قراءة في كتاب "قال رسول الله: شرح الحديث في ألف عام"
هذا كتابٌ صيغ ببلاغةٍ واضحة ودُرِس موضوعه بمهارةٍ فائقة، يتناول فيه المؤلف آليات كتابة الشروح الحديثية. وعنوان الكتاب والدعاية التي نالها طموحان للغاية، ويعكسان اتساعًا وعمقًا تجعلنا -في الواقع- نستنتج أنه لن يكون من الإنصاف أخذهما على ظاهرهما. وربما أقترح هنا أن نتجاهل تصنيفَ المؤلفِ نفسِه كتابَهُ بأنه "تغطية […] من أجل تعقُّب [جوانب] الاستمرارية في الموروث التراكمي البطيء لشرح صحيح البخاري" (ص332)، وأن نقول -بدلًا من ذلك- إن الكتاب يصف مهمة شرح الحديث، لا سيما في حالة "صحيح البخاري". وهذه المقاربة الشاملة، تاريخيًّا وجغرافيًّا، جزءٌ من الطرح؛ وهو أن هناك استقرارًا وثباتًا أصيلًا في هذه المهمة. وتتجلَّى هذه الحقيقة بوضوحٍ في الخاتمة، حيث يناقش بليشر توظيف "داعش" للحديث.
إذا قرأنا الخاتمة بعد قراءة كل ما سبقها (أي أن نقرأ الكتاب وَفْقَ تسلسله كما هو في الواقع)، فإن هذه الخاتمة لا تمثّل فقط قسمًا يقدِّم وصفًا لتوظيف "داعش" للأحاديث النبوية. وإنما تأتي هذه الخاتمة كما لو كان بليشر يقول إنه حتى "داعش" توظّف الحديث بطريقة معهودة، مع النظر بعين الاعتبار للقواعد غير المكتوبة لهذه المهمة [مهمة شرح الحديث]. ومن ثَمَّ فإن بليشر يقدّم حجّة مُقنِعة حول استقرار تلك المهمة. ويقوم بليشر بعمل مذهل في توصيف هذه المهمة نفسها، وإن كان ذلك -مجددًا- لم يَخلُ من المنافحة بجرأة عن طرحين: أحدهما أن كتابة الشروح في مجال الحديث "ممارسة اجتماعية، تتشابك فيها المنافسة على الحوافز المادية والاجتماعية اليومية مع تحقيق بعض أوجه البراعة التفسيرية" (ص79). ففي الفصل الأول، يقدم بليشر أدلةً من المرويات على هذا، من خلال الحديث عن العالم الأندلسي [أبي الوليد] الباجي (ت474هـ/1081م). فقد شرح الباجي حديثًا يرد فيه إشارة إلى توقيع النبي على إحدى الصحائف، ويرى في هذا دليلًا على أنه كان يعرف القراءة والكتابة. وكان لهذا الرأي آثاره الكلامية في منزلة القرآن، ومن ثَمَّ فقد كان على الباجي الدفاع عن نفسه ضد اتهاماتٍ بالابتداع. أما الطرح الآخر فهو أن الشُّرَّاح كانوا يُجرون مواءمات للوصول إلى "ارتباطٍ بأمةٍ عابرة للأزمنة، ومتجاوزة للأقاليم" (ص315)، أي بـ"تقليدٍ" كما يفهمه طلال أسد على سبيل المثال. ومن ثَمَّ فإن شروح الحديث لا تعني مجرَّد قراءة الحديث وتقديم العالِم رأيه فيه. بل في الواقع كانت الخطوة الأولى هي إدراك أن "مجرد القراءة" لم تكن دائمًا متاحة. ففي الفصل الثاني يناقش بليشر مثالًا يُورد فيه حديثًا يقصر عدد الجلدات في غير الحدود بعشر جلدات. والإشكالات التي تُثار حول هذا الحديث إشكالات عديدة: أولها أن هناك رواياتٍ مختلفة للحديث نفسه، والثاني أن هناك تفاوتًا واختلافًا في السند، والثالث أن هذه الروايات تتعارض مع المذهب المالكي. وللتعامل مع هذه الإشكالات، كان من المتوقَّع أن يوظّف العلماء التفسيرات السابقة لهذه الجوانب من الحديث أو للحديث بأكمله، وأن يتناقشوا حول تلك التفسيرات ويتناولوها في شروحهم. وكما يقول بليشر، فإن "شروح الحديث كانت تنطوي على كثيرٍ مما يمكن تقديمُه حول التاريخ التفسيري للحديث، أو ربما أكثر مما ساقته بشأن الحديث الذي تناولته بالشرح" (ص104). في الوقت ذاته، يجدر بنا الإشارة إلى أنه مع تطور تاريخ هذا الموروث من الشروح، كانت صنعة الشرح تزداد اعتمادًا على "الحذف الفني [حرفيًّا: الاستراتيجي]" (ص254). وبهذا، فانطلاقًا من المادة التي يوفّرها الحديث وما كُتب عليه من شروح، يمكن اتخاذ طائفة لا تنتهي من المواقف الجديدة والأصيلة.
ويقدّم بليشر في الفصول التالية تدليلًا على أن "موقع سلطة الشرح لم يُترك لتلك الصفحات الصامتة من الشروح المكتوبة، وإنما اضطلع به أناس من الأحياء مُقيَّدين في ذلك بحدود الزمان والمكان" (ص187). ويصف في الفصل الثالث كيف أن الشرّاح قد تداولوا أعمالهم الفكرية مع رعاتهم وطلابهم. ويقدّم بليشر هذا من خلال التركيز على اثنين من كبار الشراح في القاهرة خلال القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وهما: ابن حجر العسقلاني (ت852هـ/1449م) وبدر الدين العيني (ت855هـ/1451م)، وكانت بينهما منافسة على مَن يرعى أعمالهما، وكان لهما طلّاب يحضرون حلقتيهما. أما الفصل الرابع فيتناول أَثَرَ هذا التنافس من جهة الشروح المدوَّنة؛ فمن خلال المسوّدات وغيرها من النسخ، يمكن إدراك كيف عاد ابن حجر إلى الحديث نفسه، وأعاد الكتابة أو أضاف بعض المواد على الشرح الذي كان يتوفّر على كتابته. وقد كانت هذه العملية المستمرة من إعادة الكتابة ناجمة أيضًا عن طبيعة علوم الحديث وبنيتها، التي كان تدين بالكثير لذلك الاجتماع السنوي لقراءة صحيح البخاري بأكمله في شهر رمضان. ويركز الفصل الخامس على ما كان يجري في ذلك الشهر؛ أي عقد مجالس الشرح الحيَّة والتدارس في بلاط السلطان. ويُسهب في تناول واقعة تفوَّق فيها ابن حجر على عالِم آخر في مباحثة علمية حول عدد مَن يظلّهم الله في ظلِّه يوم القيامة. فمن خلال مقارنة المرويات حول تلك الواقعة في "إنباء الغُمر" وفي "فتح الباري" لابن حجر نفسه، يمكننا معرفة المزيد حول النمط المعهود في صنعة شرح الحديث. ثم يأتي الفصل السادس فيستند إلى حالة ابن حجر والعيني، لينقل لنا كيفية تشكُّل سلطة [الشرح]. فهنا نتعرف على أهمية "صلات النسب مع جوامع [الحديث] المعتمدة" (ص209)، التي يمكننا القول إنها إسنادٌ من الشارح إلى البخاري. وهكذا يتجدَّد تسليط الضوء على التفاعل بين علوم الحديث والفقه.
فيما يتناول الفصلان التاليان بعض ما يتفرّع عن شروح الحديث. فينتقل الفصل السابع ليركّز على التحديات الفريدة التي مثَّلها كتاب "الجامع الصحيح" للإمام البخاري؛ فتراجم أبوابه قد تبدو مُلغِزة، وأحيانًا تكون هناك عناوين أبواب من دون أن يكون هناك بابٌ فعلًا، أي إن الترجمة لا تحوي تحتها أحاديث. وقد صارت معرفة هذه الإشكالات والجواب عنها جزءًا من التكوين المعرفي والمهارات اللازمة للشارح المتضلّع في علوم الحديث. وكان لهذه المسألة -في الواقع- تأثير كبير لدرجة أنها أدت إلى ظهور نمطٍ جديدٍ من الشروح يتناول فقط تراجم أبواب الصحيح. ونرى في الفصل الثامن شكلًا آخر، يتمثَّل في شروح أكثر إيجازًا في صورة ملخصات. وفي هذا الفصل ينتقل بليشر إلى عالِم آخر، هو السيوطي (ت911هـ/1505م). وعمومًا، فإن هذه الشروح تتناول أُسس القراءة الصحيحة والفهم الصائب لغريب الأثر. ولكن تبدو الأمور خاضعةً للصدفة والانتقائية؛ فأحيانًا تُستبعد أجزاء مهمة ولا يجري تناولها بالشرح، وفي أحيان أخرى يكون هناك إسهابٌ في تناول أجزاء تبدو غير مهمة.
ويناقش الفصلان الأخيران كيف يتأثَّر الشرح حين ينأى الشارح بعيدًا عن المواقف والرؤى التي اتخذها غالبية الشرّاح السابقين له بمئات السنين وآلاف الأميال. ومن المهم أن بليشر يستعرض أثر الحداثة وتقنية الطباعة واستخدام لغات محلية، دون العربية؛ وذلك من خلال استعراضه للشروح الديوبندية المكتوبة بالأردية.
ونظرًا لكوني غير متخصِّص في علوم الحديث، سأدع للآخرين مهمة التأكُّد من دقَّة ما يرد في الكتاب. غير أنني أود أن أثير بعض المسائل المتعلِّقة بنقاش المؤلف لظاهرة تدوين الشروح. ولننظر مثلًا إلى الفصل الرابع، لنجد أن بليشر يُسهب في شرح آلية عمل ابن حجر، ومن هذه الزاوية فالفصل يقدِّم جهدًا جيدًا ومقنعًا. ولكنه في الوقت ذاته يترك القارئ متشوِّقًا إلى المزيد؛ من قبيل اللجوء إلى مزيد من المخطوطات للتيقُّن من المزيد من الخطوات الوسيطة التي اتخذها ابن حجر لكتابة شرحه، أو استخدام مسوّدات السماع لتكوين صورة أوضح عمّن حضر دروس الشرح وسبب حضوره، وأيّ دور كان لهم في صياغة ذلك الشرح. والحقُّ أن مسألة كتابة "فتح الباري" وتنقيحه وكيفية تلقّيه ابتداءً [في الدوائر العلمية] هي مسألة جديرة بإفرادها في كتابٍ أرى أنه كان ليصبح كتابًا ممتعًا. والأمر ذاته ينطبق على ظاهرة شرح تراجم أبواب الصحيح، أو الإشكالات المتصلة بأول حديث فيه؛ وشغف بليشر بهذا الأمر يتسرّب إلى قارئه، فقد تركني أرغب في قراءة المزيد. ولذا فحين يزعم بليشر أنه يكتب "تاريخًا عريضًا" (ص352)، كنت أحبّ أن أرى تاريخًا أعرضَ من هذا بكثير. ومع أن هذا الإيجاز يضرُّ -في الواقع- بالطرح الوارد في الفصل الثامن، الذي استطاع فيه بليشر إثبات أن السيوطي كان يفضِّل الإيجاز في الشرح لكنه لم يبيِّن سببَ ذلك الأمر بالتحديد، وأي أثرٍ نتج عن هذا التفضيل. لقد أثار الفصل هذه الأسئلة، ولكنه لم يقدِّم عنها أجوبة مُرضية. وتظهر الإشكالية ذاتها أحيانًا على مستوى بعض الجُمل. فعلى سبيل المثال، يبدأ بليشر بطرح رؤية كَميَّة حول الفرق في عدد كلمات المسودة والنسخة النهائية من شرح ابن حجر، ولكنه يختصر المسألة ويخلص سريعًا إلى أننا "بحاجة إلى إجراء مزيدٍ من البحث" (ص146). ولكنه يعِد بأن الأرقام التي يقدّمها تتسق مع أرقام أخرى عثر عليها، ولكنه لا يقدّم لنا تلك الأرقام الأخرى أو يصف كيف وصل إليها. وفي موضع آخر، يقول بليشر إن "الأحاديث الثلاثة الأولى […] قد أثارت خلافًا واسعًا […]، على الرغم من وضوح معناها الظاهر، أو ربما بأثرٍ من هذا الوضوح" (ص82). ومن موضع القارئ، أجدني في حيرةٍ من أمري: أي الأمرين أختار؟ على الرغم من الوضوح أم بسببه؟ ومع ذلك، أودّ هنا أن أنصح قارئ الكتاب بتجاوز تلك الهنات، والتركيز على لُبِّ الكتاب وموضوعه الرئيس: صنعة الشروح الحديثية، التي أثبت بليشر أنه يفهمها ظاهرًا وباطنًا.
ومن خلال مقارنة خاطفة بين هذا الكتاب وبين أطروحة الدكتوراه التي بُني عليها، سنجد أن الكتاب قد شهد كثيرًا من إعمال الفكر والعناية [بمادته]. ولذا، إن كان هناك شيء في الأطروحة يغيب عن الكتاب، فلا بدَّ أن إزالته مقصودة لهدف فني/استراتيجي. ومع ذلك، ونظرًا لما يقدمه بليشر من تحليل واستنتاجات مثيرة للتفكير، أودّ هنا طرح بعض النقاط المخالفة، على أمل أن تُعزّز استمرار الاهتمام بمسألة كتابة شروح الحديث. وأودّ أن يكون هذا الرسم البياني السابق هو منطلقي في ذلك.
فهذا الرسم يمثّل خريطة حرارية تبيِّن أعمار شرّاح الحديث. وقد أعددتها استنادًا إلى "جامع الشروح والحواشي" للشيخ عبد الله بن محمد الحبشي، فطالعت ما فيه حول الكتب الستة، ودوّنت تواريخ وفاة جميع الشرّاح في جدول بيانات. ولذا فقد أسقطت بعض الشرّاح الذين لم يثبت لهم تاريخ وفاة (أو تاريخ قطعي). والاقتصار على هذا المصدر كان يعني أنه من شبه المؤكد أني لم أصل إلى جميع الشرّاح، ونظرًا لأن بعض الشرّاح الواردة أسماؤهم في الجامع لا توجد أية دلائل من المخطوطات على أعمالهم، فربما أكون قد أضفت أيضًا بعض الشروح التي لم توجد إطلاقًا. ولكن لأغراضنا في هذه القراءة، فإن هذه الهنات اليسيرة لا ينبغي أن تلفتنا عن الصورة السليمة عمومًا للحقائق التاريخية.
ومن تواريخ الوفاة أجريتُ استقراءً لأعمار الشرّاح بافتراض أن متوسط العمر أربعون سنةً. لكن متوسط العمر هذا لا ينطبق قطعًا على الجميع؛ فالسيوطي قد توفي عن 60 عامًا، وابن حجر عن 76 عامًا، والعيني عن 93 عامًا، وزكريا الأنصاري عن 101 عام. ولكن يمكننا أن نفترض أنه من بين مئات الشرّاح لم يكن هناك كثيرون يصلون إلى هذه السِّن. وعلاوةً على ذلك، يمكننا النظر إلى سن الأربعين بوصفها سن ازدهار، بافتراض أنها كانت السنوات الأربعين الأخيرة من حياة العالِم، في المتوسط، وكان يمتاز فيها بالنشاط. وهنا قد أقول إن من المهم استخدام نطاق عُمري كهذا بدلًا من تواريخ الوفاة؛ لأنه إن كنَّا على ثقة من شيء فهو أن الشارح لم يكتب شرحه بعد وفاته! ومن ثَمَّ فتحديد تواريخ الوفاة سيغيّر بشكلٍ كبيرٍ شكل الرسم وينقله إلى اليمين. وكما قال بليشر -على نحو مُقنِع- فقد كانت كتابة شروح الحديث عمليةً تستغرق سنواتٍ، وعقودًا أحيانًا؛ ولذا فإن تحديد نطاق عُمري يمثّل طريقة أدق لتصوير الوقت الذي شاعت فيه تلك العملية نفسها.
وبناءً على هذه المعطيات، رسمتُ هذه الخارطة الحرارية لجميع الشرّاح مجتمعين. وفي الرسم اللاحق أقدّم أيضًا خارطة حرارية تقارن بين شُرّاح "صحيح البخاري" وشُرّاح "صحيح مسلم"، ولكن لم أرسم خارطة حرارية منفصلة للسُّنن الأربعة؛ لأن الشروح المكتوبة عليها قليلة نسبيًّا. أما الفهرس الوارد في الجدول فيبيِّن أن اللون البنفسجي الداكن في الخريطة الحرارية الجامعة (الشكل 1) يمثّل اللحظات التي عاش فيها أكثر من خمسين عالمًا من علماء الحديث، وكانوا يكتبون شروحًا لإحدى المدونات الحديثية.
ومن هاتين الخريطتين، يمكن استخلاص بعض النتائج. أولًا: لتعيين جميع الشرّاح لا تكفينا ألفيَّة واحدة؛ ولذا كان عليَّ توظيف 1200 عام. وبالإضافة إلى ذلك، نرى أن شرح الحديث عمومًا قد انطلق حقًّا في منتصف القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. ونلحظ ستة تكثيفات بارزة؛ إذ يبدو أن عملية تدوين الشروح قد شهدت مدًّا وجزرًا. ربما كانت هناك ظروف معيَّنة عزّزت كتابة تلك الشروح. وأولى ذُرى الكتابة هذه كانت في حدود عام 500هـ/حوالي 1100م، والثانية في بدايات القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، والثالثة في بدايات القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ ثم جاءت تلك الزيادة الهائلة بلا شكٍّ في عملية كتابة شروح للحديث النبوي خلال القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي. ويمكننا رؤية نتوء واضح في منتصف القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، ولكن نرى في النهاية تكثيفًا استثنائيًّا في حوالي عام 1300هـ/نحو 1900م.
يستكشف كتاب بليشر أهم مرحلتين في عملية تدوين الشروح؛ فالجزء الوارد فيه عن المماليك يتحدَّث عن القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، والجزء الذي يتناول الهند في بواكير العصر الحديث يتحدَّث عن القرن الثالث عشر الهجري. ومن هذه الناحية، فقد أجاد بليشر الاختيار. ولكن نظرًا لتركيزه على حالات الدراسة والدلائل القصصية، فإن مدى ملاءمة انتقاءاته لم تكن لتتضح من الكتاب نفسِه. فهو يركز على أهمية مجالس الشرح التي كان ينظمها السلاطين والحكَّام. وربما كان لهذه المجالس دورٌ حاسمٌ في الارتفاع الملحوظ في رواج الشروح في كلا الإطارين الزمنيَّيْن، لكن أرجو أن نرى مزيدًا من الدراسات حول العلاقة بين المناظرات التي نُظّمت في بلاط السلطان وبين الإنتاج المكتوب.
وإذا عقدنا مقارنة بين الحالات التي تناولها بليشر بالدراسة مع ذلك العدد الهائل من الشروح المعروفة (ولننظر في الجدول)، سيواجهنا سؤال حول مدى تمثيل ما وصل إليه من نتائج وخلاصات لعملية كتابة الشروح عمومًا. ليست لديَّ إجابة عن هذا السؤال سوى القول إن بليشر قد اختار -على نحو استراتيجي- مجموعة من الشروح والشرّاح، وإن خلاصاته تتفق مع ما نصل إليه حول عملية تدوين الشروح في العلوم الأخرى.
وقد أشرتُ آنفًا إلى تباينٍ كبيرٍ في عدد الشروح التي حظي بها كل كتابٍ من كتب الحديث. وإليكم قائمة بها في هذا الجدول.
يتضح من هذا الجدول سببُ اختيار بليشر "صحيح البخاري" في كتابه؛ إذ يبدو بالفعل أن شروحه تضع معالم كتابة الشروح كلها. غير أن من المفيد النظر إلى الخريطة الحرارية التالية، التي توضّح توزيع الشروح بين صحيحَي البخاري ومسلم. ولنلحظ أن اللون البنفسجي-الأحمر الداكن يعني أن أكثر من ثلاثين من الشرّاح قد تزامنوا في تلك الفترة.
هنا تتكشَّف نتيجتان مهمتان. أولاهما أن كتابة الشروح على صحيح مسلم قد بدأت بُعيد أن جمع مسلم صحيحه ودوَّنه. أما صحيح البخاري فلم يحظَ بالشروح إلا بعد مرور قرن تقريبًا. وبالإضافة إلى ذلك، سنرى أن صحيح مسلم كان أكثر شعبية عمومًا في القرون القلائل الأولى بُعيد جمعه، مع حالات ارتفاع في هذه الشعبية في بدايات القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي وبدايات القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي. وعند تلك المرحلة يبدأ الاهتمام والتركيز على صحيح مسلم في التلاشي، ليحل محله صحيح البخاري. ولا أدري إن كان هذا المسار معروفًا لدى الباحثين في الدراسات الحديثية وعلماء الحديث، ولكنه أصابني بالدهشة؛ لأن بليشر لم يطرح هذه المسألة ولم يتناولها. فمثل هذا التحول الكبير بحاجة إلى شرح وتوضيحات؛ ومزيدٌ من التحليل لهذه المسألة قد يسلط مزيدًا من الضوء على مدى تمثيل شروح [صحيح] البخاري لعملية الشرح عمومًا.
أودّ هنا أن أسرد بعض التعقيبات الختامية فيما يتصل بشروح صحيح البخاري تحديدًا. أولًا: لا أتصور أن هناك الكثير مما قد يقال عن ظاهرة وضع الحواشي على الشروح، وأحيانًا يصل الأمر إلى عدَّة حواشٍ، واحدة فوق الأخرى. وأوضح مثال على هذا هي حاشية السنوسي (ت895هـ/1490م) بعنوان "مُكمّل إكمال الإكمال"، وهي حاشية على حاشية الأُبِّي (ت827هـ/1424م) بعنوان "إكمال الإكمال"، التي هي حاشية على حاشية القاضي عياض (ت544هـ/1149م) المعنونة "إكمال المُعلِم"، وهي حاشية على شرح الإمام المازري (ت536هـ/1141م) الذي جاء بعنوان "المُعلِم بفوائد مسلم". وهناك أمثلة كثيرة حول صحيح البخاري أيضًا. ثانيًا: ونظرًا لأهمية المختصر الذي أعدَّه ابن أبي جمرة (ت695هـ/1296م) والشرح الموسَّع الذي كتبه القسطلاني (ت923هـ/1517م)، وكلاهما ولَّد شروحًا وحواشي، فمن المؤسف أنهما لم ينالا اهتمام بليشر في كتابه هذا. ثالثًا: يسرد الحبشي قائمة بشروح البخاري في مجموعاتٍ تعمل بمنزلة علوم فرعية. ودون أن يُوليها بليشر اهتمامًا كبيرًا، نجد أنه يتطرّق إليها ولكن من دون أن يذكر ثلاثًا منها تحديدًا: 1) ما يُسمّى "الثلاثيات"، التي تجمع وتشرح الأحاديث المسندة ويكون بين الرواي الأخير والنبي ثلاثة رواة فقط. 2) ما يسميه الحبشي رواة البخاري وتراجمه، أي دراسة تناقُل النص الحديثي وروايته بعد البخاري. 3) الشروح التي كانت مهمتها الأساسية تبويب الصحيح، ومن ذلك -على سبيل المثال- الترتيب وَفْقَ الحرف الأول من كل حديث.
وسيكون من المسائل المهمة في الدراسات المستقبلية حول شرح الحديث تناول ما إذا كانت هذه "الشروح" الأخيرة [الواردة في التصنيف الثالث] تُعَدُّ شروحًا حقًّا. وأفكّر تحديدًا في ظاهرة مختلفة تمامًا، وهي ما يُسمَّى "الأربعينيات"، التي يقوم خلالها أحد العلماء بالاقتصار -من تلقاء نفسه- على أربعين حديثًا، لا أكثر. وقد تكون هذه الأحاديث الأربعون في موضوع أو واحد، أو يرويها راوٍ واحد، أو قد يجمعها أيُّ رابط آخر. والمسألة هنا أنه ينبغي الإقرار بوجود درجة عالية من المهارة والإبداع في عملية الانتقاء هذه. فقد مثّلت "عملية استراتيجية من الإدراج والاستبعاد، تمثّل شرحًا" بصورة جذرية. ولهذا الغرض، أتوقع أن يكون كتاب بليشر مثيرًا بدرجة كافية لتعزيز النقاش حول المنهجية والإطار النظري الملائمين لدراسة شرح الحديث. فهو يشتبك مع النظرية الأدبية الحديثة، ومن نقطة الانطلاق هذه أتصور أن العلماء والباحثين في الدراسات الحديثية يمكنهم الاشتباك مع الأفكار النظرية حول الإسلام في الحقبة ما بعد الكلاسيكية (مثل ما كتبه شهاب أحمد وتوماس باور) أو المعالجات النظرية والمنهجية حول كتابة الشروح، مثل: الأعداد الأخيرة من مجلة الشرق ( (Oriensومجلة المعهد الدومنيكي للدراسات الشرقية ((MIDEO، ومجلة مواجهات فلسفية (Philological Encounters)؛ وذلك لإنتاج مقاربات أو تحليلات جديدة ومثيرة للاهتمام. وبالمثل، فقد تركني هذا الكتاب أتساءل عن مدى التشابه أو الاختلاف بين شروح الحديث وتفسير القرآن. وأخيرًا، أعتقد أن التحليل الكَمّي يمكن أن يعزّز فهمنا لما حدث في تلك الكتابات الهائلة الحجم. والكتابة حول الحديث جاهزة للتناول بمثل هذا التحليل؛ نظرًا لكون الكثير من كتب الحديث وشروحه متاحة ومتوفرة في صورة نصيَّة.
أتوقع أن يسترعي هذا الكتاب اهتمام طائفة واسعة من القُرَّاء، بما في ذلك مَن هم خارج الوسط الأكاديمي. فليس الموضوع وحده هو الذي سيسترعي اهتمام الكثيرين، وإنما أيضًا أسلوب المؤلف الواضح والسلِس. ولكن في هذا الصدد أعتقد أن من الإنصاف التنبيه على أن الكتاب يتطلّب مستوًى معينًا من المعرفة والاطلاع. ويمكنني تصوّر أن الكتاب قد يفوق إلى حدٍّ ما قدرات الطالب الجامعي حين يعتمد على قدراته الخاصة فحسب. أما إدراج هذا الكتاب ضمن مُقرَّر سيمنار حول الحديث في مرحلة الدراسات العليا، فأتصور أن يكون له مردود جيّد، لا سيما إن طُلِبَ من الطلاب المقارنة بين أفكار بليشر وبين تجاربهم الخاصة في قراءة مقتطفات من شروح الحديث. وسيستفيد من هذا الكتاب الباحثون الذين يشتغلون على طائفة مختلفة من الموضوعات، ومنهم أولئك الذين يشتغلون بالدراسات الحديثية، وتاريخ الكتاب، وتاريخ الفكر الإسلامي في الحقبة ما بعد الكلاسيكية، لا سيما أولئك الذين يركزون على كتابة الشروح.