
ﺛﻢ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻞ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ـﺭﺋﻴﺴــًﺎ ﻭﻣﺠﻠﺴــﻲ ﺑﺮﻟﻤﺎﻥ ﻭﻣﺤﺎﻛــﻢـ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺍﻷﺣــﺰﺍﺏ ﻭﺩﻭﺭﻫﺎ ﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻱ ﻓﻲ ﻣﺪ ﻛﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻤﺎﺕ ﺑﺮﺟﺎﻟﻬﺎ؛ ﻷﻥ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﻟﺸــﻐﻞ ﺍﻟﻤﻨﺼﺐ ﻳﺒﺪﺃ ﺑﺎﻟﺘﺮﺷﻴﺢ ﻟﻪ، ﻭﺍﻟﺘﺮﺷﻴﺢ ﻳﺮﺩ ﻋﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺃﺣﺰﺍﺏ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻛﺰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺘﻴﻦ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬﻳﺔ ﻭﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴﺔ، ﻭﻳﺆﺛﺮ ﻓﻲ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭ ﻣﻦ ﻳﻌﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻀﺎﺓ ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺏ.

ﻭﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺑﺤﺴﺒﺎﻧﻪ ﺃﻣﺮًﺍ ﻣﻜﻤﻼً ﻭﻣﺘﻤﻤًﺎ ﻟﻠﺘﺸﻜﻞ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﺪﺭ ﺑﻪ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ بلاده، ﻭﺍﻟﺤﺰﺏ ﻫﻮ ﻫﻴﺌﺔ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎﺕ ﺍﻟﺤﻜﻢ، ﻭﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﺗﺸﻜﻼﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻷﻫﻠﻲ ﻳُﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﺞ ﺑﻪ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻤﺎﺕ ﻭﻫﻴﺌﺎﺕ ﺃﻫﻠﻴــﺔ، ﻛﺎﻟﺠﻤﻌﻴﺎﺕ ﻭﺍﻟﻨﻘﺎﺑﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﻛﺎﻟﺸﺮﻛﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ اﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ. ﺇﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻼﺕ ﺍﻷﻫﻠﻴﺔ، ﻭﺍﻧﺘﺸﺎﺭﻫﺎ ﻭﻗﻮﺗﻬﺎ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﻣﻮﺍﺯﻳﺔ ﻟﺴــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﻣﺘﻮﺍﺯﻧﺔ ﻣﻌﻬﺎ، ﻭﻣﺆﺛﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﺪﻭﺭﻱ ﻟﺮﺟﺎﻝ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔـ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺟﻤﻴﻌﻪ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺭﻛﻨًﺎ ﺭﻛﻴﻨًﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﺍﻟﺤﻘﺔ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﻤﻠﻤﻮﺳﺔ.

(12)

ﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋــﻦ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻓﻲ ﺗﺤﻠﻴﻠــﻪ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﺳــﺘﻮﺭﻱ ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓـ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺪﺍﺧﻞ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪ ﺑﻴﻦ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺗﺸﻜﻴﻼﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻷﻫﻠﻲ ﺧﺎﺭﺝ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺔ، ﻭﻫﻮ ﺑﻨﻈﺮﺗﻪ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﻴــﺔ ﺍﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ ﻳﻮﺿﺢ ﻣﺠﺎﻻﺕ مهمة ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺪﺍﺧﻞ. ﻭﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﻛﺮﺭ ﻣﺎ ﻭﺭﺩ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺏ ـﻭﻫﻮ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﻟﻪـ ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺔ ﻗﺮﺍﺀﺗﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﺔ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻜﻨﻨﻲ ﺃﺗﺨﺬ ﺳﺒﻴﻞ ﺷــﺮﺍﺡ ﺍﻟﻤﺘﻮﻥ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﻨﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﻗﺮﺍﺀﺍﺗﻨﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ؛ ﺇﺫ ﻳﺠﺮﻭﻥ ﺍﻹﺿﺎﻓﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻈﻨﻮﻧﻬﺎ ﻻﺯﻣﺔ ﻭﻣﻔﻴﺪﺓ  ﻟﻘﺎﺭﺉ ﺍﻟﻤﺘﻦ، ﻭﻳﺪﻟﻮﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻧﺴــﺎﻕ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ المعينة له في استخلاص فوائد الكتاب المقروء واستخلاص معانيه ﺇﻥ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻹﻧﺴــﺎﻧﻲ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺠﺮﻱ ﺑﺎﻻﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ، ﺳــﻮﺍﺀ ﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺃﺱ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺔ ﺍﻟﺘﻨﻔﻴﺬﻳﺔ ويختار وزراءه ﺍﻟﻤﺴــﺎﻋﺪﻳﻦ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﻣﺴــﺆﻭﻟﻴﺘﻪ ﺇﺯﺍﺀ ﻧﺎﺧﺒﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻌﺐ، ﻭﺳﻮﺍﺀ  ﺃﻋﻀﺎﺀ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﺒﺮﻟﻤﺎﻥ ﺍﻟﻤﻤﺜﻠﻴﻦ ﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺮ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﻭﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﻬﻴﻤﻨﻴﻦ ﻋﻠﻰ  ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻠﺔ، ﻭﺳــﻮﺍﺀ ﺍﻟﻘﻀﺎﺓ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺘﺎﺭﻭﻥ ﻏﺎﻟﺒﻬﻢ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺏ ﺃﻳﻀًﺎ؛ ﻭﻫﻨﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺤﺰﺑﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺘﺸﻜﻞ ﺍﻷﻫﻠﻲ ﺩﻭﺭﻫﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺮﺷﻴﺢ.

ﻭﺍﻟﺘﺮشح ﻟﻠﺮﺋﺎﺳﺔ ﻳﺠﺮﻱ ﻓﻲ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﻟﻜﻞ ﻣــﻦ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﻓﺴــﺔ، ﻭﺍﻟﻜﻮﻧﻐﺮﺱ ﻳﺮﺷﺢ ﻧﻮﺍﺑﻪ ﻣﻦ ﻣﺮﺷﺤﻲ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ ﻭﻳﺨﺘﺎﺭﻫﻢ ﺍﻟﺸﻌﺐ. ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻟﺮﺋﻴﺲ ﺍﻟﻤﺠﻠﺲ ﺍﻟﻨﻴﺎﺑﻲ (ﺍﻟﻜﻮﻧﻐــﺮﺱ) دوره ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭ ﻟﺠﺎﻥ ﺍﻟﻤﺠﻠﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﻌﺪ ﻣشـﺮﻭﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﻭﺗﺪﺭﺳــﻬﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻫﻮ ﺫﺍﺗﻪ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﻧﻈﺎﻡ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ يرشح وينتخب ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺫﻱ ﺍﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﻠﺲ، ﻭﺍﻟﻤﺠﻠﺲ ﺟﻤﻴﻌﻪ ﻳﻤﺜﻞ ﺍﻟﺴــﻠﻄﺔ ﺍﻟﺸــﻌﺒﻴﺔ ﻓﻲ ﺇﻃــﺎﺭ ﻣﺎ ﺗﺨﺘﺺ ﺑﻪ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳﺔ ﻣﻦ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﻤﺸــﺘﺮﻛﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻭﻣﺎ ﻳﻤﺎﺛﻠﻬﺎ، ﻭﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﺸــﻴﻮﺥ (ﺍﻟﺴــﻴﻨﺎﺕ) ﻳﻤﺜﻞ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻣﺤﻠﻴﺔ ﻣﺘﻤﻴﺰﺓ ﺑﻤﺼﺎﻟﺢ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ. ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﻛﻢ ﺗﻔﺼﻞ ﻓﻲ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻓﻲ ﺃﻧﺰﻋﺘﻬﻢ ﺑﻴﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻛﻤﺎ ﺗﻔﺼﻞ ﻓﻲ ﺃﻧﺰﻋﺔ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﺿﺪ ﺃﻱ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﻣﻮﻇﻔﻴﻬﺎ ﻭﺃﻗﺴﺎﻣﻬﺎ، ﻭﺛﻤﺔ ﻣﺤﻜﻤﺔ ﺍﺗﺤﺎﺩﻳﺔ ﻭﻣﺤﺎﻛﻢ ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺨﺘﺺ ﺑﻨﻄﺎﻗﻪ ﺍﻹﻗﻠﻴﻤﻲ، ﻭﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺭﻗﺎﺑﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭﺍﻟﻬﻴﺌﺎﺕ ﺍﻷﻫﻠﻴﺔ ﻟﺴــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺣﺴﺐ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﺘﺨﺼﺼﻲ ﻟﻜﻞ ﻣﺤﻜﻤﺔ.

ﻭﻳﺘﺤﺪﺙ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻋﻦ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ـﻭﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﺤﺰﺑﻴﻦ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮﻳﻦ ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻓﻴﻦ: ﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺠﻤﻬــﻮﺭﻱ ﻭﺍﻟﺤﺰﺏ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ ـ ﻭﻳُﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﻫﻤﻴــﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮﺓ ﻟﻌﻤﻠﻬﻢ ﻭﻧﺸــﺎﻃﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻭﻓﻲ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺷــﺆﻭﻧﻬﺎ، ﻭﺇﻥ ﺍﻟﺤــﺰﺏ ﺍﻷﻭﻝ ﻳﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺍﻋــﺎﺓ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻌــﺎﻡ ﻟﻼﺗﺤﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻳﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺍﻋــﺎﺓ ﺍﻟﺼﻮﺍﻟﺢ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ. ﻭﻳﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺣﺰﺍﺏ ﻫﻲ ﻣﺎ ﺃﻣﻜﻦ ﺑﻪ ﺗﺤﻘﻴــﻖ ﺍﻟﺘﺠﺎﻧﺲ ﻭﺍﻟﺘﺂﻟﻒ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻟﻴﺸﻜﻠﻮﺍ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴًّﺎ ﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ. ﻓﺎﻟﺘﺸﻜﻴﻞ ﻫﻨﺎ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺃﻫﻠﻲ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﺎﺱ، ﻭﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳﺔ ﺗﺸﻜﻠﺖ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴًّﺎ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﺍﻷﻫﻠﻲ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﺴﻠﻄﺎﺕ ﺇﻗﻠﻴﻢ ﻗﻮﻱ ﺿﻢ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻹﻗﺎﻟﻴﻢ ﺍﻟﻤﺠﺎﻭﺭﺓ، ﻛﻤﺎ ﺣﺪﺙ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴًّﺎ ﻓﻲ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﺩﻭﻝ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻲ ﺗﺸــﻜﻠﻬﺎ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ، ﻣﺜﻞ ﺍﻷﻣــﺔ ﺍﻷﻟﻤﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻠﻮﺭﺕ ﻭﻻﻳﺎﺗﻬﺎ ﻭﺍﻧﻀﻤﺖ ﺇﻟﻰ ﺑﺮﻭﺳﺎ ﻓﻲ ﻋﻬﺪ «ﺑﺴﻤﺎﺭﻙ» ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ.
ﻭﺇﻥ ﻋﺮﺽ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣــﻮﺭ ﻛﻠﻬﺎ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺠﺮﻱ ـﻛﻤﺎ ﺳــﺒﻖ ﺫﻛﺮﻩ ـ ﻻ ﺑﺸــﺮﺡ ﻧﺼﻮﺹ ﺃﻭ ﺃﺣــﻜﺎﻡ ﺃﻭ ﻧﻈﺮﻳﺎﺕ ﻗﺎﻧﻮﻧﻴــﺔ، ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺠﺮﻱ ﺑﺘﺼــﻮﺭ ﻋﻤﻠﻲ ﻣﻠﻤﻮﺱ ﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺣﺮﻛﻴﺘﻬﺎ ﺍﻟﻔﻌﻠﻴﺔ، ﻭﺑﺤﺴــﺒﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻲ ـﻷﻧﻪ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺑﺸﺮﻳﺔـ ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﺗﺘﺴﺎﻧﺪ ﺟﻮﺍﻧﺒﻪ وأعضاؤه ﻭﺗﺘﺮﺍﺑﻂ ﻓﻲ ﺃﺩﺍﺀ ﻋﻤﻠﻲ ﻭﺍﻗﻌﻲ ﻭﺍﺣﺪ، ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻳﻌﻴﺶ ﻭﻳﺤﻴﺎ ﻭﻳﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺣﺮﺍﻙ ﺩﺍﺋﻢ.

(13)

ﺃﻧﺘﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻲ ﻛﻘﺎﺭﺉ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ، ﻓﻘﺪ ﺃﻋﺠﺒﻨﻲ ﻣﺜﻼً ﻣﻨﻪ ﻗﻮﻟﻪ: «ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺳﻴﺪًﺍ ﻭﺍﻷﻣﺔ ﺧﺎﺩﻣﻬﺎ ﻭﺍﻟﺨﺎﺿﻊ ﻳﺤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﺨﻤﻮﻝ ﻭﺍﻻﻧﺤﻼﻝ ﻓﻼ ﺗﺪﺭﻙ ﺫﺍﺗﻬﺎ ﺃﻭ ﺗﻌﺮﻑ ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﺎ ﻭﻗﻮﺗﻬﺎ، ﻭﻳﻨﻘﺼﻬﺎ ﺗﻤﺮﺱ ﺍﻻﺣﺘﺮﺍﻡ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺏ ﺃﺑﻨﺎﺋﻬﺎ». ﻭﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻣﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺍﻻﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﻀﻌﻒ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ؛ ﻓﻴﺴﺎﻋﺪ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻋﻠﻰ ﺇﺿﻌﺎﻑ ﺍﻟﺤﺲ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻟﻲ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻭﻋﻠﻰ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﻘﺒﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻀﻌﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﻟﻠﺴﻴﻄﺮﺓ ﺍﻷﺟﻨﺒﻴﺔ، ﻭﺣﺘﻰ ﺇﻥ ﺃﺗﻰ ﺍﻻﺳــﺘﺒﺪﺍﺩ ﺑﺄﻣﻮﺭ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻠﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ، ﻓﺈﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻓﻲ ﺧﻀﻮﻋﻬﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻋﺘﺎﺩﺗﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺴــﺘﺒﺪ ﺍﻟﻤﺼﻠﺢ ﻗﺪ ﺻﺎﺭﺕ باستبداده ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﻫﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻔﻆ ﻣﺎ ﻧﺎﻟﺘﻪ ﻣﻦ ﺻﻮﺍﻟﺢ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻳﻪ. ﺛﻢ ﻫﻮ ﻳﺆﻛﺪ ﺃﻥ ﺍﻻﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﻳﻘﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ، ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻷﻳﺔ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺇﻣﻜﺎﻥ ﺇﺧﻤﺎﺩ ﺍﻟﺘﺬﻣﺮ ﺍﻟﻌﺮﺿﻲ، ﻓﺈﻧﻪ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻬﻴﺎﺝ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﺗﺼﻌﺐ ﺍﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ.

ﻭﺃﻧﺎ ﺑﻮﺻﻔﻲ ﻣﺼﺮﻳًّﺎ ﺷــﺮﻗﻴًّﺎ ﻳﻌﻴﺶ ﺗﺎﺭﻳﺦ بلاده، ﻻ ﺃﺳﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺃﺗﻜﻠﻢ ﻋﻦ «ﻭﻭﺩﺭﻭ ﻭﻟﺴﻦ» ﺍﻟﺬﻱ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺑﻴﻦ ﻋﺎﻣﻲ (٣١٩١ ﻡ ﻭ١٢٩١ﻡ)، ﻭﻻ ﺃﻥ ﺃﺗﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻋﺸــﺮﺓ ﺍﻟﺘــﻲ ﺃﻋﻠﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺧﻮﺍﺗﻴــﻢ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ. ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺑﺪﺃﺕ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ ٤١٩١ﻡ ﺑﻴﻦ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻓﺮﻧﺴﺎ ﻭﺣﻠﻔﺎﺋﻬﺎ ﺿﺪ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ ﻭﺇﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻨﻤﺴﺎ ﻭﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺍﻧﺘﻬﺖ ﺑﺎﻧﺘﺼﺎﺭ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻲ ﻓﺮﻧﺴﻲ ﺇﻳﻄﺎﻟﻲ ﻋﻠﻰ ﺧﺼﻮﻣﻬﻢ ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺎﺕ ﺳﻨﺔ ٨١٩١ﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺭﺋﺎﺳﺔ «ﻭﻭﺩﺭﻭ ﻭﻟﺴــﻦ» ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ، ﻭﻗﺪ ﻇﻞ ﻣــﻊ ﺩﻭﻟﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴــﺎﺩ ﺣﺘﻰ ﺃﺩﺭﻙ ﺃﻥ ﻣﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺗﻨﺒﺊ ﺑﻤﻦ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺮ ﻓﺪﺧﻞ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻣــﻊ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﺣﻠﻔﺎﺋﻬﺎ ﻓﻲ ٦ ﺇﺑﺮﻳﻞ 1917م، ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺷــﺮﻳﻜًﺎ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪﻫﺎ، ﻭﻫﻮ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺗﺒﻌﺘﻪ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﻋﻘﺪﻳﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ.

ﺳﺘﻘﺒﻠﻨﺎ ﻣﺒﺎﺩﺉ «ﻭﻟﺴﻦ» ﻣﻊ ﻧﻬﺎﻳﺎﺕ ﺍﻟﺤﺮﺏ -العالمية- ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺑﺘﺮﺣﻴﺐ ﻭﺣﻤﺎﺱ ﻭﺗﻔﺎﺅﻝ ﻣﺸﺮﻕ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻀﻤﻨﺖ ﻣﺒﺪﺃ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﻟﻠﺸﻌﻮﺏ ﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺮﺓ ﻭﺃﻛﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﺣﺪﺍﺛﺔ ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻟﺪﻭﻝ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺳــﻮﺍﺑﻖ ﺍﺳــﺘﻌﻤﺎﺭ ﻓﻲ ﺑﻼﺩﻧﺎ.

ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺃﻋﻠﻦ «ﻭﻟﺴــﻦ» ﻣﺒﺎﺩﺋﻪ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻋﺸــﺮﺓ ﻓﻲ ٨ ﻳﻨﺎﻳﺮ ﺳﻨﺔ 1918م، ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺑﺸــﻬﻮﺭ ﻋﺪﺓ، ﻭﺩﻋﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺇﻧﺸــﺎﺀ ﻋﺼﺒﺔ ﺍﻷﻣﻢ؛ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻫﻴﺌﺔ ﺩﻭﻟﻴﺔ ﺗﺤﻞ ﺍﻟﻤﺸــﺎﻛﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﺑﺎﻷﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺴﻠﻤﻲ، ﻭﺩﻋﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ. ﻧﺤﻦ ﺷــﻌﻮﺏ ﺍﻟﺸــﺮﻕ ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻮﺭﺱ ﺍﻻﺣﺘﻼﻝ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ ﻭﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﺃﺭﺍﺿﻴﻬﺎ، ﻭﺻﺎﺭﺕ ﻟﻪ ﻣﺴــﺄﻟﺔ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻛﺒﺮﻯ ﻓﻲ ﻋﺼــﺮﻩ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺿﺪ ﺍﻻﺣﺘﻼﻝ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ لبلاده ﻭﺷﻌﻮﺑﻪ، ﻭﻋﺮﻑ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﺘﻀﺤﻴﺎﺕ ﻓﻲ ﺻﺮﺍﻋﻪ ﺿﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﻟﻠﺘﺤﺮﺭ ﻣﻨﻬﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻫﻢ ﺩﻭﻝ ﺍﻻﺳــﺘﻌﻤﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﻧﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﻫﻲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻓﺮﻧﺴﺎ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ، ﻭﻫﻢ ﻣﻦ ﺳــﻴﻨﺘﺼﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﺏ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﺃﻳﺔ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﺭ ﺃﻭ ﺍﺣﺘﻼﻝ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺍﻟﻮﺍﻓﺪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ، ﻧﺤﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺍﺳﺘﻘﺒﻠﻨﺎ ﻣﺒﺎﺩﺉ «ﻭﻟﺴﻦ» ﻣﻊ ﻧﻬﺎﻳﺎﺕ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺑﺘﺮﺣﻴﺐ ﻭﺣﻤﺎﺱ ﻭﺗﻔﺎﺅﻝ ﻣﺸﺮﻕ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻀﻤﻨﺖ ﻣﺒﺪﺃ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﻟﻠﺸﻌﻮﺏ ﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺮﺓ ـﺃﻭ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﻬﻤﺖ ﻧﺼﻮﺹ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ وقتها- ﻭﺃﻛﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﺣﺪﺍﺛﺔ ﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻟﺪﻭﻝ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﺳــﻮﺍﺑﻖ ﺍﺳــﺘﻌﻤﺎﺭ ﻓﻲ ﺑﻼﺩﻧﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﺘﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺗﺘﺒﻊ ﻣﺒﺪﺃ «ﻣﻮﻧﺮﻭ» ﺑﺎﻗﺘﺼﺎﺭ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﺸﻤﺎﻟﻪ ﻭﺟﻨﻮﺑﻪ، ﻭﺃﻧﻬﺎ ﺟﺎﺀﺕ ﺩﻋﻮﺓ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﺪﻋﻮﺓ ﻟﻌﻘﺪ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﺴﻼﻡ.

ﻧﺤﻦ ﻓﻲ ﻣﺼــﺮ ﻋﺮﻓﻨﺎ ﻭﻗﺘﻬــﺎ ﺛــﻮﺭﺓ 1919م ﺿﺪ ﺍﻻﺳــﺘﻌﻤﺎﺭ ﻭﺍﻻﺣﺘﻼﻝ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ، ﻭﻫﻲ ﺛﻮﺭﺓ ﺑﺪﺃﺕ مع ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺑﺤﺎﺩﺙ ﺫﻫﺎﺏ ﺳـﻌﺪ ﺯﻏﻠﻮﻝ ﻭﺻﺎﺣﺒﻴﻦ ﻟﻪ ﻟﻠﻤﻌﺘﻤــﺪ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ ـﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﻜﻢ ﻣﺼــﺮ ﺑﻌﺪ ﺇﻋﻼﻥ ﻓﺮﺽ ﺍﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳــﻨﺔ 1919م ـ ﻭﻃﻠﺒﻮﺍ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺡ ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ ﻟﻌﺮﺽ ﻗﻀﻴﺔ ﻣﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﻟﻠﺴﻼﻡ ﻭﻟﻤﻤﺎﺭﺳــﺔ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺮ، ﻓﻜﺎﻥ ﺭﻓﻀﻪ ﻟﻄﻠﺒﻬﻢ ﻭﺍﻹﺻﺮﺍﺭ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﻤﺼﺮﻱ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺃﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﻲ ﺳــﻌﺪ ﺯﻏﻠﻮﻝ ﻭﺻﺤﺒﻪ ﻭﺍﺷﺘﻌﺎﻝ ﺃﺣﺪﺍﺙ ﺛﻮﺭﺓ 1919م.

(14)

ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺒﺎﺩﺉ "ﻭﻟﺴﻦ" ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﺨﺘﺼﺮﺓ ﻣﺎ ﻳﻠﻲ:

  1. ﺗﻘﻮﻡ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺍﺛﻴﻖ ﺳــﻼﻡ ﻋﺎﻣﺔ، ﻭﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﻌﺎﻫﺪﺍﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻋﻠﻨﻴﺔ ﻭﻏﻴﺮ ﺳﺮﻳﺔ.

  2. ﺗﺄﻣﻴــﻦ ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻼﺣﺔ ﻓــﻲ ﺍﻟﺒﺤﺎﺭ ﺧــﺎﺭﺝ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴــﻠﻢ ﻭﺍﻟﺤﺮﺏ، ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﻨﺺ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻻﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ ﺧﻼﻓًﺎ ﻟﺬﻟﻚ.

  3.  ﺇﻟﻐﺎﺀ ﺍﻟﺤﻮﺍﺟﺰ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺑﻘﺪﺭ ﺍﻹﻣﻜﺎﻥ، ﻭﺇﻳﺠﺎﺩ ﻣﺴــﺎﻭﺍﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﻭﻧﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻼﻡ.

  4. ﺗﺨﻔﻴﺾ ﺍﻟﺘﺴﻠﺢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﻔﻞ ﺍﻷﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻲ.

  5. ﻭﺿﻊ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﻋﺎﺩﻟﺔ ﻟﻠﻤﺴﺘﻌﻤﺮﺍﺕ ﺗﻨﻔﺬ ﻣﺎ ﻳﺤﻘﻖ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ. 

  6. ﺍﻟﺠﻼﺀ ﻋﻦ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﺍﻟﺮﻭﺳــﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﻣﻊ ﺃﻱ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺭﻭﺳﻴﺔ ﻳﺨﺘﺎﺭﻫﺎ ﺍﻟﺸﻌﺐ.

  7. ﺍﻟﺠﻼﺀ ﻋﻦ ﺃﺭﺍﺿﻲ ﺑﻠﺠﻴﻜﺎ ﻭﺗﻌﻤﻴﺮﻫﺎ.

  8. ﺍﻟﺠﻼﺀ ﻋﻦ ﻓﺮﻧﺴــﺎ ﻭﺭﺩ ﺍﻷﻟﺰﺍﺱ ﻭﺍﻟﻠﻮﺭﻳﻦ ﻭﺗﻌﻤﻴــﺮ ﻣﺎ خُرِّب منها ﺑﺴﺒﺐ ﺍﻟﺤﺮﺏ.

  9. ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺣﺪﻭﺩ ﺇﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻀـﻢ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺠﻨﺲ ﺍﻹﻳﻄﺎﻟﻲ.

  10. ﻣﻨﺢ ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﻺﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻨﻤﺴﻮﻳﺔ ﺣــﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﻣﺼﻴﺮﻫﺎ. 

  11. ﺍﻟﺠﻼﺀ ﻋﻦ ﺻﺮﺑﻴﺎ ﻭﺭﻭﻣﺎﻧﻴﺎ ﻭﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻷﺳﻮﺩ ﻭﺇﻋﻄﺎﺀ ﺻﺮﺑﻴﺎ ﻣﻨﻔﺬﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻭﺇﻗﺎﻣﺔ ﻋﻼﻗــﺎﺕ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺑﻴﻦ ﺩﻭﻝ ﺍﻟﺒﻠﻘﺎﻥ ﻛﺎﻓﺔ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﺳــﺲ ﻗﻮﻣﻴﺔ ﻭﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻭﺿﻤﺎﻥ ﺣﺮﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ. 

  12. ﺿﻤﺎﻥ ﺳــﻴﺎﺩﺓ ﺍﻷﺟﺰﺍﺀ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ، ﻭﺇﻋﻄﺎﺀ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻬﺎ ﺣﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ.

  13. ﺑﻌﺚ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺒﻮﻟﻨﺪﻳﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻀﻢ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮ ﺍﻟﺒﻮﻟﻨﺪﻱ، ﻭﺇﻋﻄﺎﺅﻫﺎ ﻣﻨﻔﺬًﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺿﻤﺎﻥ ﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺩﻭﻟﻴًّﺎ.

  14. ﺇﻧﺸﺎﺀ ﻋﺼﺒﺔ ﺍﻷﻣﻢ.

ﻭﻓﻲ ﻇﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﺭﻏﻢ ﺍﻻﺣﺘﻔــﺎﻝ ﺍﻟﻬﺎﺋﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﻮﺑﻠﺖ ﺑﻪ ﻫــﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺍﻟﻤﺴــﺘﻌﻤﺮﺓ ﺍﻟﻤﻐﻠﻮﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻫﺎ، ﻭﺭﻏﻢ ﻣﺎ ﺃﺷﺎﻋﺘﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻣﻦ ﺷﻌﻮﺭ ﺑﺎﻟﺘﻔﻬﻢ ﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ، ﻭﺭﻏﻢ ﻣﺴﺎﻫﻤﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﻓﻲ ﺗﻨﺸﻴﻂ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺷــﺒﺖ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍﻟﺤﺮﺏ، ﻭﻣﺎ ﺃﺷﺎﻋﺘﻪ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺛﻤﺔ ﺇﺭﻫﺎﺻًﺎ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﻋﺎﻟﻢ ﻟﻠﻐﺪ ﻳﻨﻄﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ﻭﺇﺷﺎﻋﺔ ﺭﻭﺡ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﺣﻖ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﻓﻲ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﻣﺼﻴﺮﻫـﺎ ـ ﺃﻗﻮﻝ ﺭﻏﻢ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ: ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻳﻨﺒﺊ ﻋﻦ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﻭﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺔ ﻣﺆﺩﺍﻫﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺟﻤﻴﻌًﺎ.

ﺇﻥ ﻗﺮﺍﺀﺓ ﻧﺼﻮﺹ ﻫــﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﻳﻌﻨﻲ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺻﺮﻳﺤﺔ ﻭﻭﺍﺿﺤﺔ ﻭﺣﺎﺳــﻤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺒﻼﺩ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ، ﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﻭﺍﻟﺘﺤﺮﺭ ﻭﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ ﻭﺍﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﻋﻦ ﺳﻮﺀﺍﺕ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﻋﻦ ﺍﺳﺘﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺴــﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ، ﻧﻠﺤﻆ ﺫﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺮﻭﺳﻴﺎ ﺑﻌﺪ ﺛﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﺸﻴﻮﻋﻴﺔ، ﻭﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﻠﺠﻴﻜﺎ ﻭﺗﻌﻤﻴﺮﻫﺎ، ﻭﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻔﺮﻧﺴﺎ ﻭﺍﺳﺘﺮﺩﺍﺩﻫﺎ ﺇﻗﻠﻴﻤﻲ ﺍﻷﻟﺰﺍﺱ ﻭﺍﻟﻠﻮﺭﻳﻦ ﻭﺗﻌﻤﻴﺮﻫﺎ، ﻭﺑﺎﻟﻨﺴــﺒﺔ ﻻﺳــﺘﻜﻤﺎﻝ ﺇﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻟﺴﻴﺎﺩﺗﻬﺎ ﺍﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻻ ﻳﺰﺍﻝ ﺗﺎﺑﻌًﺎ ﻹﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻨﻤﺴــﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﺰﻣﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ وصفيت ﺃﻣﻼﻛﻬﺎ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻭﺟﻮﺏ ﺍﻟﺠﻼﺀ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺻﺮﺑﻴﺎ ﻭﺭﻭﻣﺎﻧﻴﺎ ﻭﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻷﺳــﻮﺩ ﻣﻊ ﺿﻤﺎﻥ ﺣﺮﻳﺎﺗﻬﺎ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﻭﺟﻮﺏ ﺍﻟﺠﻼﺀ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﻮﻟﻨﺪﺍ، ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻷﻭﻃﺎﻥ ﺫﻛﺮ ﺑﺎﻻﺳﻢ، ﻭﻗﺪﻡ ﻟﻪ ﻣﺎ ﻳﻨﻔﻊ لتحرره ﻭﻣﺎ ﻳﺤﻘﻖ ﻣﺼﻠﺤﺘﻪ ﺑﺎﻟﺪﻗﺔ ﻭﺑﻘﺪﺭ ﺍﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ.

ﻭﻟﻜﻦ ﻧﻠﺤﻆ ﺃﻳﻀـًـﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺒﺪﺃ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺴــﺘﻌﻤﺮﺍﺕ، ﻭﻳﻘﺼﺪ ﺍﻟﻤﺴــﺘﻌﻤﺮﺍﺕ ﻏﻴﺮ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ؛ ﻷﻥ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﺗﺤﺪﺙ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻠﺪًﺍ ﺑﻠﺪًﺍ ﺣﺴﺐ ﻣﺎ ﻫﻮ  ﻣﻄﻠﻮﺏ ﻟﺼﺎﻟﺤﻪ، ﺃﻣﺎ ﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ «ﺍﻟﻤﺴــﺘﻌﻤﺮﺍﺕ» ﻓﻘﺪ ﻃﺎﻟﺐ ﻟﻪ «ﻭﺿﻊ ﺳﻴﺎﺳﺔ ﻋﺎﺩﻟﺔ» ﻭ«ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﺳﻜﺎﻧﻬﺎ»، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭﻱ ﻻ ﺃﻥ ﻳﻨﺰﺍﺡ ﻭﻟﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻃﻴﺒًﺎ. ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴــﺒﺔ ﻟﻠﺒﻼﺩ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﺴــﻠﺨﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﺣﺪﺩ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﻣﻨﻬﺎ (ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺒﻠﻘﺎﻥ) ﺑﺎﻻﺳﻢ ﻟﻜﻞ ﺑﻠﺪ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺠﺎﻧﺐ ﻏﻴﺮ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﻓﻲ ﺁﺳــﻴﺎ ﺍﻛﺘﻔﻰ ﺑﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﺫﺍﺕ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﻋﺎﻣــﺔ ﻋﻦ ﺗﺄﻣﻴﻦ ﺍﻟﺤﻤﺎﻳﺔ  ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻟﻠﺘﻄﻮﺭ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻭﻫﻲ ﻋﺒﺎﺭﺍﺕ ﺗﺴﻤﺢ  ﺑﺒﻘﺎﺀ ﺳــﻠﻄﺔ ﺍﻻﺳــﺘﻌﻤﺎﺭ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ ﻣﻤﺎ ﺣﺪﺙ ﻓﻌﻼً. ﻭﻻ ﻧﺠﺪ ﺃﻳﺔ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻻﻗﺘﺴﺎﻡ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻓﺮﻧﺴﺎ ﻷﺭﺽ ﺍﻟﺸــﺎﻡ ﻭﺍﻟﻌﺮﺍﻕ ﻭﺍﺗﻔﺎﻗﻴﺔ ﺳﺎﻳﻜﺲ ﺑﻴﻜﻮ ﺍﻟﺘﻲ ﺃُﻋﺪﺕ ﻓﻲ 1916م ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻠﻨﺔ ﻭﻗﺘﻬﺎ ﻭﻣﻌﺮﻭﻓﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﻭﻓﺎﻕ ﻣﻊ ﻭﻋﺪ ﺑﻠﻔﻮﺭ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻣﻦ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ 1917م.

(15)

ﻧﺤﻦ ﻧﻠﺤﻆ ﻓﻲ ﻫــﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻴــﻦ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻜﻠــﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﺣﺮﻳﺔ ﺷﻌﺒﻬﺎ، ﻭﺍﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺔ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺍﻟﺒﻌﺾ، ﻭﻣﺪﻯ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﻧﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺷــﺆﻭﻥ ﻛﻞ ﻭﻻﻳﺔ، ﻭﺃﻥ ﺍﻷﺻﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﻫﻲ ﺳــﻠﻄﺎﺕ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺮﻋﺎﻩ ﺍ ﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﺗﺤﺎﺩﻳﺔ. ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺸــﻴﺮ ﺇﻟــﻰ ﺍﻟﻔﻠﺒﻴﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ، ﻻ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﺍﺳــﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﻭﻟﻜﻦ ﻳُﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ «ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﻓﻲ ﻣﻌﻨﻰ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺬﺍﺗﻲ ﻟﻨﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻧﺎ ﻟﻠﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﺗﺘﺒﻌﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺍﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻠﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ، ﻓﻨﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﻤﻨﺢ ﺍﻟﻔﻠﺒﻴﻦ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﺩﺳﺘﻮﺭﻳﺔ...ﻭﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﺆﺳﺲ ﻟﻬﻢ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ؛ ﺇﺫ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﻟﺪﺭﺟﺔ ﺯﻣﻨﻬﻢ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭﻱ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﻟﻮﻫﺎ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ ﺍﻵﻥ».

ﻭﻫﻮ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺓ ﻳﺴﺘﺒﻘﻲ ﺳــﻴﺎﺩﺓ بلاده ﻋﻠﻰ ﺑﻼﺩ ﺃﺧﺮﻯ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺰﺀًﺍ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻻ ﻣﻦ ﻗﺎﺭﺗﻬﺎ ﻭﻻ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﺸﻤﺎﻟﻪ ﻭﺟﻨﻮﺑﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺑﺬﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺮﺓ ﺍﻻﺳﺘﻌﻤﺎﺭﻳﺔ ﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺮﻱ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﻭﺍﻟﻐﺮﺏ ﻭﻗﺘﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻼﺩ ﻭﺷﻌﻮﺏ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺪﻳﺮﺓ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻧﻬﺎ ﺑﺄﻥ ﺗﺴﺘﻘﻞ ﺃﻭ ﻳﻌﺘﺮﻑ ﻟﻬﺎ ﺑﺤﻖ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺼﻴﺮ، ﻭﻳﻘﺘﺮﺡ ﺃﺳــﻠﻮﺑًﺎ ﻟﻠﺴــﻴﺎﺩﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ يبرره ﺃﺧﻼﻗﻴًّﺎ ﺑﺄﻧــﻪ ﺃﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﻣًﺎ ﻣــﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺃﻧﻬﺎ ﻣﺘﺨﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ، ﻭﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺄﺱ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﻗﺪﺭ ﻣﻦ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻳﺴــﺘﻔﻴﺪ ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ ﻣﻦ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﺮﻥ ﻓﻲ بلاده ﺑﺄﻥ ﻳﻘﺘﺮﺡ ﺃﺳــﻠﻮﺑًﺎ ﻣﺮﻧًﺎ ﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺸــﻌﻮﺏ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻏﻴﺮ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﻣﻊ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮﺍﺗﻬﺎ؛ ﻷﻥ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻮﻉ ﺧﺒﺮﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻭﻧﺎﻓﻌﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺪﺩ ﻭﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻡ.

ﻭﻗﺪ ﺣﻀﺮﺕ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻣﺆﺗﻤﺮ ﺑﺎﺭﻳﺲ ﻟﻠﺴــﻼﻡ ﻓﻲ ﺳــﻨﺔ 1919م، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ ﻓﻴﻪ ﻣﻊ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻓﺮﻧﺴــﺎ ﻭﺇﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻭﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ، ﺛﻢ ﻣﺎ ﻟﺒﺜﺖ ﺃﻥ ﺍﺑﺘﻌﺪﺕ ﻣﻨﻔﺮﺩﺓ ﺑﻤﻮﻗﻔﻬﺎ، ﻭﻟﻢ ﻳﺴــﻔﺮ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻷﻱ ﻣﻦ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺍﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ﺍﻟﻤﺤﺘﻠﺔ ﺃﺭﺍﺿﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺩﻭﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ، ﻭﺍﻗﺘﺼﺮ ﺩﻭﺭﻩ ﻋﻠﻰ ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺃﺳﻼﺏ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﻤﻬﺰﻭﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﺏ، ﻭﺍﺑﺘﺪﻉ ﻧﻈﺎﻡ «ﺍﻻﻧﺘﺪﺍﺏ» ﻟﺘﺮﺙ ﺑﻪ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻭﻓﺮﻧﺴــﺎ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﺍﻟﺘــﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺎﺑﻌﺔ ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﻭﺑﺪﺃﺕ ﺗﻈﻬﺮ ﺳﻴﺎﺳــﺎﺕ ﺍﻟﺘﻬﺠﻴــﺮ ﺍﻟﻴﻬﻮﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻓﻠﺴــﻄﻴﻦ؛ ﺇﻧﺸــﺎﺀ ﻟﻠﻮﻃﻦ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ ﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎﺏ ﺷﻌﺐ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ﺣﺴــﺐ ﻭﻋﺪ ﺑﻠﻔﻮﺭ، ﻭﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ ﺍﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺆﺭﺧﻴﻦ ﻳﺸــﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻮﻋــﺪ ﻭﺩﻋﻤﻬﺎ ﻟﻪ ﻣﻨﺬ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﻤﺒﻜﺮ.

ﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗﺤﻘﻖ ﻣﺒﺎﺩﺉ «ﻭﻟﺴــﻦ» ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ ﺃﻳﺔ ﻣﻜﺎﺳﺐ ﺃﻭ ﺃﻱ ﺍﻗﺘﺮﺍﺏ ﻣﻦ ﺍﻷﻫﺪﺍﻑ ﻷﻱ ﻣﻦ ﺍﻟشـﻌﻮﺏ ﺍﻟﺸﺮﻗﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺮﺓ، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﻫﺬﻩ  ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺇﻻ ﺑﺄﻭﺭﻭﺑﺎ ﻭﺍﻟﻐﺮﺏ ﻓﻘﻂ، ﺑﺤﺴــﺒﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻭﺭﺋﻴﺴــﻬﺎ  ﺍﻟﻤﻤﺜﻞ ﻟﻬﻢ ﻫﻢ ﻋﻨﺼﺮ ﻭﺛﻴﻖ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﺻﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ، ﺳﻮﺍﺀ ﺍﻧﺘﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺣﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻐﺮﺏ ﻭﺣﺪﻫﺎ، ﺃﻭ ﺇﻟﻰ ﺍﻹﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﺍﻷﻣﻢ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺤﻖ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺳﻴﺪﺓ ﻣﺼﻴﺮﻫﺎ ﻭﺃﻥ ﺗﺤﻜﻢ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ.

ﺇﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻔﻴﺪ ﻭﻧﺎﻓﻊ ﺟﺪﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻔﻬﻢ ﻭﺍﻹﺭﺷﺎﺩ ﻷﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ، ﻭﻟﺘﺒﻴﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪﺓ ﺍﻟﻮﺛﻴﻘﺔ ﺑﻴﻦ ﻣﺎ ﻳﻜﺸــﻒ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻧﻔﻊ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ ﻓﻲ ﺭﺳﻢ ﺃﺳﺲ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻭﻟﺸــﻌﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺤﻜﻮﻡ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳــﻴﺔ ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻄﻐﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﺍﻟﻨﺎﻓﻊ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻣﻤﺎ ﺫﻛﺮﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺷﻴﺔ.