الحداثة والخوف وكورونا
مُلخَص
حلَّت بالعالم جائحة وبائية، أحدثت خوفًا عالميًّا غير مسبوق، وأعادت الإنسانية إلى طبيعتها الأولى، قبل التطورات المذهلة في زمن الحداثة والعولمة؛ طبيعة أولى كانت قائمةً على التضامن، والعمل المشترك، والرغبة العامَّة في حماية الإنسان حيثما كان. كما ذكَّرت العالم بهشاشة المؤسسات العالمية اليوم، وهشاشة النظام الصحي العالمي، وهشاشة الدول الوطنية، وهشاشة التصنيف المتحيز: العالم الأول، والعالم الثاني، والعالم الثالث. والأخطر أنها أوقفتنا على الأساطير المؤسسة للنموذج الحداثي (النيوليبرالي)، المبشِّر بـ«الفردوس الأرضي»، بتعبير عبد الوهاب المسيري، والذي تحوَّل إلى «الفردوس المفقود»، كما رسمت معالمه الملحمة الشعرية للشاعر الإنجليزي جون ميلتون (ت: 1667م) في عشرة أجزاء. وأهم هذه الأساطير التي بشَّرت (نيوليبراليًّا) بتحقيقها هي التخلُّص من الخوف! هذا الكابوس المُفزع الذي ظهر اليوم - بشكل رهيب - مع فايروس كورونا (COVID-19).
وبغضِّ النظر عن مقاربات موضوع فايروس كورونا في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي على الخصوص، من منظوراتٍ مختلفة: علمية، وطبية، وصناعية، واقتصادية، وبيئية، ودينية، وثقافية، وجيوسياسية...؛ فكلها منظورات لها مسوغاتها، ومرتكزاتها، بل وتعبِّر عن طبيعة مقاربات الظواهر اليوم، وهي مقاربات عبر منهاجية، ومتعدِّدة الاختصاصات، ومتعدِّدة الحقول المعرفية. ونحن في حاجة إلى تقديم مداخل تفسيرية لفهم الجذور الفكرية والفلسفية لظواهر كهذه، بعيدًا عن النزعات الاختزالية والهجائية في حقِّ هذا المنظور أو ذاك.
وفي هذا السياق، سننطلق في تقديم مداخل تفسيرية لظاهرة الخوف الرهيب المصاحب لفايروس كورونا، من الأطروحة الفلسفية التي قدَّمها الفيلسوف البولندي ذو الجنسية الإنجليزية، زيجمونت باومان (ت: 2017م)، في موسوعته حول السوائل، وفي كتابه «الخوف السائل» على الخصوص. وعليه، سيكون المشروع الفلسفي لهذا الفيلسوف الناقد هو الأرضية التي ننطلق منها للتدليل على أن خوف كورونا هو منتج حداثيٌّ بامتياز، يذكي عدم وفاء الحداثة بوعودها (الحداثة والإبهام، ترجمة حجاج أبو جبر). ويبدو متن باومان من كتاب «أهل التشريع وأهل التأويل» (1987م) إلى آخر كتبه ومقالاته قبيل وفاته، مرورًا بموسوعة السوائل - يبدو متنًا واحدًا، يحمل أطروحةً واحدةً، يُعبَّر عنها بعناوين مختلفة، وبأمثلة مختلفة. بل يسمح هذا المتن بتغيير أمثلة باومان وتعويضها بأمثلة أخرى، كما في حالة كورونا في زماننا اليوم. ويبقى النموذج التفسيري الذي يقدِّمه باومان قادرًا - لقوته النظرية والتفسيرية وكفايته الإجرائية - على الاستيعاب الكليِّ للأمثلة الجزئية المتنوِّعة، مع حاجته إلى تعديلات و«تكييفات» محدودة.