علمنة التجربة الأخلاقية الإسلامية: بين الإمكان والاستحالة قراءة في مقاربة وائل حلاق

علمنة التجربة الأخلاقية الإسلامية

مقدمة

 يُعَدُّ النموذج الحداثي الغربي نموذجنا الإرشادي في تحقيق نهضة إسلامية، وهي تبعية ولَّدتها الحركات الاستعمارية، ومن ثَمَّ استوطن في فكرنا ضرورة استلهام الحداثة الغربية، متناسين مسألة السياق التاريخي الحداثي الغربي، وكذا خصوصية التجربة الإسلامية، لكن الأزمنة الحداثية التي كانت مشعلًا لتحقيق نهضتنا تعيش اليوم على وقع تراجع مهول في القيم الأخلاقية[1]؛ إذ عملية تهميش الجانب الديني وإرجاع الوازع الأخلاقي للإنسان أنتجت فراغًا قيميًّا: "إن أعمَّ ما يميز الدولة الغربية الحديثة في نظره هو أنها أنزلت الأخلاق إلى منزلة النطاق الثانوي"[2]، هذه الصورة تلخص أهمية عودة القيم الأخلاقية في الفكر المعاصر، وهي مسألة تناولها العديد من الفلاسفة المعاصرين، ويُعَدُّ وائل حلاق أبرز مفكِّر استطاع أن يعيد ما جرى تهميشه إلى الصدارة، بل واعتبار هذا المهمَّش النموذج الإرشادي الأجدى بالاقتداء والاستلهام، وهي مقاربة تبنَّت الشريعة الإسلامية في شقها الأخلاقي بوصفها نطاقًا مركزيًّا يتجاوز المطبات التي آلت إليها الحداثة، فالنهضة الإسلامية رهينة بالصيرورة الذاتية دون استلهام لمفاهيم غربية تعكس سياقًا تاريخيًّا وفكريًّا مغايرًا للسياق الإسلامي؛ لأن آثار هذه التبعية التي أفرزها الغزو الكولونيالي "غالبًا ما تم تجاهلها أو تضمينها في المنطق الحتمي للتحديث والرأسمالية العالمية، بل الأدهى من ذلك أنه لم يتم الاعتراف بالقدر الكافي بأن الكولونيالية كانت في الوقت نفسِه معينًا للغزو ومنتجًا له"[3].

  وهو منظور قد يكون وائل حلاق استقاه من القراءة التي قدَّمها جيلُ المفكّرين المشكّكين في تقدُّمية الأزمنة الحداثية، ونعتمد هنا على تجارب كلٍّ من ماكس فيبر، وكارل شميث، وكارل لوفيث، وإريك فوجيلين، وراينهارت كوزيليك، وآخرين...[4]، هذا الجيل الذي لم يذهب مع المتعارف عليه، بأن الحداثة همشت الدين، إذ "من الخطأ أن يُتصور أن الحداثة في أصولها وجوهرها إلحادية ومعادية للدين أو حتى ربوبية"[5]، ومن ثَمَّ فإن الحداثة هي نموذج لعلمنة التصورات اليهودية المسيحية، فجُلّ المفاهيم الحداثية تستمدّ معجمها الأساسي من المعجم الإنجيلي، لقد تحوَّل الخلاص الموعود إلى خلاص يتحقق "هنا والآن"، حيث "كان الهدف الضمني الذي يكمُن في كل أعمالهم هو إدراك عالم عقلاني علماني بشكل كامل، كجنة أرضية"[6]، فهل يجوز لنا القول إن العالم الغربي أمكنه تحقيق الحداثة بما هي علمنة ثيولوجية لطبيعة الدين المسيحي[7]، في حين فشل العالم الإسلامي لغلبة الجانب التشريعي على الروحي؟ أَلَا تمثِّل هذه الغلبة ترجيحًا للجانب الدنيوي مما يسهل بالمقابل تحقيق علمنة إسلامية، وهو ما نبَّه إليه وائل حلاق؟

  يصعب الفصل في التشريع الإسلامي بين الحياة الدنيوية والأخروية، فإحداهما تحيل إلى الأخرى، ما دام أن النص الديني قد تكفل بتشريع أمورنا الدنيوية والأخروية على حدٍّ سواء، وربما من هنا صعوبة نجاح استلهام النموذج الغربي في كليته أو في بعضه، وهي المحاولة التي امتدت إلى أكثر من قرنين بدون أن تُكلَّل بالنجاح، قد يعتبر البعض أن هذه الخصوصية عائق يجب التخلي عنها وتجاوزها لتحقيق إمكانية الاستلهام الكامل لنموذج الغربي، غير أن وائل حلاق سيعلي بالمقابل من هذه الخصوصية الإسلامية ويثمّنها عبر إعادة إحياء البُعْد الأخلاقي الإسلامي، وهو ما يعوز التصور المسيحي، وربما هذا العوز هو سبب فشلها الأخلاقي ونجاحها في باقي المجالات؛ لهذا وجب أن يكون المطلب التشريعي نطاقًا مركزيًّا، باعتبار أن "المطلب الأخلاقي أساسي عنده؛ لأنه أساس إنسانية الإنسان، وهو مطلب إذ يرفض ذلك الانغلاق ويعرّيه، يقترح بديله في تأسيس مختلف للإنسانية يجد أداته في نموذج الحكم الإسلامي"[8].

  سنتناول هذه المقاربة من خلال مفهومين وما يتولد عنهما من إشكالات: الشريعة بما هي تجربة تاريخية تعكس سياقًا معينًا، وواقع تجربتنا الراهنة، الأول نتناول فيه التجربة الإسلامية (التي امتدت إلى اثني عشر قرنًا)، هل هي تجربة تعكس رؤية واقعية تلائم سياق راهننا، ومن ثَمَّ بالإمكان استلهامها أو العمل على إعادة إحيائها، أم أنها مقاربة أقرب إلى الرؤية المثالية التي نحملها عن هذا الماضي الأخلاقي والتي لا يمكن إسقاطها بشكل أمين على تجربتنا الراهنة؟ ثم عن أي شريعة نتكلم، هل هناك نموذج جاهز قادر على تجاوز مطبات المآلات الحداثية؟ هل يجري إحياء الشريعة كتجربة تاريخية في شموليتها أم يجب مراعاة الراهن والعمل على تكيفها وفق ما نحن عليه اليوم، وما نحن عليه لا يتلاءم وغير قابل للتلاؤم مع الشريعة (حسب حلاق)؟ ألا يمكن الإشارة إلى أن وائل حلاق استلهم البناء الحداثي الغربي وحاول إعادة إحيائه بناءً على ما يعوزه، وهو الشق الأخلاقي، وهو ما تمَّ استعارته من الشريعة الإسلامية، ومن هنا يكون قد سقط فيما اعتبره سببًا في نكوصنا؟

والثاني "سياق راهننا" وما يفرضه من أولويات، فراهننا اليوم هو انعكاس للإنسان الغربي مع هوية إسلامية شبه صورية؛ إذ لم تعد المجتمعات الإسلامية تُعبّر عن واقع إسلامي قيمي، وقد أذهب حد القول إن الإسلام لا يستحضر المعطى التشريعي إلا في مجالات ضئيلة لا تمثل أي تأثير في مستوى المجتمع، ففي المغرب مثلًا لا تُستلهم الشريعة إلا في جزء من "مدونة الأسرة فحتمية الحضور الحداثي للقيم الغربية صارت قيمًا إنسانية مشتركة، لنقل إن هناك نوعًا من غلبة التيار العلماني في سياقه العربي همَّش الجانب الديني بشكل كبير، فكيف السبيل لإعادة إحياء المنظومة الأخلاقية الإسلامية في ظل هذا الراهن؟ أليست إعادة الإحياء تستوجب أن يتوافق السياق الحاضر والتجربة التاريخية بما هي بديل عن هذا الواقع، وليس العكس؟

  1. علمنة الشريعة

رفعت تجربة وائل حلاق من دور الدين في شقه الأخلاقي كضرورة لقيام الاجتماع البشري، فحتى في شموخ الحداثة وترفعها ظلت حداثة يعوزها الجانب الأخلاقي[9]، وهو ما توفره الشريعة الإسلامية، في اتجاه إحياء القيم الإنسانوية وفق الوازع الديني: "إن صميم المقاربة التي اشتغل عليها وائل حلاق في الرؤية التي يقيمها لفهم الشريعة الإسلامية، إذ يعتبرها مستودعًا معرفيًّا يمتلك منطقًا داخليًّا وقدرة وإمكانيات تتيح له المساهمة في حل أزمة الحداثة التي تعاني من إشكالات أخلاقية عميقة"[10]، لكن أليست إعادة إحياء الوازع الديني لتجاوز أزمة قيمية غربية نوعًا من علمنة الشريعة لاستكمال العلمنة الحداثية التي يعوزها الشق الأخلاقي؟ إن كانت العلمنة الغربية عملت على تغليب كفَّة الدنيوي على الديني، فإن علمنة الشريعة -كما قدَّمها وائل حلاق- تغلِّب الديني على الدنيوي، أو علمنة الدنيوي بمنظور ديني، أيمكن القول إن الأمر ناتج عن اعتبار العلمنة الغربية هي ترجمة للتصورات الدينية، مما يجعل الأمر بالمقابل ممكنًا لعلمنة الشريعة؟

ويمكن القول إن وائل حلاق قد نبَّه بدوره إلى ما يحمله مفهوم التقدُّم من دوغمائية ترفض أي تصور لمسار التاريخ خارج التصور التصاعدي: "تنبني نظرية التقدُّم، الدوغمائية والمفتقدة للارتباط بالواقع، على افتراض أن للزمن بنية غائية متجانسة، وأن هذه البنية حتمية، وأن أطوار التاريخ الباكرة كانت إذن تمهيدًا للأطوار اللاحقة التي تعتبر بدورها وببساطة طريقة الوصول إلى قمة الارتقاء الإنساني المرجوة: ألا وهي الحداثة الغربية"[22].

 نخصُّ هنا مفهوم العلمنة[11] بدلالة أوسع مما هو متعارف عليه، فـ"لقد كان علم التاريخ منذ بداياته الأولى عملية علمنة، إذ إن اعتبار الموضوعات كلها قابلة للتاريخ البشري الدنيوي يُعدّ علمنة"[12]. إذ نزعم أن ما يقوم به وائل حلاق نوع من العلمنة، فهي تُعبّر في جوهرها عن نمطٍ تأويليٍّ في مسألة تعاطي الإنسان مع العالم "هنا" قبل "الهناك"، تأويل يغلب عليه الاجتهاد النصي/التشريعي، حيث "تعرف العلمنة بصفة عامة، كصيرورة تحويلية أو عملية نقل الجانب الديني للجانب الدنيوي"[13]، فإن كانت العلمنة الغربية تنطلق نحو تحرير الدنيوي من الديني، أو تهميش الديني على حساب الدنيوي، وتحجيمه في نطاق خارج المشترك العام، فإن العلمنة التي يدعو إليها حلاق علمنةٌ تسير في الاتجاه المعاكس من الدنيوي الفاقد لبوصلته الأخلاقية إلى الديني المسيج بالقوانين الإلهية الراعية لإلزاميته الروحية والعملية؛ إذ "كانت واقعية النظرة للعالم هي اعتبار دائم، بيد أنه تمَّ تسكينها في سياق ميتافيزيقي، تمامًا كما كانت هذه الميتافيزيقا تشتقّ -باستمرار- من الوجود الإنساني الفعلي"[14].

 هي إذن علمنة واعية بنقطة انطلاقها وغاية وصولها[15]، على عكس العلمنة الحداثية التي ترسم غايتها الدنيوية بأفق مستقبلي مفتوح نحو الإبداع البشري اللامحدود مما أفقده المكتسبات القيمية، فالشريعة قادرة على التفوق على النموذج الحداثي؛ لأنها تأسست وفق وعبر النظام الاجتماعي، يقول: "إنها قد نبعت وترعرعت في قلب النظام الاجتماعي الذي أتت لكي تخدمه في المقام الأول"[16]، فهل يعني ذلك أن علمنة النموذج الحداثي الغربي علمنة فوقية (بنية الدولة الحداثية) لا تخدم النظام الاجتماعي؟

 شهد منتصف القرن العشرين سجالًا فكريًّا اعتبر في جذوره سجالًا نيتشويًّا؛ إذ عمل على غربلة مفهوم العلمنة الحداثية[17] وألحقها بالجذر اللاهوتي المسيحي، فالعلمنة في أصلها تدين بانتمائها للفئة الكنسية[18]، هذا الخروج أو ربط الحداثة الغربية بالجذور اللاهوتية بدأت بوادره مع نيتشه ليستمر مع جيل ما بعد النيتشوية: ماكس فيبر[19]، وكارل شميت[20]، وإريك فوجلين، وكارل لوفيث، وراينهارت كوزيليك... قراءة نبهت لدور الواقعة الدينية في تشييد الفكر الغربي الحداثي، كأن الأمر لم يكن انفصالًا عن الدين، بل كان نوعًا من علمنة المفاهيم الدينية دنيويًّا، أو لنستعير مقولة كارل لوفيث ترجمة أمينة للتصورات الثيولوجية، حيث "الإنسان الحديث صاغ فلسفة التاريخ عبر علمنة المبادئ الثيولوجية، في ارتباط بمعنى مفهوم التقدم الذي يقود نحو الاكتمال"[21].

ويمكن القول إن وائل حلاق قد نبَّه بدوره إلى ما يحمله مفهوم التقدُّم من دوغمائية ترفض أي تصور لمسار التاريخ خارج التصور التصاعدي: "تنبني نظرية التقدُّم، الدوغمائية والمفتقدة للارتباط بالواقع، على افتراض أن للزمن بنية غائية متجانسة، وأن هذه البنية حتمية، وأن أطوار التاريخ الباكرة كانت إذن تمهيدًا للأطوار اللاحقة التي تعتبر بدورها وببساطة طريقة الوصول إلى قمة الارتقاء الإنساني المرجوة: ألا وهي الحداثة الغربية"[22]. وركَّز حلاق على ما يعوز الحداثة الغربية، على اعتبار أنها علمنة لتصورات المسيحية التي لا تشمل الجانب الشريعي؛ لأن الغاية كانت بالدرجة الأولى تحويل الانتظار الأخروي إلى خلاص دنيوي، ومن هنا "تستمر محاولة الخلاص في الحداثة وإن كانت في أشكال معلمنة"[23].

 وهو أمر نبَّه إليه كارل شميث، الذي حاول "أن يثبت العلاقة الوثيقة بين علم اللاهوت وعلم التشريع. ويصف تطور اللاهوت الحديث في نظرته إلى المسائل السياسية والقانونية والسوسيولوجية"[24]. لقد قرأ وائل حلاق الشريعة بعيون أخلاقية سوسيولوجية/نفسية/صوفية، وفقهية/قانونية/اقتصادية/سياسية، وخطابية/شعرية، وإبستيمولوجية/ثقافية/تأويلية، وعلى أنها شريعة مكتملة الأركان بإمكانها أن تحقِّق أبعد مما حققته الحداثة الغربية، إنها نموذج لعلمنة القيم الأخلاقية الإسلامية وجعلها النطاق المركزي لإعادة تشييد حداثة إسلامية، من الإنسان بوصفه مُشرّعًا للقانون الأخلاقي إلى الشريعة بوصفها مُحدّدة لمنظومة القيم الأخلاقية، إذ لم تكن الشريعة "مجرد نظام قضائي أو مذهب فقهي تنحصر وظيفته في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتسوية النزاعات بين الناس، وإنما كانت ممارسة خطابية ربطت نفسها بنيويًّا وعضويًّا بالعالم من حولها بطرق عمودية وأفقية، بنيوية وخطية، اقتصادية واجتماعية، أخلاقية وقيمية، فكرية وروحية، إبستيمولوجية وثقافية، نصية وشعرية"[25]. ويبدو أنه يعمل على استكمال الحداثة بما ينقصها، وبما أننا مبدئيًّا نسلم أن الحداثة هي نموذج معلمن، فإن استكمالها هو جزء تكميلي أيضًا لمشروع العلمنة الحداثية في نسختها الإسلامية، "أما الهدف الأيديولوجي الضمني، فهو أن هذا الكتاب يعرض مشروعًا لتخليق الدولة الحديثة الناقصة بالدين، باعتبار هذا المشروع حلًّا بديلًا عن الدولة الحديثة لمشكلة السلطة بالنسبة للمسلمين الذين صاروا يعيشون بها منذ القرن التاسع عشر، ففي هذا السياق يدخل قوله إن الاستقلال الأخلاقي يمثل أكبر المطالب المرجوة"[26].

كارل شميت
                                                  كارل شميت

 ما نقصده هنا بمفهوم العلمنة عند حلاق هو الخصوصية التي أوكلها للشريعة بربطها بما يخص الكائن هنا، أي بهذا العالم، وتسليط الضوء على طابعها الدنيوي، وقد استخدم المفكر مصطلحات من قبيل: "شعبنة الفقه"، و"أسلوب حياة"، و"الأخلاقية الاجتماعية"، و"الاقتصاد الأخلاقي الإسلامي"، وحركة تنويرية لجميع الفئات دون استثناء، يقول: "ولقد كان أئمة الإحياء الذين يتحدثون في المسائل الدينية، ويلقون خطب الجمعة بمثابة الفاعلين الذين عملوا على شعبنة الفقه"[27]؛ لأن التصور المعرفي الذي تقدِّمه الشريعة يتم "تأطيره داخل تصور أخلاقي للعالم الذي صور بدوره بوصفه مصنوعًا من نسيج أخلاقي"[28]. ومنطوق هذا التصور أن الإنسان يعيش في قلب العالم وليس خارجه يسخره لأغراضه، أي عملية ربط الشريعة بالمنظومة المؤطرة للمجتمع ككل، في إطار التزام أخلاقي يحمل الإنسان أمانة عمارة الأرض والحفاظ عليها:ُعد الشريعة إذن قانونًا أخلاقيًّا، وهي تعبير دنيوي عن الإرادة الإلهية الأخلاقية المصممة لكي تناسب السياق الاجتماعي"[29]، حيث المشورة الفقهية متاحة للجميع في الحواضر والمدن على حدٍّ سواء بدون مقابل مادي[30]، فالقيم الأخلاقية ليست حركة فوقية إلزامية بالقانون، بل هي سلوك اجتماعي، "إن العدالة والثقة -وهما أساسا الشهادة- يبنيان الرأسمال الأخلاقي الذي يستثمر فيه الشخص لتكوين روابط اجتماعية قوية، فلأن يكذب المرء يعني أن يخسر هذه الروابط، وبالتبع يفقد وجاهته (مكانته) الاجتماعية واحترامه وكل الثمرات المعيشية لشبكة الوجبات الاجتماعية"[31].

إن عملية التشريع بمختلف تجلياتها تنبثق من المشاركة الاجتماعية، فمجال العدالة مجال مُحكَم التنظيم والتنفيذ: "لم يكن ثمة هوة بين المحكمة كمؤسسة قانونية وبين المتقاضين مهما كانوا معوزين ماديًّا أو درجة تعليمهم متدنِّية"[32]، على خلاف المجتمع الغربي الحديث من حيث البنية التشاركية المنظمة للمجتمع، "كان المجتمع المسلم التقليدي منغمسًا في منظومة القيم التشريعية-القانونية التي أرستها الشريعة"[33]، إنه نوع من ترجمة القيم الدينية/التشريعية دنيويًّا، حيث المجال الديني يولد سياق الدنيوي والعكس، وهي عملية توليدية تفاعلية بين الشريعة ومختلف البنيات الفاعلة في المجتمع الإسلامي، وليس المقصود الصبغة الاجتماعية للشريعة، بل المقصود أن الشريعة تستجيب للأرضية الاجتماعية وتتفاعل معها؛ "إذ من أهم السمات البارزة لهذا المجتمع أنه كان يعايش الآداب والأخلاق الشرعية، التي شكَّلت الأسس الدينية والعرفية للممارسة الاجتماعية"[34].

  إن القراءة التي نرمي لجعلها نوعًا من العلمنة عند وائل حلاق هي القراءة التي تعكس واقعية المفهوم داخل البنيات الإجتماعية، في أفق درء الفجوة -قدر الإمكان- ما بين النص الديني والشأن الدنيوي، أي القدرة على تبيئة الشريعة وفق البنية الاجتماعية بما هي فعل ممارسة واقعي يستمدُّ آلية الزاميته من الشريعة، ويمكن وصفه بأنه علمنة تجعل الشريعة قادرة على التوطين الإجتماعي، ما دام أن "المنطومة التشريعية في الإسلام، أو علم أصول الفقه بالاصطلاح الأصولي الدقيق، ليس بناءً مجردًا جاهزًا معزولًا عن التاريخ، كما يذهب إليه أغلب المستشرقين، إنما هو علم متأثر بالواقع، ومؤثر فيه على نحو من الأنحاء. وهذا التوجه في النظر نادر في الفكر النقدي المعاصر الباحث في تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي"[35]. وهي علمنة نابعة من فعل التشريع ذاته، ولا تُستلهم من حقل خارج هذا الإطار، كما هو بالنسبة إلى العلمنة الحداثية، مما خلق صراعًا وتنافرًا بين الديني والدنيوي[36]. إن المقصود الأول من علمنة الشق الأخلاقي هو البرهنة على واقعيتها وأفقها الإنساني، ومن هنا فرادة هذه العلمنة؛ إذ "اتساقًا مع كونها مؤسسة اجتماعيًّا، ومع جذورها الجماعاتية والأخلاقية طورت الشريعة ضربًا فريدًا من التعامل النصوصي مع العالم"[37]، وهو تعامل لا ينحصر على المنتمين للدين الإسلامي، بل يتعداه لغير المنتمين. وقد قدَّم نماذج توضيحية لذلك.

فالقانون يقوم على الإكراه، والزجر، والحق في احتكار العقاب، أما الشريعة فتقوم على الحرية والانصياع الطوعي، والمشاركة في الضبط الاجتماعي، انطلاقًا من مبدأ الواجب الأخلاقي"[40].

لا ترنو العلمنة هنا لإنكار النص الديني في التعامل مع العالم، بل النص التشريعي هو الذي يؤسس هذا النمط التعاملي مع العالم، حيث يحضر الوازع الديني لتأطير الدنيوي، إنها علمنة متصالحة مع الواقعة الدينية بشكل متناغم، تحقق وحدة اجتماعية نموذجية مفقودة في الحداثة الغربية، لقد كانت منظومة أصول الفقه "آلية ومحكًا لتعقل ضرورات الوجود الاجتماعي الدنيوية والأخروية"[38]. فإن كانت العلمنة الحداثية تسعى إلى تحقيق الخلاص الأخروي دنيويًّا، فإن العلمنة التي تقدمها الشريعة تحقق المطالب الدنيوية قبل الأخروية بآليات دينية/تشريعية؛ لأنها ولدت من رحِم البنيات الاجتماعية، "إن تعددية الفقه هذه لم تكن مجرد تمظهر هرمنيوطيقي (تأويلي) لإرادة إلهية، وإنما كانت منظومة وآلية عمل وعملية خلقت من أجل النظام الاجتماعي ومن صلبه"[39].

وما دام أن عمل التشريع لا يعمل بشكل مفارق، بل إنه منغرس بشكل جنيني في صلب المجتمع، فهو يمثل رابطة بين الميتافيزيقا والعالم وما بين القيم الأخلاقية والقانونية، محققًا انسجامًا وتناغمًا، فلم تنفصل الشريعة عن الممارسة الاجتماعية، بل كانت امتدادًا وتعبيرًا عن هذا الواقع، على خلاف القانون الحديث، حيث "الجانب الأخلاقي في فلسفة التشريع هو ما يتم تجاهله بإصرار في الدراسات الحديثة للقانون، فالقانون يقوم على الإكراه، والزجر، والحق في احتكار العقاب، أما الشريعة فتقوم على الحرية والانصياع الطوعي، والمشاركة في الضبط الاجتماعي، انطلاقًا من مبدأ الواجب الأخلاقي"[40].

إن الشريعة حسب وائل حلاق ممارسة خطابية، "حيث لا شريعة بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا عبادات، في رفض واضح للفصل بينهما... في أفق تشكيل عالم إنساني قائم على العدل بوصفه مفهومًا كونيًّا تأسيسيًّا ومطلبًا غائيًّا للقانون الأخلاقي في الإسلام، على خلاف التصور الليبرالي للعدالة الذي تحدث عنه رولز وانتقده لانبنائه على إرادة القوة وهيمنة الدولة"[41]. إنه نوع من تفاعل النص الديني مع الضرورات الاجتماعية وفق سياقاتها المستجدة، وقد فرضت الجدة أيضًا نوعًا من المرونة والحنكة الواقعية التي ميزت المشرعين الإسلاميين، فالشريعة لا تعكس تنزيلًا فوقيًّا بل تفاعلًا بين التنزيل والاجتهاد الفقهي المسيج بضرورة المنطومة الأخلاقية بما هي نطاق مركزي نسقي يضمن التماسك المجتمعي.

لقد كان هدف وائل حلاق من ربط فعالية الشريعة بالبنية المجتمعية المعاشة هو الإقرار بواقعية الشريعة وإمكانية إعادة تطبيقها، ما دامت في الأصل ترنو إلى تحقيق الغايات الأخلاقية الدنيوية، فما هي ملامح هذه التجربة الأخلاقية الإسلامية الواجب استعادتها؟

2- ملامح التجربة الأخلاقية الإسلامية عند وائل حلاق[42]

 يتفق الجميع على أن الوضع العربي[43] وضع إشكالي مرتبط بما كان عليه وفَقَده وما يمثله الآن وهو غائب عنه، هذا الغياب عن الآنية هو مربط الفرس. نتفق بالطبع على أن الحاضر هو الأجدى بالاشتغال؛ إذ نعيش اليوم تشظيًا فَقَدنا معه بوصلة وغاية وجودنا، فتارة نعيد غاية السلف (التراث) وتارة نرتبط بسياقات الآخر (الحداثة الغربية)، بين رغبة دفينة لتأصيل الإبداع ذاتيًّا، وهو ما أغرانا بتجربة وائل حلاق، وأكسبها نوعًا من الأهمية في وجداننا قبل عقولنا، فواقعنا منصاع لحتمية حدثية لا مفر منها إلا بالإضافة أو المشاركة الإبداعية، فهل قدم لنا فعلًا وائل حلاق ملامح واضحة لنموذج أخلاقي قادر على تجاوز مطبات الحداثة؟ أم أنه اكتفى باعادة الإحياء نظريًّا دون تقديم آلية تحقيق هذا الإحياء، مما يجعل مقاربته تعكس مشروعًا غير مكتمل الأركان؟

 لقد تتبع حلاق تاريخ الشريعة منذ القرن السابع الميلادي، مرورًا بتطورها وصولًا إلى وضعها الما قبل كولونيالي، وهو مجهود محمود أزال الكثير من الغموض عن هذه التجربة الإسلامية، وهي شوائب ارتبطت بالدرجة الأولى بالكتابات الاستشراقية، الغربية والعربية على حد سواء؛ إذ "تنامي الاهتمام الأكاديمي الغربي بالشريعة مؤخرًا، يعكس ببساطة تلك الصحوة السياسية المفاجئة والمؤثرة في ربوع البلدان الإسلامية، والتي يتمحور برنامجها الأيديولوجي حول الرغبة الدينية والتشريعية لاستعادة الشريعة"[44]، وهو اهتمام لا ينحصر على الغرب فقط، بل إن العرب أنفسهم ما زالوا يؤمنون بإمكانية استرجاع الشريعة كأساس مؤطر لوجودهم، وهو أمر لا يمكن إنكاره، فهل تحمل الشريعة وجهة عملية قابلة لإعادة الإحياء؟

القانوني والأخلاقي
                                                     القانوني والأخلاقي

  بما أن الدراسة ترنو للتأكيد على علمنة المنظومة الأخلاقية الإسلامية، فإننا سوف نركز على ملامح التجربة الأخلاقية في ترابطها بالبنية الاجتماعية الواقعية، وهذا الترابط لا ينفي جوهرها الصوفي، بل يعبّر عن صوفية عملية تعبّر عن نمط معاش، "لقد كانت الشريعة (في محتلف تجلياتها) مختلطة بالأعراف والممارسات المحلية، لقد كانت أسلوب حياة"[45]، والإشارة هنا المقصود منها رصد منظور حلاق للأخلاق باعتبارها آلية عملية قابلة للتطبيق، مستبعدًا عنها شبهة المثالية والطوباوية التي طالتها، بوصف ذلك "واحدًا من الأسباب التي صيرت الشريعة غير كفؤة وجامدة، بحجة أن تلك الأخلاقوية الكامنة بقوة في الشريعة تفصح عن بنية مثالية، تجعلها في منأى عن فوضوية الواقع الاجتماعي والسياسي واضطراباته"[46].

لهذا كان هاجس حلاق في كتاباته إثبات فعاليتها الدنيوية، من خلال إدراج جملة من الأمثلة التي تبرز معالم هذه التجربة التي امتدت لقرون، وهو امتداد لا يعبّر عن نمطية فقهية جامدة، بل عن نمط اجتهادي استطاع تخليق الأرضية التي أنزل فيها، وحقق تطورًا مشهودًا له في التاريخ، حيث الصبغة الدينية لا تعكس قدسية جامدة تابثة، بل مجالًا لاجتهاد فقهي يحكمه منظور أخلاقي/دنيوي ذو أبعاد متعددة.

  يقوم مشروع وائل حلاق على إعادة قراءة الشريعة انطلاقًا من البنية الاجتماعية التي أسست التجربة الإسلامية التاريخية، فالشريعة هي اللبنة التي توافقت والبنية الاجتماعية للإسلام، إنها تعبّر عن تحالف الجانب الإيماني والعملي، هي بمثابة القانون الملزم للحياة الاجتماعية للمسلم، ومن ثم فإن قوة المنظومة الأخلاقية هو جذرها الاجتماعي، كأننا أمام حياة قانونية مركزها القيم الأخلاقية: "لم تخترع الشريعة الأخلاق الاجتماعية تاريخيًّا، بل جندتها لخدمتها ونظمتها مستفيدة من سلطتها وقوتها لدعم مبادئها وممارساتها وبنيتها ومؤسساتها الأخلاقية الخاصة"[47]، مما جعل الشريعة ابنة المجتمع وراعيته، كما لو أننا أمام أغورا اليونانية بمنظور إسلامي[48]، إنه مجتمع "عايش أخلاقيات الشريعة والأخلاق الشرعية، التي شكلت الأسس والأعراف الدينية للأداء الاجتماعي"[49].

  ولتوضيح إمكانية علمنة الشريعة، اشتغل وائل حلاق على مثال المحكمة بما هي مؤسسة تجمع في التشريع الإسلامي بين الثقة الاجتماعية والفقهية، أو بلسان الفكر الحديث بين القانون والأخلاق، يقول: "إن محكمة المجتمع المسلم هي من بين أشياء أخرى وحدة اجتماعية معينة ومتخصصة مستلة من المجتمع ككل"[50]. فلم يكن الفقة بنية مغلقة أو جامدة، بل مثَّل في كثير من المناسبات اجتهاداتٍ رائدة جعلته يعبّر عن مرونة تتوافق وما يعيشه المجتمع الإسلامي، "لقد كان الفقه في واقع الأمر عملية اجتهادية، تمرينًا هرمينوطيقيًّا مستمرًّا ومتجددًّا، جهدًا يتوخى تجميع المبادئ/الأصول بوصفها متموقعة في مواقف الحياة، مهمة تتطلب من المتشرع فعل ما يكون صوابًا في لحظة معينة من الوجود الإنساني"[51]، غير أن عملية فصل الشريعة عن المجتمع التي قامت بها الحركات الاستعمارية هي التي أوقفت استمرار هذا النموذج المجتمعي، لكن ما موقع الجانب التعبدي وطقوسه في رقعة هذه العلمنة المفترضة؟

لم يعمل وائل حلاق على تقديم شريعة منتقاة، بل عمل على تقديم صورة لشريعة بكامل هياكلها التعبدية والتعاملية والصوفية، فبالعودة لأعمال وائل حلاق نجد أنه شكَّل مفهوم المنظومة الأخلاقية انطلاقًا من عدة مصادر، إذ "ترجع أصول الأخلاق-القانونية والاجتماعية وغيرها بدرجة كبيرة إلى القوة العملية للأركان الخمسة، إذ تؤسس هذه الأعمال الأدائية الأخلاق التي تفعل الخضوع الطوعي لسلطة القانون"[52]، وهي أركان تدمج الجانب العملي والمتافيزيقي، مما يؤهل الذات لتتوحد في المقاصد الدنيوية والأخروية، "هكذا يكون السلوك الأخلاقي مكتسبًا بالكامل ومسألة تدرب، ولو لم يكن كذلك لما كان هناك معنى على الإطلاق للموعظة الأخلاقية والمشورة والتوجيه التربوي"[53]. فالتدرب يخلق نوعًا من السلوك الأخلاقي الاجتماعي الاعتيادي، فتصير الأخلاق بنية مجتمعة، فحتى المسائل القانونية -إن جاز لنا القول- حملت طابعًا أخلاقيًّا اجتماعيًّا: "لقد كان الفقه والأخلاقية الاجتماعية لو أمكن فصلهما عن بعض أصلًا وجهين لعملة واحدة، كان كل منهما يتقوى من الآخر ويقويه في الوقت نفسه"[54].

لم يكن النص القرآني بعيدًا عن هذا التوجيه السلوكي المجتمعي، بل هو المرشد العام لهذه المنظومة الأخلاقية: "وفي الواقع، يبدأ اكتساب السلوك الأخلاقي بإنصات القلب وإرادته إلى سردية المشورة المتوافرة بكثرة في القرآن وسنة الرسول"[55]، لكن لم يعنِ الأمر الارتكان للنص القرآني، بل إن النص نفسه قد أُخضع لدرجات من قراءة النص، "لقد كان النص المؤسس في كل المعارف الإسلامية -بفروعها المختلفة- هو بالطبع القرآن (وقد اعتبر رسالة أخلاقية خالدة). بيد أنه بعد جيل أو اثنين من جمعه، بدأ علماء الإسلام في التعمق في دلالة لغة القرآن بطرق متعددة أنتجت كل حقول العلم التي ذكرتها آنفًا، بما في ذلك العلوم الطبيعية"[56].

إذن، الشريعة الإسلامية تحمل ازدواجية ما بين الأحكام والقوانين والرؤية العلمية، فهي تؤسس لمبادئ أخلاقية تشرع في الوقت نفسِه للحياة العامة والخاصة، "هكذا ترتد الشريعة إلى معنيين مترابطين عضويًّا لكنهما غير متساويي الأهمية: أحدهما هو الأحكام الفقهية التقنية المالية والاجتماعية وغيرها، وهو المكون الثانوي للشريعة، وخاصيته أنه ذو طابع إجرائي محدود، والآخر هو القانون الأخلاقي الكلي الذي تهدف تلك الأحكام إلى تحقيقه وتجسيده"[57]. لقد قدم حلاق صورة شاملة للشريعة الإسلامية عكس من خلالها كل جوانب إمكاناتها الدنيوية، فهي تمثل بالإضافة "إلى صبغتها القانونية-الأخلاقية، مجالًا للتصوف العملي، وهي لذلك مندمجة بالكامل في الطرق الصوفية السائدة في الإسلام"[58]. فالشريعة تصل لمرتبة الصوفية المجتمعية، صوفية لا تمثل تعاليًا عن المجتمع بل هي صوفية عملية تولدت وترعرعت من خلال وعبر المجتمع نفسه، صوفية تحقق توازنًا نفسيًّا وروحيًّا، وكل هذه الجوانب ترسم شبكة عنكبوتية مركزها الأخلاق وأطرافها باقي المجالات المشكلة لهيكل مجتمع الشريعة، فإذا كانت "كانت الشريعة أيضًا مشروعًا نفسيًّا-صوفيًّا، وإذا كانت تشكل السلطة التشريعية النموذجية والراسخة للحكم الإسلامي، فإن هذا الحكم لا يختص أيضًا وبالمثل بنظرة صوفية إلى العالم، نظرة راسخة بشدة في مجتمع تمثله طبقة من المتصوفة-الفقهاء، لا يفرق -في ممارسة العيش- بين معاني القانوني والأخلاقي والصوفي"[59].

 إن المنظومة الأخلاقية الإسلامية نمت من الأسفل نحو الأعلى، هذا الأسفل الذي يعج بصور التعايش والتفاعل المحكوم بمركزية أخلاقية متجسدة بقوة في سلوكيات القائمين على شؤون المجتمع، "فقد كانت الغاية -أي تنشئة الفرد ليصبح ذاتًا أخلاقية- هي العامل المشترك، ولم تكن هذه التنشئة قطّ نظامًا خارجيًّا مفروضًا لـ"تدريب الذات"، وإنما صُممت لكي تعمل داخليًّا عبر سلوكيات واعتقادات اختارت الذات المستقلة أن تمارسها -بوعي- على الجسد والروح"[60]. فالبنية الفوقية لا تتدخل في باقي النطاقات إلا بالمشاركة والتعاون، إذ كان هناك نوع من فصل السلطات، الأمر الذي يعكس حركة تنويرية يقودها النسيج المجتمعي المتخلق بقيم إنسانية قلَّ نظيرها، إذ "كانت الشريعة دائمًا النظام المعياري وقانون البلاد، واستمرت خطاباتها النموذجية وممارساتها في إعادة إنتاج نظام معين وذات معينة بصورة مستمرة"[61]. وهي قيم تشكلت في صلب المجتمع الذي عكس إجراءاتها الواقعية، ثم امتدت نحو البنية الفوقية للمجتمع الإسلامي، بالنهاية فإن "الشريعة باعتبارها معرفة اجتماعية، ما هي إلا تمثلات للعلاقات الاجتماعية المتعارف عليها "الأخلاقيات"، فلا تعيد تصميم المجتمع من الأعلى، بل توجهه من الأسفل من ذات نسيجه"[62].

 ألم يسقط حلاق في خلط بين أفق انتظار مأمول (حداثة مكتملة الأركان) وواقع الصيرورة التاريخية غير القابلة للتسطير بشكل مسبق؟

3- دلالة مفهومي "التجربة التاريخية" وأفق الانتظار" في مقاربة وائل حلاق[63]

 لإيضاح رؤية وائل حلاق الذي يتجوَّل داخل المسار التاريخي بين الحاضر والماضي بكل أريحية[64]، رأيت اعتماد مفهومي حقل التجربة وأفق الانتظار، اعتمادًا على مقاربة المؤرخ والفيلسوف الألماني راينهايت كوزيليك[65]، والهدف من اعتماد هذا المدخل هو مقاربة القراءات التي تسمح لنا بإعادة إحياء حقل تجربة تاريخية "الشريعة" في واقعنا اليوم، ما دام أن مفهومي كل من حقل التجربة وأفق الانتظار هما في قلب فهم التجارب التاريخية الإنسانية؛ لأنهما يؤطران نمطَ تعاطينا مع الماضي، الذي من خلاله نتوجه نحو المستقبل. وفي خضم حقل التجربة الخاصة بالحاضر، يتأطر أفق انتظارنا وكذا قراءتنا للماضي، فهل كان وائل حلاق واعيا بمنطوق التجارب التاريخية؟ ألا يمكن القول إن التغاضي عن واقع حقل تجربتنا الممتدة لقرنين نوع من قراءة التاريخ من خارجه؟

 يبدو أن وائل حلاق يعي جيدًا منطق الصيرورة التاريخية، وهو أمر لمسناه من خلال مؤلفاته؛ إذ يشير إلى هذا الحرج بشكل جليّ: "لا يمكن لنموذج الدولة الحديثة وقدرتها المتأصلة على إنتاج الرعايا أن يجدا أي أرضية مشتركة مع نموذج الحكم الإسلامي، فالبون بين الاثنين يبقى شاسعًا، وأحد أبعاد المقارنة الأساسية هنا هو ظاهرة التجربة التاريخية الناظمة"[66]، فالتجربتان تختلفان من حيث التجربة التاريخية وأفق الانتظار، ومن هنا استحالة تحقيق تبيئة للنموذج الحداثي الغربي في سياق إسلامي. لكن ألم يفعل حلاق الشيء نفسه؟ فإعادة إحياء المنظومة الأخلاقية الإسلامية لتجاوز المأزق الحداثي هو نوع من إسقاط أفق انتظار غربي على واقع إسلامي، ما دام أن الشرط الأخلاقي مرتبط بالسياق الما بعد حداثي، وهو ما يؤكده حلاق بنفسه؛ إذ يقول: "وهو يعكس ورطة جوهرية في الحداثة والشرط الحداثي، فهو سؤال لم يسأله التراث الإسلامي السائد في أيٍّ من أشكاله قبل الحداثية، أو على الأقل، لم يسأله بالطريقة التي طرحه بها الخطاب الحديث"[67]؟ ألا يجعل من التجربة الإسلامية قبل الحركات الاستعمارية تجربة لا زمنية تجيب عن متطلبات التجربة التاريخية للفكر الغربي المعاصر، وتغفل بالمقابل واقع التجربة التاريخية الممتدة لقرنين؟   

يصف وائل حلاق حقل تجاربنا الراهنة فيقول: "فمهما تم تبجيل الفقه المتبقي ضمن القانون المدني في دول المسلمين الحديثة، فهو ليس سوى نسخة مقموعة ومثبطة من سلفه، مجرد محاكاة مشوهة له محرومة من الحياة الفقهية، من التعقل (التدبر) ومن هيرمنيوطيقا باطنية وعضوية، من المرونة المتحققة عبر التعددية والنسبية التشريعية، من الصلة -لا بل العلاقة- بهذا الضرب من المجتمع الأخلاقي الذي لم يعد له وجود"[71].

 يجوز لنا القول إن وائل حلاق ينطلق من تشخيص المآلات الحداثية في شقها الأخلاقي بالدرجة الأولى، "لذا ما لاحظه حلاق في أمر الحداثة هو إقصاؤها الجذري لأمر الأخلاقية، ما جعلها تبدو مشروعًا اقتصاديًّا وسياسيًّا ذا خلفية معرفية مفصولة عن القيمة من مظاهرها"[68]، إنه يعكس تقييمًا لصيرورة تاريخية غربية لم تترجم أفقها الانتظاري كما سطرته الأزمنة الحديثة، على اعتبار أن مفهوم "حقل التجربة" هو الماضي الراهن، حيث الأحداث جرى دمجها (في السياق الحاضر)، والتي يمكن تذكرها أو التأريخ لها[69]. كل مسار تاريخي يحمل تجاربنا التاريخية السابقة، نعيش الحاضر بحمولة تستحضر تجاربنا السابقة، غير أن هذا الاستحضار يتحكَّم فيه راهننا، مما يعني أن التجربة التاريخية الإسلامية لم تغب عن حاضرنا ولو ظلت مستترة وراء النموذج الغربي، وهو ما لمح إليه حلاق. ومن هنا يمكن القول إن هناك تجربتين تاريخيتين في مقاربة حلاق: تجربة الواقع الغربي المعاصر المحاصر بأزمة قيم أخلاقية تسائل الأسس الحداثية، وتجربة إسلامية/عربية غريبة عن حقل تجربتنا الأصلية؛ ولهذا دعا إلى تهميشها وإزاحتها عن التاريخ، فما هو واقع تجربتنا الراهنة؟

  قدَّم وائل حلاق تشخيصًا عامًّا لواقع عربي حكم عليه بالفشل ما دام أنه يرتبط بالنموذج الغربي الفاقد للوازع الأخلاقي، إذ اعتبر قرنين من الاجتهادات العربية يعكسان العديد من المغالطات، لذلك وجب استبعاد هذه القراءات، والعودة لما قبل الحركات الاستعمارية، حيث التجربة الإسلامية بمركزيتها الأخلاقية الأجدى بأن تكون أفقًا انتظاريًّا، يقول: "فإننا سنحسن صنعًا إذا غضضنا الطرف عن التجربة الإسلامية وشريعتها للمسلمين وأخرجناها من الاعتبار وركزنا بدلًا من ذلك على ما عنته الشريعة للمسلمين على مدار اثني عشر قرنًا قبل الحقبة الاستعمارية عندما كانت ظاهرة نموذجية"[70].

التشديد النقدي هنا يخص المفكرين الذين لم ينسلخوا عن ضبابية النطاق المركزي الذي تمثله الحداثة في أذهانهم؛ لأنها تجارب وليدة البنى الحداثية الغربية نفسها، مما جعل حقل تجربتنا نموذجًا مشوهًا، فلا هو احتفظ بتجربته التاريخية التي برع في ممارستها لقرون، ولا هو استطاع استلهام النموذج الغربي الذي اتخذه أفقه الانتظاري لقرنين، ولا هو استطاع أيضًا الجمع بينهما والخروج بنموذج يُقتدى به، يصف وائل حلاق حقل تجاربنا الراهنة فيقول: "فمهما تم تبجيل الفقه المتبقي ضمن القانون المدني في دول المسلمين الحديثة، فهو ليس سوى نسخة مقموعة ومثبطة من سلفه، مجرد محاكاة مشوهة له محرومة من الحياة الفقهية، من التعقل (التدبر) ومن هيرمنيوطيقا باطنية وعضوية، من المرونة المتحققة عبر التعددية والنسبية التشريعية، من الصلة -لا بل العلاقة- بهذا الضرب من المجتمع الأخلاقي الذي لم يعد له وجود"[71]. إن واقعنا وإن كان ما زال يحمل ملامح المنطومة التشريعية الإسلامية، فإنها ملامح مزيفة فَقَدت صلتها بماضيها الأصيل، وجرى إخراجها من سياقها الأخلاقي الذي تبرع فيه، فـ"التاريخ التشريعي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي للفقه قد دُفن تحت طبقات متعددة من الأيديولوجيات الحداثية التي تدفع في الاتجاه المعاكس تمامًا لروح الفقه"[72]، لأن النموذجين مختلفان شكلًا ومضمونًا، "إن الحداثة بوصفها "دولة عقل وطريقة حياة" انتشرت في العالم، وبسطت سلطانها المعرفي والتقني والسياسي والثقافي والاقتصادي، ولا يمكن أن تختفي من تفكير الناس وحياتهم في الأمد القريب على الأقل، ويتعذر اليوم تأسيس نموذج خاص بشكل منغلق وأحادي"[73]. فكيف السبيل لمسح قرنين من التجربة التاريخية العاكسة لهويتنا؟ هل يمكن أن نتعامل بالفعل بانتقائية أمام تجاربنا التاريخية؟

  يبدو إذن أن وائل حلاق عكس فعليًّا وضعنا الراهن الذي يملك زمام أمره القائمون على حقل التجربة الغربية، يقول: "والوضع الحالي محتلف إلى حد كبير: فالحداثة إنتاج غربي، وهي حقيقة واضحة للجميع. وعلى المستويين الشعبي والرسمي يعي المسلمون أنفسهم اليوم باعتبارهم أشخاصًا مستعمرين وخاضعين، فما يتبنونه من أفكار ومؤسسات غربية هو ليس ملكهم ولن يكون كذلك إطلاقًا، وتوازن القوى الذي يحدد مشروعية الاستملاك الثقافي وغيره هو ببساطة ليس في صالحهم"[74]، وضعنا الراهن وضع تبعية لنموذج يفرض امتدادًا لثقافته على حساب مسح ثقافتنا بذريعة التفوق الثقافي الغربي، إن السبيل لتجاوز هذا الراهن هو العودة إلى الوراء، فكيف يمكن إعادة هذه التجربة الإسلامية الماضية؟

 لقد حفر حلاق عن تاريخ مميز داخل التاريخ الإسلامي، تجربة عكست واقعًا معاشًا لمنظومة أخلاقية وازعها تشريعي، اكتشاف يخدم بالدرجة الأولى راهنية الحاضر المنطلق من الأزمة الأخلاقية، محددًا لاسترجاع التجربة التاريخية الإسلامية بما هي ماضٍ، فليست التجربة التاريخية في ذاتها غاية، "وإنما بنياتها في الزمن، اندثار معانيها وانبعاثها، وليس الماضي، كما حصل، ولكن إعادة توظيفه الدائم والتخلي عنه، ومدى الضغط الذي يمارسه على أزمنة الحاضر"[75]. إعادة توظيف التجربة الأخلاقية الإسلامية من منظور ما بعد حداثي، منظور يسعى لتجاوز أزمة أخلاقية بنيوية[76] متعلقة بالأسس الحداثية، فما مدلول ذلك؟

 إن مفهوم أفق الانتظار يتعلق بما لم يحصل بعدُ، إنه نسيج من التنبؤات، والترقبات، والتمنيات، والآمال، والمخاوف، وأنواع أخرى من القلق التي تحرك الحياة الإنسانية[77]. إنه يكتمل عبر حاضر ومستقبل يُحين، يتعلق بما لم يوجد بعدُ، بما لا ينتمي لحقل التجربة[78]. فأفق الانتظار الخاص بالمقاربة التي يقدمها حلاق مزدوج، إعادة إحياء الشريعة بمركزية أخلاقها، وإعادة استكمال الحداثة الغربية بما يعوزها، ويحقق المطلبان معًا حداثة ثانية قادرة على تحقيق مجتمع إنساني أخلاقي نموذجي، فما السبيل للجمع بينهما رغم تناقضهما؟

الصيرورة التاريخية
                                           الصيرورة التاريخية

  لقد حاول حلاق تشخيص المآلات الحداثية بنوع من التبخيس لمفهوم الصيرورة التاريخية التي لخصها مفهوم التقدم الغربي، فالمنطق الحداثي علَّمنا أن مسار التاريخ مسار تقدمي، وأن أي رجوع للوراء هو نوع من الماضوية والتراثية التي لا طائل منها، لكن استحضار التقدم لا يعني تحققه بالضرورة؛ لأن إثارة المفهوم تحيل إلى طبيعة التجربة التاريخية الحداثية، بغض النظر عن وجهة هذه التجربة، فالتجربة التاريخية الحداثية رفعت سقف أفق انتظارها بمحاولة رسم المسار التقدمي في أبعد مما كان عليه واقعها، وهو ما سبَّب "المشكلة الأولى فيما تشهده أوروبا الحديثة من صعود التمييز أو الفصل في الواقع بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون"[79]، وأن هذه الفجوة هي سبب فشل الأزمنة الحديثة، ما دام أن أفق الانتظار الذي رسمه مفهوم التقدم عكس الانتظارات وليس واقع الحال، حيث "تمثل ثنائية ما هو كائن/ما ينبغي أن يكون، الصراعَ بين التجليات الأداتية للعقل وبقايا تراث الأخلاق والفضائل المسيحية"[80]، مما سهل اعتبار مفهوم التقدم الحداثي مفهومًا يعكس تصورًا لاهوتيًّا ساعيًا نحو تحقيق الخلاص الإسكاتولوجي، مسار لم يدخل في معجم تجربته التاريخية مفهوم الأزمة، لأن صيغة أزمة بما هي تعبير عن تشخيص وتكهن، هي مؤشر لعلم جديد[81]، هذا المؤشر المعاصر لقراءة الأزمنة الحديثة هو ما انطلق منه وائل حلاق في تشخيص التجربة الغربية المعاصرة، باعتبارها تعيش أزمة أخلاقية ناتجة عن الأسس الحداثية ذاتها، ومن هنا وجب إعادة تدعيم هذه الأسس بما يزيح عنها الأزمة أو يعمل على تجاوزها.

 يتساءل وائل حلاق: "ما الذي سيكون عليه عالمنا لو استطاعت السلطة التشريعية في الدول الحديثة، بلا منازعة وبصورة حصرية، تحديد قانون البلد، ذلك القانون الذي تحترمه السلطتان القضائية والتنفيذية أشد الاحترام في حدود السكان المدنيين؟"[82]، وقد خصَّص ملامح[83] هذا الإمكان من خلال رصد تسعة شروط تشمل الملامح والسياق العام لنموذج هذا المجتمع الأخلاقي المفترض، هذا الأفق المأمول من وراء تحقيق الشريعة على واقع يعيش على التبعية الحداثية، إذ شرط الإعادة يستلزم أن "الشريعة لا يمكن فهمها ولا يمكن أن تعمل في أي سياق اجتماعي من دون تبعاتها الأخلاقية، فالشريعة من دون مجتمع أخلاقي ليست شريعة"[84]. وقد أقرَّ وائل حلاق بإشكالية إيجاد حلٍّ واقعيٍّ لتفعيل إمكانية إعادة إحياء الشريعة في ظل واقعنا اليوم، يقول: "وإذا كانت النظرية الأصولية غير قادرة على توفير حلّ. فماذا يمكن أن نفعل؟ كنت قد ناقشت بتفصيل فيه هذه المجالات بعض مقترحات الإصلاحيين من أجل صياغة نظرة جديدة للتشريع، وخلصت إلى أنه لا يوجد بديل واضح، حتى الآن، يستجيب لمطالب العصر"[85]. هناك مطالب يفرضها واقع عصرنا يجب أن تتلاءم وإعادة إحياء الشريعة، يدرك وائل حلاق الخيط الناظم للتجارب التاريخية، لذلك لا يذهب حد القول بالاستعادة الأمينة للنموذج الأخلاقي الإسلامي؛ لأنه نموذج يترجم السياق العام لتجربة تاريخية تعكس بنيتها المفهومية الخاصة بها، ومن ثم "فإن إثارتنا لاستعادتنا الأساس الأخلاقي التاريخي لا ترقى إلى أن تكون محاولة لاستعادة ممارسات ومؤسسات ما قبل حديثة، بل تعني البناء على تصور للعالم يؤكد على قيم الإرشاد الأخلاقي وعلى فاعليته"[86]. إذ لا يمكن نفي ما نحن عليه اليوم، وإسقاط نموذج جاهز من الماضي على هذا الواقع، كأنه واقع ساكن غير فاعل ولا منفعل، فحتى هذه التجربة التاريخية المأمول استعادتها هي أقرب لفعل التمنّي منها للواقع الفعلي لهذه التجربة التاريخية، ما دام أنه "لا يوجد اليوم رواية (سردية) كاملة واحدة تصف ماهية هذه الشريعة وما يجب أن تبدو عليه"[87].

  يبدو أن وائل حلاق كان بارعًا في تشخيص الوضع الغربي المعاصر في رصد نقائصه دون الإشارة إلى مميزاته، إلا أنه لم يذهب أبعد من ذلك، فوائل حلاق لا يرفض الحداثة، بل يفضل أن تتحقق الحداثة في ظل احتلال الشريعة النطاق المركزي داخلها، محاولة إصلاح داخلية لهياكل المنطومة الإسلامية، ألا يتطلب هذا التحديث تفاعلًا بين واقع تجربتنا اليوم على نقائصها وأفق انتظارنا باستعادة هويتنا التشريعية؟

  يمكن القول بضرورة مراعاة راهنية التجربة التاريخية التي تختلط فيها مخلفات التراث ومستجدات التحديث، فواقع التجربة التاريخية الراهنة يفرض أن "الحل الواقعي هو تغيير ما يمكن تغييره: ففي مطلق الأحوال، كان علم أصول الفقه في الرف الخلفي مدة قرن ونصف، ومن الأفضل بكثير واقعيًّا وعمليًّا إعادة صياغته بدل إزاحة الحداثة -بكل قواها القيمية ومؤسساتها ومعرفتها- جانبًا"[88]، صحيح أن مفهوم التقدم يحمل الكثير من المغالطات، إذ "أصبح الحاضر -بناءً على هذا المعيار المطلق للحكم على التاريخ- حركة مقدرة سلفًا تسير نحو التقدم الذي يصل إلى أوجه في ما تؤول إليه الأمور في الحاضر"[89]، مما سهل رمي التراث بالتخلف والتجاوز، من حيث إن "عقيدة التقدم وعاء للأيديولوجيا، فإنها تخلق أتباعًا أوفياء يؤمنون بأنهم على صواب مطلق، ويجدون أنفسهم دائمًا في مواجهة آخرين يعتبرونهم على خطأ مطلق"[90]. لكن الاستدعاء ذاته يفترض أن التجارب التاريخية منفصلة عن المسار التاريخي، فكل استدعاء لا يتم إلا وفق سياق حاضرنا، ربما غالت عقيدة التقدم في منظورها التفاؤلي وألغت مفهوم الأزمة من معجمها خلال سياق الأزمنة الحديثة، مما جعلها ترفع من سقف توقعاتها؛ لأن الحداثيين توجهوا نحو أفق التاريخ، ووضعوا أولوية للمستقبل، وتغذوا على فكرة أن التقدم هي عملية استقراء للمستقبل انطلاقًا من أفعالهم الخاصة[91]، في حين أن المسار التاريخي غير قابل للتنبؤ والتسطير القبلي لمجريات سريانه، لأننا "نبني التاريخ في راهنيته، ومنها نطلق الأحكام على اتجاهين ازاء ما نتركه وراءنا (الماضي)، وما نتوعد أنفسنا باستقباله في إطار ممكنات التحقق واللاتحقق (المستقبل)"[92]، وغالبًا ما يباغتنا التاريخ بما ليس متوقعًا. "وبما أن التقدم المقدس ليس له غاية، فإن الفرد تم تشكيله بالكامل بحيث يظل في كدٍّ مستمرٍّ ولا يرضى أبدًا بالحاضر. فالتقدم هو سعي دائم لا ينقطع لما هو -في نهاية الأمر- غير معروف"[93]. إن الأفق الممتد لهذا المسار التاريخي، غالبًا ما يأتي عكس تطلعاتنا التنبؤية، كما رسمها مفهوم التقدم الحداثي.

  ومن هنا فإن الراهن يفرض إمكانية الاجتهاد في إطار ما يمكننا تغييره؛ إذ توليد سياق زمني جديد رهينٌ بالمسافة ما بين حقل التجربة المعاشة وأفق انتظار المأمول تحققه، فما هي ممكنات المقاربة الأخلاقية في مجتمع يتفاعل وفق تجربتين تاريخيتين؟

4- الأفق الأخلاقي الإسلامي بين الإمكان والاستحالة

أما فيما يتعلق بتطبيقات الشريعة والتزام أفراد المجتمع بمعانيها الأخلاقية كما بينها حلاق، فلا يعدو الشذرات والأخبار والحوادث المبثوثة في مصادر متعددة تاريخية وأدبية وصوفية وغيرها"

 تمثل مقاربة وائل حلاق مقاربة متميزة من حيثُ الطرح وكذا التناول، يمكن اعتبارها خلاصة للنموذج الحداثي والقراءة الما بعد حداثية والما قبل حداثية لحضارتين مختلفتين، كأننا أمام موسوعة فكرية متعددة المشارب، حاولت أن تشيد صرحًا إنسانيًّا متعدد الثقافات يلمُّ شتات النماذج الصالحة ويستبعد الطالحة، من منطلق أفق إنساني صرف، وهو في الحقيقة أمر يعكس رؤية تنظيرية تستحق الإشادة، غير أن المشروع يطرح فعالية الإمكان، إذ "سيكون بالضرورة مشروطًا بمراجعة فلسفة الأنوار التي تمثل أساس التصور الأخلاقي في الحداثة، وبتغيير نمط عيشنا بأسره. وهذا لعمري مشروع معرفي ومجتمعي ضخم لم يخط عند حلاق وعند غيره إلا بقدر ضئيل حد النيات وإبانة مشاعر الامتعاض، إلى شعاب التفكير والإنجاز"[94]. فما هي الصعوبات التي تطرحها إعادة إحياء الشريعة الإسلامية في شقها الأخلاقي؟

يمكن القول إن:

 - التجربة الإسلامية في شقها الأخلاقي كما طرحها وائل حلاق يلفها بعض الغموض؛ إذ من خلال كتاباته تعرفنا أكثر على الجانب الروحي لهذه القيم، إذ هناك نوع من التغاضي عن النقاط التي يطالها الخلاف[95]. صحيح أن مقاربته أثارت إشكالية العوز البحثي لما يمكن أن نطلق عليه "تجربة الشريعة الإسلامية" كواقع متحقق بالفعل في سياق زمني معين، عوز وجب تغذيته بالتنقيب والبحث المكثف، إذ "إنه تتوفر لدينا مصادر تندُّ عن الحصر متخصِّصة في عرض تفاصيل أحكام الشريعة وشرح قواعدها المنهجية... أما فيما يتعلق بتطبيقات الشريعة والتزام أفراد المجتمع بمعانيها الأخلاقية كما بينها حلاق، فلا يعدو الشذرات والأخبار والحوادث المبثوثة في مصادر متعددة تاريخية وأدبية وصوفية وغيرها"[96]. لكن مع ذلك، فإن مشروع وائل حلاق يندرج في إطار الوعي العربي والعالمي الخاص بضرورة مراجعة مجموعة من المنطلقات، من بينها تساوي التجارب التاريخية في أحقية التناول، دون تمركز أحدها على حساب الآخر، وبعيدًا عن آلية الإعلاء والتبخيس التي قد تطال بعض التجارب الإنسانية، وهي العملية التي يتم تصنيفها وفق مفهوم التقدم.

- تغافلنا عن إشكالات الحداثة، كما أشار وائل حلاق، هو تغافل يرتبط بسياق ضعف سوسيو-سياسي، مما سهل على الغرب حمل لواء الوصاية التنويرية، لإعلاء واستدامة مركزيته الأحادية[97]، مما أفرز رؤية تقزيمية تلخص لا جدوى الاجتهاد التراثي، أمام نموذج استطاع البرهنة على تفوقه، فالبنية المجتمعية الإسلامية في راهننا ما زالت تترجم واقعها وكذا أفقها الانتظاري وفق معجم حداثي يسعى لتحقيق نهضة إسلامية، على اعتبار مفهوم النهضة جزءًا من التعبير عن مفهوم التقدم الغربي، فقد "لعب تأسيس عقيدة التقدم كمعيار طبيعي الدور الأكثر فاعلية في كتابة تاريخ العالم، بما في ذلك تاريخ الشرق"[98]. ورغم ذلك، فإن النموذج الغربي ما زال في صميم بنيتنا السوسيو-سياسية، نموذجًا مأمولًا يعكس رؤيتنا التفاؤلية لاستشراف المستقبل[99]، ألا يدعو الأمر لإثارة المعجم المفهومي لسياق هذا الراهن في إطار قراءة نقدية تؤسس لهوية المفاهيم الخاصة بحقل تجاربنا التاريخية[100]؟

- صحيح أننا تغافلنا خلال قرنين من الزمن عن قراءة هويتنا بعيوننا ولبسنا بدل ذلك نظارات حداثية غربية تعبّر عن وضعنا وفق سياقهم وأسلوبهم، وأن تفاعلنا كان تفاعلًا سلبيًّا يرنو للهدم لتحقيق البناء، أو الانغلاق مخافة الهدم، إذ "مهما يكن من أمر، تظل أهم الحقائق التي أنتجها البُعد المكاني هنا هي طبيعة الشرق الصامتة التي تدفع المستشرقين إلى التعبير عنه بأسلوبهم"[101]، ورغم ذلك يستوجب الأمر التعاطي مع راهننا القائم على مآلات هذا التغافل، وهو راهن لا يستطيع محو تأثير هذه القراءات التي امتدت لقرنين، وإن حملناها مسؤولية هذا التغافل.

- التجارب الزمنية عادة ما ترتبط بسياق راهنها، أو هكذا تعلمنا من منطق الصيرورة التاريخية، فإن استطعنا تقديم تشخيص بسيط لراهننا، سنجد أن الحداثة الغربية توغلت لدرجة يستحيل معها الانفلات من قبضتها أو التراجع إلى الوراء لإعادة إحياء منظومة القيم، وأن أمر الانفلات -كان جزئيًّا أو كليًّا- يتطلب أرضًا بكرًا من أي تصورات مسبقة، أو تجارب تاريخية مغايرة، غير أن هذه الأرضية المفترضة غير ممكنة؛ إذ إزالة التأثير الحداثي يحتاج بدوره لبديل فعَّال.

- مفهوم التقدم الحداثي مفهوم يحمل نيَّات ثيولوجية[102]؛ لأنه يرسم مسارًا للتاريخ بما هو تاريخ تصاعدي نحو الأفضل، وهو "فهم لا يعتمد الفرضية المعرفية التي تتبنَّى معنى محددًا للتاريخ الإنساني فترى فيه بناءً يقيم تحسينات متواصلة في وضع الإنسان"[103]. لكن بالمقابل، لا يمكن اعتبار التاريخ مسارًا قابلًا لإعادة ترتيب قطعه وفق انتظاراتنا الراهنة، التي لم نتصالح بعدُ في التعبير عنها، فغالبًا ما نبطن تمنّي الشريعة، ونمارس الحياة الحداثية، فتصير عملية الترتيب هذه عملية تنغمس "فيما هو مأمول"، مما يقلل من فعالية واقعيتها، لكن رغم ذلك تحمل مقاربة وائل حلاق نوعًا من الفعالية في تشكيل قراءة يقظة تجاه مسلمات الوعي التاريخي الحداثي.

- إن القراءة التي قدمها وائل حلاق تنطلق من تلاث تجارب تاريخية: تجربة راهننا، والتجربة الغربية المعاصرة، ثم التجربة الإسلامية. فالأولى تمثل أرضية الإنزال والإحياء، أما الثالثة فهي من أجل تجاوز الثانية لتمركزها المعرفي ولاأخلاقيتها، كأننا أمام لعبة تاريخية تتساوى فيها العتبات التاريخية، وتقبل بعملية الدمج لتوليد تجربة جديدة، كما أن القراءة ذاتها تستلهم الآليات والمفاهيم المعاصرة في تفكيك التجارب الثلاث.

- إن سلمنا بإمكانية إحياء الشريعة، وتغاضينا عن أي شريعة نتكلم، فإن التغاضي قد نقبله نحن، بدعوى أنه أفقنا المأمول، لكن هل سيقبله ذلك الآخر الذي ظل لعقود وصيًّا على الإنسانية راعيًا لقيمها الحداثية، ألن نخلق انغلاقًا هوياتيًّا؟ وهل بالإمكان أن نفكر بمعزل عن الآخر، فرغم لاأخلاقيته التمركزية فإنه يظل المتمسك بدفة التوجيه الإنساني؟

- إعادة إحياء القيم الأخلاقية الإسلامية يستوجب إرادة مجتمعية وسياسية، في حين أن واقعنا العربي لا يملك زمام واقعه، إذ منذ الأزل لا يمكن لحضارة أو تجربة بشرية أن تعيش بمعزل عن التجارب التاريخية الأخرى، فحتى التجربة الإسلامية عبرت في كثير من تشريعاتها عن تثاقف مع الحضارات الأخرى، "فإن الدولة وحدها هي التي يمكن أن تحقق التجدد في التشريع الإسلامي، لكن لا يكون ذلك بمعزل عن المساهمة الكاملة للمفكرين المسلمين، والأهم من ذلك هو ألا يكون في ظل الأنظمة الحالية في السلطة"[104]. وربما وعي حلاق بهذه المسألة جعله يركِّز في مقاربته على البنية الاجتماعية باعتبارها البنية التي عكست الشريعة وترجمتها واقعًا (عملت على دنيوتها).

 - واقع تجربتنا اليوم يعكس إلحاحية عدة مطالب أخرى، قد تكون القيم الأخلاقية مطلبًا لكنها لا ترتَّب في مصاف الأولويات، في حين أن مطلب القيم الأخلاقية مطلب ملحّ في السياق الغربي، إنه المطلب الذي يعوز الحداثة الغربية، وبهذا تكون قراءة وائل حلاق قراءةً تراعي المآلات الحداثية الغربية، لأننا نتموضع بمكان لم يؤسس راهنه بعدُ، إذ لإيضاح معالم هذا الراهن وجب تشخيصه وفق بنيته المفهومية التي تعكس من ثَمَّ أفقه الانتظاري، وتمثل رؤية حلاق بوابة مهمة لتعزيز هذا النوع من الاجتهاد. إن العمل على تشخيص وضعنا وتفكيك بنيته المركَّبة عملية حفرية تستوجب نوعًا من انخراط الباحثين بشكل جديّ.

- قد نتفق مع وائل حلاق أن بعض التجارب العربية قد نحت منحى التصورات الخطابية، ومع ذلك لا يمكن أن نبخس تجارب عمرت أكثر من قرنين؛ لأنها استطاعت أن تتوغل في عمق بنيتنا التأملية، لكن تظل العملية النقدية لهذه القراءات مجالًا لتوليد اجتهادات قد تُسهم في زعزعة معتقداتنا الغربية التي أسهمنا في زرعها وتنميتها.

- الأقرب لعكس تجربتنا الراهنة هو التصالح مع هويتنا الأخلاقية بشكل جدي؛ إذ نملك تراثًا لاهوتيًّا مهمًّا يعمل على تسييج سلوكياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، والدعوة هنا لا تخص الإعادة الاستنساخية للتجربة الإسلامية برمتها؛ لأنها تجربة تستجيب لسياق زمني مغاير، بقدر ما هي دعوة لاستحضار روح الضرورة الأخلاقية[105] التي يمكن أن نستوحيها من الشريعة، ولا نثير هنا الروح بمعناها المجرد، بل العملي المتجلي في واقع الحياتي.

- ضرورة تفعيل الحوار بين التجربتين الغربية والإسلامية معًا، يقول ألين جيلسبي: "لن نتعامل مع الإسلام بشكل جدي إلا إذا أدركنا الطرق التي تكون فيها رؤى المسلمين متوازية ومتقاطعة ومنحرفة عن رؤانا"[106]، أي القبول بالاختلاف لخلق تفاعل وازن عوض الإقصاء والاستعلاء الذي لا ينتج إلا العنف والتطرف والإرهاب، هذا التفاعل هو ضرورة إسلامية أكثر منها غربية؛ لأن راهننا استوطن فيه الفكر الحداثي على عِلاته، ولتجاوزه يجب نزع قدسيته الخطابية، أو لنقل رفع السحر عن الفكر الحداثي بأذهاننا وواقعنا.

يظل الطرح الأخلاقي الإسلامي طرحًا متميزًا يجب أخذه بعين الاعتبار، بوصفه استشعارًا بأهمية استثمار البُعْد الأخلاقي الإسلامي في بنيتنا النهضوية المنشودة، واستشعارًا يدق ناقوس تبعات الرؤية التفاؤلية التمجيدية التي نلصقها بالفكر الحداثي.

خاتمة

يمكن القول إن مقاربة وائل حلاق مقاربة متميزة جدًّا؛ إذ استطاعت في الحقيقة أن تجمع مجمل القراءات المعاصرة والحديثة والتراثية، حيث انطلقت من الوضع المعاصر الذي رغم حداثثه التقنية والعلمية، فإنها حداثة عرجاء ينقصها تراجع الشق الأخلاقي القادر على تأطير العيش المشترك، وبما أن الحداثة في جوهرها علمنة للمفاهيم المسيحية اليهودية إلى مفاهيم تخص هذا العالم، فإن المطلب هو الانفتاح على الذات، وتحقيق علمنة معاكسة للعلمنة الحداثية ما دام أن هذه الأخيرة تبيّن فشلها. وهو ما قد يمنح الشق الأخلاقي الذي بُنيت عليه الشريعة مرتبة كونية، على غرار الحداثة الغربية، هذا الرفع رغم صعوبة تحققه لعدة أسباب، فإنه يعبّر عن مقاربة تستحق التنويه، أولًا لأنها أعادت الثقة في قدرة تراثنا على الإسهام في تحقيق نهضة كونية، وخلق تجاوزات تاريخية تتعالى حتى عمن اعتبرناهم نموذجَنا النهضوي، ثم إنها نبهت لضرورة تجاوز مقياس التبخيس والإعلاء بناءً على مفاهيم حداثية تبيّن لاجدواها وكذا تمركزها الاستعلائي، كما أنه أفرز مشاريع جديدة تستلهم مشعل القيم الإسلامية الأخلاقية في بناء الحاضر الإنساني، هذا الحاضر الذي يعيش على وقع تراجع القيم الأخلاقية التي رفعتها المشاريع الحداثية.

 في حين أن حاضرنا الإسلامي يعيش على واقعين: واقع هذا التراجع القيمي الذي تُسهم العولمة في تشاركه على قدم المساواة مع الغرب، وواقع تختلط فيه القيم التشريعية والقيم الحداثية؛ إذ ما زال هناك بذور للشريعة الإسلامية، وإن كانت ترتبط بالتشريعات الأسرية دون أن يمس الإطار العام لدولة، التي تسير على خطى المرشد الغربي منذ الحركات الإمبريالية. فالواقع الإسلامي لم ينسلخ تمامًا عن أصله؛ إذ خلال العقود الأخيرة حاولت بعض الأحزاب التي ترفع شعار الأرضية الإسلامية في ديباجتها مقاومة التيار الحداثي الجارف عبر تبني الشق الأخلاقي الإسلامي في السلوكيات أو المعاملات التي لا تخلق تصادمًا مع البنية الفوقية للدولة، مثل حزب العدالة والتنمية بالمغرب، وحزب النهضة بتونس، وحزب العدالة والتنمية بتركيا، إن هذه التجارب تعكس نمطًا من إعادة بناء المعنى المستلهم من الماضي وفق تكهنات الحاضر وانتظاراته، ومن ثم التوجه نحو أفق مستقبلي انطلاقًا من ممكنات الراهن الذي يستحضر في ثناياه الماضي الحاضر، وهنا لا نعتمد على المسار التاريخي التصاعدي، بل على منطوق التجارب التاريخية التي تستجيب لأفق انتظارنا.

  إن راهننا لا يعي ضرورة الشق الأخلاقي بالحدة نفسها التي يطرحها الواقع الغربي، ومرد ذلك إلى أن الواقع العربي يركز تطلعاته على المطلب الاقتصادي والتنموي أكثر منه الأخلاقي، ومن هنا جوهر ارتباطه بالنموذج الحداثي؛ إذ غالبًا ما تأتي القيم الأخلاقية بوصفها مطلبًا تكميليًّا وليس مركزيًّا، لكن من المفيد دقّ ناقوس الضرورة الأخلاقية في تطلعات الشعوب، هذه الضرورة التي يجب أن تشخص هذا الواقع الأخلاقي الراهن الذي ما زال في جزء منه يحمل المشعل القيمي الإسلامي: التضامن الاجتماعي، والبنية الأسرية، وبر الوالدين، وهو واقع يجب تثمينه والعمل على تعزيز وجوده داخل البنية المجتمعية؛ إذ أفق الانتظار الذي يرسمه وائل حلاق ليس أفقًا طوباويًّا بالكامل، بل ينظلق من حقل تجربة ما زالت تعيش على وقع الأصول، تعمل على تحيّنه كذكرى أو استرجاعه في ثنايا حاضرها المغلف بحضور تجربة إنسانية أخرى.

  إذن، يظل الطرح الأخلاقي الإسلامي طرحًا متميزًا يجب أخذه بعين الاعتبار، بوصفه استشعارًا بأهمية استثمار البُعْد الأخلاقي الإسلامي في بنيتنا النهضوية المنشودة، واستشعارًا يدق ناقوس تبعات الرؤية التفاؤلية التمجيدية التي نلصقها بالفكر الحداثي. قد يكون العمل من خلال البنيات المجتمعية السفلى أجدى الطرق لتحقيق ذلك، وليس المطلوب التنزيل القيمي الجامد؛ لأن الأمر غير قابل للتحقق ويتطلب أرضية فارغة تمامًا من أي عنصر خارجي، وإنما الإحياء المثمن لهوية أخلاقية إسلامية في بعدها الإنساني، لأنه طرح لا يمكن أن يوجد بمعزلٍ عن القيم الأخلاقية التي استجدت وما زالت تستجد، ومن هنا لا يمكن إخراجه عن السياق العالمي الراهن؛ إذ يظل مشروع حلاق مشروعًا واعدًا، لكنه بالمقابل مشروع لم يكتمل بعدُ.

المراجع

أحمد الفراك، القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة: قراءة تحليلية نقدية، مركز نهوض للدراسات والابحاث، 2020م.

احميدة النيفر، الشريعة والتاريخ والأخلاق: المراجعات التجديدية للداخل الثقافي: نموذجا إقبال وحلاق، مركز نهوض للبحوت والدراسات، 2020م.

أنس الطرفي، من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة، مؤمنون بلا حدود، 29 أبريل 2016م، مشاهدة يوم 12 ديسمبر 2022م، www.mominoun.com.

حيدر العايب، وائل حلاق.. الأخلاق من الهامش إلى المركز، الأنطولوجيا، مشاهدة يوم 24 ديسمبر 2022م، www.alantologia.com .

خالد طحطاح، عودة الحدث التاريخي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2014م.

رياض الميلادي، المفكر الفلسطيني وائل حلاق نحو آفاق جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي، مؤمنون بلا حدود، 21 ديسمبر 2022م.

سوسن العتيبي، مراجعة كتاب "الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات"، تأليف: وائل حلاق، ترجمة: كيان أحمد حازم يحى، منصة إدراك المعرفية، تاريخ النشر 8 مارس 2022م.

عبد السلام المنصوري، من نقد الاستشراق إلى سوسيولوجيا الإسلام: جدلية الشريعة والاجتماع في مشروع وائل حلاق، مؤمنون بلا حدود، 5 ديسمبر 2019م.

عزيز العظمة، أزمنة التاريخ: مباحث في كتابة التاريخ الإسلامي، ترجمة: علي الرضا خليل رزق، مراجعة: محمود محمد الحرثاني، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2020م.

كارل شميث، اللاهوت السياسي، ترجمة: رانية الساحلي، ياسر الصاروط، بيروت: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018م.

مايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل أحمد الفرهود، بيروت: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019م.

محمد بوهلال، الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: مقاربة وائل حلاق، تبين، العدد 6/22، خريف 2017م.

مصطفى آيت خرواش، نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2019م.

نزهة بوعزة، التجربة التاريخية الحداثية عند راينهايت كوزيليك، مؤمنون بلا حدود، 2021م.

وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإنسان والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان، مراجعة: ثائر ديب، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014م.

ـــــــــ، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة: عمرو عثمان، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2019م.

ـــــــــ، ما هي الشريعة، ترجمة: طاهرة عامر، طارق عثمان، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 2016م.

ـــــــــ، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، ترجمة: سامي الرياحي، مؤمنون بلا حدود، 2019م.

Hervé Mazurel, Présence du passé, présence du futur ; Reinhart Koselleck, le futur passé. Contribution a la semantique des temps historique (rééd., 2000), open Édition Journal, 15mai 2013, consulté le 23 decembre2022.

Karl lowith, histoire et salut ; les présupposés théologique de la philosophie de l’histoire ; traduit de l’allemand par marie, Christine chalhol, Gillet, Sylvie Hurstel et jean, François Kerjean , présentation d.kervégan, Gallimard.

Michael Foessel, « Le modèle de la sécularisation :quel concept de monde ? », Modernité et sécularisation ;Hans Blumenber, Karl Lowith, Leo Strauss, CNRS Editions2007.

R. Koselleck, le règne de la critique, traduit de l’allemand, Hans Hildebrand, édition minuit, paris 1979. 

Reinhart Koselleck, Le futur passé ; contribution a lq semantique des temps historiques, traduit de l’allemand par Jochen Hoock et Marie-Claire Hoock, édition de l’école des Hautes en sciences Sociales, Paris.

Rémie Brague, « La sécularisation est-elle moderne ? », Modernité et sécularisation, Hans Blumenberg ; Karl Lowith, Carl Schmitt, Leo Strauss, Modernité et sécularisation, CNRS éditions, 2007.

الهوامش

[1] "إن الحداثة التي بدت على أعتاب تأمين الأمان العالمي وتحرير البشر من كل أشكال الطغيان وصنع ازدهار غير مسبوق، انتهت في الحقيقة إلى بربرية لم تعهد في التجربة البشرية السابقة"، مايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية للحداثة، ترجمة: فيصل أحمد الفرهود، (بيروت: جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019م)، ص360.

[2] محمد بوهلال، الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: مقاربة وائل حلاق، تبين، العدد 6/22، خريف 2017م، ص71.

[3] وائل حلاق، ما هي الشريعة، ترجمة: طاهرة عامر، طارق عثمان، (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2016م)، ص102 .

[4] وهو ما أشار إليه بالقول: "ثمة مُبرّر للاعتقاد بأن البذور الأولى لفكرة السيطرة على الطبيعة كانت في الاعتقاد المسيحي الأوروبي الذي حولته الحداثة -كما هو دأبها- إلى اشكال معلمنة".

[5] مايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية للحداثة، مرجع سابق، ص10.

[6] المرجع نفسه، ص360.

[7] "الانتقال الهائل للسمات الإلهية إلى البشر (إرادة بشرية غير متناهية)، والعالم الطبيعي (السببية الآلية الكلية)، والقوى الاجتماعية (الإرادة العامة، اليد الخفية)، والتاريخ (فكرة التقدُّم، التطور الديالكتيكي، براعة العقل)".

[8] أنس الطرفي، من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة، مؤمنون بلا حدود، 29 أبريل 2016م، تاريخ المشاهدة 12 ديسمبر 2022م، على الرابط: www.mominoun.com

[9] لا تحيل كلمة العوز هنا إلى غياب الجانب الأخلاقي في البناء الحداثي، فالعوز في إبراز فعاليته الإلزامية؛ لأنه نطاق هامشي في منظومة الأزمنة الحداثية، العوز هنا يحيل إلى المآل المعاصر للتشريع الأخلاقي الحداثي المرتبط بالوازع الأخلاقي البشري.

[10] احميدة النيفر، الشريعة والتاريخ والأخلاق: المراجعات التجديدية للداخل الثقافي: نموذجًا إقبال وحلاق، مركز نهوض للبحوت والدراسات، 2020م، ص11.

[11] العلمنة هنا تحمل توجهًا معاكسًا لما قدمته العلمنة الحداثية؛ لأن هذه الأخيرة ترنو إلى التحرُّر من المعطى الديني وتغليب كفة الإنساني، فأفق انتظارها هو التخلُّص من الإطلاقية الدينية رغم أن جوهرها أو أصلها قائم على استلهام آليات ومفاهيم المبحث الديني، في حين أن العلمنة عند وائل حلاق تسير في الاتجاه المعاكس، هي أقرب إلى دنيوة تنطلق من الديني وتنتهي إليه، لا وجود لها بدون التشريع الديني، علمنة تهدف إلى الرفع من منسوب الوازع الديني لتأطير الوجود الدنيوي، أو خلق توالف تفاعلي مركزه التشريع الأخلاقي الديني، كأننا في دائرة قطرها دنيوي ومركزها ديني/تشريعي.

[12] مصطفى آيت خرواش، نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية، (بيروت: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2019م)، ص92.

[13] Michael Foessel, « Le modèle de la sécularisation :quel concept de monde ? », Modernité et sécularisation ;Hans Blumenberg, Karl Lowith, Leo Strauss, CNRS Editions2007, p.59.

[14] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص140.

[15] فإن كانت العلمنة الحداثية قد رسمت غايتها بمسار تقدمي يسير نحو الأفضل، فإن العلمنة التي يقدمها وائل حلاق علمنة تنطلق من علمنة حداثية يعوزها المنطق الأخلاقي نحو علمنة يكملها المنطق الأخلاقي، في إطار رسم غاية أخلاقية نموذجية. إن العلمنة التي تقدمها الشريعة هي علمنة خرجت من جوهر الدين الإسلامي، ولم يتم إسقاطها من خارجه، كما هو الأمر في العلمنة الحداثية، حيث تم استلهامها من النظام الكنسي والعمل بها خارج سياقها المسيحي.

[16] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص32.

[17] العلاقة ما بين العلمنة والحداثة "هي علاقة ارتباط واتصال، فكل واحد منهما يحيل إلى الآخر، بل يمكننا تعريف أحدهما عن طريق معرفة الآخر".

[18] مرت العلمنة من عملية نزع ممتلكات الكنيسة إلى رفع طموح التحرُّر من الثقل الثيولوجي، ومن هنا فإن "الدين لا يندثر في صيرورة العلمنة، بل يبقى وشرط استمرار العلمنة مرهون بتوافر الدين ومؤسساته ونماذجه المعرفية وحامليه والداعمين إليه. إنه يتطور مع سياقاته السياسية والاجتماعية، ويحتلّ وظائف جديدة في سياق عملية العلمنة، وأحيانًا يرسمها هو لنفسه على أنها عملية إعادة الانتشار والتمركز".

مصطفى آيت خرواش، نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية، مرجع سابق، ص102.

[19] كان ماكس فيبر أول من أثار دور الواقعة الدينية في تأسيس الروح الرأسمالية الغربية، إذ "اعتبر أن المصالح الاقتصادية هي الموجهة لمصالح الناس الجماعية، لكنه أضاف إليها مصالح أخرى معنوية تسعى الجماعة للوصول إليها وتحقيقها كالقوة والسيطرة، من دون أن يغفل دور الثقافة الدينية في التأثير في الجماعة، خصوصًا في تكيفها مع المصالح الاقتصادية".

[20] كان كارل شميث أول من أثار صلة السياسة بالجذر اللاهوتي، وقد حمل كتابه الرئيس عنوان "اللاهوت السياسي"، وهو ما أكَّده من خلال الفصل الثالث من هذا الكتاب، يقول: "إن مفاهيم النظرية الحديثة للدولة كلها ذات الدلالة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة"، ومعلوم أن وائل حلاق تأثَّر بأعمال كارل شميث واستمدَّ آليات عمله منه، ومنها مفهوم "النطاق المركزي". انظر: كارل شميث، اللاهوت السياسي، ترجمة: رانية الساحلي، ياسر الصاروط، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018م)، ص14.

[21] Karl lowith, histoire et salut ; les présupposés théologique de la philosophie de l’histoire ; traduit de l’allemand par marie, Christine chalhol, Gillet, Sylvie Hurstel et jean, François Kerjean , présentation d.kervégan, Gallimard, p.14.

[22] وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإنسان والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة: عمرو عثمان، مراجعة: ثائر ديب، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014م)، ص53، 288.                            

[23] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص153.

[24]كارل شميث، اللاهوت السياسي، مرجع سابق، ص14.

[25]وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص32.

[26] أنس الطريفي، من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة، مرجع سابق.

[27] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص32.

[28] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص138.

[29] المرجع نفسه، ص139. الإشارة هنا تخصُّ الإشادة بمرونة الأرضية التي تقوم عليها الشريعة لتوافق السياق الاجتماعي، وهي إشادة تزيح عنها تهمة الماضوية المنتهية صلاحيتها بانتهاء سياق تجربتها التاريخية.

[30] تذكرنا هذه الإشارة بشيوع الفلسفة عند اليونان، كأنها نوع من ديمقراطية المعرفة الفقهية أو دمقرطة الشريعة على غرار ديمقراطية الثقافة اليونانية التي لم تكن تفرق بين المدن والقرى.

[31] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق ص25.

[32] المرجع نفسه، ص40.

[33] المرجع نفسه، ص38.

[34] المرجع نفسه، ص38.

[35] رياض الميلادي، المفكر الفلسطيني وائل حلاق نحو آفاق جديدة في التأريخ للفقه الإسلامي، مؤمنون بلا حدود، 21 ديسمبر 2022م.

[36] إذ وجب حسب بعض الدراسات الغربية المعاصرة إحداث نوع من التصالح بين المطلبين الديني والدنيوي؛ لأن اللاهوت المسيحي ظل في قلب المشاريع الحداثية وإن كان ركنًا إلى موقع العدو؛ لهذا وجب "التصالح مع الالتزامات اللاهوتية/الميتافيزيقية المضمنة التي تميز تراثنا الكامن في غالبه". مايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية للحداثة، مرجع سابق، ص366.

[37] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص24.

[38] المرجع نفسه، ص45.

[39] المرجع نفسه، ص 46.

[40] عبد السلام المنصوري، من نقد الاستشراق إلى سوسيولوجيا الإسلام: جدلية الشريعة والاجتماع في مشروع وائل حلاق، مؤمنون بلا حدود، 5 ديسمبر 2019م، ص13.

[41] أحمد الفراك، القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة: قراءة تحليلية نقدية، مركز نهوض للدراسات والابحاث، 2020م، ص12.

[42] هناك من يذهب للقول إن وائل حلاق "يستلهم إلى حد بعيد المشروع الأخلاقي التخليقي للدولة الحديثة الذي صاغه من بين الفلاسفة الأخلاقيين ما بعد الحداثيين، أمثال ألادير ماكنتاير وشارل لارمور، وشارل تايلور". انظر: أنس الطريفي، من المطلب الأخلاقي إلى تكريس دولة الشريعة، مرجع سابق.

[43]  "التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها القرن التاسع عشر أنتجت تقلبات سريعة وممتدة -باختلاف جغرافي واجتماعي كما هي الحال في التغيرات التاريخية- تفرض على المرء تحفظًا وحذرًا شديدين في محاولة اقتراح اتصال بالبيئات العقلية للشعوب العربية في القرون الوسطى، فضلًا عن محاولة إطلاق الحكم والجزم به. وما يجب أيضًا الاستهلال به هو أن التيارات الثقافية العلمانية المهيمنة قد عملت، حتى عصر الإحيائية الدينية للعقدين الأخيرين، على إزاحة الفكر الديني وتمثيلاته ووضعه جانبًا. وبوصفها ذات أسلوب علماني ضمني، لم تحاول النزعة الحداثوية للعالم العربي مقارعة التمثيلات الدينية، بل قامت ببساطة باستبدالها أو تهميشها". عزيز العظمة، أزمنة التاريخ: مباحث في كتابة التاريخ الإسلامي، ترجمة: علي الرضا خليل رزق، مراجعة: محمود محمد الحرثاني، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2020م)، ص189.

[44] وائل حلاق، ما هي الشريعة، ص25.

[45] المرجع نفسه، ص33.

[46] المرجع نفسه، ص17.

[47] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص213.

[48] "وفرت إذن المحكمة الإسلامية (أو مجلس الحكم الشرعي) نوعًا من الساحة العمومية المتاحة لأي شخص يريد أن يستخدم هذه الساحة وفقهها في الدفاع عن حقه". وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص56.

[49] المرجع نفسه، ص28.

[50] المرجع نفسه، ص51.

[51] المرجع نفسه، ص71.

[52] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص220.

[53] المرجع نفسه، ص239.

[54] وائل حلاق، ماهي الشريعة، مرجع سابق، ص40.

[55] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق،ص 139.

[56] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص129.

[57] محمد بوهلال، الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: مقاربة وائل حلاق، مرجع سابق، ص75.

[58] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق،ص 247.

[59] المرجع نفسه، ص247.

[60] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص129.

[61] المرجع نفسه، ص135.

[62] سوسن العتيبي، مراجعة كتاب "الشريعة: النظرية والممارسةو والتحولات" تأليف: وائل حلاق، ترجمة: كيان أحمد حازم يحيى، منصة إدراك المعرفية، تاريخ النشر 8 مارس 2022م.

[63] لقد أشار حلاق إلى هذا التمييز من خلال تساؤله "هل هناك من مخرج؟"، حيث ميَّز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، باعتباره المنبع الذي جعل الأخلاق الحداثية ترتبط بما ينبغي أن يكون وتغافل عن ما هو كائن، وهو في الحقيقة إرث كانطي ظلَّ يحمل بريقه رغم الانتقادات التي طالته، يقول: "يفسر هذا إصرار الفلسفة الأخلاقية الحديثة الذي لا يتزعزع على أن الأخلاق يجب تبريرها بواسطة العقل المستقل وذاتي التشريع، وهو العمود الفقري للنظرة الكانطية التي تهيمن على النموذج الأخلاقي الحديث". وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص288.

[64] حاول وائل حلاق اتخاد اتجاه معاكس لما هو متعارف عليه في الصيرورة التاريخية، فليس بالضرورة أن نتخذ من الحاضر بوصلة لتوجيه المستقبل، بل بالإمكان الحفر الجينيالوجي أبعد من الآن، عملية تنقيبية في الأصول لاستعادة البداية الأولى قبل تلطيخها ببراثن الفكر الغربي، وهو تصور يرفض اعتماد منطوق الفكر التاريخي الذي يعتمد مفهوم التقدُّم أو تراتبية العتبات التاريخية في إطار تحقُّق الأفضل.

[65]  تتأسس التجربة التاريخية -حسب كوزيليك- على ثلاث: الأولى تشير بصيغة المفرد لما سيأتي، المبني على فعل المفاجأة الناتجة عن اللامتوقع، أما الثانية فهي الطريقة المتولدة عن نمطية التكرار أو عملية التراكم التي تتضمَّن كل الحياة بصفة عامة، وترتبط في الغالب بالجماعة، وكذا الأجيال وجماعات الفعل كيفما كان، والتي تدمج الفرد داخل الجماعة، ثم أخيرًا الثالثة التي تتميز بالتنقل والتغيُّر فيما يخص أسلوب التحولات التي تحدث بشكل عميق، مؤثرة بذلك في مجرى التاريخ.

[66] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص207.

[67] المرجع نفسه، ص210.

[68] حيدر العايب، وائل حلاق.. الأخلاق من الهامش إلى المركز، الأنطولوجيا، مشاهدة يوم 24 ديسمبر 2022م، على الرابط: www.alantologia.com  

[69] Reinhart Koselleck, Le futur passé ; contribution a lq semantique des temps historiques, traduit de l’allemand par Jochen Hoock et Marie-Claire Hoock, édition de l’école des Hautes en sciences Sociales, Paris, p311.

[70] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ص32.

[71] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق،ص103.

[72] المرجع نفسه، ص104.

[73] أحمد الفراك، القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة: قراءة تحليلية نقدية، قراءات، مرجع سابق، ص16.

[74] وائل حلاق، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، ترجمة: سامي الرياحي، مؤمنون بلا حدود، 2019م، ص29.

[75] خالد طحطاح، عودة الحدث التاريخي، (دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2014م)، ص108.

[76] الأزمة هنا ناتجة عن جعل الأخلاق نطاقًا هامشيًّا يسير وفق رؤية يحددها النطاق المركزي، يقول: "لا يهدف هذا الطرح إلى نفي أي أنشطة جمالية أصيلة وصادقة عن الحداثة، ولكنه يهدف إلى التأكيد على أن النطاقات المركزية تبدل بنية النطاقات الهامشية ومعناها، بل ومظهرها". وائل حلاق، قصور الاستشراق، ص75.

[77] Hervé Mazurel, Présence du passé, présence du futur ; Reinhart Koselleck, le futur passé. Contribution a la semantique des temps historique (rééd., 2000), open Édition Journal, 15mai 2013, consulté le 23 decembre2022, p2.

[78] Reinhart Koselleck, Le futur passé, op.cit., p311.

[79] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص148.

[80] المرجع نفسه، ص159.

[81] R. Koselleck, le règne de la critique, traduit de l’allemand, Hans Hildebrand, édition Minuit, Paris 1979, p134.

[82] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص247.

[83] رصد وائل حلاق في الصفحة (250) من كتاب "الدولة المستحيلة" هذه الملامح لما يفترض أن يكون عليه واقعنا في حالة أعيد تطبيق الشريعة.

[84] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص220.

[85] وائل حلاق، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، مرجع سابق، ص30.

[86] وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص50.

[87] وائل حلاق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص23.

[88] وائل حلاق، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، مرجع سابق، ص30.

[89] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص184.

[90]وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص56.

[91] نزهة بوعزة، التجربة التاريخية الحداثية عند راينهايت كوزيليك، مؤمنون بلا حدود، 2021م، ص16.

[92] المرجع نفسه، ص10.

[93] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص237.

[94] محمد بوهلال، الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي مقاربة وائل حلاق، مرجع سابق، ص71.

[95] "فقد بنى جزءًا من الحلول المقترحة على استنتاجات تبدو غامضة مثل استقلالية التشريع الإسلامي الفقهي والقضائي عن تدخل السلطة السياسية (وهي الأطروحة المركزية للكاتب في كتابيه الأخيرين الدولة المستحيلة والشريعة) وتحتاج إلى مزيد من الاستدلالات التاريخية الدقيقة في ظل وجود أطروحات أخرى مختلفة، مثلما نجده عند كل من عبد المجيد الشرفي (الإسلام بين الرسالة والتاريخ)، وحمادي الذويب (جدل الأصول والواقع)، وناجية الوريمي (المؤسسة الدينية والسلطة السياسية: من الولاء إلى المواجهة)، وكذلك رؤى كل من سعيد بنسعيد العلوي (الفقه والسياسة) ومحمد عابد الجابري (الدين والدولة وتطبيق الشريعة)، فضلًا عن المعالجة الأنثروبولوجية لمحمد أركون في سياق مقولة التحالف بين الدولة والكتابة (معارك من أجل الأنسنة). وائل حلاق، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، مرجع سابق، من مقدمة المترجم، ص4.

[96] محمد بوهلال، الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: مقاربة وائل حلاق، مرجع سابق، ص78.

[97] الأمر شبيه بالوصاية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية عبر محاكم التفتيش على مدى ستة قرون، غير أن هذه الوصاية هي وصاية مدنية تمارسها الدولة الإمبريالية بغرض تحقيق الامتداد السلطوي والثقافي لمركزيتها، وصاية على باقي العالم، وربما هو ما يعكس منظورها في التعاطي مع الشعوب المستعمرة، فلا وجود لنموذج معرفي خارج النموذج الإرشادي الغربي. يقول حلاق: "تكمُن المشكلة الأصلية في فرض المعرفة الغربية والرؤى الغربية عن العالم على الآخرين تحت ذريعة خدمة الحضارة التي تفرق بين الغزو المعتاد في التاريخ والغزو الأوروبي الحديث". وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص248.

[98] المرجع نفسه، ص184.

[99] إن المعجم الحداثي معجم طاغٍ على وضعنا الثقافي، وأثير هنا المعجم المفهومي المحدد لحاضرنا (استشراف/مستقل) الذي يحمل رتبة (الأفضل/التقدم).

[100] تتعلق الدعوة هنا بتخصيص دراسات تعمل على رسم مفهوم التجارب التاريخية وفق دلالة المفاهيم المؤسسة لهذا الحقل، بناءً على تحقيب لظهور المفهوم ومختلف الدلالات التي اكتسبها أو دلَّ عليها في إطار حقل التجربة قيد البحث.

[101] وائل حلاق، قصور الاستشراق، مرجع سابق، ص95.

[102] أو ما سمَّاه وائل حلاق بثيولوجيا التقدُّم، وأظن أنه استقى المفهوم من التيار التشكيكي الذي أعاد قراءة فلسفة التاريخ الحداثية، وخلص إلى أنها فلسفة ثيولوجية يتساوى من خلالها مفهوم التقدُّم بمفهوم الخلاص المسيحي، وأبرز من قدم دراسة وافية حول الموضوع هو الفيلسوف الألماني كارل لوفيث من خلال كتابه "التاريخ والخلاص".

[103] احميدة النيفر، الشريعة والتاريخ والأخلاق: المراجعات التجديدية للداخل الثقافي: نموذجا إقبال وحلاق، مرجع سابق، ص13.

[104] وائل حلاق، هل يمكن إعادة تطبيق الشريعة، مرجع سابق، ص32.

[105] قد يبدو الأمر أشبه بالقراءة التي قدَّمها ماكس فيبر عبر استلهام الروح البروتستانتية أو القيم الدينية للمذهب البروتستانتي (العمل - التقشف - الواجب - الكسب...) في النظام الرأسمالي، فَلِمَ لا يتم بالمثل استلهام الروح الأخلاقية الإسلامية في بلورة مجتمع حداثي؟

[106] مايكل ألين جيلسبي، الجذور اللاهوتية، مرجع سابق، ص366.