من التعليل الأخلاقي إلى التعليل الفقهي قراءة في تحولات التفكير الفقهي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فإنَّ التفكير الفقهي يشكل أهمية قصوى في الكشف عن الجواب الأمثل لسؤال الواقع، ومن هذا جاء هذا البحث يجسد ذلك المعنى، فسؤال الواقع وجواب الفقيه يرسمان ويكشفان طبيعة التفكير الفقهي وطبيعة السؤال المجتمعي، ويكشفان علاقة التأثر والتأثير بينهما؛ لأن الفقه في مجتمعاتنا يبقى حجر الزاوية في الإجابة عن أسئلة الواقع ومعضلاته، وهذه الأهمية للفقه تقضي ضبطه وترشيده وتسليط الضوء على أهميته وخطورة أجوبته، وملاحظة تغيراته وتحولاته، ومداخل التأثير فيه.
كما أن سؤال الأخلاق يبيقى واردًا في السياق الفقهي؛ لكونه ينتمي إلى شريعة أبعادها الغائية أخلاقية، ورؤيته أخلاقية، وترسم القيم الكلية والمقاصد العلية التي تؤكد على تلك الأبعاد. وعندما يضعف ذلك الاعتبار الأخلاقي، فإنه لمن الواجب أن نفتش عن الخلل الذي سرى إلى طبيعة التفكير الفقهي.
فإنَّ النقاشاتِ الأوليةَ التي دارتْ بين المدارسِ الفكريةِ والعقديةِ على وجهِ الخصوص قد أفضت إلى تشكيلِ التفكيرِ الإسلامي ومدياته، وأصبحتْ هي الفاعل الأساسي في توجيهِ النظرِ المنهجي تجاه إعمالِ النصوص.
مشكلة البحث
وقد أبرزَ التدوينُ للفكرِ الإسلامي ذلك المنطقَ في التعاملِ مع النصِ الشرعي. وقد أحدث ذلك المنطق في بعض مناطقه تحولًا في الخطاب الفقهي، ومن البوادرِ المتقدمةِ التي مُمكن أن تُجلي لنا الأسسَ التي بُني عليها التفكيرُ الإسلامي، وكان لها الأثرُ الكبيرُ في تشكيلِ العقليةِ الإسلاميةِ، هي المقولاتُ المنهجية البِكر، عبر درسي الكلام وأصول الفقه، والتي ما زالت تلك المعطياتُ والأُسُسُ المنبثقةُ نافذةً في التفكيرِ، وتُؤدي دورَها بوساعةٍ إلى اليوم.
أهمية البحث
وتتجلى أهمية البحث في فتح الباب لمناقشة الجذور المؤسسة للتفكير المنهجي الفقهي وتحولاته؛ فإن الرؤى المنهجية والقواعد الكلية لم يكن نتاجها بعيدًا عن قبليات أسَّست لتلك المناهج، وخاصة المنهج الأصولي؛ حيث عمل الدرس الكلامي بشكل كثيف عبر بسط مقولاته على سير حركة المنهج الأصولي؛ فقيدت حركته أحيانًا، ونظمت تصوراته أحيانًا أخرى، وأسست رؤية منهجه من حيثية أخرى.
تمهيد
بين يدي العنوان
أولًا: من التعليل الأخلاقي إلى التعليل الفقهي
القصد من التعليل هنا هو البحث عن علة النص ومقصده وأوصافه التي يتعلق بها الحكم الشرعي، كما هو منهج التفكير الفقهي في إحالة النوازل غير النصية إلى النصوص المعللة، عبر عملية نوط الأحكام بعللها المنبثقة عنها.
وقد يجد القارئ ابتداءً أن هناك تعاندًا بين التعليل الأخلاقي والتعليل الفقهي، أو أن التعليلي الفقهي ليس تعليلًا أخلاقيًّا، وفي الحقيقة ليس المراد هذا، بل أن التعليل الأخلاقي يعني التعليل بالكليات الأخلاقية ونوط الأحكام بها؛ لأنها تمثل البُعْد الغائي للتشريع، كما هو ظاهر في النصوص القرآنية والنبوية. أي إنها كليات الشريعة ومقاصدها وحِكمها المتسلطة على أحكامها. وهنا التعليل بها تعليل بالإطار العام للشريعة ومقاصدها.
وأما التعليل الفقهي، فهو التعليل الجزئي بالوصف الظاهر المنضبط كما هو تعبير الأصوليين[1]، أي إن التعليل الفقهي هو صورة من صور التعليل الأخلاقي، وبمعنى آخر هو صورة جزئية من صورة كلية. وقد نشأ التعليل الفقهي مع بداية التدوين الأصولي، الذي رسم منهجية التفكير الفقهي وكيفية توليد الأحكام الفقهية في النوازل المستجدة.
وأُضيفت مصطلحات جديدة جرى تطويرها كالعلة مثلًا، مع المبالغة والتعسُّف في ضوابطها، مما جعلها أقرب إلى القاعدة البعيدة عن التفعيل. ورُسم لذلك أداة مهمة وهي القياس، عبر ركن التوليد في هذه الأداة وهي العلة.
ولأن الفقهاءَ الأوائل يتحركون ضمن مساحة أكثر مرونةً تخرج عن الأصول المدونة إلى الأصول المؤسسة الكلية عبر رسم معالم الشريعة ومقاصدها، في حين لا يخلو التطبيق الفقهي للمتأخرين من مجازفات استدعاء القواعد الصماء في بعض الأحيان التي يسودها التعصب والتجريد النظري، ويبقى الواقع هو الكاشف لساحة الاختبار والعمل للأصل الكلي.
إلا أن حدَّ العلة ضيق الاعتبار الكلي، أي بدأ التفكير الفقهي يبحث في العلل الجزئية وتعليق الأحكام بها، مما أضعف بمرور الزمن اعتبار العلل الكلية الأخلاقية المقاصدية؛ لأن القياس الأصولي المعروف في المدونات الأصولية -وركنه الركين العلة- لم يكن معهودًا بهذا المعنى الضيق؛ فالقياس والاجتهاد نجدهما بمعنى واحد عند الإمام الشافعي، وصرح هو بذلك في أول مدون أصولي، واللجوء إليه اضطرارًا وذلك عند غياب النص. وعند كلامه عن القياس لم يذكر العلة في جميع الكتاب، وإنما يذكر "المعنى"، وهو تعبير يُشعر بمعنى أوسع من العلة، مما يشعر أن معنى العلة أوسع كلما اقتربنا من زمن نزول النص، وكلما ابتعدنا ضاق.
وفي هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي تقيس عليها وكيف تقيس؟ قيل له إن شاء الله: كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حكم به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نص حُكِمَ فيها حكم النازلة المحكوم فيها إذا كانت في معناها، والقياس وجوه يجمعها القياس ويتفرق". وبهذا النص يستخدم الإمام الشافعي القياس الكلي، ونجده يشير إلى القياس الأصولي، والقياس بمعنى القاعدة العامة الثابتة بالاستقراء التي يدخل فيها ما هو في معناها، وهذا معنى قوله: "إذا كانت في معناها"[2].
وهذا يعني أن التطبيق الفقهي البكر لأصل القياس لم يكن مجردًا للقياس الجزئي الذي أُلحق باعتبار العلة الجزئية كما هو ظاهر في التفكير الفقهي الذي تشكل فيما بعد، وإنَّما يستنجدُ بالقواعد الكلية والنصوص التأسيسية التي تشكل مقاصد الشريعة. ولأن الفقهاءَ الأوائل يتحركون ضمن مساحة أكثر مرونةً تخرج عن الأصول المدونة إلى الأصول المؤسسة الكلية عبر رسم معالم الشريعة ومقاصدها، في حين لا يخلو التطبيق الفقهي للمتأخرين من مجازفات استدعاء القواعد الصماء في بعض الأحيان التي يسودها التعصب والتجريد النظري، ويبقى الواقع هو الكاشف لساحة الاختبار والعمل للأصل الكلي.
فالقول باعتبار النظر المقاصدي في القياس الأصولي، وإعادة صياغته وفق ذلك لم يكن بدعًا من القول أو ضربًا من الخيال، بل التطبيق الفقهي يقضي بذلك والعمل به، ولأنه لا بدَّ أن يسير المقصد الجزئي للنصوص في نسق المقاصد العامة، وهو ضابط مهم جدًّا.
ثانيًا: الإمام الشافعي والاستدلال الكلي
في هذا المقام يهمنا أن نقف على منهج الإمام الشافعي في الاستدلال، وهو أول مَن صنف في أصول الفقه؛ لنعلم كيف كان التفكير المنهجي، وكيف آلَ إلى مناحٍ أخرى:
نقل إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) عن الإمام الشافعي (ت204هـ)، فقال: "ذكر الشافعي في الرسالة ترتيبا حسنًا، فقال: إذا وقعت واقعة فأحوج المجتهد إلى طلب الحكم فيها، فينظر أولًا في نصوص الكتاب، فإن وجد مسلكًا دالًّا على الحكم فهو المراد، وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة، فإن وجده وإلا انحطَّ إلى نصوص أخبار الآحاد، فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا لم يعمل بموجبه حتى يبحث عن المخصصات، فإن لاح له مخصص ترك العمل بفحوى الظاهر، وإن لم يتبين مخصص طرد العمل بمقتضاه، ثم إن لم يجد في الكتاب ظاهرًا نزل عنه إلى ظواهر الأخبار المتواترة مع انتفاء المختص، ثم إلى أخبار الآحاد، فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة"[3]. وبهذا نجد أن الإمام الشافعي قدم النظر في الكليات قبل اللجوء إلى أصل الإجماع والقياس الجزئي بجامع العلة. إذن، فإن هذا المنهج منهجٌ متبعٌ عند الأئمة؛ "لأنه إن امتنع استنباط معنى جزئي، فلا يمتنع تخيله كليًّا"[4]، أي: المعنى الكلي.
وبهذا "فإن المقاصد القرآنية العليا الحاكمة سوف تخرج الفقيه من دائرة النظر الجزئي إلى دائرة النظر الكلي والفقه الأكبر، وذلك يعطيها من المرونة والسعة ما يجعلها قادرة على استيعاب أية مستجدات، وتحقيق مصالح البشرية، وسد الذرائع بوجه المفاسد"[5]. وإن هذه الأطروحة وإن بدت للعيان جديدة، فإن كثيرًا من أئمة الصحابة -أمثال أبي بكر وعمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم- قد جرت على ألسنتهم وظهرت في فقههم[6].
المبحث الأول
تحولات التفكير الفقهي ومشكلاته المنهجية
المطلب الأول: تحولات التفكير الفقهي
والناظر في منهجية النظر والتفكير في توليد الأحكام الشرعية ورسمها يجد أن هناك تحولات طرأت على مستوى منهج التفكير الفقهي، في الانتقال من التعليل الأخلاقي وقصدية القيم الأخلاقية للحكم الشرعي إلى تضييق المعنى الأخلاقي لينحصر في جزئيات قد لا تعبّر بصورة واضحة عن القيم التأسيسية.
ولو أردنا تحديد الحدّ الفاصل بينهما، فمن الصعوبة بمكان؛ لأن مناطقهما متداخلة، إلا أنه نستطيع القول: ما قبل التدوين الأُصولي، وما بعد التدوين الأصولي. فالتفكير الفقهي قبل التدوين الأصولي واستقراره مساحته أوسع في التعامل مع النوازل الفقهية، مما هو عليه بعد التدوين للقواعد المجردة، كما هو ظاهر في فقه الصحابة رضي الله عنهم وكذلك الفقهاء المتقدمين.
وأما بعد استقرار القواعد المنهجية فنجد بداية تضييق مساحة التفكير الفقهي؛ لقلة استنجادها بالكليات وكثرة اعتماها على الجزئيات، والقياس المنهجي يعتمد هذه الطريقة التي تتبع العلل القريبة لتشكيل الأحكام.
والمنهج الأول: يمثل الكليات القرآنية والسنة النبوية ومقاصدهما بكونهما يمثلان الجانب التأسيسي والتطبيقي القيمي للنص الشرعي، وكذلك سلك الصحابة الكرام المسالك ذاتها؛ حيث التعليل الأخلاقي يستصحب مع الاجتهاد والإفتاء. والمنهج الثاني: هو المنهج الفقهي الذي بدأ بتقرير العلل الجزئية تنظيرًا وتطبيقًا، وهنا نلاحظ التحولات المنهجية في تقرير العلل وأثرها في إجراء الأحكام والاجتهاد وفق ذلك.
ويتساءل البحث عن سبب تلك التحولات وما مدى تأثيرها في التفكير المنهجي في قيام النظرية الأخلاقية، مع استحضار أن أئمة الفقه الكبار نقدوا ذلك في كتاباتهم، وأكدوا على غياب الأخلاق في التفكير الفقهي، كالإمام الغزالي والجويني وابن رشد والشاطبي. فملاحظة التحولات المنهجية وأثرها في إجراء الإحكام والاجتهاد وفق ذلك يُنبئ عن عمق المسار المتحول.
المطلب الثاني: المشكلات المنهجية
لم يكن ذلك التحول فكريًّا فقط، بل هناك محطات منهجية هي التي عملت وأسَّست بشكل وآخر على تلك التحولات:
وفي هذا جرى التركيز على عِلمين أساسيين: علم الكلام، وعلم أصول الفقه؛ وذلك لأهميتهما المنهجية التأسيسية، فكل المخرجات التي تظهر على السطح تبع لهما، والمشكلات التي نعيشها ونتصارع عليها هي نتاج مناهج النظر تلك؛ لكونهما المنهجين المؤسسين للتفكير والتوليد والنظر، فمشكلاتهما المنهجية التأسيسية تُعد هي الأهم في التركيز عليها ومعالجتها، فإذا سلمت الأدوات سلمت المخرجات.
أولًا: الدرس الكلامي
وعلم الكلام المحطة الأولى والأهم في تشكيل العقل المسلم وتفكيره وبناء اعتقاده، وفق عقيدة التوحيد، "ففي المراحل التي عدَّها الباحثون مرحلة التدوين الرسمي للعلوم النقلية أو الإسلامية، صار التوحيد واحدًا من مسائل علم الكلام الذي عرفوه بأنه علم يسعى إلى اثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُّبه، وجعلوا موضوعه إثبات العقائد الدينية، وأدرجوا فيه مسائل متعددة، فجعلوا كل حكم نظير لمعلوم يندرج تحت العقائد الدينية... وجعلوه أساس العلوم الشرعية ومآلها، وموضوعه أهم الأمور وأعلاها، وغايته أشرف الغايات وأجداها، وعدُّوا دلائله في اليقينيات التي يحكم بها صريح العقل ويؤيده النقل... والثغرة المعرفية فيه أنه علم قام منذ البداية على تلك الدلائل العقلية والآراء والمذاهب الفلسفية"[7]. "فبقي علم الكلام لا يتعدى حدود التعبير عن المذاهب المتنازعة والنحل المتصارعة، دون أن يحفظ لذاته أصولًا ثابتة يتفق عليها الجميع إلا ما ندر"[8].
فأخرجت كمًّا من المخرجات الفكرية على مستوى المساحة الشرعية، وهي خاضعة لاعتبارات متعددة متناقضة. حتى أخذ هذا العلم يسلك مسالك بعيدة عن مقاصده الإلهية، واتجاهات متعددة قد لا يكون لها الأثر الكبير في الرصيد العقدي، بل مناحٍ عقلية، ومسالك فلسفية، ولغة منطقية تجريدية.
ومن أهم آثاره المنهجية المقلقة وبما يخص بحثنا تحديدًا:
1- القراءة التجزيئية للنصوص
وهذه القراءة تتجه إلى قراءة النص الجزئي وبناء الرؤية بهذا الاتجاه العضيني، معرضةً عن النسق الكلي للنص، وما نراه اليوم من قراءات تجزيئية مغيبة للنظر الكلي المقاصدي تمثل امتدادًا لتلك المقولات، فإن هذه القراءات الناقصة للنصوص لها جذورها التاريخية، والتي كانت مثار نزاع قديمًا؛ "ويتجلى هذا الأمر في النظرة الجزئية القاصرة لنصوص الشريعة"[9]. ولو أخذنا بابًا من أبواب الشريعة وهو باب الوعد والوعيد نجد أنَّ "نصوص الوعد تبعث في قلوب الخائفين والمذنبين الرجاء والأمل في التوبة والوعد بالمغفرة والرحمة لكلِّ من أقبل على الله تائبًا من ذنبه. وفي المقابل نرى نصوص الوعيد تتوعد الكفار والمشركين وأهل الكبائر المُصِرِّينَ على ذنوبهم بأليم العذاب وشديد العقاب إذا لم يتوبوا ويؤمنوا، فإنْ تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات تاب الله عليهم"[10]. والنظرة المتكاملة في هذا الباب تقضي ألَّا يُقْرَأَ الوعد بعيدًا عن الوعيد، وهكذا غيره، فمهم جدًّا أن يُقرأ كل باب وكل موضوع بكله، ورد أجزائه بعضه إلى بعض. "لكن قصور الفهم يأتي من النظرة الجزئية إلى أحد الجانبين، وإهمال الجانب الآخر والإعراض عنه، ومحاولة التأويل المتعسف للنصوص الشرعية. كما وقع ذلك من الخوارج والمرجئة. فالخوارج غَلَّبُوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد، فحكموا بكفر مرتكب الكبيرة وتخليده في النار"[11]. وأما المرجئة فَغَلَّبُوا نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد للعصاة فزعموا أنَّه لا تضر مع الإيمان معصية[12]، وعطلوا بذلك جزءًا كبيرًا من نصوص الشرع[13]. "وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة، تبيَّن لك فساد القولين! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنَّك تستفيد من كلام كلِّ طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى"[14]. "والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو النظرة الجزئية القاصرة لنصوص الشرع، دون جمع النصوص بعضها إلى بعض حتى تكتمل النظرة ويصح الحكم عليها"[15].
2- ضعف الاعتبار للقضايا الكلية التأسيسية
لأنَّ الخطاب الكلامي نشأ في بيئة متجاوبة ومُلبّية لحالة الاستنفار والصراع بين الفرق في البحث عن كل ما يعين على مواجهة الخصم، لذا فهو يتجه إلى تفتيت القضايا الكلية وتذويبها؛ بحثًا عن الأدلة الجزئية والتفصيلات الفرعية، ليقطعها ويأخذ منها بشكل انتقائي ونفعي لرشق الخصوم ورجمهم. ولذلك فهو حينما يعالج بقدر حاجته لدحض مقولات الخصم، وتأييد مقولاته، ولا يؤسس لفهم متكامل لها، لكنه يصوغ تصوراته مدفوعًا بهاجس قطع كل طريق يمكن أن يؤدي إلى موافقة مقولات الخصم أو تدعيمها. وبذلك يُستدرج الجميع إلى مقاطعات وممانعات ومناقضات ومزايدات لا تنتهي، تأخذ كل فريق بعيدًا، وربما إلى نقيض ما أراده ابتداءً[16].
وبهذا فإن هذين الأثرين كان لهما ثأثير كبير في رسم معالم التفكير الفقهي المنهجي؛ فقد آل الأمر بالضرورة أن يكون الفقيه منتميًا إلى مدرسة كلامية.
ثانيًا: الدرس الأصولي
وهو الدرس المنهجي الآخر الذي يسيطر على منهجية التفكير، وكان له أثر واضح في تحولات التفكير الفقهي، منها:
- أولى هذه الإشكاليات التي عملت على تجاهل منظومة النصوص الكلية، والاتكاء على النصوص الجزئية، من خلال الجنوح إلى آيات الأحكام وتغييب الآيات الأخرى في المنظومة التشريعة، على اعتبار أن الأصول هي للفقه، والفقه مختص بالأحكام، وبالتالي هذا ما يحدد مجال الاختصاص، لكن الملاحظ في النص التشريعي أن سياقاته لا ينفصل بعضها عن بعض، أحدها يكمل الآخر، ويضيف معاني متعددة، ومسلك النظر المقاصدي كما هو عند الإمام الشاطبي انطلق من خلال قراءة الآيات قراءة متكاملة، وبشكل كلي لا جزئي، وتفعيل النظر الاستقرائي في تتبع الجزئيات، وتشكيل الكليات من خلال ذلك، وقراءة مقاصدها وما ترمي إليه من أحكام، وكذلك توظيف آيات الكون وآيات الإيمان والأخلاق والتشريع في قالب واحد، وبيان الكليات الأساسية للتشريع عبر مبحثي الكتاب لمصدريته في التشريع. وهذا النظر يقودنا إلى حفظ الثوابت الكلية للشريعة من الضياع بالمسائل الجزئية الأصولية، وإخراجها من دائرة الكليات. والذي أفرزه ذلك التحول المنهجي الأصولي الذي سعى إلى "تفسير الكتاب والسنة بصورتهما التجزيئية وغياب الأنساق الكلية" فقُرئت الأخلاق ضمن منظومة "آيات الأحكام"، فهُمِّشت البنيةُ الأخلاقيةُ بقراءتها قراءة مجتزئة.
- وكذلك "القياس بجامع العلة وتخلف المقصد"، حيث حُصِرَ القياس بالعلل القريبة الجزئية، وأُبعدت العلل البعيدة التي تسيرُ في الخطِّ الكلي للتشريع، الذي كان حاضرًا في التفكير الفقهي في بداية تشكله.
- وكذلك التوسُّع في "مقولة النسخ"، حيث جعلت الكليات الأخلاقية من قبيل الآيات المنسوخة. ومن الخطورة بمكان أن تمَّ مصادرة آيات الصفح والعفو والسلم وغيرها بآية واحدة، وذلك بأداة منهجية (النسخ). فقد أضعفت هذه الأسس المنهجية حضور النظر الأخلاقي، وحُجِبت المقاصدُ التشريعية عن المنظومة الأصولية؛ فغاب سؤال الأخلاق في الممارسة الاجتهادية الفقهية.
- وكذلك النظر المقاصدي بما أفاد، ففيه تأخر في تقديم الجانب الأخلاقي في البنية التشريعية؛ ومن ذلك تقسيم الكليات الأساسية إلى ثلاثة أسس (ضرورية، وحاجية، وتحسينية)، وحصر الجانب الأخلاقي في المرتبة الثالثة، في حين الأسس الأخلاقية في جميعها، كما أفاد ذلك الدكتور طه عبد الرحمن[17]. وهذا التصنيف جعل المنظومة الأخلاقية في السياقات المتأخرة من غير التأكيد عليها.
المبحث الثاني
التعليل الأخلاقي أهميته ومبرراته وأبعاده التطبيقية
المطلب الأول: أهمية التعليلي الأخلاقي في النوازل
لا شكَّ أن واقع اليوم يشهد نوازل كثيرة ومتسارعة تحتاج إلى حلول شرعية، وقطعًا لا توجد نصوص جزئية بخصوص هذه المسائل المستجدة، وإنما الذي يشفع في ذلك هو النصوص الكلية العامة في الشريعة. ويسعى هذا البحث إلى تفعيل هذا المبدأ؛ لأن تغييب هذا المنهج المتبع عند الصحابة يعني تغييب حضور الشريعة في الواقع، وإهمالًا لفقه الصحابة وطريقتهم في الاستدلال.ويقول الإمام الشاطبي مبينًا أهمية الكليات في معالجة النوازل ما نصه: "فلا يقال قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه، وأن مسائل الجد في الفرائض، والحرام في الطلاق، ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى، وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة، فأين الكلام فيها؟ فيقال في الجواب: أولًا إن قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل، فهو كما أوردتم. ولكن المراد كلياتها، فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولًا إلى نظر المجتهد"[18].
لأنه لو كان المراد تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها، فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية، التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل[19].
ويستدلُّ على هذا بفعل الصحابة وطريقتهم في الاستدلال فيقول: "ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضى الله عنهم أنهم لم يسمع عنهم قطّ إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم: لِمَ لم ينص على حكم الجد مع الإخوة؟ وعلى حكم من قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، وأشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصًّا، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد"[20]، بناءً على النظر الكلي للشريعة، وبيان مقاصدها، وإدراج جزئياتها في كلياتها، وهو منهج متبع عند الصحابة كما بيَّن الإمام الشاطبي.
وذلك لا يتأتى إلا من خلال المنهج التأسيسي المقاصدي الكلي، وتعزيز دور الكليات الشرعية ومقاصدها في تغيير نمط التفكير، وجودة استخدام النصوص وتأويلها واستنطاقها؛ لأن العقل يفرض أنه كلما تقدَّم الزمن زاد الاحتياج إلى الكليات والقواعد الضابطة أكثر. وكل الواقعات التي تعثرت فيها الرؤية الشرعية كانت نتيجة استدعاءات لنصوصٍ جزئية وتخريجات فقهية حركت أدواتها الاعتبارات الواقعية والظروف المجتمعية التي تختلف تمامًا مع واقع آخر. فلم تَعُد المجازفات الإفتاءية المرتجلة أو اللغة الوعظية علاجًا ناجعًا، من دون القراءات الواقعية والمستقبلية، وذلك بالاستنجاد بمقررات علم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة، والتاريخ، والطب وغيرها من العلوم الطبيعية؛ لأن النوازل والواقعات المعاصرة لم تَعُد بمعزل عن تلك السياقات، لتشابك مستجدات الواقع وتعقيداته، وبُعده عن الاستنتاجات الفقهية المدونة التي تتسم بالبساطة بعيدًا عن التعقيد، تبعًا لبساطة الواقع الذي نمت فيه. إضافة إلى التصور الشرعي الصحيح، والاستكمال المنهجي الأُصولي المقاصدي.
كل ما استجدت نازلة وحادثة بان الأمرُ بأنَّ العقلَ الفقهي بحاجة إلى التوجيه المقاصدي الذي يأخذنا بقوة إلى الحضور الواقعي لمعالجة النوازل؛ لأنه لم تعُد الاستدعاءات الجزئية تُقدِّم معالجاتٍ حقيقية، ما لم يتم استدعاء النظر الكلي، فاصطدام النصوص الجزئية بكليات مقاصدية لا ينتهض بالاستدلال. والانزياح إلى النص الجزئي في كل مسألة لا يتم تحقيقه وتقريبه، وحقيقة ذلك ما أفرزته هذه النازلة، وهي تقودنا إلى أن نتعامل مع حيثيات هذه النازلة وفق المبادئ الكلية والرؤية المقاصدية والتأسيس القيمي.
ومن قبل أسَّس التأسيس الأصولي والنظر المنهجي المقاصدي مجموعةً من القواعد والأسس التي يتحرك على ضوئها الخطاب الشرعي، وهذه القواعد تنتظم ضمن مقصد شرعي تأسيسي أعلى، وهو إقامة العدل ورفع الضرر وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وكلها تستهدف المكلَّف، وعن المكلف -محور عملية التكليف- الذي أكدته النصوص التشريعية في أصولها ومقاصدها.
ومن تلك القواعد التي تحكم النظر الفقهي في هذا الصدد:
1- يقول ابن القيم: "من قواعد الشرع الكلية أنه لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة"[21].
2- ويقول العز بن عبد السلام: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقادٌ أو عرفانٌ بأن هذه المصلحةَ لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدةَ لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يُوجبُ ذلك"[22]. وينشأ ذلك من خلال حسنِ العلاقة بين الكلي والجزئي، والأمرُ: "ليس يخفى عليك إذا نظرت إلى تصرفاتِ الفقهاءِ فيما ذكروه من الأحكام، أنَّ بعضَ ما حكموا به استندوا فيه إلى قاعدة كليَّةٍ معلومةٍ عندهم، فلو سُئِلَ بعضُهم عن دليلٍ خاصٍّ يرجع إلى نص، لم يستحضره. والذين لا يرجعون إلا إلى النصوص قد لا يستحضرون اندراجَ المسألة المعينة تحت نصٍّ معيَّن، فإنَّ استحضارَ كل ما ينبغي كما ينبغي ليس من قدرةِ غير المعصوم من البشر"[23].
3- يقول العز في قواعده: "أَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَمَعْرُوفَةٌ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَإِنْ خَفِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُتَنَاسِبَاتِ وَالْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ رَاجِحَهُمَا وَمَرْجُوحَهُمَا فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَا تَعَبَّدَ اللَّهَ بِهِ عِبَادَهُ وَلَمْ يَقِفْهُمْ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَفْسَدَتِهِ"[24]. كل ذلك يُنبئ عن حركية العقل الفقهي في الحياة، ويدلِّل على أن الوعي الفقهي حاضرٌ في منظومته التأسيسية عند المشكلات الحياتية، ويُراعي تقلباتها ومتغيراتها، وهو يستنجد بكليات الشريعة وأسسها المقاصدية، والخروج بها من قيد التفكير ضمن الأُطر الضيقة. وهنا يكمُن معنى الفقه وحقيقته؛ لأن آليةَ الاجتهادِ تتفعل بهذه القراءة للفقه، التي تعني "الفهم الدقيق والممارسة العملية". كما أنها تقضي بتشغيل وتفعيل أدوات الدرس الأصولي الذي يعمل من خلال الاجتهاد والنظر والتوليد. وهي مما يعين الطلبة على حصول المَلَكة والنظر في طريقة التفكير وتوليد الأحكام، وآلية التعامل مع النص الشرعي من جهة، والواقع من جهة أخرى، فعندها يتحقَّق الإبداع الفقهي.
المطلب الثاني: مبررات الاعتبار للتعليل الكلي
- وضع الشريعة الكلي
من المبررات الأساسية للاستدلال بالكليات هو وضع الشريعة الكلي، الذي تنتظم تحته الجزئيات، ولم تضع الشريعة لكل مسألة نصًّا جزئيًّا، بل الغالب في التشريع هو بيان الكليات الأساسية التي يدار عليها التشريع الإسلامي، وهذا له من المزايا التي من خلالها يتم مصارعة الأحداث، وإعطاء الحلول لكل ما يستجد؛ "لأن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات؛ إذ مجارى العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنًا في الاعتبار لما صحَّ ذلك، بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد، كالحكم بالشهادة، وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد، لكن الغالب الصدق، فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظًا على الكليات، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق"[25]؛ "وذلك أن اللّه بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد"[26]. ومن هذا "فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفًا بها، وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة، وهو مقتضى قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجًا ومشقة، ولم يشرع فيه رخصة، تعريفًا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات"[27] بحسب وضع الشريعة. ويقول الإمام الجويني: "لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد، فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع من متسع الشريعة غرفة من بحر، ولو لم يتمسك الماضون بمعانٍ في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم"[28].
ويقول الإمام الشاطبي: "واعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولًا"[29]. ومن هذا تكون "الكليات والمحكمات القرآنية قد تكفلت بإرساء الأساس الفلسفي المرجعي، الذي ينبثق منه التشريع الإسلامي، وأن الشريعة الإسلامية قد تفصلت فروعها وجزئياتها، بعدما تأصلت أصولها وكلياتها... أحكمت... ثم فصلت"[30].
وبهذا يكون الأصل في الأحكام الشرعية أنَّها عامَّة ومطلقة للحكم على عموم المكلَّفين، وليس من طبيعة الأحكام أن تكون جزئية بخصوص كل مكلَّف، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: "إنَّ الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنَّما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعدادًا لا تنحصر"[31]. والإمام الشاطبي بهذا يحدد طبيعة الأحكام الشرعية بأنَّها كلية لا جزئية ومطلقة لا مقيدة.
ويقرر ابن تيمية ذلك فيقول: "إنَّ الأحكام الجزئية -من حِلِّ هذا المال لزيد وحرمته على عمرو- لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًّا، وإنَّما شرعها شرعًا كليًّا مثل قوله: {وأَحلَّ الله البيع} [البقرة: 275]، وقوله: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]، وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3].
وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكًا معينًا، فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنَّما رفع ما أثبته هو بفعله، لا ما أثبته الله من الحكم الكلي؛ إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنَّما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لا أنَّ الشارع أثبته ابتداءً"[32].
وخلاصة القول: إن وضع الشريعة كلي لا جزئي، وهو مبرر كبير من مراعاة هذا في الاجتهاد، ومراعاة هذا تعني مراعاة ما وضعت عليه الشريعة من الوضع الكلي. وهذا الوضع الكلي للشريعة له من المزايا الحسنة في حفظ تناسق الشريعة وديمومتها للتشريع. وكذلك له القدرة على إعطاء الحلول؛ لأنه القانون الكلي الذي يستطيع المجتهد من خلاله الإفتاء في النوازل.
- الكليات حاكمة على الجزئيات
من الأسباب الداعية إلى الاستدلال بالكليات هو أن القواعد الكلية هي الأصول الحاكمة التي لا تخرج عنها تفاصيل التشريع الجزئية، وبهذا لا يصحُّ أن يخرج جزئي عن أصل كلي، وأن الكليات قطعية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي ما نصه: "إن الكليات الشرعية... قطعية لا مدخل فيها للظن"[33]، ولا يوجد تعارض بين القطعيات؛ لأن "تعارض القطعيات محال"[34].
وكذلك الكلي القطعي أقوى من الجزئي القطعي عند التعارض. وبالتالي يكون الكلي هو الحاكم على تنزيل الجزئي. وقد نبه الشاطبي -غير ما مرة- على هذا المسلك الاجتهادي المنسِّق بين كليات الشريعة وجزئياتها. والموضع الجامع والأهم الذي عالج فيه هذا الموضوع هو المسألة الأولى من كتاب الأدلة، وهي المسألة التي افتتحها بالتذكير بأنَّ الشريعة كلها مبنية "على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات"[35]، وأنَّ هذه الكليات: "تقضي على كل جزئيٍّ تحتها... إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة"[36].
ثم قال: "وإذا كان كذلك وكانت الجزئيات -وهي أصول الشريعة فما تحتها- مستمدة من تلك الأصول الكلية -شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات- فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات، عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنصٍّ -مثلًا- في جزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ"[37]. فالاستدلال بالجزئي مع الإعراض عن الكلي خطأ في الاجتهاد؛ لأن الكلي هو الحاكم على الجزئي، وهذا الجزئي لا يخرج عن أصل كلي يندرج تحته.
"ووظيفة العلماء في الكتب ذكر المسائل الكلية، ووظيفة المفتي تنزيل تلك الكليات على الوقائع الجزئية، فإذا علم المفتي اندراج ذلك الجزئي في ذلك الكلي أفتى فيه بالحكم المذكور في الكتب"[38]، وإن كان غير ذلك -أي: إذا خالف الجزئيُّ الكليَّ المقررَ- يُرَد.
وبهذا نجد عند التطبيق يتقدم الحكم الكلي على الجزئي وإن تخلفت عنه بعض المفاسد: "قال ابن هُبَيْرَةَ: رأيت بخطِّ ابن عقيل حكى عن كسرى: أنَّ بعض عمَّاله أراد أن يجري نهرًا فكتب إليه أنَّه لا يجري إلَّا في بيت لعجوز، فأمر أن يشتري منها، فضوعف لها الثَّمَنُ فلم تقبل، فكتب كِسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكلِّيَّاتِ تُغفَرُ فيها المفاسد الجزئيات. قال ابن عقيل: وجدت هذا صحيحًا، فإن الله -وهو الغاية في العدل- يبعث المطر والشمس، فإن كان الحكيمُ القادرُ لم يراع نوادر المضارّ لعموم المنافع، فغيره أَولى"[39]، و"أن الكليات لا يقدح فيها تخلُّف آحاد الجزئيات"[40].
مسألة: الجمع بين الكليات والجزئيات في الاستدلال
عندما نقول ونقرر أهمية الأدلة الكلية في الاستدلال، ونقرر أن وضع الشريعة كلي، وأن الكليات هي الحاكمة، لا يعني قطعًا أننا نطرح الجزئيات، بل لا بدَّ من اندراج الكلي في الجزئي، ويعتبر الجزئي ما لم يكن مناقضًا للكلي، ولا يوجد في التشريع جزئي قطعي، ناقض كليًّا البتة: "فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص -مثلًا- في جزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه"[41].
"فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخلَّ ذلك بالحاجيات، أو بالضروريات أيضًا، فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظًا على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضًا، ويخص بعضها بعضًا، فإذا كان كذلك فلا بدَّ من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها"
وعلى هذا لا بدَّ من النظر في الجزئيات من غير إهمال للكليات وفي هذا يقول الريسوني: "فلا بُدَّ للمجتهد وهو ينظر في هذه الجزئيات من استحضار كليات الشريعة ومقاصدها العامة وقواعدها الجامعة، لا بُدَّ من مراعاة هذه وتلك في آن واحد، ولا بُدَّ أن يكون الحكم مبنيًّا على هذه وتلك معًا؛ أعني الأدلة الكلية، والأدلة الجزئية"[42].
والتأكيد على الكليات لا يعني عدم النظر في الجزئيات، والاقتصار على الكليات نظر خاطئ يؤدي إلى تنزيل خاطئ للأحكام؛ ولهذا فإنَّ الإمام الشاطبي لم يغفل عن التنبيه على هذه المسألة؛ لأهميتها في تكامل النظرة الشرعية المؤدية إلى التكامل في العملية التنزيلية للأحكام، فقال ما نصه: "فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف، فإنَّ فيها جملة الفقه، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع، وأنَّ تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب، فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار"[43].
"وأيضًا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه، وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات؛ لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعًا، والمصلحة تفوت مصلحة أخرى، وتهدم قاعدة أخرى، أو قواعد، فجاء الشرع باعتبار المصلحة"[44].
"وبين من المصالح ما يطرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة، كما في استثناء العرايا ونحوه، فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد، ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات؛ لأنها يخدم بعضها بعضًا، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضًا، فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة... فالحاصل أنه لا بدَّ من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس"[45].
والجمع بين الكلي والجزئي والمواءمة بينهما لا بدَّ منه عند التطبيق؛ لأنه "كما أن من أخذ بالجزئي مُعْرِضًا عن كُلِّيِّهِ فهو مُخطئ، فكذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه"[46].
كما أن الاعتبار للكليات بحسب مواردها وأحوالها، وذلك لضبطها، كما قال الإمام الشاطبي ما نصه: "فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخلَّ ذلك بالحاجيات، أو بالضروريات أيضًا، فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظًا على تلك الرتبة وعلى غيرها من الكليات، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضًا، ويخص بعضها بعضًا، فإذا كان كذلك فلا بدَّ من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها"[47]. وهذا ضابط مهم في اعتبار الكليات في مواردها وحسب أحوالها.
- النسخ غير وارد على الكلي
من الأهمية الكبرى ونحن نتكلم ونقرر الاستدلال بالكليات وأهميتها في الاجتهاد، وبيان مبررات الاستدلال بالكلي، أن نبين أمرًا مهمًّا في شأن الكليات، وهو أن الكليات الشرعية لا يدخلها نسخ قطعًا، وما تُكلم به في الكليات على أنه منسوخ لا يصح، ولا بدَّ أن يطرح ويُرَد؛ لأنه "لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر، اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير؛ لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعًا، وإن أمكن عقلًا"[48]. والسبب وراء القول بنسخ الكليات هو الإغراق بالجزئيات.
كما أن إقرار وقائع الأعيان الجزئية لا يعني إبطال القواعد الكلية: "وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها، أو على ظاهرها، وهى مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل، فلا يمكن -والحالة هذه- إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه"[49].
كما "أن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات، وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب، والنصاب لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني"[50].
المطلب الثالث: البُعْد التطبيقي للتعليل الأخلاقي
وهنا نقف على تطبيقات فقهية لجيل الفقهاء الأوائل وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لملاحظة التفكير الفقهي الأُم، كيف هي مساراته؟ وطريقة تعامله مع النص؟ وكيف يستحضر التعليل الأخلاقي والبعد الغائي للتشريع عند الاجتهاد؟
- منع سيدنا عمر -رضي الله عنه- الزواج من الكتابيات
وذلك عندما كتب إلى حذيفة: "إني لا أزعم أنَّها حرام، ولكني أخاف أنْ تعاطوا المومسات منهنَّ"[51]. فمنع سيدنا عمر -رضي الله عنه- الزواج من الكتابيات عندما رأى أنَّ ذلك يؤدي إلى مشكلة أخلاقية اجتماعية مع إقراره أنه حلال في أصله؛ لكن لفساد مآله منع. وهو نظر إلى الكليات الأخلاقية في مقابلة نص جزئي. وتحصين المجتمع من الفساد هو من المقاصد الكلية، وهذا ما نظر إليه سيدنا عمر -رضي الله عنه- في استدلاله.
- إيقاف سيدنا عمر -رضي الله عنه- تطبيق حد السرقة عام المجاعة
رُوي عن عمر يقول: "لا قطع في عذق ولا في عام سنة"[52]، أي: مجاعة. وفي هذا يقول ابن القيم: "هذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع، فإنَّ السنة إذا كانت سَنَةَ مجاعة وشدَّة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسدّ به رمقه"[53].
وبيَّن الشارع الحكيم أنَّه لم يُكلِّف بغير شروط وأسباب وموانع؛ حتى يتم تنزيل التكليف على المكلفين على وفق خلقهم وقدرتهم، وعلى وفق أعمالهم وتقصيراتهم من غير اتهام للشرع؛ "لأنَّ أحكام الشرع ليست مطلقة معلقة في الهواء، بل مشروطة بواقع، بزمان ومكان وأفراد، لكل منهم قدرته وبيئته"[54]. وهذا سِرُّ تحرك الشريعة وتأثُّرها وتأثيرها بالواقع والمجتمعات؛ لأنها تساير الإنسان وضعفه وقوته وغناه وفقره، ومن تجاهل هذا تجاهل منطوق الشرع.
ومما يجب أنَّ ينبه عليه أن هناك شروطًا ظاهرةً حدَّدها الشارع، وأن هناك شروطًا مضمرةً، والمضمرة تحدِّدها المقاصد الكلية، وهذا ما نظر إليه سيدنا عمر -رضي الله عنه- في هذه المسألة، فالفعل أحيانًا تتحقق شروطه الظاهرة، لكن الشروط المضمرة لم تتحقق، ويُعرف ذلك بتخلف المقاصد، كأن يتخلف ضروري أو حاجي أو تحسيني، فالأول تجيزه الضرورة، والثاني تجيزه الحاجة.
وكثيرًا ما يعتمد على الأسباب والشروط والموانع على النصوص الجزئية، وتُغيّب النصوص الكلية المقاصدية؛ لأن من الكليات الشرعية ما جاء بمثابة شروط وأسباب وموانع، يحتاج المجتهد إلى كشفها لتطبيق الحكم.
- امتناع سيدنا عمر -رضي الله عنه- عن تقسيم أرض السواد على الفاتحين
"لَمَّا فُتحَ العراق شاور عمر -رضي الله عنه- الناسَ في قسمة الأرضين (أرض السواد) التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام، فتكلم قوم فيه وأرادوا أن يقسموا لهم حقوقهم وما فتحوا؛ فقَالَ عمر -رضي الله عنه-: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجهم قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟"[55].
فكان سيدنا عمر -رضي الله عنه- ينظر إلى مآلات الأمور، وهي إذا قُسِمَتْ هذه الأرضي فَمَنْ يسدُّ الثغور ومن للأرامل والضعفاء، وهو البُعْد الأخلاقي في الإفتاء، وخاطب من اعترض عليه من الصحابة بمآل هذا الحكم، وهذا النظر إلى المآل الكلي مع وجود النص الجزئي المانع.
وفي روايات أخرى منها قال -رضي الله عنه-: "فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه"[56]. والملاحظ هنا كيف للبُعْد الأخلاقي من تأثير في فتوى سيدنا عمر رضي الله عنه مع وجود نص جزئي يحكم بغير ذلك، إلا أن الكليات المقاصدية تقول غير ذلك.
ثم علَّق على هذا القاضي أبو يوسف صاحب كتاب الخراج فقال: "والذي رأى عمر -رضي الله عنه- من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عند ما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقًا من الله كان لَهُ فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم؛ لأنَّ هذا لو لم يكن موقوفًا على الناس في الأعطيات والأرزا، لم تشحن الثغور ولم تقوَ الجيوش على السير في الجها،, ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خَلَتْ من المقاتلة ومن المرتزقة، والله أعلم بالخير حيث كان"[57]. :فكانت القسمة على الفاتحين مصلحة لهم لا شكّ، ولكن النظر البعيد والمستقبل البعيد كان لهما كلمة أخرى، هي التي رجحت عند ذوي النظر الاستصلاحي البعيد"[58]. فقوي المستقبل على الحاضر لرجحان مصلحته.
"وهذا يقودنا إلى جهة أخرى من جهات النظر إلى المصلحة، وهي جهة عمومها أو خصوصها. فما قد يكون مصلحة للخواص قد يكون مفسدة للعوام، وما المصلحة الحق التي يشمل نفعها وخيرها الخاصة والعامة معًا"[59].
- تضمين الصناع
وذكر ابن حزم في المحلَّى أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ضمن الصناع، يعني: من عمل بيده. ومن طريق آخر: كان علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- يضمن الأجير. وصحَّ من طريق آخر أنَّ عليًّا كان يضمن القصار والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلَّا ذلك[60]. وملاحظة النسق العام للشريعة أنَّ ذلك لا يصح لكن بقدر ما وُجِدت أسباب وُجِدت مسببات، فضعف الوازع الديني والخوف من الله أدَّيا إلى العدول عن الأصل العام؛ لأجل سلامة تنزيل الشريعة على محالها المناسبة.
يقول الإمام مالك: "إنَّما يضمن الصناع ما دفع إليهم مما يستعملون على وجه الحاجة إلى أعمالهم، وليس ذلك على وجه الاختبار لهم والأمانة، ولو كان ذلك إلى أمانتهم لهلكت أموال الناس وضاعت قبلهم، واجترؤوا على أخذها، ولو تركوها لم يجدوا مستعتبًا، ولم يجدوا غيرهم ولا أحدًا يعمل تلك الأعمال غيرهم، فضمنوا ذلك لمصلحة الناس"[61]. والنظر إلى المصالح نظر إلى الكليات.
- ضوال الإبل
ماجاء في ضالة الإبل: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل عن اللقطة فقال: اعرفْ وكاءها، أو قال: وعاءها وعفاصها، ثم عرِّفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء رَبُّها فأدِّها إليه، قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه، أو قال: احمرَّ وجهه، فقال: وما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها. قال: فضالة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب"[62].
وهذا النص بُني على واقع معين، وهو بيئة الصحابة رضوان الله عليهم التي كان يأمن فيها الإنسان على ماله وعياله، والنفوس مؤمنة، والذمم عامرة. وبعد ذهاب أكثر جيل الصحابة، وتوسُّع المجتمع، وضعف الإيمان، ضاعت المروءات، وفسدت ذمم كثير من الناس، فلم تبقَ الفتوى على حالها كما حكم بذلك -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا نجد سيدنا عثمان -رضي الله عنه- اجتهد في تنزيل النص القطعي في دلالته، ولم يكن اجتهاده مجردًا عن دليل، بل دلائل الشريعة على ذلك كثيرة منها إضاعة المال، وضياع حقوق الناس، وهذه تشفع لها كليات الشريعة الآمرة بـــذلك قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"[63]. وهذا القراءة الكلية لنصوص الشريعة هي التي تصحح التنزيل، وعلى هذا رفض سيدنا عثمان -رضي الله عنه- أن تترك ضوال الإبل.
وبعد هذا نقول: إن الاستدلال بالكليات هو منهج الصحابة وسلف الأمة في الاجتهاد، وإن كبار الصحابة هم ممن راعى الكليات عند التطبيق. وبهذا يكون الحفاظ على كليات الشريعة ومبادئها وغاياتها منهجًا معتبرًا ومتبعًا، ومَن أعرض عن هذا المفهوم فقد أعرض عن فقه الصحابة للشريعة.
ونتيجةً للإعراض عن هذا المنهج كم ضُيعت مصالح ومقاصد، وأُقيمت مفاسد، وأُسيء إلى الشريعة في تطبيقها، فكان التعسُّف والتكلُّف والتنطُّع وضعف التدين. فهذا المنهج هو المنهج الذي من خلاله نستطيع إيجاد الحلول للنوازل المعاصرة والمشاكل المتناثرة هنا وهناك، وبذلك يصبح الاحتكام إلى الشريعة رائدًا وقائدًا.
"وهذا ينطبق على كل القضايا والأحوال الجديدة، المختلفة اختلافًا جوهريًّا عن الأحوال والقضايا القديمة، التي جاءت فيها نصوص خاصة، أو اجتهادات فقهية ظرفية. فنقل هذه النصوص والاجتهادات من مناطاتها وظروفها ومواضعها الحقيقية، ثم تنزيلها وإعمالها في مواضع ومناطات مختلفة في صفاتها وحقيقتها، إنما هو تعسُّف واعتداء على تلك النصوص وتلك الاجتهادات، مثلما هو تعسُّف واعتداء على الناس ومصالحهم"[64].
والذي "يغنينا عن هذا التعسُّف هو اللجوء إلى رحاب الكليات والصيغ الشرعية العامة، التي ما وضعت على الكلية والعموم، إلا لتعسف الناس بهديها وحكمها العام، الذي يستوعب ما لا يُحصى ولا ينتهي من الحالات والجزئيات المتجددة"[65].
وهذه الكليات يمكن ويجب التحلي بها والاحتكام إليها والاستمداد منها فيما لا نهاية له من القضايا والحوادث والمشاكل التي تجدُّ وتتكاثر في كل يوم وفي كل مكان، مما ليس له حكم خاص به صريح فيه. والكليات هي المبادئ العليا والمقاصد الكبرى للتشريع الإسلامي، بل هي معالم الدين وركائزه وأسسه وأركانه، فهي بذلك تكون كليات حاكمة وناظمة، فوظيفتها لا تقتصر على مرجعيتها وحجيتها فيما لا نصّ فيه، بل الأصول والكليات الحاكمة لكل ما يندرج تحتها من الفروع والجزئيات، سواء كان منصوصًا أو غير منصوص[66]. وهو مما يدعونا إلى النظر في منهج الصحابة وطريقتهم في الاستدلال بالكلي، ليتبيَّن أن الاستدلال بالكليات ليس بدعًا من القول، ولا منهجًا مخالفًا للشريعة، بل هو منهج أصيل اتبعه كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم.
المبحث الثالث
حلول منهجية مقترحة
وما يسعى البحث إلى تجويده وحضوره هو تحقيق مقولة مفادها أن التفكير المقاصدي هو ما يجعل الفعلَ والأداء محطَّ النظر والاعتبار والتقويم، فالنظرةُ التي تعملُ على تغييبِ المقاصد هي تعملُ على عدمِ جعل "أعمال المكلَّفين" موضع النظر والاختبار والتتبُّع؛ لأنَّ النظرَ المقاصدي القيمي الأخلاقي هو ما يخبرنا بجلاءٍ عن قيمةِ أفعالِنا وعن مستوى تديّننا عبر الكشف الواقعي.
فعندما نعلمُ أنَّ الغايةَ من أداءِ الصلاةِ هي حصولُ الصلةِ والارتباط القلبي بين العبد وربِّه، والعمل على حصول ذلك هو الذي يفضي بالعبد إلى تجنُّب الأخلاق الرذيلة، كما هي الروح الغائية في النص {إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]؛ فإن ذلك التصور يفضي بنا إلى تلمُّس تلك المقاصد والغايات عند أداء أفعالنا.
فالصلاةُ التي لا تسمو بروح صاحبِها عن هذه السلوكياتِ الدنيئة، هي في الحقيقة صلاةٌ خداج تعتمدُ الأداء الشكلي فقط، لا الأداء التحقيقي القيمي الذي به يتحقَّق الإجزاء. وإن حفلت بمقبولية على المستوى الفقهي من حيث الإسقاط، إلا أن الإجزاء والتحقيق مبحث آخر. فملاحظة الفرق تكون من خلال الاعتماد على النظر المقاصدي.
وأمَّا على مستوى المعاملات فإن ذلك سيفضي بنا من النزوح إلى صورية العقد، إلى ما يفرزه من مقاربات أخلاقية، تعتمد العدل وعدم الضرر والغرر وعدم المنازعة وأكل أموال الناس بغير حق، كمحطات حاكمة على شرعية العقد وعدمه، وإن حفلت بعض العقود بالمقبولية على المستوى الفقهي مع تخلُّف تلك القيم، كالقول بجواز عقد النكاح بنية الطلاق مثلًا.
لأن الأصل في نسج الأحكام (حلال/حرام) أن تكون بمعية القيم والأخلاق، كما هي طبيعة النص الشرعي عند تقرير الأحكام، فالنص مثلما يرسم الحكم الشرعي بطبيعته وشكله فإنه يرسم البعد الغائي الأخلاقي القيمي منه، والتأكيد على حضوره وملاحظته عند الفعل.
فإذا ما انخرمت القيم والأخلاق والمقاصد، فلا اعتبار حينئذٍ بصورية أو العقد. وبهذا ننتقل بالمقاصد من مستوى التبرير إلى مستوى التفعيل والتشغيل. ومن أجل إعادة الاعتبار للنظر الكلي (التعليل الأخلاقي)، فمن الممكن العمل وفق تقسيم مقترح للنص اعتبارًا للنظر المقاصدي:
فالنصوص القرآنية والنبوية بشكل عام يمكن تقسيمها إلى:
- نصوص جزئية لها علة تقاس عليها: كتحريم الخمر والربا بالنص ثم استنبط العلة لإعمالها بغير المنصوص.
- نصوص كلية أُخذت من نص كلي: كقوله تعالى: {لا تزر وازرة وزرة أخرى}، وهذا النص الكلي يندرج تحت كلي أعلى هو "مقصد العدل".
- كليات كبرى نُسجت من عدة نصوص كلية وجزئية: كالعدل والمساواة والحرية وحفظ الضروريات الخمس (النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض)، وكذلك منها القواعد الكلية الكبرى وهي: قاعدة الأمور بمقاصدها، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة الضرر يزال، وقاعدة اليقين لا يزول بالشك. وإذا كان لدينا هذه المساحة من النصوص فلا بدَّ من قواعد للتعامل معها وفق التنظير الأصولي.
وتؤسس هذه الأقسام لما بعدها من الأدلة الأصولية الكاشفة، حيث الإجماع الذي يحتاج إلى مستند سواء من نص جزئي أو كلي أو كليات. وكذلك يؤسس هذا التقسيم أرضية للقياس الأصولي، حيث النص الجزئي يشكِّل الأساس في القياس بجامع العلة، والنص الكلي يمثِّل القياس بجامع المقصد، وهو ما سيتم تقريره في مبحث القياس. وأصل الاستحسان والمصالح وباقي الأدلة غالبًا ما ترجع في تقريراتها إلى النصوص الكلية والمقاصد الكبرى.
وبالتالي تكون الأدلة الكاشفة تستوعب النصوص بجملتها جزئية أو كليات، أو كليات كبرى. ومن أجل ألا يتقرر اجتهاد مبني على نص جزئي يخالف فيه نصًّا كليًّا، بل يكون مجرى النصوص بهذا الترتيب من الادنى إلى الأعلى.
ولأن إدراك القواعد الكلية للمجتهد له من الأهمية الكبرى في تصحيح الفهم، وبيان المقصد، وإيضاح الطريق لدى الفقيه؛ لأنه لا يخلو جزئي إلا وله أصل كلي، ومن هذا يقول الإمام الشافعي: "إنا نعلم قطعًا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-"[67]، أي: حكم كلي، ويتعذر وجود التفصيلي في كل واقعة. ويقول إمام الحرمين وهو يتكلم عن إدراك القواعد الكلية وأهميتها للمجتهد في الاستدلال: "لو دُرست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها، وبقيت أصولها على (بال) من حملة الدين، فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل بيع استند إلى رضا، ولو لم يقل به... والغرض منه الآن أن الكلي ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل وهذا كافٍ"[68]؛ لأن قيام القانون الذي يضبط الفروع كافٍ لرد كل فرع إلى أصله، كما أنه أدعى للضبط وللحفظ، وفي هذا يقول الإمام القرافي مبينًا أهمية القواعد الكلية في الفقه، وذلك في مقدمة كتابه الفروق الذي امتاز به ببسط القواعد الكلية والمقاصد العِليَّة في الشريعة، فقال: "وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه، ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى، وتكشف فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، وحاز قصب السبق من فيها برع"[69].
ويقول الإمام الجويني: "ومن أراد أخذ المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه في أمثال هذه الفصول، ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك هذه الفصول"[70].
وأعني بهذا العمل على حضور الكليات وتفعيلها عند الاجتهاد، مع وجود النص الجزئي، ومع تخلُّف النص؛ لأن وجود النص الجزئي عند الاستدلال لا يعني صحة الاستدلال؛ لأنه لربما تتخلف المقاصد الكلية عند التطبيق، فلا بدَّ من قراءة النص الجزئي في دائرة الكليات.
أما عند تخلُّف النص فهذا من باب أولى أن تُستنطق الكليات؛ لتصحيح الاجتهاد والاستناد إلى مستند شرعي قوي، ولا يوجد أقوى من الكليات في الاستدلال لأنها قطعية. وهذا الحضور الكلي للمفتي له من الأهمية في فقه الصحابة -رضي الله عنه-، الذين امتازوا بمعرفة الكليات وتطبيقها عند الاستدلال، ومن هذا عندما "سُئل الإمام علي -رضي الله عنه- في رجل ليست له معرفة تامة بالطب، ويجيء إليه أصحاب العلل، فينظر في كتب الطب فما وجده موافقًا طبًّا لطبعه داوى به، ولم يدر تشخيص العلة لصاحب العلة، بل قال له: افعل فمنهم من يبرأ ومنهم من لا، فما الحكم في ذلك؟ وما حكم المأخوذ منهم بالرضا؟ فأجاب نفع الله بعلومه وبركته: من يطالع كتب الطب ويذكر للناس ما فيها من غير أن يتشخص العلة، فقد جازف وتجرأ على إفساد أبدان الناس، وإلحاق الضرر بهم؛ لأن من لا يتشخص العلة ولا يتيقن كليات علم الطلب، لا يجوز له أن يفتي بشيء من جزئياته؛ لأن الجزئيات لا يضبطها إلا الكليات"[71]؛ لأن الكليات هي الضابطة للفتوى من الخطأ عند التطبيق. "ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني ببعث القضاة اعتناء شديدًا، ثم لم يزل المسلمون على ذلك، ثم لما كان القضاء بين الناس مظنة الجور والحيف، وجب أن يذهب الناس عن الجور في القضاء، وأن يضبط الكليات التي يرجع إليها الأحكام"[72]. وبهذا النقل لأقوال أئمة المسلمين يتضح بجلاء أهمية الكليات في الاستدلال، وفي ضبط الاجتهاد والفتوى، وأنه أمر لا بدَّ منه للفقيه.
المطلب الأول: أصول الفقه بين التنظير والتطبيق
وهناك مسافة متباعدة بعض الشيء بين التنظير الأصولي والتطبيق الفقهي، الذي يُعَدُّ المساحة المعبرة عن تلك الأسس الشرعية، ولعل السببَ في ذلك هو الصورية المجردة أو الروح التجريدية التي أُخذت من المنطق وتم تغذية الأصول بها.
كما أن ما فعله المنطق بهذا الأصل من ضبط وتقييد دقيق مهم، من حيث التقييد والتقعيد ورسم خريطة الذهن بدقة عالية، كالعلة وبيانها وشروطها والتدقيق فيها وضبطها، فأخرجوا ما لا ينضبط، وعدم اعتباره علة، إلا أنه يبقى في الشريعة مساحة مرنة متروكة للتعامل مع المستجدات، لا تتقيد بالضبط الدقيق، ولا تنسجم معه، وهو من طبيعة الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، وهو ما تخبر عنه طبيعة النصوص الظنية. ومجال التنظير العقلي والمنطقي الذي يفرض استنتاجات قطعية لا يتماشى مع المخرجات الفقهية الظنية.
ولقد حاول الفقهاء الالتزام بالقواعد المنهجية والمحافظة على اطرادها في التدوين الفقهي، إلا أن هذا الاطراد في القواعد قد لا يتناسب وحركية الفقه؛ لأن القواعد واطرادها تتسم بالثبات، والفقه يتعامل مع الواقع وحيثياته وهو متغير.
ومن هنا يُفهم سلوك الإمام الجويني في كتابه الغياثي وهو يشير إلى الحلول المناسبة لخلو الزمان عن حملة الشريعة بالاتكاء على الكليات المقاصدية[73]، التي هي أكثر مرونةً من القواعد المذهبية، ولها قابلية الاستيعاب لتغير الواقع.
وفي ذلك بيَّن ابن خلدون أن التجريد للقواعد التي اتخذها الفقهاء والوفاء لها جعلها عرضةً لكثرة أغلاطهم في الواقع[74]. ويقول الفلاسفة: "إن ما تربحونه من ناحية الدقة، إنما تخسرونه من ناحية الموضوعية"[75].
فالتجريد الذي اكتسى به علم أصول الفقه المدون أفقد فعالية الأصول في بعض مناطق عمله؛ لأن المخرجات المنطقية قضايا قطعية، ومخرجات الأصول قضايا ظنية. "ولأن معظمَ هذه القواعد الأصولية كُتب بتجريد ذهني، ونظر عقلي"[76]، وكُتب عقب استقرار معظم المذاهب الفقهية، ولا يمكن ادعاء كون الفقهاء من الأئمة الأربعة ومن عاصرهم وسبقهم بنوا فقههم على تلك القواعد كلها، ولا أنهم بنوا فقههم على استعمال رياضي لها، إلا بنوع من الادعاء الفارغ عن الحجة؛ ولذلك يكثر في ترجيحات هؤلاء آراء وأقوال لم يقل بها إلا القلة والندرة، وغالبًا تراهم حتى لم يحققوا القول فيها من حيث تلك القلة، وهي خلاف ما عليه غالب الفقهاء قولًا وعملًا، وما ذلك إلا لكون هذه القواعد وتطبيقها الرياضي لم يكن لها هذا الحضور قطّ، ولا يمكن لمنهج معرفي يريد تحقيق ما كان عليه السلف أن يبني نظامه الفقهي على هذا المرتكز الأصولي[77].
ولبيان ذلك أقول: إن الناظر في المدونات الفقهية -الناطقة عن تفعيل الأصول الكلية وتحريكها- يجدُ أن هناك فرقًا بين القياس الأصولي التنظيري، والقياس الفقهي التفعيلي؛ لأن ميدان الفقهاء غير ميدان الأصوليين، فالأخير ميدانه التنظير، والأول ميدانه التفعيل، فهو أصدق للأصل وأنضج له، "ولأن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدًّا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا"[78].
كما أن التحليل المتأني لمفهوم "الانضباط" الذي يشترط أن تتصف به العلة يظهر لنا أن كثيرًا من الأوصاف التي علق عليها الفقهاء الأحكام كانت عاداتٍ قابلة للتغيُّر، ولا يمكن تعريفها بشكل دقيق، وهو ما بيَّنه ابن قدامة الفقيه الحنبلي الكبير.
فقد انتقد ابن قدامة -مثلًا- المثل المشهور في هذا الباب من كتب الأصول، وهو أن الصائم المريض يفطر بناءً على "انضباط العلة"، وهو المرض، فكتب يقول: "والمرض لا ضابط له؛ فإن الأمراض تختلف، منها ما يضرّ صاحبه الصوم، ومنها ما لا أثر للصوم فيه، كوجع الضرس، وجرح في الإصبع، والدمل، والقرحة اليسيرة، والجرب، وأشباه ذلك، فلم يصلح المرض ضابطًا، وأمكن اعتبار الحكمة، وهو ما يخاف منه الضرر، فوجب اعتباره"[79]. والواقع أن حجة ابن قدامة تنطبق على كثير من العلل التي يُدعى فيها الانضباط وهي ليست كذلك؛ لأنها تدور مع الحكمة المقصودة[80].
"والعلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام"[81].
ينص الإمام الجويني قائلًا: "قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في آحاد النوع"
المطلب الثاني: تشغيل القياس الأصولي وفق التعليل الكلي
ومن المعلوم أصوليًّا أن القياس: "هو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر؛ لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"[82]. ومن أهم الأمور في القياس التي يحتاج إلى تجديد النظر فيها، هو حصر القياس بالنص الجزئي المتحققة علته، من غير اعتبار للمصالح والمقاصد إلا أن تكون العلة منصوصة أو مستنبطة، وممكن توسعة النظر في القياس وهو القياس الكلي بجامع تحقق المصالح والمقاصد، وبالتالي نستطيع الخروج بهذا الأصل وتفعيله بقوة، وانسجامًا مع ما تحقق عمليًّا، وفي الوقت نفسه يعد هذا المسلك استثمارًا لمقاصد الشريعة من خلال ما وضعه الأصوليون من قواعد للقياس الأصولي والاستفادة من ذلك، في تحريك المقاصد وتفعيلها عبر قواعد أصول الفقه، ومنها أصل القياس، وهو مسلك أضبط للمقاصد وأنفع للقياس.
وكما أن الأمر الكلي قد يكون أكثر قطعيةً من المنصوص الجزئي؛ لأنه جاء عبر استقراء نصوص كثيرة كلها تدلل على المقصود بقواعد القياس الأصولي.
تقسيم القياس وفق النظر المقاصدي
من خلال ما سبق وعلى ضوء ما تقرر، يمكن اللجوء إلى صياغة أكثر اعتبارًا للنظر المقاصدي؛ لما له من القدرة على التفعيل الأصولي، ومن ذلك أصل القياس. والرؤية المقترحة في هذا أن يكون القياس على نوعين:
- قياس العلة: وهو إلحاق أصلٍ بفرعٍ بجامع العلة، وهو المدون في كتب الأصول.
- قياس المقاصد: وهو إلحاق أصلٍ بفرعٍ بجامع المقصد، ويتأتى ذلك من خلال القواعد الكلية، التي تم تقريرها في أصل الكتاب والسنة.
ومن منهج أئمة الفقه والفتوى أنهم إذا وجدوا "أن القياس الجزئي فيه، وإن كان جليًّا إذا صادم القاعدة الكلية، ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية"[83]. وفي موضع آخر ينص الإمام الجويني قائلًا: "قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في آحاد النوع"[84]. وبيان ذلك أن "المنافع إذا قدرت نوعًا من العروض وظهر مسيس الحاجة (إليها) في المساكن والمراكب (وغيرها) التحق هذا بالأصول الكلية"[85]. فإن حضور المقاصد في ذهن المجتهد ينتقل به من استدعاء قواعد صماء إلى استدعاء روح النص الكامل، والانتقال بتطبيق الشريعة من إجراء رياضي، إلى إجراء بنائي إصلاحي على عدة صور؛ لأن المقاصد تجعل العلة صورة واحدة عن النص، لا كل الصور، والنص له صور متعدِّدة بمجموعها مقاصد الشريعة. وبذلك يكون المجتهد أكثر طمأنينة من الحكم الشرعي.
الخاتمة
- التفكير الفقهي حدثت فيه تحولات تأسيسية أهمها الانتقال من التعليل الأخلاقي إلى التعليل الفقهي.
- جعل التعليل الأخلاقي مقابل التعليل الفقهي لا يعني الندية، بل التحول والتكاملية، والانتقال من التفكير الكلي إلى التفكير الجزئي.
- هذه التحولات ليست تحولات فكرية أو تطبيقية فقط، بل منهجية، انحدرت من الدرس الكلامي والدرس الأصولي، وهما من القبليات الحاكمة على تصور الفقيه.
- للدرس الكلامي آثار منهجية، منها ضعف الاعتبار للقضايا الكلية، ونشوء القراءة العضينية.
- العلة بمعناها الأصولي جعلت الفقيه يلتفت إلى الجزئيات ويعتبرها عند الاجتهاد.
- ينبغي أن نؤكد على أن الأخلاق الإسلامية عملية تطبيقية لا فلسفية خيالية.
- إن إبراز الاجتهادات والاستنباطات الفقهية المبنية على مراعاة الأخلاق والقيم يؤكد ويؤصل الجذور الأخلاقية في الاجتهادات الفقهية.
- الكليات الأخلاقية ليست من قبيل الآيات المنسوخة كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي.
- لا بدَّ أن يُشرَّع للأخلاق كما يُشرَّع للمعاملات وغيرها.
- الأخلاق ليست أمرًا هامشيًّا، بل أمر أساسي في منظومة التشريع، بل هي بُعْده الغائي، ولا بدَّ للمجتهد أن يتحرى ذلك.
- ثبت المصادر والمراجع
-
- أحمد الريسوني، محمد جمال باروت، الاجتهاد ـــــ النص ـــــ الواقع ـــ المصلحة، دمشق: دار الفكر، ط1، 1420هـ/2000م.
- أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، د.ط، د.س.
- أبو المعالي الجويني، البرهان في أصول الفقه، بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ/1997م.
- محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح المختصر، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1407هـ/1987م.
- شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة، تحقيق: السيد سابق، القاهرة: دار الكتب الحديثة.
- أبو يوسف، الخراج، القاهرة: المطبعة السلفية ومكتبتها، ط3، 1382هـ.
- أحمد مرعي المعماري، الدرس الأصولي: رؤية تجديدية ومداخل تفعيلية، الموصل: دار وأشرقت، ط1، 2022م.
- جاسر عودة، الدولة المدنية: نحو تجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2015م.
- أحمد سالم، السبل المرضية لطلب العلوم الشرعية: دليل شامل لدراسة العلوم الإسلامية، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2016م.
- ابن أبي العز الحنفي، شرح الطحاوية في العقيدة السلفية، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المملكة العربية السعودية: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط1، 1418هـ.
- ابن حجر الهيتمي، الفتاوى الحديثية، بيروت: دار الفكر.
- تقي الدين السبكي، فتاوى السبكي، بيروت: دار المعرفة.
- ابن مفلح المقدسي، الفروع وتصحيح الفروع، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ.
- أحمد مرعي المعماري، فقه التنزيل: دراسة أصولية تطبيقية، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2015م.
- يحيى محمد، القطيعة بين المثقف والفقيه، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي.
- ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة: مكتبة السنة المحمدية، ط1، 1370هـ/1951م.
- هنري بوانكاري، قيمة العلم، ترجمة: الميلودي شغموم، بيروت: دار التنوير، ط1، 1982م.
- أبو عبيد، كتاب الأموال، تحقيق: خليل محمد هراس، بيروت: دار الفكر، 1408هـ/1988م.
- ابن حزم الظاهري، المحلى، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، بيروت: دار الآفاق الجديدة.
- عبد الرؤوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة، ط1، 1414هـ.
- مالك بن أنس، المدونة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1415هت/1994م.
- ابن أبي شيبة، المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1409هـ.
- حسن حنفي، من النص إلى الواقع: محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، بيروت: دار المدار الإسلامي، ط1، 2005م.
- أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، القاهرة: دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط2، 2010م.
- الهوامش
-
[1] الجويني، البرهان في أصول الفقه (2/90).
[2] إسماعيل نقاز، آليات التفعيل المقاصدي في الفكر النوازلي بين حركية الواقع ومرونة النص: الونشريسي أنموذجًا، ورقة منشورة على موقع مركز نماء للبحوث والدراسات (8).
[3] البرهان في أصول الفقه (2/874-875).
[4] المصدر نفسه (2/604).
[5] تطور المنهج المقاصدي عند المعاصرين، مدارسة مع الشيخ طه جابر العلواني، حوار زينب العلواني (61).
[6] المصدر نفسه.
[7] طه جابر العلواني، من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف (63-65).
[8] يحيى محمد، علم الطريقة، (31).
[9] عبد الرؤوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (1/190).
[10] المصدر نفسه.
[11] يُنظر: شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (2/255).
[12] يُنظر: المصدر نفسه (2/258).
[13] عبد الرؤوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (1/190-191).
[14] شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (2/258).
[15] عبد الرؤوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (1/190-191).
[16] طه جابر العلواني، من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف (96-97).
[17] طه عبد الرحمن، سؤال المنهج (66).
[18] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام (المكتبة التجارية الكبرى - مصر) (2/305).
[19] المصدر نفسه (2/305).
[20] المصدر نفسه (2/306).
[21] إعلام الموقعين (2/17).
[22] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/160).
[23] ابن دقيق العيد، شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (٢/١٥٩).
[24] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/10).
[25] الموافقات (1/139-140).
[26] مجموع الفتاوى (19/280).
[27] الموافقات (3/335-336).
[28] البرهان في أصول الفقه (2/723).
[29] الموافقات (3/ 335).
[30] أحمد الريسوني، الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية (31).
[31] الموافقات (5/14).
[32] مجموع الفتاوى (29/153-154). وينظر: القواعد النورانية الفقهية (8/24).
[33] الموافقات (4/303).
[34] المصدر نفسه (4/303).
[35] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (3/5-6).
[36] المصدر نفسه (3/7).
[37] المصدر نفسه (3/7-8).
[38] فتاوى السبكي (1/213).
[39] الفروع وتصحيح الفروع (4/4).
[40] الموافقات (2/63).
[41] المصدر نفسه (3/8).
[42] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (335).
[43] الموافقات (3/15).
[44] المصدر نفسه (3/12).
[45] المصدر نفسه (3/13).
[46] المصدر نفسه (3/8).
[47] المصدر نفسه (3/11-12).
[48] المصدر نفسه (3/104).
[49] المصدر نفسه (3/104).
[50] المصدر نفسه (3/261).
[51] المصنف في الأحاديث والآثار، من كان يكره النكاح في أهل الكتاب (3/474)، رقم (163).
[52] مصنف ابن أبي شيبة (5/521).
[53] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/10-11).
[54] من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه (2/637).
[55] أبو يوسف، الخراج (24).
[56] أبو عبيد، كتاب الأموال (1/71).
[57] أبو يوسف، الخراج (27).
[58] أحمد الريسوني ومحمد جمال باروت، الاجتهاد ـــــ النص ـــــ الواقع ـــ المصلحة (36).
[59] المصدر نفسه (36).
[60] يُنظر: ابن حزم، المحلى (8/202).
[61] المدونة (10/267).
[62] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره (1/46)، رقم (91).
[63] صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (2/619)، رقم (1652). ويُنظر: المحلى (8/261).
[64] أحمد الريسوني، الكليات (160).
[65] المصدر نفسه (160).
[66] ينظر: المصدر نفسه (43-44).
[67] البرهان في أصول الفقه (2/723).
[68] المصدر نفسه (2/610).
[69] الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق (1/6).
[70] نهاية المطلب في دراية المذهب (8/4).
[71] ابن حجر الهيتمي، الفتاوى الحديثية (1/19).
[72] حجة الله البالغة (1/775).
[73] الجويني، البرهان في أصول الفقه (192).
[74] مقدمة ابن خلدون (336-337). ينظر: يحيى محمد، القطيعة بين المثقف والفقيه (41).
[75] هنري بوانكاري، قيمة العلم (19).
[76] مجموع الفتاوى (20/402)، (31/108).
[77] السبل المرضية لطلب العلوم الشرعية: دليل شامل لدراسة العلوم الإسلامية (530).
[78] القرافي، الفروق (2/191).
[79] ابن قدامة، المغني (3/156).
[80] ينظر: جاسر عودة، الدولة المدنية: نحو تجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة (144).
[81] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/17).
[82] تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/56)
[83] المصدر نفسه (2/604).
[84] المصدر نفسه (2/602).
[85] المصدر نفسه (2/607).