مآلات الخطاب الفقهيِّ في ظلِّ الاستبداد

مآلات الخطاب الفقهيِّ في ظلِّ الاستبداد

-هذه الدراسة من كتاب "الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية" للدكتور أحمد مرعي المعماري.

لم تتوقَّف التربية الاستبداديَّة عند تلك التحولات الخطيرة، بل امتدَّت إلى ترسيخ قيمٍ أخرى، تُعَدُّ نتائجَ وإفرازاتٍ لتلك التحولات، وهي مآلات الصناعة الأُحاديَّة، وهنا أُسلِّط الضوءَ على صورةٍ من صور الاستبداد وهي نتيجة تلك التربية، وأجمل أهمها في نقاط، كالتالي:

  1. صناعة الوثنيَّة:

إن أخطر مآل للاستبداد هو صناعة الوثنيَّة والطاغوتيَّة والفرعونيَّة التي حذَّر منها القرآن الكريم في آياته، كما منعت السُّنة النبويَّة كلَّ مظاهر التسلُّط والقهر والابتداع؛ حتى لا تفضي إلى ضعف الإيمان والاعتقاد، وهذه مبادئ الإسلام الأساسية؛ "لأن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربِّهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتدُّ بهم إلى وثنيَّة سياسيَّة عمياء"[1].

"وطبیعة الاستبداد منازعة لله تعالى في كبره وعلوِّه، والكبر صفة لله، قال الله عز وجل: الكبریاء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار"[2].

و"طبیعة المستبد لا تقبل إلا الاستئثار بالقوة، وبالمال، وبالتشریع، والتنفیذ، والقضاء... فلا یتصور أن یجمع حوله العقلاء والأذكیاء، والأخیار من الأمَّة، ولن یؤمِّن على بابه إلا مستبد مأجور، فكیف تكون الطاعة في المعروف لمن طبیعته لا تقبل إلا الطاعة المطلقة؟!

فالأساس الذي تقوم عليه العلاقة بین المستبد والشعب لیست طاعة في المعروف، ومعصیة له في المنكر، فهي لا تقبل إلا الطاعة المطلقة، فكل جنود الطاغیة یملكون عقلك وجسدك وبیدهم كل أجهزة الدولة قد سخروها لطاعة ولي الأمر، فما موقع الطاعة، ومن أین لأسیر الاستبداد أن یكون صاحب ناموس، وهو وقد شلت إرادة الطاعة أو إرادة المعصیة؟

المستبدَّ یتحكَّم في حیاة شعبه، منذ الولادة وحتى الموت، ومع من تتحدَّث في مجلسك ومن تنتقد ومن یحرم علیك نقده.

يقول الكواكبي: "ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس، وهو كالحیوان المملوك العنان، یُقاد حیث یُراد، ویعیش كالریش، یهبُّ حیث یهبُّ الریح، لا نظام ولا إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي أمُّ الأخلاق، هي ما قیل فیها تعظیمًا لشأنها: لو جازت عبادة غیر الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحیوان عن النبات في تعریفه بأنه متحرِّك بالإرادة. فالأسیر، إذن، دون الحیوان لأنَّه یتحرَّك بإرادة غیره لا بإرادة نفسه. ولهذا قال الفقهاء: لا نیَّة للرقیق في كثیرٍ من أحواله، إنما هو تابع لنیَّة مولاه. وقد یُعذر الأسیر على فساد أخلاقه؛ لأنَّ فاقد الخیار غیر مؤاخذ عقلًا وشرعًا"... ووجه هذه المنازعة أن المستبدَّ یتحكَّم في حیاة شعبه، منذ الولادة وحتى الموت، ومع من تتحدَّث في مجلسك ومن تنتقد ومن یحرم علیك نقده، یضع نفسه موضع من لا یُسأل ولا یحاسب، هو فوق القوانین والكل تحت رأیه، كل الشعب بكل طبقاتهم ومناصبهم تحت سیادته وملكه، لا یملكون قرارًا إلا ما أذن به ولا یرون رأیًا فوق رأیه، ولا یشاؤون دون مشیئته، {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[3]، {مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}"[4][5].

وجاء التحذیر من شرك السیادة والملك، وتعبید المستبدِّ لشعبه، ووقوع الكثیر من الناس تحت الخضوع المطلق للحاكم، وذلك لم یكن بقوة حماستهم لذرائع القبور! رغم خطر الشرك عمومًا، وخطر تألیه البشر، وهو جوهر التوحید الخالص وأساسه. إلا أن السُّنة كانت ملیئةً ومشبعةً بالتحذیر، وسد جمیع الذرائع التي تسلِّط بشرًا على غیره، فقد أتت النصوص على قدرٍ كبیرٍ من الحذر، وسد كل الطرق التي قد تفضي إلى العلو البشريِّ[6].

ومن ذلك تحریم السُّنة للشرب في آنیة الذهب والفضة، ولبس الحریر والذهب للرجال، والجلوس على جلود النمور والسباع، وهو من عادات ملوك فارس والروم. ومن ذلك: عن عبد لله بن عكیم قال كنا مع حذیفة بالمدائن، فاستسقى حذیفة، فجاءه دهقان بشرابٍ في إناءٍ من فضة فرماه به، وقال: إني أخبركم أني قد أمَرْته أن لا یسقیني فيه، فإن رسول لله صلى لله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة، ولا تلبسوا الدیباج والحریر، فإنها لهم في الدنیا، وهو لكم في الآخرة یوم القیامة"[7].

وعند البخاري من حدیث البراء بن عازب: نهانا رسول الله صلى لله عليه وسلم عن سبع: عن تختُّم بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن جلوس على المیاثر" [8][9].

"فإن أعظم الآثار العقدیَّة التي تجلَّت وتكبدتها الأمَّة بسبب الاستبداد كانت في ثلاثة مظاهر أساسیَّة وهي:

  • تكریس مفهوم الطاعة للأفراد واعتبار طاعته من طاعة الله تعالى.
  •  تمییز الحاكم عن المحكوم.
  • ضعف الخضوع للقانون الذي تولد عنه قوة الخضوع للحاكم.

فالحرية كما يعبِّر عنها روسو في "العقد الاجتماعي" هي: الخضوع للقوانین، الشعب الحر یخضع ولا یُستعبد، له رؤساء لا أسیاد، یخضع للقوانین لا للأفراد، ذلك أنَّه بقوة القوانین لا یخضع للأفراد.

إن جعل الحاكم في مرتبةٍ من مراتب العلو والتمایز عن الناس، فلا یجوز للفرد أن یقف في وجه الدولة التي یمثلها الحاكم لأنها كماله النهائي، إن هذا التعظیم لشأن الحاكم، ومنع نقده أو المساس بجنابه، وتهدید كل من مسَّ جنابه في السراء أو الضراء أو حتى بالقلب لهو خطأ كبیر، وخطر عظیم على توحید العبد"[10].

  1. قلب الحقائق:

إن الحقيقة لا يقبل بها الاستبداد، وبالتالي لا بدَّ من قلب الحقائق إرضاءً للاستبداد وصيانةً له، وقد نقل الذهبي عن الظهير الكازروني وهو يمدح هولاكو ما نصه: "قال الظهير الكازروني: عاش هولاكو نحو خمسين سنةً، وكان عارفًا بغوامض الأمور، وتدبير المُلْك، فاق على من تقدَّمه، وكان يحبُّ العلماء، ويعظِّمهم، ويُشْفق على رعيَّته، ويأمر بالإحسان إليهم"[11]. ثم يعلِّق الذهبي على ذلك فيقول: "قلتُ: وهل يسع مؤرخًا في وسط بلاد سلطانٍ عادلٍ أو ظالٍم أو كافرٍ إلا أن يُثني عليه، ويكذب، فالله المستعان؛ فلو أُثني على هولاكو بكل لسانٍ لاعترف المُثني بأنه مات على ملَّة آبائه، وبأنه سفك دم ألف ألفٍ أو يزيدون، فإن كان الله مع هذا قد وفقه للإسلام فيا سعادته، لكن حتى يصح ذلك"[12].

ويقول الإمام السبكي عن والده: "ولقد كان شيخ الإسلام والمسلمين الوالِد رحمه الله يقوم في الحقِّ ويفوه بين يدي الأمراء بما لا يقوم به غيره، فيذعنون لطاعته، ثمَّ إذا خرج من عندهم دخل إليهم من فقهاء السوء من يعكس ذلك الأمر، وينسب الشيخ الإمام إلى خلاف ما هو عليه، فلا ينْدَفع شيءٌ من المفاسد، بل يزداد الحال، ولقد قال مرةً لبعض الأمراء وقد رأى عليه طرزًا من ذهبٍ عريضًا على قباء حرير: يا أمير، أَلَيْسَ في الثِّياب الصُّوف ما هو أحسن من هذا الحرير؟ أَلَيْسَ في السكندري ما هو أظرف من هذا الطرز؟ أي لذَّة لك في لبس الحرير والذهب، وعلى أي شيء يدخل المرء جهنَّم، وعذله في ذلك حتَّى قال له ذلك الأمير: اشْهَدْ عليَّ أنِّي لا ألبس بعدها حريرًا ولا طرزًا، وقد تركت ذلك لله على يَديك. فلمَّا فارقه جاءه من أعرفه من الفقهاء وقال له: أما الطرز فقد جوَّز أبو حنيفة مَا دون أربعة أصابع، وأما الحرير فقد أباحه فلان، وأما وأما ورخَّص له ثمَّ قال له: لمَ لا نهى عن المكوس لمَ لا نهى عن كذا وكذا، وذكر ما لو نهى الشّيخ الإمام أو غيره عنه لَما أَفَادَ، وقال له: إنَّما قصد بهذا إهانتَك، وأن يبيِّن للنَّاس أنَّك تعمل حرامًا، فلم يخرج من عنده حتَّى عاد إلى حالِهِ الأول، وحنق على الشيخ الإمام وظنَّه قصدَ تنقيصه عند الخلق، ولم يكن قصد هذا الفقيه إلَّا إيقاع الفتنة بين الشيخ الإمام والأمير، ولا عليه أن يُفتي بمحرمٍ في قضاء غَرضِه. وهذا المسكين لم يكن يخفى عليه أن ترك النَّهْي عمَّا لا يُفيد النَّهْي عنه من المفاسد لا يُوجب الإمساك عن غيره، ولكن حمله هَوَاهُ على الوقوع في هذه العظائم، والأمير مسكين ليس له من العلم والعقل ما يُميّز به"[13].

إن تزويرَ الحقِّ وقَلْبَهُ وشيوعَ الباطلِ هي مخاطرُ ومآلاتٌ سيئة نمت في أجواء الاستبداد، والأمر ليس متعلِّقًا بواقعة هنا وهناك، بل كثر مثل ذلك الفعل واشتهر، وهو ما يخبر عنه الإمام السبكي نفسه، معلقًا على النصِّ السابق، فيقول: "والحكايات في هذا الباب كثيرة، ومسك اللِّسان أولى، والله المستعان"[14].

  1. نقل ثقافة الاستبداد إلى الجماعات الإسلامية:

لقد تحول الاستبداد إلى أوساط الجماعات الإسلاميَّة، فبدأت تفرض الوصاية والطاعة وعدم الخروج عن منهجها وفكرها، وإن خرج يُعَدُّ خروجًا من الدين، وذلك من خلال تنزيل نصوص البيعة والطاعة على فئةٍ معيّنة ارتضت لنفسها أن تكون ممثلةً عن الإسلام والمسلمين.

من مشاكل الاستبداد اتساع خيوط عَلْمَنَة التيارات الإسلاميَّة بحجَّة تحصيل المصالح وتقليل المفاسد.

وهو من الاستبداد الخفيِّ الذي تربت عليه الجماعات الإسلاميَّة، فبدأت انشطاراتها أكثر تطرفًا من الجماعة الأصل، وجعل الاستبداد ثوبًا ولغةً لا تجاريها لغةٌ. وكذلك من مشاكل الاستبداد اتساع خيوط عَلْمَنَة التيارات الإسلاميَّة بحجَّة تحصيل المصالح وتقليل المفاسد، وحتى إذا أفاقت من سباتها وجدت المفاسدَ قد أكلت ثوابتها وخرمت مبادئها. وكذلك نحى الخطاب الفقهيُّ إلى توسيع فجوة الخلافات بين التيارات والجماعات الإسلاميَّة، في حين هناك كثيرٌ من المشتركات، والكبيرة في الوقت نفسه، لكن الاستبداد يخدمه اللعبُ على هذه الوتيرة وتشتيت الجهود وتضييع الطاقات وهدرها.

فتمَّ صناعة الولاءات الخدَّاعة: الولاء للحزب والجماعة والمشرب، دون الأمَّة، وهذا من المخاطر الكبرى في أدبيات الجماعات الإسلاميَّة، وهي بلا شكٍّ صنيعة الاستبداد المعرفيِّ والسياسيِّ.

فحصر الحق في فئةٍ معيَّنة ومنحها كلَّ المعرفة الحقَّة، مما يحقُّ لها أن تستجلب إلى إسلامها من تشاء وتُخرج منه من تشاء.

  1. التناقض والتقاطع في الرؤى:

ما صنعه الاستبداد في الخطاب الفقهيِّ المعاصر جعله في الغالب يسير باتجاهين متناقضين غالبًا. والمشاركة السياسيَّة وعدمها مثال على ذلك: ففريق قاتل من أجل صحَّة مبدئه، وأنه شرعيٌّ فأجاز لنفسه كثيرًا من الممارسات - وقد يكون منها ما هو غير شرعيٍّ - بداعي المصلحة. وفي المقابل، فريق آخر رفض الأمر جملة وتفصيلًا.

وبغضِّ النظر عن صحَّة الأول وخطأ الثاني أو العكس، فإن ذلك التقاطع نابعٌ من أدبيات الاستبداد السياسيِّ والمعرفي، فوصف كلُّ فريقٍ منهم المخالفَ بالعمالةِ والردَّة والخيانة.

  1. توسيع دائرة التسامح إلى التمايع، والتعايش إلى الذوبان:

وكذلك أحد الأمور السيئة التي صنعها الاستبداد المعاصر هو تشويه الخطاب الإسلاميِّ وجعله في موضع المتهم الذي يبقى مدافعًا عن نفسه؛ جراء التهم الموجهة إليه، فنشأت صور (التطرف في مبدأ التسامح) و(ومبدأ التعايش) الذي تمايع معه الخطاب الفقهي؛ من أجل إرضاء الآخرين بالمنهج الإسلامي، ولُوِيت أعناق النصوص، وتمت مخالفة نصوصٍ قطعيَّة، كما وصل بأحدهم أن يفتي بجواز نكاح الكتابي من المسلمة؛ بداعي الوطنية والتعايش والتسامح، فضاعت الهوية الإسلامية واستقلاليتها وتميزها. وذلك لمصلحة إحلال التآخي الوطني والوحدة بين المسلمين وغيرهم من الكتابيين[15]. وهو بهذا قد خالف النصوص المنشئة للمصالح، وهي {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}[16]، كما أنَّها تؤكِّد المفاسد التي ستؤدي إلى رِدَّةِ المرأة والانسلاخ من دينها بسبب الطَّاعة لزوجها، وهذه مخالفة للنصوص القطعيَّة التي تدعو إلى إسلامية العالم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[17].

  1. تقزيم مفهوم الشريعة:

ومن المآلات السيئة كذلك، أن يتحول الخطاب الفقهيُّ الذي عاش في ظل الاستبداد إلى واقعٍ يتكلم به ويحتكم إليه، من غير اعتبارٍ للواقع وللظروف السياسيَّة، فتحصل من ذلك "اختزال مفهوم الشريعة لتصبح السياسة الشرعيَّة وحقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية، والمساواة؛ كل ذلك لا علاقة له بالشريعة التي يُراد تطبيقها والدين الذي يُدعى الناس إليه اليوم؟!"[18].

وبهذا بدأ الخطاب الفقهيُّ ينشغل بالهامش ويترك المتن، فصنع خطابًا يتغنَّى ويُفتي وفق ذلك، وعندها يشوِّه الاستبدادُ الواقعَ ويحوله إلى بيئةٍ غير طبيعيَّة.

من شأن السياسي أن يحوِّل الهامشَ إلى متنٍ والمتنَ إلى هامشٍ حتى ينشغل الخطاب الفقهيُّ بعيدًا عن واقعه.

"إن أثر الاستبداد ظهر في تثبيط الهِممِ عن علاج المسائل المتعلِّقة بأصل الحكم، ومن ثمَّ اشتغل المسلمون بألوانٍ من الترف العقليِّ وعكفوا على البحوث الفلسفيَّة والنظريَّة والفرعيَّة مما لا يضير الحكَّام المجرمين أن تؤلَّف فيه المجلدات الضخام. واكتفى العلماء بدراسة آراء الإسلام في الحكم والمال، وتلاوة الآيات والأحاديث التي تكشف عن خلل الأوضاع القائمة. ويبدو أن مصارع الخارجين على الدولة وذهاب محاولاتهم دون جدوى جعل جمهور العلماء يقبل - عمليًّا - الأمر الواقع، ويرفض - نظريًّا - الاعتراف به، فهو يقاطع الحكَّام ويجالس العامَّة، ويقرِّر وجهة نظر الدين في الفساد والمفسدين، ويؤلف عصبياتٍ شعبيَّة للكشف عن الحقِّ وحمايته، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من الولاة المتغلبين، أي إن الدين كان في صفِّ المعارضة، أما الحكم نفسه فقد سار على سياسةٍ أخرى رسمتها طبيعةُ الاستبداد بالعباد والبلاد!"[19]. ومن شأن السياسي أن يحوِّل الهامشَ إلى متنٍ والمتنَ إلى هامشٍ حتى ينشغل الخطاب الفقهيُّ بعيدًا عن واقعه[20].

ومن ذلك تضخيم المسائل الفرعيَّة وتوسيع مساحة الخلاف في الفضيلة، وهو ليس كالخلاف في الجواز وعدمه، وحصر الكلام الفقهي في الزوايا التعبُّديَّة وجعلها نموذجًا للتكايا والعزلة الفقهيَّة، أو بتعبيرٍ آخر: جعلها "نموذجًا للزهد الفقهي" يظهر في الكلام عن مسائل العبادات دون مسائل الدنيا، وكذلك التوسع في سدِّ الذرائع على حساب فتحها.

و"حصر الفقه في "المظهر الديني" للعبادة دون "المظهر الاجتماعي والمظهر الكوني". وهو ما قام به "فقهاء التقليد المذهبي" و"فقهاء السلاطين والخلفاء" الذين سجنوا الفقه، ومحتوياته في حدود قيم العصبيات التي هيمنت بعد عصر الخلافة الراشدة، وجعلت محورها "القوة فوق الشريعة" بعد أن كان محور القيم "الشريعة فوق القوة"، مما أدى إلى إهمال الفقه المتعلِّق بـ"الأمة" وعناصرها في الهجرة، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، وانحسار ميادين الفقه إلى ما يتعلَّق بـ"الفرد" وتضخيم قضايا الطهارة، والحيض والنفاس وأمثالها"[21].

ومن ذلك ما نقله البيهقيُّ عن الإمام الشافعيِّ يقول: "إن ابن عجلان أنكر علي والي المدينة إِسْبَالَ الإزار يوم الجمعة على رؤوس الناس، فأمر بحبسه، فدخل ابن أبي ذئب على الوالي فشفع له، وقال: إنَّ ابن عجلان أحمق، يراك تأكل الحرامَ وتلبس الحرامَ وتفعل كذا فلا ينكره عليك، ثم ينكر عليك إسبالَ الإزار؟! فخلَّى سبيلَه"[22]. والشاهد في ذلك هو التحول في الخطاب الفقهيِّ إلى الشكليَّة والتعامي عن مواطن الزلل الأخطر والأعمق، وهذا الطرح هو ما يخدم الاستبدادَ ويمدُّ الحبلَ له، وهو ما يُفسر فعل الوالي تجاه ابن عجلان "فَخَلَّى سبيلَه" كما نقل البيهقي.

  1. فساد أخلاق المجتمعات ونشوء الذلِّ والهوان:

إن الاستبداد يروِّض الناسَ ويجعلها شعوبًا خانعة وخاضعة، تحمل أخلاقًا تفتقد قيم الإسلام الحقيقية؛ "لأن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتُساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذلُّ نفوسها، ويذهب بأسُها، وتضرب عليها الذلَّة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمدُ الظلم تصير هذه الأخلاق موروثةً ومكتسبةً حتى تكون كالغرائز الفطريَّة، والطبائع الخلقيَّة، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلَّت منك ليتقحم فيها، وهذا شأن البشر في كلِّ ما يألفونه، ويجرون عليه من خيرٍ وشر، وإيمانٍ وكفر"[23].

عبادة العجل الذهبي

ومن هذا ما قصَّه علينا القرآن الكريم من قصَّة بني إسرائيل، فقد "أفسد ظلمُ الفراعنة فطرةَ بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها طابعَ المهانة والذل، وقد أراهم الله تعالى ما لم يُرِ أحدًا من الآيات الدالَّة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبيَّن لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذلِّ والعبوديَّة والعذاب إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كلِّه إذا أصابهم نصبٌ أو جوع أو كُلِّفوا أمرًا يشقُّ عليهم، يتطيَّرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أيامًا لمناجاة ربِّه، اتخذوا لهم عجلًا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه، لِما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين، وإعظام معبودهم العجل (أبيس)، وكان الله تعالى يعلم أنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتمُّ على وفق سنَّته في طبيعة الاجتماع البشري، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنيَّة والعبوديَّة للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهيَّة، وما كان الله ليهلك قومًا بذنوبهم حتى يبيِّن لهم حجَّتَه عليهم؛ ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السُّنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدَّسة بعد أن أراهم عجائبَ تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا، فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قومًا آخرين، جعلهم هم الأئمَّة الوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم الموافقة لسنَّته وشريعته المنزلة عليهم؛ فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدَّسة. فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بيَّنها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأُمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيلٍ جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثةُ الأنبياء، الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حبِّ الإصلاح وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد"[24].

  1. التغيير بيد السلطان:

لقد كوَّن الخطاب الفقهيُّ فكرةً مفادها أن التغيير والتحويل بيد السلطان، فهو الآمر والناهي بشكلٍ مطلق ولا تجوز مخالفته، فبرزت مقولة: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ومعناه: ما يمتنع الناس منه خوفًا من السُّلطان أكثر ممَّا يمتنع الناس منه خوفًا من القرآن"[25]. وهو صحيح في سياقه الذي قيل فيه، إلا أنه تمَّ تضخيم ذلك المبدأ حتى أصبح أداةً شرعيَّة للاستبداد من خلال نزعه إرادة الناس وإكراههم بلغةِ الفقهاء ولسان الشرع المحرَّف.

‏"والذي يتأمَّل في أحكام الشريعة الغراء يدرك أن تطبيق أكثر من ٩٠% منها من مسؤوليات الناس وليس الدولة؛ ولهذا فإن الذي يمنح صفة "الإسلامية" للبلد المجتمع وليس الدولة"[26].

في حين أن القرآن يزع ما لا يزع السلطان، لكن صوَّر الخطاب الفقهيُّ "السلطانَ" بأنه أمير الله أو خليفة الله وأنه قدر الله، فجعلت تلك المفاهيمُ للسلطانِ منزلةَ الراعي الذي يسوق الرعيَّة. ومن هذا آلت الأمور إلى أن تتشكَّل أفكار الجماعات الإسلاميَّة تحت هذا المنظور، فمن سعى إلى إصلاح الواقع وتغييره فعليه هو الحصول على السلطة، وإذا تمَّ الحصول على السلطة سيتم نصر الإسلام ونشره وتغيير المجتمعات، وغيرها من الأحلام التي لم ولن تتحقَّق؛ لأن الأمر أعقدُ بكثيرٍ من منصب السلطان وغيره.

فسعت بعض الجماعات أن تستهلك نفسَها وأتباعها في غايةٍ موهومة، وحتى بعد التضحيات وذهاب الأفراد واستهلاكهم تم الاستسلام للسلطة، وإذا بالأمور ليست كما تم تصويرها. وفي المقابل، تشكَّلت ردَّة فعل أخرى - وإن كانت متشكِّلةً من قبل - وهي من يرى أن يصلح الواقع من غير أن يلتفت للسلطة، فبدأ بخطابه الذي يلعن الآخر، وإن صفَّق للباطل لا يضرُّ ذلك؛ للمصلحة المرجوَّة من ذلك. وهكذا تخبَّطت الأفكار بشكلٍ كبير، وتشكَّلت هذه الأفكار من خلال الخطاب الفقهيِّ المسيطر على أفكارها ومبادئها، المحفوف بالاستبداد السياسيِّ المغامر، والمعرفيِّ المناصر.

وهذه الأفكار تمت من خلال قراءة النصوص الشرعيَّة والأحكام الفقهيَّة المسيَّسة؛ لترسم أيديولوجياتها المتحيزة.

  1. صناعة الفِرق والمِلل والنِّحل:

"ولو تتبَّع الباحث لتاريخ الفرق والملل والنحل التي كتب عنها العلماء المجلدات، فإنه سيجد أن العنصر السياسيَّ الاستبداديَّ كان له دورٌ إمَّا في نشأتها أو في تأجيجها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه وحتى عصرنا الراهن"[27].

"فكثيرًا ما تكون العقائد التي تقوم على الخرافة، أو التخلُّص من الأئمة طريقةً من طرق تخلُّص النفس من الألم الداخليِّ والتَّعب النفسيِّ، وهي نوع هروب من الواقع أو ميكانيزمات دفاع كما يسميها فرويد"[28] وهي التي يدعو إليها الاستبداد ويشجِّعها. وهذه الفرق والملل والنحل عادةً ما تتبنَّى آراء فقهيَّة تميزها، وتنفرد بها، وتتشكَّل من خلالها مواقفها. ونغمة التكفير القويَّة بين الفرق والمذاهب والمشارب، صانعها هو الاستبدادُ أصالةً، وحوَّلها علماء السلطان إلى نصرةٍ للحقِّ والدين.

والملاحظ يجد أن لغة التكفير نمت من طريقين: الأول من لغةٍ سياسيَّة سلطويَّة إقصائيَّة تم توظيف الخطاب الشرعيِّ فيها لتبرير سياسة القتل والإقصاء والإبعاد. والثاني ردَّة فعلٍ باتجاه تلك السياسة التي استخدمت تلك النزعة، فخاطبتها بالنبرة نفسها لتنتزع شرعيتها، بين هذا الطريق وذاك، وتمَّ توليف خطاب دينيٍّ يكرس هذا المبدأ، بغطاء النصوص الشرعيَّة، في حين أن مساحة الخلاف في فضاءات النصوص ودلاتها واضحةٌ للعيان. فتشظَّت المجتمعات إلى أحزابٍ وجماعاتٍ ومللٍ وفِرق، غرقت في وهمها الخداَّع مجتمعاتٌ، وراح ضحيتها أنفسٌ كثيرة، وما زالت إلى اليوم تلك الصور يتمُّ اجترارها من جديدٍ ليلبس الناس ذلك اللباس، وفيه زخرفات المعاصرة وبهرجات الواقع.

  1. المبالغة في خطاب الفتنة:

إن الفتنةَ لغةٌ يستخدمها الفقيه، ليلجم من يتكلَّم بوجه الاستبداد، ويرفض ممارساته، وهي لغة تبدو مهذبةً في طرحها، وتمتصُّ غضبَ الناس، من خلال طرحٍ خدَّاع بأننا معكم وفيكم، إلا أننا نخشى عليكم من الفتنة التي تأكلكم، فبدأ "يركِّز الاستبداد على خطاب الفتنة وما قد يلحق المجتمع من شرٍّ وبلاء في حال تبنِّيه لرأي فقهيٍّ أو حكم شرعيٍّ يتعارض مع مصالحه، وقد يقتنع بعض العلماء بهذا الخطاب عن حسن قَصْد، وقد يكون الأمر على حقيقته في بعض الوقائع، ولكنه يتخذ صورة الاطراد في جميع الوقائع، بحيث يصبح الفقيه غير قادرٍ على ضبط الفتوى بالاتجاه الواقعيِّ الصحيح، بل هو مسيَّر فيها دون وعيٍ وإدراكٍ تام"[29].

فأنشأ الاستبداد نمطيَّةً من التفكير، باتجاهٍ واحد، وإلغاء كل تفكير إيجابيٍّ يخالف تلك النمطيَّة. وهذا النمط تم تصديره على مستوى الفكر المعاصر، ومن غريب الفتاوى المعاصرة تلك التي حرَّمت التظاهر السلمي والمطالبة بالحقوق درءًا للفتن، ونصَّت أن "حوادث التحرش بالنساء في التظاهرات، وقد يكون بعضها مفتعلًا وبعضها الآخر غير ذلك. وهي أيضًا باب للخروج على الحكام وفتح ذرائع الفتنة"[30]. فأكثر ما تمَّ الارتكاز عليه هو مصطلح "الفتنة" الذي تمَّ توحيد معناه في نطاق التداول السياسي والسلوكي، فكلُّ فعلٍ تصدَّى للملك الجبريِّ والعضوض بغير الوسائل "الصامتة"، فهو معتبر من وسائل الفتنة التي تستوجب العقوبة على من دعا إليه ورميه بأوصافٍ عقائديَّة[31].

وهناك مسألة يمكن التحرِّي عنها ومناقشتها، وهي أن أكثر ما جاء من الأحكام المتعلِّقة بالسلطان أُخذت من زمن الفتنة، زمن سيدنا عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما، وظلَّ الخطاب الفقهيُّ عند الفقهاء متخوفًا من بروز تلك الجماعات الخارجة وتكرارها، فبدأ يعامل كلَّ من أراد أن يصلح أو أن ينكر بمعروفٍ بتلك الرؤية، ولا شكَّ أن ما حدث كان مروعًا لذهاب الخلافة الحقيقيَّة واستبدالها، وما جرت من ويلاتٍ وانتكاساتٍ ونكباتٍ مترامية ومتلاحقة. فشكَّلت تلك الحوادث ردَّة فعلٍ قويَّة على الخطاب الفقهي، فبدأ يتنكَّر لكل معترضٍ ولكل رأي مناهضٍ أو خارجٍ عن نمط تفكير السلطة، وبالتالي بدأ الاستبداد يرسِّخ قوتَه؛ لاستنادها للرأي الفقهي.

  1. تشويه المفاهيم الشرعيَّة:

لقد سعى الاستبداد إلى تشويه كثيرٍ من المفاهيم، ومنها مفهوم "الجهاد" وحصره بالقتال، وبدأ تضخيمه بشكلٍ أكبر مما هو مقرَّر شرعًا، فبرزت تياراتُ التطرُّف والأفكار المشؤومة، وهي تجزئ الإسلامَ وتحصره بخاناتٍ معيَّنة من غير رؤيةٍ تكامليَّة.

الانسحاب من الحياة عبر "فقه التزكية" يشكِّل مغالطةً كبيرة مع المفاهيم القرآنيَّة الداعية إلى عمارة الحياة وإقامة حضارتها.

فالعامل السياسيُّ هو أحد العوامل المهمَّة في نشوء الأفكار المتطرفة، وكان الفعل السياسيُّ - على مر التاريخ - هو سبب صعود الفكر المتطرف الذي يستدعي نصوصًا متجزأة من سياقاتها تبريرًا لفعله، وإلباسه لباسًا دينيًّا. وكذلك مفهوم "الإصلاح" وحصره بإصلاح العبد لنفسه مع الله، وترك كل جوانب إصلاح الحياة الكثيرة والكبيرة، وتم قصر الجنَّة لمن انقطع عن الدنيا، وبات ليله يركع ويصلي، وإن قصَّر في أداء وظيفته وعمله. والحقُّ أن الانسحاب من الحياة عبر "فقه التزكية" يشكِّل مغالطةً كبيرة مع المفاهيم القرآنيَّة الداعية إلى عمارة الحياة وإقامة حضارتها، وساعد الخطاب الوعظي المخدِّر بأداة النصوص المجتزأة في الانسحاب من الحياة وتشكيل العقل المسلم، وحصر التزكية بذم الدنيا، وأفرز - على الأغلب - نموذجين:

  • الانهزامي المنعزل عن الحياة، هذا إن لم يقوَ على الصراع.
  • والذي يقوى على الصراع يفجِّر الحياة ويكفرها.

وكذلك تمَّ "تشويه معنى "الولاية"، وهو ما قامت به طرق التصوف السلبي المنسحب من الحياة حين شوَّهت معنى "الولاية"، وأخرجت هذه الولاية من محتواها الاجتماعي، وجعلت وليَّ الله كلَّ مخبولٍ أهبل، منسحبٍ من الحياة، عاجز عن العمل، خانع أمام الظلمة، قانع بالفاقة والقهر والاستغلال. فوجد السلاطين الظَّلَمةُ في نموذج هذا "الدرويش" صورةَ المسلم الذي يجب على التربية تنشئته لتسهيل مهمتهم في الهيمنة، والتملُّك والاستغلال"[32].

  1. استخدام الأصول والقواعد الشرعيَّة:

من أجل تثبيت الاستبداد وتجذيره، لا بدَّ من الدخول إلى الأصول المؤسِّسة واستخدامها، وقد بيَّن الدكتور محمد العبد الكريم ذلك قائلًا: "آثار الاستبداد على أصول وقواعد الشرع، وتمثَّلت في:

  •  توریط الشریعة في ترسیخ كیان الاستبداد. فتشریع الغَلَبة والاستئثار بالسلطة تمَّ بواسطة نصوصٍ وتأصیلاتٍ عقدیَّة وإجماعات.

الشرع جعل قیمة الشورى في الإلزام بها، والمستدل لا یرى بأسًا بإقصاء الشورى في انتخاب الحاكم، فیجوز له أن یتولَّى بالسیف.

وقد ظهر ذلك في استعمال النصوص في غیر ما سیقت له: فالنص القرآنيُّ یرد في إرجاع الأمر للجمع، والمستدل للاستبداد یرجعه للفرد. والإصلاح في القرآن معنى شامل، والمستدل یحصره أحیانًا في التعبُّد وإصلاح الفرد لنفسه. والحدیث یرد في نفي الاستبداد، كما في حدیث "وألا ننازع الأمر أهله"، والمستدل یستدلُّ به على عدم منازعة المستبد! والشرع حدَّد مراتب المصالح وجعل العدل أعلى رتبة، والمستدل یستدلُّ على مصلحة الأمن بلا تحدیدٍ لها في أي رتبة أو تقدیر للمفسدة. والشرع جعل الشورى للأمَّة، والمستدل حصرها بأهل الحل والعقد، ومنهم من یجعلها في الفقهاء والعلماء. والشرع جعل الشورى من عزائم الأحكام وكلیَّات الشرع، والمستدل جعلها من فروع الفقه وجوَّز فیها الخلاف. والشرع جعل قیمة الشورى في الإلزام بها، والمستدل لا یرى بأسًا بإقصاء الشورى في انتخاب الحاكم، فیجوز له أن یتولَّى بالسیف. والشرع أراد الشورى ملزمةً، والمستدل للاستبداد أرادها معلِمة، ولو كان الرأي فیها قد أُجمع علیه. والشرع أراد العمل بالمصالح إذا كانت مقدرةً محدودة الزمان والمكان، والمستدل یطلق التحریم والتحلیل في المصالح السیاسیَّة دون ترتیبٍ بین رتب المصالح، وقد یؤبد التحریم في وسیلة تحتمل الصواب والخطأ ولم یستوفِ فیها التقدیر. والشرع جعل جوهر التوحید في مقارعة الأوثان البشریَّة، والمستدل جعل من أسس العقیدة: طاعة الحاكم الجائر، وجعل الدعاء له علامةً على منهج أهل السنة، والدعاء علیه علامةً على منهج أهل البدع"[33].

 وبهذا قضى الفقه السياسيُّ الذي تلبَّس بالفتوى الدينيَّة والتوجُّهات الفقهيَّة على نموِّ التصورات السياسيَّة ومواكبة البشريَّة بعمل قالب حديديٍّ جعل الاستثناءَ قاعدةً مطَّردة، فحكم على الأصل بوضعيَّة تاريخيَّة معيَّنة[34].

وكذلك استخدام النصوص والأحكام كأداةٍ من أدوات الاستبداد، كاستخدام حكم الردَّة والتوسُّع فيه للقضاء على الخصوم وإقصائهم، وفي هذا يقول الدكتور طه جابر العلواني: "إن قضية الردَّة سياسيَّة، واستمرت سياسيَّة، وستظل كذلك، والجانب الدينيُّ فيها ضئيل لا يُثار إلا ليوظَّف في خدمة الجانب السياسيِّ وما يتعلَّق به، سابقًا وحاليًا ولاحقًا"[35].

  1. التربية الاستبداديَّة:

من أخطر المآلات أن يكون الاستبداد ثقافةً سائدةً في كل المجالات على مستوى الفرد والبيت والعمل، فيشكِّل طابعًا عامًّا ويصبح الاستبداد مدعاةً للفخر والتباهي، والمستبد من أكثر الأفراد قبولًا اجتماعيًّا.

وهذا ما دعا الشيخ رشيد رضا أن ينادي قائلًا: "أفترى هذه الأمَّة تعتبر اليوم بسيرة سلفها، وهي لم تعتبر بما بين يديها، وأمام عينيها، وما يُتلى كل يوم عليها من أحوال الأُمم التي كانت دونها في العلم والقوة، والعزة والثروة، فأصبحت منها في موقع النجم، تشرف عليها من سماء العظمة بالأمر والنهي، ومنشأ ذلك كله الاستقلال الشخصي في الإرادة والعقل; فإن الآباء والأمهات متفقون فيها على تربية أولادهم على استقلال العقل والفهم في العلم، واستقلال الإدارة في العمل، فقرَّة أعينهم أن يعمل أولادهم بإرادة أنفسهم واختيارهم ما يعتقدون أنه هو الخير لهم ولقومهم.

وإنما قرَّة أعين أكثر آبائنا وأمهاتنا أن ندرك بعقولهم لا بعقولنا، ونحب ونبغض بقلوبهم لا بقلوبنا، ونعمل أعمالنا بإرادتهم لا بإرادتنا، ومعنى ذلك ألا يكون لنا وجود مستقلٌّ في خاصَّة أنفسنا، فهل تُخرج هذه التربية الاستبداديَّة الجائرة أمَّةً عزيزة عادلة، مستقلَّة في أعمالها، وفي سياستها وأحكامها؟ أم البيوت هي التي تغرس فيها شجرة الاستبداد الخبيثة للملوك والأمراء الظالمين، فيجنون ثمراتها الدانية ناعمين آمنين؟ فعليكم يا علماء الدين والأدب أن تبينوا لأمتكم في المدارس والمجالس حقوقَ الوالدين على الأولاد، وحقوقَ الأولاد على الوالدين، وحقوقَ الأمَّة على الفريقين، ولا تنسوا قاعدتي الحرية والاستقلال، فهما الأساس الذي قام عليه بناء الإسلام"[36].

وبهذا فإن "بنیان الاستبداد بنیانٌ مرصوص، وجذوره ضاربة في عمق التاریخ، حتى صار عقیدةً وفقهًا وكتبًا ومنابرَ وجامعاتٍ ودورَ نشرٍ، ووزاراتٍ تشرف على بنیانه، وعتادًا دینیًّا متكاملًا بكل أنواع الأسلحة لمواجهة بدائل الاستبداد والملك العضوض"[37].

ومن المفردات التي تتوارد في لغة الاستبداد، مفردة "السلف" التي فيها قدرٌ من الاستعلاء والتسلُّط والأصالة والاحتكار للفهم، وكذلك مصطلح "الجماعة" وغيرها من مفردات التيارات الإسلامية التي صاغتها بقدرٍ كبيرٍ من التحيُّز للفكر الاستبداديِّ، شعرت أو لم تشعر، وتقلَّبت مع هذه المفردات مربِّيةً أجيالًا من الإسلاميين المؤسسين للاستبداد غفلةً وجهلًا.


الهوامش

[1] الإسلام والاستبداد السياسي (ص13).

[2] مسند أحمد (14/ 473) رقم (8894). حديث صحيح، وهذا إسناد حسن.

[3] سورة النازعات: الآية (24).

[4] سورة غافر: من الآية (29).

[5] تفكيك الاستبداد (ص167-168).

[6] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، بَابُ ائْتِمَامِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ (1/ 309) رقم (84).

[7] صحيح مسلم، كتاب اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ، بَابُ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ، وَإِبَاحَةِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ لِلرَّجُلِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ (3/ 1637) رقم (4).

[8] صحيح البخاري، باب آنية الفضة (5/ 2134) رقم (5312).

[9] ينظر: تفكيك الاستبداد (ص171).

[10] تفكيك الاستبداد (ص177).

[11] تاريخ الإسلام (15/ 107).

[12] تاريخ الإسلام (15/ 107).

[13] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 59).

[14] طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 60).

[15] ينظر: العقل والشريعة، تأليف فضل الله مهدي (دار الطليعة، بيروت - لبنان) (ط1، س1995) (ص84). وينظر: جدل الأصول والواقع، حسن حنفي (ص428).

[16] سورة البقرة: من الآية (221).

[17] سورة البقرة: من الآية (208).

[18] الحرية أو الطوفان، د. حاكم المطيري (ص11).

[19] الإسلام والاستبداد السياسي (ص183).

[20] ينظر: حجاب الرؤية (ص138).

[21] أهداف التربية الإسلامية (ص453).

[22] مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 218).

[23] تفسير المنار (6/ 278).

[24] تفسير المنار (6/ 279).

[25] تفسير السمعاني (4/ 84).

[26] محاضرة عامَّة للدكتور عبدالكريم بكار في برنامج صراحة، الذي تبثه مؤسسة رؤية للثقافة والعلوم في إسطنبول.

[27] حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي (ص131).

[28] المرجع نفسه.

[29] حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي (ص143).

[30] الربيع العربي (وإسقاط فتاوى الاستبداد) 26 أغسطس، 2012 | 8:02 مساءً، موقع صحيفة الخبر.

[31] يُنظر: تفكيك الاستبداد (ص39).

[32] أهداف التربية الإسلامية (ص454).

[33] تفكيك الاستبداد (ص65).

[34] ينظر: التراث وإشكالياته الكبرى، نحو وعي جديد بأزمتنا الحضارية (ص85).

[35] لا إكراه في الدين، د. طه جابر العلواني (ص35).

[36] تفسير المنار (5/ 73).

[37] تفكيك الاستبداد (ص75).

الكلمات الدلالية