الإسلام والدولة العلمانية: هل العلاقة ممكنة؟

حوار مع البروفيسور أحمد ت.كورو


نستضيف في هذا الحوار البروفيسور أحمد ت. كورو، أستاذ العلوم السياسيّة ومدير مركز الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة سان دييغو الحكومية (San Diego State University). وقد أصدر كورو كتابَيْن حول الموضوع، نالا عددًا من الجوائز والإشادات، وكلاهما تُرجِم إلى عدِّة لغات. يُحلِّل كتابه الصادر عام ٢٠٠٩م العلاقات بين العلمانية والإسلام والمسيحية والدولة، وقد تُرجِم إلى العربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في عام ٢٠١٢م بعنوان «العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، فرنسا، وتركيا»، وفي عام ٢٠١٩م كتب كورو كتابًا آخرَ يُركِّز على العلاقات التاريخية بين الإسلام والدولة، وقد تُرجِم أيضًا إلى العربيّة وصدر أيضًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في العام الماضي (٢٠٢١م) بعنوان «الإسلام والسلطوية والتأخُّر: مقارَنات عالمية وتاريخية». 

في هذا الحوار، نطرح على البروفيسور كورو مجموعة من الأسئلة حول مستجدات نظرية العلمنة، وتحوّلات السياسات الدينية في ظلِّ تصاعد المد اليميني والشعبوي وتزايد نبرة الإسلاموفوبيا عالميًّا، كما يتطرَّق الحوار إلى تناول التقسيم الذي اقترحه كورو للعلمانية إلى «حازمة» و«سلبية» بمزيد من التحليل، ويتناول الحوار أيضًا خُلاصات كتابه الأخير بخصوص العلاقة بين العلمانية والإسلام، وبرامج الأحزاب الإسلامية وتصوّرها عن الدولة المأمولة.

مركز نهوض: في كتابك الأخير «الإسلام والسلطوية والتأخُّر: مقارَنات عالميّة وتاريخية» (الذي صدَرت ترجمته العربيَّة في عام ٢٠٢١م)، تقول إن التاريخ الإسلامي عرف في وقت مبكر نوعًا من الفصل بين السلطات الدينية والسياسية. ومن ثَمَّ تقول إن الإسلام لا يرفض بطبيعته فصل الدين عن الدولة؛ ومن ثَمَّ فليست هنالك مشكلة جوهرية بين الإسلام والعلمانية. يُمكن أن يتوجَّه الاعتراض على ذلك من جهتَيْن: الأولى: أن التجربة المؤسسة للإسلام في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، لم تعرف مثل هذا الفصل وظلَّت تُمثِّل للمسلمين في تاريخهم النموذج المُلهم فيما يسعون لاستعادته. الثانية: أنه على الرغم من الفصل المؤسسي ظلَّت الشريعة هي أساس شرعية النظام السياسي، وعماد منظومته القانونية. فكيف تردّ على هذا؟

Kuru Islam Book Arabic

أحمد ت. كورو: شكرًا على هذا السؤال المحوري. يبدأ كتابي الأخير بتساؤل معاصر: لماذا تعاني الدول ذات الأغلبية المسلمة من مستويات عالية من السلطوية والاستبداد ومستويات متدنِّية من النمو الاجتماعي والاقتصادي، مقارنة بالمعدَّلات العالمية؟ وينتقد الكتاب التفسيرات التي ترى في الإسلام سبب هذا التفاوُت، ويوضح كيف كان المسلمون أكثر تطوّرًا -من الناحية الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية- من أوروبا الغربية في الفترة بين القرنَيْن الثامن والثاني عشر الميلاديَّيْن. فخلال هذه القرون أخرجَت المجتمعات المسلمة أبرز وأهمَّ العلماء والتجّار والمكتبات والمدن على مستوى العالَم.

ويتسم هذا العصر الذهبي الإسلامي بسِمتَيْن أساسيّتَيْن، أولاهما: أن التقدم العلمي والاقتصادي في ذلك الوقت كان نتيجة جهود مشتركة لأناس من خلفيات دينية متنوعة من المسلمين السنة والشيعة واللَّاأدريّين والمسيحيّين واليهود وغيرهم. كان المسلمون هم الأغلبية، ولكنّهم تعاوَنوا مع آخرين وتعلَّموا منهم. أما السمة الثانية: فهي أنه خلال تلك الحقبة كان هناك مستوى ما من الفصل بين العلماء وسلطات الدولة، فالغالبيّة العظمى من العلماء -بما فيهم شخصيات بارزة مثل أبي حنيفة ومالك والشافعيّ وابن حنبل- رفضت العمل في خدمة جهاز الدولة. وقد أسهم هذا الفصل بين الدين والدولة -بشكل كبير- في الدينامية الفلسفية للعصر الذهبي الإسلامي.

فوَفقًا لتحليل حديث، لم تعمل سوى نسبة ٩٪ في منصب القضاء وغير ذلك من المناصب من أصل ٣٩٠٠ عالم عاشوا في الشرق الأوسط بين عامَيْ ٧٠٠م و١٠٥٠م، بينما كان لدى ٩١٪ مواردهم وتمويلهم الخاص، الذي جاء غالبًا من التجارة. على سبيل المثال، كان أبو حنيفة يتاجر في الحرير، وقد رفض عرض الخليفة العباسي وإلحاحه على تولّي منصب القضاء؛ فلم يقبل العرضَ على الرغم من سجنه حتى الموت.

ومع ذلك، وبعد القرن الحادي عشر الميلادي، شهدت مناطق آسيا الوسطى وإيران والعراق تغييرًا على عدة مستويات، فقد أدَّت تحولات اقتصادية وسياسية ودينية إلى صعود نظام اقتصادي شبه إقطاعي ونظام عسكري للدولة وهيمنة دينية للسنة. وقد أسهم الخلفاء العباسيون والسلاطين السلاجقة والمدارس النظامية في إحداث هذا التحول، وأصبح النظام الجديد يرتكز على تحالُف العلماء والدولة، الذي أدى تدريجيًّا إلى تهميش الفلاسفة والتجار، وقد انتشر هذا النظام الجديد في سوريا ومصر وبقية العالم الإسلامي بعد القرن الثاني عشر الميلادي. وقد شهد تحالف العلماء والدولة عملية مأسَسة عميقة في عهد الدولة العثمانيّة؛ فيما ترسّخت نسخته الشيعية في عهد الدولة الصفوية في إيران.

وعلى الرغم من محاولات الإصلاح فقد بقي هناك تأثير كبير لأشكال مختلِفة من تحالُفات العلماء والدولة في معظم أجزاء العالم الإسلامي المعاصر، وقد كانت سببًا في التوجهات السلطوية والتأخُّر الاجتماعي والاقتصادي في كثير من الدول الإسلامية لقرونٍ عديدة.

إن الجمع بين السلطات الدينية والسياسية أمرٌ مستحيل اليوم، بمعنى أن ممارسة النبي لهذا الأمر شيءٌ فريد، ويستحيل تكرارها.

ومن ثَمَّ، فسؤالكم صحيح، ويؤكد كتابي على أنه كان هناك فصل بين السلطات السياسية والعلماء الأوائل، وهذا يوضّح أن الإسلام والدولة العلمانية يمكن أن يكونا على وِفاق في أيَّامنا هذه. وفي الواقع، فإن نموذج النبي محمد -عليه السلام- والخلفاء الراشدين الأربعة يدعم فكرتي. فبعد وفاة النبي -عليه السلام- وبعد أن أعقبه الخلفاء الأربعة، لم يبقَ قائدٌ يأتيه الوحي من الله أو أحد لديه اتصال مباشر برسولٍ على هذا النحو. ومن ثَمَّ، فإن الجمع بين السلطات الدينية والسياسية أمرٌ مستحيل اليوم، بمعنى أن ممارسة النبي لهذا الأمر شيءٌ فريد، ويستحيل تكرارها.

إضافة إلى هذا، لم تكن هناك «دولة» مؤسسية خلال العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين. في الواقع، كان معاوية -مؤسس الدولة الأموية- هو أول مَن أقام دولة في التاريخ الإسلامي؛ لأنه كان أوّل من اتخذ حجّابًا وحرسًا وغير ذلك من رموز الدولة المؤسسية. وهكذا، قامت الدولة بوصفها مؤسسة علمانية حتى في العصور الإسلامية الأولى.

وبعد الاضطهاد الأموي لآل البيت، بما في ذلك قتل الحسين سبط النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بدأ الانفصال  بين الأخلاق الدينية والحكم السياسي في الظهور، فقد كان يُنظَر إلى الحكم السياسي على أنه فاسد واستبدادي، ومن ثَمَّ لا يتماشى مع صحيح الأخلاق الدينية. وقد صار هذا التصوّر هو الأساس الذي قام عليه انفصال العلماء الأوائل عن سلطات الدولة في الفترة ما بين القرنَيْن الثامن ومنتصف الحادي عشر الميلاديَّيْن.

إضافة إلى ذلك، ليس هناك في القرآن أو الحديث ما يتطلَّب وحدة السلطات السياسية والدينية، ولهذا السبب فسَّر بعض العلماء بعد القرن الحادي عشر الميلادي تعبيرَ «أولي الأمر» -الوارد في الآية ٥٩ من سورة النساء- على أنه يطلب من المسلمين طاعة العلماء والدولة. ولكن الآية -في الواقع- ليس بها إشارة لا إلى العلماء ولا إلى الدولة. وبالمثل، فإن المدافعين عن تحالُف العلماء والدولة قد وضعوا حديثًا بعد القرن الحادي عشر يقول «الدين والدولة توأمان»، ولكنّ الواقع يدلُّنا على أن هذا الأثر من المقولات الساسانيّة التي تُنسَب خطأ إلى النبي ﷺ.

أما فيما يتعلَّق بالجزء الأخير من سؤالكم: فنعم، بالنسبة إلى بعض المسلمين تنبع شرعية النظام القانوني من الشريعة، وقد اتَّفق المسلمون عمومًا على مقاصد الشريعة، مثل حفظ النفس وحفظ العرض وحفظ المال وحفظ العقل وحفظ الدين، إضافة إلى بعض المقاصد الأخرى مثل تحقيق العدالة. ويمكن للدولة العلمانية أن تُحقِّق جميع هذه المقاصد.

ولكن الظروف تختلف تمامًا حول التفاصيل المتصلة بأحكام الشريعة، فهناك خلافات عميقة حول هذه الأحكام، ومعظمها تفسيرات من القرون الوسطى جاء بها بعض العلماء، فهي ليست أحكامًا إلهية، ومع اتِّباع هذه الأحكام القروسطيّة سيكون من العسير إقامة دولة علمانية أو ديمقراطية اليوم.

مركز نهوض: يشهد العالم في السنوات الأخيرة ظاهرة بارزة، هي صعود اليمين وبروز القادة الشعبويّين، وقد أحدَثَت هذه الظاهرة تحوّلًا في الخطابات السياسية الداخلية والخارجية، وصارت تُمثِّل تحدّيًا عميقًا أمام الديمقراطية الليبرالية. في كتابك المُعنوَن بـ«العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين» (الصادر بالإنجليزية عام ٢٠٠٩م وبالعربية عام ٢٠١٢م)، تُميِّز بين نوعَيْن من العلمانية: العلمانيّة «الحازمة» (assertive) التي تحظر الحضور العامّ للدين (وتُعَدُّ فرنسا أبرز ممثل لها)، والعلمانية «السلبية» (passive) التي تُتيح هذا الحضور (وأبرز ممثل لها هي الولايات المتحدة الأمريكية)، فما هي الاختلافات بين السياسات الشعبوية اليمينية في البلاد التي تعتنق العلمانية «الحازمة» وتلك التي تتبنّى العلمانية «السلبية»؟ وبصيغة أخرى، هل ما زال هذا التمييز بين هذَيْن النمطَيْن من العلمانية مفيدًا، أم أن ظاهرة صعود اليمين قد غيَّرت الخارطة القديمة للعلاقات بين الدولة والدين تمامًا؟

أحمد ت. كورو: شكرًا على هذا السؤال المركَّب الذي يُركز على مسألتَيْن: الدولة العلمانية والشعبوية اليمينية. الدولة العلمانية تمتاز بسِمتَيْن، أولاهما: أنها لا تُحابي دينًا على حساب الأديان الأخرى، وهذا يتطلَّب ألَّا يكون هناك دين رسمي لها، ومن ثَمَّ لن يحظى دينٌ ما بمزايا مالية أو قانونية من الدولة، وهذا يعني أيضًا أن الدولة لن تمارس أي لون من التمييز ضد مواطنيها من الأقليات الدينية. أما السمة الثانية: فهي أن عملية التشريع في الدولة العلمانية لا تعتمد على الدين، ومن ثَمَّ إذا كان الإكليروس الكاثوليكي أو العلماء المسلمون أو أي جماعة دينية أخرى، هم من يسنّون القوانين فليس بإمكاننا تعريف هذه الدولة بأنها علمانية، لا سيّما إذا كانت الدولة تُحكَم بنظام ديمقراطيّ، فالقانون حينها يُصدره الشعب وممثّلوه بحسب احتياجات الشعب وظروفه المتغيرة، ولا يمكن أن تكون النصوص الدينية وتفسيرات العلماء لها هي الأساس الذي يقوم عليه القانون في مثل هذه الدولة.

حوالي ١٢٠ دولة من أصل ٢٠٠ دولة في العالم اليوم تُلبِّي هذه المعايير، ومن ثَمَّ يمكن وصفها بأنها علمانية، غير أن هناك زعمًا بأن الدولة العلمانية والمجتمع ذا الأغلبية المسلمة لا يمكن أن يتعايَشا، وهذا الزعم خاطئ تمامًا، فهناك ٥٠ دولة ذات أغلبيَّات مسلمة في العالم، ومنها ٢٢ دولة علمانية.

ومع ذلك، يرفض بعض المسلمين مفهوم العلمانية لأنهم يرون أنه معاد للدين، وهذا التصوُّر الخاطئ يقوم على حقيقة أن ما مرَّ به كثيرٌ من المجتمعات الإسلامية كان نمطًا من العلمانيّة «الحازمة» التي تسعى إلى إقصاء الدين -وخاصة الإسلام- من المجال العام، فقد سادت العلمانية «الحازمة» في العديد من البلدان لا سيّما فرنسا والمكسيك، أما في العالم الإسلامي، فقد كانت الدول العلمانية في عمومها تقلِّد النموذج الفرنسي، واعتنقت نمطَ العلمانية «الحازمة»، وفي حالات مثل تركيا وتونس أدَّت العلمانية «الحازمة» إلى إنتاج سياسات تُقيِّد بعض الممارسات الدينية، مثل حظر ارتداء الحجاب [في المؤسسات العامة].

ولكن في الواقع، هناك نوعان مختلفان من العلمانية، وكما أوضحت في كتابي الصادر عام ٢٠٠٩م، سادت العلمانية «السلبية» في دول مختلفة كالولايات المتحدة وهولندا. فالعلمانية «السلبية» تتطلَّب أن تلعب الدولة دورًا سلبيًّا [غيرَ نشِط] في السماح بالرموز الدينية والعلمانية جميعًا في المجال العام. وللعلمانية «السلبية» علاقة وُدية مع الأدوار العامة للأديان، ومن ثَمَّ فهي أكثر توافقًا بكثير مع الإسلام مقارنة بالعلمانية «الحازمة».

كما يؤكّد سؤالكم، فقد أصبحت الشعبوية اليمينية مؤثرة في السنوات العشر الأخيرة في كثير من الدول، ومنها الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وروسيا والهند، وللشعبوية اليمينية ثلاثة مكوّنات رئيسة: قائد ديماغوجي، وتوظيف الدين لأغراض سياسية، وشعارات شعبوية قومية. وهكذا، أصبحت الشعبوية اليمينية تُمثِّل تحدِّيًا للعلاقات بين الدين والدولة في جميع البلدان التي صارت مؤثرة فيها.

وقد تناول كتابي الصادر عام ٢٠٠٩م مسألة حظر الحجاب التي بدأت في فرنسا في المدارس الثانوية في ٢٠٠٤م نتيجة جهود مشتركة لليسار ذي الأيديولوجيا العلمانية «الحازمة» واليمين المتطرِّف الموسوم بالإسلاموفوبيا. ومنذ ذلك الوقت، واصَل يساريّو العلمانية «الحازمة» واليمينيون المصابون بالإسلاموفوبيا دفاعَهم عن تقييد الرموز الإسلامية في المجال العام الفرنسي، أما في الولايات المتحدة فقد أعلنت إدارة دونالد ترامب -الشعبوية اليمينية المعروفة بتوجّهات الإسلاموفوبيا- عن حظر دخول مواطني حوالي ١٢ دولة مسلمة، غير أن إدارة ترامب لم تستطع فرض حظر على الحجاب أو غير ذلك من القيود على المسلمين في أمريكا؛ وهذا لغَلَبة العلمانية «السلبية» في الولايات المتحدة. أما في تركيا، فقد كنتُ آمُل أن أرى تحوّلًا من العلمانية «الحازمة» إلى العلمانية «السلبية»، ولكن في ظل النظام الشعبوي اليمينيّ بقيادة رجب طيب أردوغان، انتقلت تركيا من العلمانية «الحازمة» إلى الإسلاموية الشعبوية. وباختصار، فمفهومَيَّ عن العلمانية «الحازمة» والعلمانية «السلبية» ما يزالان مفيدَيْن لفهم العلاقات بين الدين والدولة، وفي الواقع هما مفيدان لاستكشاف مختلف نتائج الشعبوية اليمينية في البلدان المختلفة.

مركز نهوض: اعتمد صعود الأحزاب اليمينية والشعبوية -بدرجة كبيرة- على الاستناد إلى رموز الهُويات الدينية والقومية، وليست هذه هي المرة الأولى التي تفشل  فيها أطروحة العَلمنة في التنبّؤ بالأحداث، ففي ثمانينيات القرن العشرين الميلادي، وبعد ما يُعرَف بـ«عودة الدين» (Resurgence of Religion)، أعادت نظرية العلمنة صياغة دعواها بالقول بأن الدين لن ينحسر ويختفي في نهاية المطاف، ولكنه سيقتصر على المجال الخاص، فهل علينا الآن أن نراجع أطروحة العَلمنة مجدّدًا؟ أم أن علينا التخلي عنها بالكلية؟

أحمد ت. كورو: منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية السبعينيات منه، كان هناك توجه علماني قوي في جميع أرجاء العالم، وكان هذا واضحًا في القانون الذي فصَل الكنيسة عن الدولة في فرنسا في عام ١٩٠٥م، وفي عَلمنة المؤسسات العامة في الولايات المتحدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وكان واضحًا أيضًا في العالم الإسلامي؛ فكثير من دوله أُقِيمَت على أيدي قادة علمانيّين، ومنها الجمهورية التركية (١٩٢٣م) ومملكة إيران (١٩٢٥م) وجمهورية مصر (١٩٥٣م) والجمهورية العراقية (١٩٥٨م). 

كانت الأسلمة في الدول الإسلامية جزءًا من صعود عالمي للأديان، وفي «إسرائيل» مثلًا صارت الأحزاب الدينية واليمينية أقوى من الأحزاب العلمانية والاشتراكية.

ولكن في الثمانينيات تصادف انحسار الأيديولوجيا الشيوعية عامة والاتحاد السوفيتي خاصة، مع انحسار عالمي للأيديولوجيات العلمانية، وارتبط صعود الأيديولوجيا الإسلامية في العالم الإسلامي بثلاثة أحداث وقعت في عام ١٩٧٩م: الثورة الإيرانية، واقتحام الحرم المكي، وبدء الجهاد ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان. ولذا -من جديد- كانت الأسلمة في الدول الإسلامية جزءًا من صعود عالمي للأديان، وفي «إسرائيل» مثلًا صارت الأحزاب الدينية واليمينية أقوى من الأحزاب العلمانية والاشتراكية. ويُمثِّل هذا الصعود الأخير للشعبوية اليمينية استمرارية لانبعاث الأديان في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين الميلادي، وهذا يُبيِّن أن الأديان لم تفقد أهميتها بوصفها أنظمة عقائدية أو قوى اجتماعية، وكذا لم تصبح الأديان أيضًا مجرَّد مسائل خاصة، فما زالت عامة للغاية، بل وسياسية أيضًا.

من ناحية أخرى، فإن فكرة العَلمنة قد تحظى مجدّدًا بأهمية في المستقبل، فاليوم هناك توجّه عَلمنة قوي في المجتمع الأمريكي، وقد كان هذا المجتمع الأمريكي خلال القرن العشرين أكثر تديُّنًا بكثير من مجتمعات أوروبا الغربية، ولكن لم يَعُد هذا هو الحال الآن، ففي السنوات الخمسة عشر الأخيرة زادت نسبة اللَّادينيّين من ١٠٪ إلى ٢٥٪ في الولايات المتحدة، وأحد أسباب هذا هو التعاون الوثيق بين كنائس مسيحية معينة وبين «الحزب الجمهوري» الأمر الذي يدفع معارضي «الحزب الجمهوري» إلى التوقف عن الذهاب إلى الكنائس.

وبالمثل، تُظهِر الاستطلاعات العامة في بعض الدول الإسلامية -مثل تركيا وإيران- أن كثيرًا من الشباب يتركون الإسلام كردَّة فعل على النظام الإسلامي شبه الثيوقراطي في إيران والنظام الإسلامي الشعبوي في تركيا وفي بعض الدول العربية أيضًا، ويبدو أن هناك معارضة علمانية عنيفة في أوساط الشباب الذين ينتقدون الأنظمة الإسلامية وتوظيفها السياسي للإسلام.

مركز نهوض: أصبح خطاب الإسلاموفوبيا شديد الالتصاق بخطابات اليمين الشعبويّ في الغرب (وربما أيضًا في الهند والصين)، حيث يُمَثَّل الإسلام على أنه «آخَر» داخليّ وخارجيّ، وتُصوَّر الأقليّات المسلمة على أنها جماعات غريبة تُمثِّل تهديدًا لتجانُس الهُوية الوطنية (أو تنتهك «قِيَم الجمهورية»)، فما هو الدور الذي يلعبه هذا الخطاب في سياسات الهُوية التي يتبناها اليمين الشعبوي؟ وما هو تأثيره بعيد المدى في مبدأ حياد الدولة العلمانية تجاه الدين؟

أحمد ت. كورو: في العديد من بلدان أوروبا الغربية لا سيّما في فرنسا، تعارَضت خطابات الإسلاموفوبيا وسياساتها مع مبدأ الحياد، وقد أدَّى هذا إلى إضعاف العلمانية والديمقراطية في تلك البلدان، ومن المثير للاهتمام أن فرنسا قدَّمت استثناءات كثيرة للكاثوليك، فقد وفَّرت الحكومة تمويلًا عامًّا كبيرًا للمدارس الكاثوليكية الخاصة، التي تقوم بتعليم حوالي ربع جميع الطلاب في مراحل ما بين  رياض الأطفال إلى الصف الثانيعشر، بل إن ستة من أصل ١١ عطلة رسمية في فرنسا هي عطلات كاثوليكية، غير أن العلمانية «الحازمة» الفرنسية رفضت عمومًا التسامح مع المطالب الدينية للمسلمين، ففي العام الماضي أقرَّ البرلمان الفرنسي مشروعَ قانون لمكافحة «الانفصالية»، وهو قانون يضع قيودًا على العديد من الحريات الدينية مع تركيز خاص على الإسلام.

يضع «التعديل الأوَّل للدستور الأمريكي» قيودًا على انخراط الدولة العلمانية في الشأن الديني، قائلًا إن الحكومة الفيدرالية لا يحقُّ لها تثبيت ديانة معينة ولا حظر ممارسة ديانة ما بحرية.

ومع أن خطابات الإسلاموفوبيا قد اكتسبت أيضًا قوَّة في الولايات المتحدة مباشرة بعد الهجمات الإرهابية في ١١ أيلول/سبتمبر وفي عهد إدارة ترامب، فما زالت العلمانية «السلبية» والديمقراطية في أمريكا توفر -بشكل عام- فرصًا أفضل لاندماج المسلمين، وفي فرنسا يُعرِّف الدستور الدولة بأنها علمانية دون توضيح حدود تلك العلمانية، أما في الولايات المتحدة  -وعلى العكس- يضع «التعديل الأوَّل للدستور الأمريكي» قيودًا على انخراط الدولة العلمانية في الشأن الديني، قائلًا إن الحكومة الفيدرالية لا يحقُّ لها تثبيت ديانة معينة ولا حظر ممارسة ديانة ما بحرية.

هناك تناقض كبير بين السياسة الخارجية الأمريكية التي شملت الغزو الأخير لأفغانستان والعراق، والسياسات المحلية الأمريكية التي توفّر حقوقًا متساوية للمواطنين المسلمين، فمجلس النواب الأمريكي اليوم فيه ثلاثة أعضاء مسلمين، منهم إلهان عمر أول نائبة ترتدي الحجاب، ورشيدة طليب أول نائبة من أصول فلسطينية مسلمة، وكلتاهما ذات حضور عام كبير. وقد تزامَن هذا أيضًا مع تزايُد الانتقاد العام في الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيّين. علاوةً على هذا، فقد عزَّز الرياضيّون والفنانون المسلمون، وغيرهم من من أصحاب المهن والاختصاصات من المسلمين مكانتَهم العامة في المجتمع الأمريكي.

أنا أنتقد سياسات فرنسا وبعض الدول الغربية الأخرى تجاه الأقليات المسلمة، ولكن أسوأ السياسات المعادية للإسلام اليوم توجد في الصين والهند وبعض الدول الآسيوية الأخرى، فالصين تسعى إلى تطهير عِرقيّ ودينيّ لعشرة ملايين مسلم من قومية الأويغور، من خلال وضع مليون منهم في معسكرات اعتقال، وإجبار بعض المسلمات الأيغور على الزواج من صينيّين من قومية الهان غير المسلمة، وتدمير العديد من المساجد. وفي الهند تقوم حكومة مودي القومية الهندوسية بالتمييز ضد المسلمين، ولا تتَّبع الاحتياطات اللازمة تجاه عمليات الإعدام لبعض المسلمين خارج إطار القانون من قِبَل متطرّفين هندوس.

وللأسف، لم تُولِ حكوماتُ البلدان الإسلامية السياسات الصينية ضدَّ مسلمي الأويغور اهتمامًا كافيًا، وهذه الحكومات تنتقد الإسلاموفوبيا في الغرب، لكنها لا تهتم بدرجة كافية بالإسلاموفوبيا في الصين.

مركز نهوض: في تركيا التي تتناوَلها في كثير من أعمالك، تتزايد حدة الاستقطاب القائم على الهُوية قُبيل الانتخابات القادمة في ٢٠٢٣م، فبعد صعود حزب «العدالة والتنمية» استنادًا إلى النجاح الاقتصادي وقدرته على تمثيل الطبقات المحافظة، شهدت السنوات التي أعقبَت محاولة الانقلاب في عام ٢٠١٦م تقارُبًا بين الخطاب الإسلامي والخطاب القومي، ورأى مراقبون أن صعود الخطاب الشعبوي الإسلامي قد وصل إلى ذروته في إعادة «آيا صوفيا» مسجدًا، فكيف تقرأ تحوُّلات الخطاب السياسي في تركيا، وموقع الدين فيها؟ وما هو مستقبل النسخة الكمالية «الحازمة» من العلمانية؟

أحمد ت. كورو: بين عامَي ٢٠٠٢م و٢٠١٢م كانت حكومة حزب «العدالة والتنمية» بقيادة طيب أردوغان تحظى بشعبية كبيرة في تركيا بل وعالميًّا، فقد كانت تُعزِّز الديمقراطية وحقوق الإنسان وكانت ناجحة اقتصاديًّا وتحاول أن تنال العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وكان أردوغان حينها مدافعًا عن الدولة العلمانية، وفي الواقع أُوصِي الإسلاميّين في مصر وتونس وليبيا بإقامة دول علمانية في حقبة «الربيع العربي». في ذلك الوقت، كان لدى أردوغان ثلاثة حلفاء محليّين: أتباع فتح الله غولن، وكثير من الأكراد، وكثير من المثقفين الليبراليين.

ومنذ عام ٢٠١٢م إلى اليوم تغيّرت الكثير من الأمور، فقدامى أعضاء الحزب -ومنهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان- غادَروا الحزبَ وأسّسوا أحزاب معارضة، فيما أقام أردوغان تحالُفًا جديدًا مع الحزب القومي الرئيس وبعض الجماعات القومية المتطرّفة، معلنًا شركاءه القدامى (أتباع غولن وكثير من الأكراد وكثير من المثقفين الليبراليين) إرهابيّين. وقد ألقى باللوم على أتباع غولن تحديدًا بسبب المحاولة الانقلابية الدموية الفاشلة التي وقعت في عام ٢٠١٦م. وإضافة إلى هذا، فقد أوقف أردوغان أيضًا محاولات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

لم يَعُد أردوغان اليوم يدعو إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل على العكس قامت حكومته بالتحقيق في شأن مليون مواطن بتهم «الإرهاب»، وزجَّت بأكثر من ١٥٠ ألفًا منهم في السجون بتهم سياسية، واستولت على مليارات الدولارات من ممتلكات هؤلاء المواطنين، وقد سجنت الحكومة تحديدًا عددًا كبيرًا من الصحفيّين والأكاديميّين وغيرهم من المعارضين السياسيّين، وقد أدَّى هذا إلى وقوع أزمة اقتصادية، ولذا فإن معدَّل التضخم الحالي يزيد على ٦٠٪ سنويًّا، وتواجه تركيا اليوم أكبر أزمة اقتصاديّة في الـ٢٠ عامًا الأخيرة.

وللتغطية والتستر على هذه المشكلات السياسية والاقتصادية، يوظِّف أردوغان الدين بشكل متزايد؛ فلم يَعُد يُشير إلى مفهوم الدولة العلمانية، ويعتقد أنه ما زال بإمكانه الحصول على أصوات الناخبين المسلمين المحافظين في انتخابات ٢٠٢٣م، من خلال افتتاح مساجد جديدة ومن خلال تقديم نفسه بوصفه المدافع الحقيقي الوحيد عن الإسلام، وقد جاءت خطوة تحويل «آيا صوفيا» من متحف إلى مسجد جزءًا من هذه السياسة، وقد قدَّمت بالفعل بعض الدعم الشعبي لأردوغان لفترة قصيرة. 

لكن، بغض النظر عن نتائج الانتخابات القادمة، وعن فرص نجاح أرودغان أو فشله فيها، لا يجب أن تعود تركيا إلى العلمانية «الحازمة» الكمالية القديمة، فهذا يعني المراوحة بين الإسلام السياسي السلطوي والعلمانية السلطوية، وآمُل أن تُحوَّل تركيا إلى الديمقراطية عبر علمانية «سلبية» صديقة للدين.

مركز نهوض: يُقدِّم كتابك الأخير تحليلًا تاريخيًّا مركَّبًا لمعالجة المشكلة المؤسسية للتخلُّف في البلدان الإسلامية، ومن التوصيات المهمة الواردة فيه ضرورة رفع يَد الدولة عن الاقتصاد، للسماح ببروز طبقة برجوازية مستقلة يمكنها دعم مبادرة الحركة الفكرية والدينية بشكل مستقل عن السلطة السياسية. ومع ذلك، فإن الخصوم الأيديولوجيين -من القوى العلمانية والإسلامية على السواء- يفكرون في الدولة بالطريقة نفسها، أي إنهم يسعون إلى الوصول إلى رأس السلطة وإعادة تصميم المجتمع بطريقة رأسية من الأعلى إلى الأسفل. فكيف يمكن للإصلاحيين الإسلاميين الإسهام في إعادة صياغة التحالُفات الرئيسة (السلطة السياسية والطبقات الاقتصادية والنخبة الفكرية والعلماء وغيرهم) بطريقة تُتيح مجالًا  أرحب للإبداع الاقتصادي والفكري؟

أحمد ت. كورو: يؤكِّد كتابي على أنه من أجل التحول الديمقراطي والتنمية، هناك حاجة إلى وجود طبقة برجوازية مستقلة ومنتجة في العالم الإسلامي، ويرتبط هذا بالحاجة إلى إنهاء سيطرة الدولة على الاقتصاد وتوفير حماية حقيقية لحقوق الملكية، ومع ذلك -ولسوء الحظ- فإن كلًّا من الإسلاميين والعلمانيين في العالم الإسلامي يُركزون على الدولة بشكل مفرط.

في المستقبل، يجب على الإصلاحيين المسلمين أن يسعوا إلى إحداث تحول في العلاقات بين الطبقات السياسية والدينية والاقتصادية والفكرية، وتفكيك تحالُف العلماء والدولة أمر ضروري لكنه غير كافٍ، فالدول الإسلامية بحاجة أيضًا إلى ظهور طبقات فكرية واقتصادية ديناميكية، فقد قاد المسلمون العالَم في مجالات العلوم والاقتصاد في تاريخهم المبكر، ويمكن أن تكون لديهم نهضة في المستقبل القريب. ولذلك، يحتاجون إلى إجراء نقد ذاتي سيؤدي إلى إحداث إصلاحات في العلاقات لا بين الإسلام والدولة فحسب، بل بين الاقتصاد والدولة أيضًا.