علم الاجتماع الاستعماري واستعمال ابن خلدون!
أثارت النظرية الخلدونية المحددة لمراحل تحولات العمران البادئة من التوحش والغزو البدوي الى التأنس بتملك الحضر، ثم انحلال ذلك التملك، بالخضوع لغزو بدوي جديد، انتباه السوسيولوجيا الكولونيالية بمختلف تياراتها ورموزها الكبار «ميشو بيلير، روبير مونطاني..» وكذا السوسيولوجيا الأنجلو ساكسونية «إرنست غيلنر، إيفانس برتشارد … »، وقد ركز التأويل السوسيولوجي الكولونيالي على مفهوم "العصبية"، حيث استند عليه لتأصيل فكرة "الانقسامية" التي يرفعها هذا التأويل الى درجة جعلها خِصِّيصَةً لنمط الاجتماع السياسي العربي.
والسبب الذي جعل النظرية الانقسامية ذات حظوة في علم الاجتماع الكولونيالي، هو أنها لا تمنحه فقط أداة توصيف الواقع بل تمنح الإدارة الاستعمارية أداة للتحكم في ذلك الواقع أيضا، باستغلال تناقضاته. ففي تحليل الواقع المغربي، مثلا، تم تصوير تلك التناقضات بوصفها فصلا جذريا بين المدن «حيث يسيطر "المخزن"، "السلطة السياسية"»، والبدو (البربر)، أي تلك القبائل المتحصنة في الهامش، المستعدة لمناهضة أي سلطة تطمح إلى أن تكون سلطة مركزية مهيمنة.
إن التأويل السوسيولوجي الاستعماري، بتجاهله لفكرة الدورة التاريخية، وحرصه على إنطاق ابن خلدون بلغة عرقية مخالفة للغته العمرانية أفسد معاني المفاهيم الخلدونية.
وقد حرص علماء الاجتماع الاستعماري على أن يجدوا للأطروحة الانقسامية، تأصيلا نظريا في داخل الفكر العربي ذاته. فأشهروا "المقدمة" بوصفها السند التأصيلي الذي يُثبت صدقية تلك الأطروحة. و من هنا نفهم سبب حرص إرنست غيلنر على تقديم ابن خلدون بوصفه أب الانقسامية؛ إذ يُراد بتلك الأبوة كسب شرعية ومشروعية تطبيق النظرية على المجال العربي الإسلامي. وقد ظنت السوسيولوجيا الكولونيالية وعلم الاجتماع الوظيفي الأنجلو-ساكسوني أنه بمجرد استبدال ثنائية القبيلة والدولة بثنائية البدو والحضر التي استعملها ابن خلدون، سيتم وصل النظرية الانقسامية بالنظرية الخلدونية، بما يسمح لها بتفسير مرحلة بعد الاستعمار. إن التأويل السوسيولوجي الاستعماري، بتجاهله لفكرة الدورة التاريخية، وحرصه على إنطاق ابن خلدون بلغة عرقية مخالفة للغته العمرانية أفسد معاني المفاهيم الخلدونية.
ولهذا، وفي سياق اختزال وساعة دلالات المفاهيم الخلدونية، تحولت ثنائية البدو والحضر في منظور علم الاجتماع الكولونيالي إلى ثنائية البربر والعرب. ومن هنا نفهم أيضا سبب حرص الكتابات الاستعمارية على التوكيد على أن ابن خلدون نقد "العرب" كجنس عرقي وليس كلحظة في مراتب العمران. وقد كان إيميل فيليكس جوتيي من أكثر الدارسين الذين استعملوا نصوص ابن خلدون – وخاصة أقواله في شأن بني هلال، و المواضع التي أورد فيها لفظ العرب كتوكيد للبداوة المضادة للحضارة – في سياق يمكن أن نرى فيه بوضوح تبريرا إيديولوجيا للتوسع الاستعماري. بينما العرب في تلك العبارات التي اقتطعتها الكتابة الاستعمارية من مواردها لا تعني العرق بل البدو.
صحيح أن ابن خلدون يقول صراحة: "إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"(1)، وصحيح أيضا أنه يصفهم بأنهم "أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش و أسبابه فيهم ؛ فصار لهم خلقاً و جبلةً"(2).
لكن ذلك لا ينبغي أن يفهم في سياق عرقي، بل هو تحليل عمراني يرتكز على نمط العيش البدوي وتأثير اقتصاد الرعي في القيم والسلوك. ومن هنا نفهم سر قول ابن خلدون بأن العرب خراب العمران، حيث لا يقصد العرب كجنس عرقي محدد، بل يقصد البدو عامة. حيث يقول: إن "جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران"(3) فلفظ العرب كجيل يدل هنا على أنه لحظة طبيعية في صيرورة العمران.
وهو ما يُجَوِّزُ لنا التعبير عنه بصيغة أخرى فنقول إن العرب – حسب قانون التاريخ من منظور ابن خلدون – مرحلة من مراحل العمران،أي مرحلة بداوته. ودليلنا على ذلك أننا نلاحظه يستعمل عبارة "هؤلاء العرب" ومن "في معناهم"، مُدْخِلاً في من "في معناهم" أقواما غير عربية، لكنها أعرابية، أي بدوية حيث يقول: "ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه و المفترس من الحيوانات العجم. و هؤلاء هم العرب، و في معناهم ظواعن البربر و زناتة بالمغرب، والأكراد و التركمان و الترك بالمشرق."(4)
أي إن البدو (عربا كانوا أو تركمان أو ترك أو أكراد) ليسوا عرقا بل نمطا في الاجتماع. صحيح أنه يرى العرب "أبعد نجعة و أشد بداوة"(5) ولكن ذلك معلل عنده اقتصاديا لا عرقيا، حيث يقول إن العرب "أشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط و هؤلاء يقومون عليها و على الشياه و البقر معها"(6). أي إن ابن خلدون يميز بين نوعين من البدو على أساس طبيعة نمط المعاش (الاقتصاد)، هما: "بدو خلص"،أي الذين يشتغلون بالإبل، وبين "بدو مقيمين" وهم أكثر استقرارا؛ نظرا لاشتغالهم بغير الإبل من بقر وشياه وزراعة.
السوسيولوجيا الانقسامية تتجاهل وساعة الحقل الدلالي للفظ العرب وتنوع معناه في المتن الخلدوني، ولا تربطه بفكرة الدورة التاريخية، حتى تتمكن من اختزاله في المدلول العرقي تحديدا.
وعليه فإن فهم دلالة مفهوم العرب مشروط بموضعته في سياق نظرية الدورة التاريخية. وهكذا فإن حركة انحلال الحضارة بالبداوة لا تحصل – حسب ابن خلدون- بالعرق العربي، بل هو قانون حاصل في التاريخ بـ"العرب ومن في معناهم"، أي بالبدو العرب، وبالبدو الترك، وبالبدو المغول، وبالبدو التتار…
ولكن السوسيولوجيا الانقسامية تتجاهل وساعة الحقل الدلالي للفظ العرب وتنوع معناه في المتن الخلدوني، ولا تربطه بفكرة الدورة التاريخية، حتى تتمكن من اختزاله في المدلول العرقي تحديدا. وذات الرؤية الاختزالية نجدها في تحليل السوسيولوجيا الانقسامية لدال "العصبية"، حيث تختصر معناه في النسب. بينما المنظور الخلدوني لا يختصر "العصبية" في رابطة القرابة (النسب)، بل النسب في المنظور الخلدوني مجرد أسطورة لا تكتسب فعاليتها من ذاتها، بل من عوامل أخرى لابد أن تنضاف إليها ؛ لتنطلق صيرورة انتقال البدو الى الإغارة على الحضر، وإسقاط الحكم القائم فيه، والحلول محله. فالعصبية ليست كافية بحد ذاتها، أي كنسب وقرابة، لإطلاق الدورة التاريخية، بل ثمة مجموعة عوامل اقتصادية ودينية وقيمية لابد من توافرها. كما أن النظرية الانقسامية جد متسرعة إن لم نقل سطحية في فهم البنية الداخلية للقبيلة، فالنموذج المساواتي الذي يعمم على المجتمعات ذات التضامن العضوي – بلغة دوركايم – هو فهم سطحي لا يتنبه للفروقات الكامنة.
ومن ثم فالنموذج الانقسامي رغم تشابه بعض مكوناته مع مكونات النظرية الخلدونية، ليس مطابقا لها، اللهم إلا إذا قمنا بحذف محددات جوهرية من فلسفة التاريخ التي بلورها ابن خلدون، واختزالها إلى مجرد تناقض بين القبيلة والحكم المتمركز في الحضر.
وخلاصة القول إن التأويل السوسيولوجي الاستعماري، بتجاهله لفكرة الدورة التاريخية، وحرصه على إنطاق ابن خلدون بلغة عرقية مخالفة للغته العمرانية أفسد معاني المفاهيم الخلدونية.
الهوامش
(1) عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، تح عبد السلام الشدادي، ج1، خزانة ابن خلدون، بيت الفنون والعلوم والآداب، ط1، الدار البيضاء 2005، ص 247.
جميع النصوص الخلدونية التي اعتمدناها هنا مستمدة من نسخة المقدمة التي حققها د.الشدادي، وهي في تقديرنا أفضل النشرات العربية لنص بن خلدون، مقارنة بالنسخ السابقة بدءا من نسخة الشيخ نصر الهوريني حتى نسخة عبد الواحد وافي وما جاء بعدها. وإذ نقول هذا نرى أيضا وجوب إعلان احتراز من الترجمة الفرنسية التي أنجزها الشدادي لمؤلف بن خلدون، حيث يعتورها نقص غير مبرر. ومقصودنا بذلك تصريحه بأنه لم يترجم بعض الشواهد الشعرية وحذفها من ترجمته لكتاب ابن خلدون بسبب غموض تلك الأبيات! فهذا نقص أقل ما يقال عنه أنه غير مبرر على الإطلاق، إذ كان بإمكان المترجم أن يستعين بمتخصص في الشعر ليفتح المستغلق، حتى تكون ترجمته ترجمة لكامل النص.
لكن لِمَ نحرص على هذا الاستطراد بالإشارة الى اختلال الترجمة الفرنسية التي قدمها الأستاذ الشدادي، مع أن مستندنا هو النص العربي الذي حققه؟
ليس ذاك من باب اسهاب القول بلا غرض، إنما هو مقصود للإشارة الى جرأة مستغربة من المترجم، إذ أن حذف الشواهد الشعرية للنص فعل كاف ليجعلنا نحترس منه، ونظن ظن السوء في قدرته وصبره على البحث والتحقيق. لكن كل هذا هو في باب الظن الذي لا يدفع ما هو واقع أمامنا، وهو أن الاستاذ الشدادي هو المحقق الوحيد الذي استجمع أكبر قدر من مخطوطات متن المقدمة، فيكون عمله إذن أفضل ما هو موجود الى حد الآن.
(2) ابن خلدون، المقدمة، م س،ص247.
(3) ابن خلدون، المقدمة، م س،ص194
(4) ابن خلدون، المقدمة، نفسه.
(5) ابن خلدون، المقدمة، نفسه.
(6) ابن خلدون، المقدمة، نفسه.