قراءة في كتاب «مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي»
هناك[1] مقولة رائجة ترى أن للقانون موقعًا بارزًا في الإسلام كما هو في اليهودية. ففي الإسلام قواعد قانونية أوَّلية، ويُمثّل القرآن والسُّنة أهمَّ مصدرين من مصادر الوحي والتشريع لدى أهل السُّنة، الذين يمثلون أغلبية المسلمين. ومع صعود ما يُسمَّى الصحوة الإسلامية الحديثة، ومحاولتها استعادة الشريعة، لا يسع المرء إنكار أن الفقه الإسلامي لا يزال يمثّل ركيزةً مهمةً لتشكيل الهوية الإسلامية بوصفة سِمة ثقافية، وليس مجرَّد ممارسة وضعية. وقد أدى هذا الصعود أيضًا إلى ظهور اهتمام بالدراسات الغربية [حول الفقه]، التي غالبًا ما كانت تُربط في السابق بالسياسات الاستعمارية والإمبريالية، كما أشار العديد من الباحثين[2].
ومع أن في المرجع قسمًا حول "النشأة" (وهو القسم الثالث)، الذي يتناول النقاشات الكلاسيكية التي طرحها جوزيف شاخت وآخرون وأحياها وائل حلّاق الذي طرح تساؤلاتٍ حول مدى صلاحية الفرضيات القديمة حول نشأة الفقه الإسلامي، فإن الكتاب لا يبدأ بالحديث عن النشأة، وإنما بنقدٍ نسويٍّ للدراسات الفقهية في العالم الغربي اليوم.
يحاول "مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي" تقديم توليفة حديثة وشاملة من البحوث العلمية حول الفقه الإسلامي، بغيةَ طرح سردية مضادة لما يرى المحرران أنه طرح "استعماري" أو "استشراقي". ويبدو هذا الزعم طريقةً أخرى لتقديم طرحٍ ثوريٍّ في الدراسات الفقهية، غير أن النتيجة جاءت بحوثًا تتلاءم مع القِيَم الليبرالية الحديثة. ومع أن في المرجع قسمًا حول "النشأة" (وهو القسم الثالث)، الذي يتناول النقاشات الكلاسيكية التي طرحها جوزيف شاخت وآخرون وأحياها وائل حلّاق الذي طرح تساؤلاتٍ حول مدى صلاحية الفرضيات القديمة حول نشأة الفقه الإسلامي، فإن الكتاب لا يبدأ بالحديث عن النشأة، وإنما بنقدٍ نسويٍّ للدراسات الفقهية في العالم الغربي اليوم. ويعقب هذا نقاش حول مكانة الفقه الإسلامي ضمن تاريخ العلوم الإسلامية الأخرى، مثل علم الكلام والفلسفة وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وموضعه في سياق فهم العناصر المفهومية التي تُشكّل ماهية الفقه ومؤسساته. أما القسمان الرابع والخامس فيقدِّمان نقاشًا موسعًا ومتشعبًا حول الفقه والمجتمع اليوم، فيغطيان سياقات مختلفة حول العالم، وحالات مختلفة تتصل بالنقاشات الحديثة في الأمر.
هناك بالتأكيد بعض الإسهامات المهمة والقوية جدًّا في هذا المرجع من شأنها أن تكون عونًا لدارسي الفقه الإسلامي. ومن أبرز تلك الإسهامات ما قدَّمه روبرت غليف من عرضٍ لأصول الفقه الشيعي، فضلًا عن ذلك الفصل المهم الذي تناول فيه ماتيو إنغالز العهد المملوكي. ومن أن النصوصيين المعاصرين يرون أن تطبيق الشريعة محكومٌ بالتفسيرات القديمة، فإن الفصل الذي كتبه عبد الله سعيد -ويعكس الواقع الأسترالي- يقدم مثالًا على الدفع باتجاه توسعة مجال حرية الاجتهاد والاستنباط من المبادئ الأولى، وليس مجرَّد التلفيق بين الآراء والأحكام الواردة في التراث. وهذا يدعم النقد الوارد في الفصول التي سبقته حول معضلة الاجتهاد واختلاف الآراء والمذاهب الإسلامية فيها. وهناك أيضًا تأكيد واضح على التعامل مع الفقه الإسلامي لا بوصفه مجرَّد نصوص مدوَّنة، وإنما بوصفه تراثًا حيًّا قد يتباين باختلاف طرق قراءة مصادره وتناولها (الفصل الثالث).
المحرران يشيران ضمنًا إلى أنه من دون النقد النسوي العلماني (بدعمٍ من الاستعمار)، ما كنَّا أبدًا لندرك مدى أهمية هذا النهج في الدراسات الإسلامية أو عدم الاتساق الذي تتَّسم به الدراسات والمواقف السابقة.
ويقدِّم عددٌ من المشاركات في المرجع تجميعًا للمصادر الثانوية، مع القليل من الاشتباك مع المصادر الأوَّليَّة؛ ومن ثَمَّ فهي تقدِّم تحليلًا وصفيًّا للسياق الذي تأتي فيه الدراسات ما بعد الاستعمارية، ومن ثَمَّ تفتقر إلى نقدٍ دقيقٍ للكتابات السابقة، وأحيانًا تكون بحاجة إلى مزيدٍ من التفصيل في بعض المسائل؛ وفيها أيضًا نقاط أخرى تحوي تعليقات قابلة للنقاش ويمكن الطعن فيها. والأهم من ذلك أن المفارقة التي تحملها هذه الإسهامات المختلفة تقوم على التأكيد الوارد ابتداءً على نقدٍ نسويٍّ للمنهجية الأساسية في تناول الفقه الإسلامي؛ ومن خلال هذا التأكيد فإن المحرران يشيران ضمنًا إلى أنه من دون النقد النسوي العلماني (بدعمٍ من الاستعمار)، ما كنَّا أبدًا لندرك مدى أهمية هذا النهج في الدراسات الإسلامية أو عدم الاتساق الذي تتَّسم به الدراسات والمواقف السابقة. ويصبح هذا من المفارقات الواضحة؛ نظرًا لأن العمل يتحدَّث عن طريقة لتناول صراعات النفوذ السائدة والانخراط فيها.
وتظهر منذ الفصل الأول أسئلة عن النزاهة الأكاديمية، وهو فصلٌ يقدِّم نقاشًا مطوّلًا حول ما يمكن أن يشكّل بحوثًا علمية "جيدة" أو "سيئة"، ولا يحوي أي مراجع أكاديمية على الإطلاق. ويبرِّر المحرران هذا الأمر بإيراد ملاحظة ختامية (ص157 في الترجمة العربية) قالا فيها إن لديهما هدفين من هذا الفصل: أولهما "الخروج على الشكل الأكاديمي المستقر"، وثانيهما ضمانة أن "النقود الهيكلية الجوهرية التي تضمَّنها الفصل لا تَعلُّق لها بنقد المؤسسات أو الأشخاص". وهنا تكمُن المفارقة؛ فتحصين ما قيل في الفصل ضد النقد عبر إخفاء المصادر يمثّل أيضًا استراتيجية للاحتفاظ بالنفوذ والسلطة. وهذا الأمر ينطبق على طرفَي النطاق الاجتماعي والسياسي في الأوساط الأكاديمية. فهؤلاء الذين في موضع نفوذ -أو الباحثون من أنصار نزعة "التفوق الأبيض"، إذا استخدمنا تعبيرات الفصل- ربما رغبوا في توظيف هذه الاستراتيجية للتأكيد على حقهم في السيطرة وحيازة النفوذ. أما أولئك الباحثون الذين لا يتبنَّون هذه النزعة فربما زعموا أن هذه تعريفات يمليها "الأقوياء" لتكون النافذة الوحيدة للدخول إلى عالمهم. وقد يكون لهذا آثار تقويضية. فالنزاهة تستدعي أن يكون لدى المرء القدرةُ على الحديث بطريقة تتيح تتابع النقاش والحوار وتطورهما. وعلى البحث العلمي المتَّسم بالأمانة أن يُتيح الفرصة للردود والنقاش. أما إذا لم يكن لدى المرء "مصادر ومراجع" تُحيل على كيفية استقائه ما يُورده من أقوال وآراء، فإن الفصل الذي يقدِّمه لا يمثل دعوة للتعاون والحوار.
علينا التمييز بين التماسك والإجماع. فالحياة المجتمعية الأكاديمية ينبغي أن تتيح عقد نقاشاتٍ تفاعلية ومُطارحاتٍ قوية، فيكون هناك تحديات ومنافسة علمية بين أفراد الوسط الأكاديمي، دون التدهور إلى حالة من العنف اللفظي.
وتنطبق مسألة النزاهة الأكاديمية أيضًا على هامش مؤسف يزعم فيه الكاتب [في الفصل الثاني] أن [كتابًا له] "كان ضحيةً لهذه الهيمنة الفيلولوجية من خلال نشر متعطش ساذج في مجلة طلابية عملتُ فيها محرِّرًا" (الهامش 57، ص176 في الترجمة العربية). وليست هذه باللغة التي يتوقعها المرء عند القراءة في أحد مراجع أكسفورد. فإن كان المؤلف يختلف مع نقَّاده، فعليه أن يوضِّح أسباب اختلافه، ويقدِّم دليلًا مقنعًا على ما يذهب إليه، لا أن يستخدم لغةً تكاد تكون من قبيل التنمُّر. وعلى الأوساط الأكاديمية أن تطرح نموذجًا مثاليًّا للمجتمع السياسي المتماسك. وهناك علينا التمييز بين التماسك والإجماع. فالحياة المجتمعية الأكاديمية ينبغي أن تتيح عقد نقاشاتٍ تفاعلية ومُطارحاتٍ قوية، فيكون هناك تحديات ومنافسة علمية بين أفراد الوسط الأكاديمي، دون التدهور إلى حالة من العنف اللفظي. فمن سمات الواقع الأكاديمي الحزين أن المنصب الأكاديمي يقف حائلًا أمام السماح بأي انتقادات أو تحديات. وما كان لهذا الهامش أن يظهر في تلك الصورة الحالية.
ومع أن المرجع يحوي إسهامات مهمَّة وقيِّمة، فهناك فهمٌ ساذجٌ للمنهجية الحديثة؛ إذ يستخدم المحرران وبعض المشاركين فيه كلمات من قبيل "حديث" و"استعماري" و"استشراقي" دون تبحُّر في كيفية ظهور هذه التوصيفات. فتصنيفات من قبيل "استعماري" و"استشراقي" ليست تصنيفات قطعية كما يَشي استخدامها هنا، ومن ثَمَّ فهي تصنيفات غير مُنصِفة عند استخدامها في توصيف بعض الأبحاث الأكاديمية حول الفقه الإسلامي أو -في الواقع- عند الحديث عن البيئة السياسية العالمية اليوم.