سجالات "الدولة المستحيلة": ردود وتعقيبات - حوار مع وائل حلاق
لقد خلق كتاب «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق جدلًا في الساحة الثقافية، لما أثاره من قضايا مرتبطة بجذور الدولة الحديثة، واختلافاتها البنيوية مع الدولة الإسلامية في صيغتها التاريخية، وهذا ما جعلَ كتابه محطَ مساءلة ونقد معرفي وأيديولوجي من طرف أرباب التيارَيْن الحداثي والإسلامي معًا، ومن أجل التفاعل مع بعض هذه الاستشكالات النابعة من هذَيْن التيارَيْن، أجرت نهوض حوارًا مع المفكر وائل حلاق من أجل الإجابة عن بعض هذه الانتقادات الموجهة لعملهِ العلمي.
وجديرٌ بالذكر أن البروفيسور وائل ب. حلاق أستاذ بمؤسسة أفالون في العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا، حيث يُدرِّس الأخلاق والقانون والفكر السياسي منذ عام ٢٠٠٩م، ويُركِّز في تعليمه وأبحاثه على التمزُّقات المعرفية الإشكالية الناتجة عن اجتياح الحداثة، وما صاحبها من أوضاع اجتماعية ومؤسساتية وقوى سياسية وتاريخية، إضافة إلى عنايته بالتاريخ الفكري للاستشراق وتفاعلات التصورات الاستشراقية مع مختلف الحقول المعرفية المرتبطة بالعلوم الإسلامية، وعلوم الفقه بوجه خاص.
تمكَّن حلاق من خلال كتاباته من خلق بناء معرفي يتفاعل فيه مع سؤال الحداثة والتشريع الإسلامي، كما فحصَ مركزية النظرية الأخلاقية في فهم تاريخ الشريعة الإسلامية والحركات السياسية الحديثة، وقد تركَّز عمله تركيزًا كبيرًا على نقد مشروع الحداثة، ويحاول مشروعهُ البحثي الحالي رسم خريطة للممارسات الدستورية للحكم الإسلامي بين القرنَيْن الثامن والثامن عشر، بهدف بناء دليل إرشادي لنقد المقاربة الدستورية الحديثة الداعمة للدولة الحديثة.
والآن مع نص الحوار:
١- عثمان أمكور: تُصرِّح في كتابك «الدولة المستحيلة» بأنه «لم توجد ثمة دولة إسلامية قط، فالدولة شيء (حديث)»، هل تعني بذلك أن الدولة لا يمكنها أن تكون سوى دولة حديثة، أي دولة خالية من المنظومة الأخلاقية؟
وائل حلاق: يمكنُ تقديمُ جوابَيْن لهذا السؤال، أحدهما مختصر والثاني فيه نوع من البسط والتفصيل. الجواب المُقْتَضب هو أن الدولة الحديثة تمتلكُ بنيتها الخاصة المتفردة بطبيعتها، حيثُ تُمثِّل كيانًا سياسيًّا مجهولًا للإسلام في كل الأزمنة والأمكنة إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر، إلى أن فُرِضت على العالم الإسلامي من خلال المشروع الكولونيالي. إضافة إلى هذه الأجنبية، ثمَّة معطى آخر زاد من درجة غُربة الدولة عند المسلمين: ذلك أن الدولة نشأت في سياق عام وشامل للفصل بين الرؤية الكونية الأخلاقية والأخلاق الوجودية من ناحية، وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي البارد من ناحية أخرى، هذا الواقع الذي تلعبُ فيه الأخلاق دورًا ثانويًّا في أحسن الأحوال.
أما الإجابة المستفيضة فتتطلبُ تفسيرًا تاريخيًّا، الاسم المعياري للجهاز الحاكم في الحداثة هو (state) في اللغة الإنجليزية و(etat) في اللغة الفرنسية و(stato) في اللغة الإيطالية و(Staat) في اللغة الألمانية. وكما هو ظاهر، فإن هذه المصطلحات لها جذر مشترك، كما أن هذه مصطلحات لم تظهر قبل القرن الخامس عشر في أوروبا لتدل على نظام حكم معين. حتى نكونَ واضحين فإن هذا النظام كان أوروبيًّا محضًا، وكان محصلة ونتيجة لتطورات خاصة وفريدة حدثت في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وكانت هذه التطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، والأهم من ذلك أنها كانت ربما عسكرية، كان انهيار النظام الإقطاعي وصعود المُلك المطلق أمرًا ضروريًّا لهذا التطور، بالإضافة إلى ظهور المدن والنقابات والأشكال الجديدة للتبادل الاقتصادي والإدارة البيروقراطية.
يجب أن نفهم أن المؤسسات السياسية الحديثة التي طورتها أوروبا كانت نتيجة مقاومة قوية ضد السلطة المطلقة والمطالبات الإلهية لملوك أوروبا، كان ذلك أيضًا نتيجة لردود الفعل ضد الإساءات طويلة الأمد التي أحدثتها الكنيسة الكاثوليكية، والإساءات التي ارتُكبت بحق أعداد كبيرة من سكان أوروبا باسم الله أيضًا.
ولكي تُكْبحَ سلطات الملك والكنيسة الشريرتَيْن فقد كان من الضروري بناء نظام يحدّ سلطات الملكية ويسلُب من الكنيسة أحقية دعواها بالتدخل في السياسة نيابة عن الله، وكانت الحريات الجديدة المكتسبة ضد هاتَيْن القوتَيْن المتعاظمتَيْن سياسية في البداية، ولكنها تُرجِمت فيما بعد إلى حريات اقتصادية خلقت أشكالًا جديدة من تكوين الثروة، وهي الأشكال التي أُنشِئَت للعمل جنبًا إلى جنب مع السياسة، وهذا هو السبب في أن الدولة الحديثة بحكم تعريفها تُشكِّل بشكل حتمي دولة كولونيالية استعمارية.
وهكذا، خلقت هذه التحولات كيانًا سياسيًّا يُعَدُّ انعكاسًا للمسيحية الكاثوليكية ضمن أشكال علمانية، وهو ما يتوافق مع طرح كارل شميت المُقنِع الذي مفادهُ أن جميع المفاهيم والمؤسسات السياسية المهمة التي بحوزتنا الآن داخل منظومة الحداثة هي صيغ مسيحية معلمنة، أي إن كل هذه التطورات خلقت أشكالًا علمانية فريدة للسياسة المسيحية، التي أمسينا نطلقُ عليها اسم الدولة الحديثة، ومن هنا فإن الدولة هي تجربة أوروبية متفرّدة لا تمتُ بصلة للتجارب السياسية أو الاجتماعية التي عرفها الإسلام.
من ناحية أخرى، طوَّر الإسلام نظام حكم منطبعًا بالتجربة الإسلامية، وهذه التجربة تتشكَّل من مجموعة من الأحداث والأفكار والمؤسسات التي ظهرت في المخيال السياسي والديني للمسلمين بوصفها وحدة واحدة ضرورية تصوغ هذه التجربة، من هذه المكوّنات الأساسية: الحدث القرآني بوصفه تعبيرًا سياسيًّا (وهو ما سأناقشهُ لاحقًا)، وطبيعة انتقال الحكم من النبي ﷺ إلى الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم مرحلة الخلفاء الراشدين والحروب الأهلية [الفتنة] التي تلت ذلك، وأخيرًا انهيار نظام الخلافة وصعود النظام السلطاني. ولكن السمة الأبرز لهذه التجربة هي ظهور الشريعة وترسيخها في بلاد الإسلام، مع ظهور جميع الشخصيات المؤسِّسة وكافة مؤسسات الشريعة إلى حيز الوجود تقريبًا بنهاية القرن الثاني الهجري.
إن الحكم الإسلامي إسلاميّ وشرعيّ بالقدر نفسه الذي نقصده حين نقول إن العقيدة أو أصول الفقه إسلاميَّان بلا مراء.
على الرغم من أن المكونات السابقة للتجربة ذهبت إلى جعل الشريعة نظرية سياسية ودستورية -وهو ما كانت عليه الشريعة في السابق بالفعل- فإن ذلك راجع أيضًا إلى كون الشريعة قد عملت على تنظيم كل جوانب الحياة البشرية، ومن هنا يمكننا أن نقول إن: الحكم الإسلامي لم يكن ذا صفة إسلامية خاصة، بل كان يعكس روح الشريعة ومادّتها كذلك، ويمكن للمرء أن يقول إن الحكم الإسلامي إسلاميّ وشرعيّ بالقدر نفسه الذي نقصده حين نقول إن العقيدة أو أصول الفقه إسلاميَّان بلا مراء، أي إن كل هذه التطورات أو السمات أعطت الإسلام شكلًا فريدًا من أشكال الحكم الذي نطلق عليه الإمامة أو الخلافة، وهذه ليست مجردَ مصطلحات، بل إن لها دورًا مهمًّا في صياغة وتشكيل نوعية التاريخ والممارسة الدستورية الإسلامية.
من الواضح إذن أن «الدولة» الحديثة أوروبية (ومسيحية في الأصل) وليست إسلامية ألبتة، وبما أننا نعلم أنه لم تكن هناك دولة في عصر الإقطاع الذي انتهى حوالي 1500 ميلادي، فلا بُدَّ إذن من أن نَخْلُصَ إلى أن الدولة حديثة وأوروبية على حد سواء، وهي ما تزال تحتفظ داخلها بأشكال مسيحية مُعلمنة.
كما أوضحت في كتاب «الدولة المستحيلة» فقد كانت هناك تطورات ملموسة وواضحة في أوروبا، خلقت هُوّة لا يمكن تجسيرها بين المجال الأخلاقي وجميع مجالات الحياة البشرية الأخرى، هذا التطور الذي يهدف إلى فصل الأخلاق عن كل شيء هو ما أسمته أوروبا بالحرية والليبرالية، لقد وُصِفَ هذا الفصل وعُرِّف بأنه فصل بين الحقيقة والقيمة، وقد بلغ ذروته خلال عصر التنوير بالتمييز الفلسفي بين ما هو كائن (Is) وما يجبُ أن يكون (Ought)، وهو ما يمكنُ اعتباره -ربما- السؤال الأهم في الفلسفة الأخلاقية منذ أكثر من قرنَيْن من الزمن، ومن ثَمَّ فإن الدولة الحديثة لديها القليل من القواسم المشتركة مع أي نوع من أنواع الحكم قبل القرن الثامن عشر أو التاسع عشر في أي مكان في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي على وجه الخصوص.
وما دامت الحداثة ومؤسساتها القوية مستمرة، فإن الدولة الحديثة ستستمرُ أيضًا، لكنني لا أعتقد أن هذه الدولة مستدامة وقادرة على البقاء على المدى الطويل، سيتوجَّب عليها أن تتغير على غرار نظامنا الاقتصادي وأساليب حياتنا عاجلًا أم آجلًا، وإلا فإننا سنواجه أزمات وجودية أكثر مما نحن فيه الآن، إن الدولة جزء لا يتجزأ من موجات الدمار التي أحدثناها على البيئة والمجتمع والأسرة -أي داخل الهياكل الاجتماعية- وعلى أسلوب حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. فالدولة يجبُ أن تزول وبدون شك، وما أقترحه هو أن نقومَ أولًا بتشخيص بنيويّ يمكنهُ أن يساعدنا في تغيير الأشياء، لكن قبل أن نقوم بعملية التغيير، أي قبل أن نبدأ عملية معالجة أمراض الحداثة، نحتاج إلى فهم أعمق للمشاكل المختلفة التي ابتُلِينا بها.
٢- عثمان أمكور: هناك من يرى بأن كتاب «الدولة المستحيلة» قدَّم صورة متخيلة ومثالية عن الحضارة الإسلامية، وخاصة عن فكرة «الخلافة»، فالقول بأن هذه المؤسسة كانت مؤسسة أخلاقية «بالمطلق» قابل للمساءلة والنقد، خاصة أن التاريخ الإسلامي مليء بممارسات لا أخلاقية نجمت عن السعي نحو السلطة، ما ردّك على هذا الطرح؟
وائل حلاق: ذكرتُ عدة مرات سلفًا، أن الكثير من القراء أساؤوا فهم الكتاب بشكل عام، وأساؤوا فهم هذه النقطة بشكل خاص، لقد افترضوا أنني أدافع عن تاريخ مثالي للإسلام لا يمتُ بصلة للواقع الفعلي، وفي حقيقة الأمر أنا لم أشارك بأي شكل من الأشكال في بناء أي تصور مثالي للتاريخ الإسلامي، من الواضح أن النقاد الذين يعارضون خُلاصاتي يريدون أن يجدوا أي خطأ في الكتاب ليساعدهم على تشويه هذه الخُلاصات، لذلك يسارعون إلى إصدار أحكام سلبية من أجل تحقيق غرضهم السياسي والأيديولوجي؛ لأن منهجَ قراءتهم لكتابي مشبعٌ بأحكام نابعة من أجندات سياسية، لكن دَعني آخذُ ادعاءاتهم على محمل الجد وأتفاعل معها تفاعلًا أكاديميًّا جادًّا، على الرغم أنهم -كأفراد- غيرُ حقيقين بأي رد أقدمه لهم؛ لأنهم لن يُغيِّروا طريقة تفكيرهم مهما كان ردّي، إلا أن هذا الرد الذي أسعى إلى تقديمه هو لأولئك الذي يسعون حقًّا إلى فهم حقيقي لهذا الاستشكال لأُزيل الالتباس الحاصل حوله.
يجب على هؤلاء المنتقدين أن يفهموا ويأخذوا في حُسبانهم المكونات الأيديولوجية المكوِّنة لمواقفهم، ويجب أن يمارسوا بعض التأمل الذاتي قبل أن يُسارعوا بالنقد؛ لأن نقدهم يُعْرِب عن وجود عدة افتراضات خاطئة لم يقوموا بفحصها أو فهمها، لقد أعماهم ثقلُ تحيزاتهم لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على رؤية هذه التحيزات التي تؤثر في مسارات فهمهم الذي آل إلى التشوه والتشويه.
أول افتراض خاطئ هو مفهومهم الإشكالي للتاريخ والكتابة التاريخية، إنهم لا يُدركون هشاشة الأسس التي يقفون عليها، ذلك أنهم يعتقدون أنه نظرًا لكون هذا المفهوم يحظى بقبول من قِبل أغلبية الناس فإنه يجب أن يكون صحيحًا، فإذا كانوا يتهمون كتابي بالمثالية التاريخية، فإنهم بذلك يُقدِّمونَ ادعاءً يجب عليهم إثباته، فكما قيل البينة على من ادَّعى، ويجب أن يبرهنوا على أن ادعاءهم لا يقوم على أباطيل أو على افتراضات هشة.
إنني أزعم أن موقفهم يستند بالفعل إلى ما أسميته في «قصور الاستشراق» بـ«لاهوت التقدم»، بوصفه نظرة إلى العالم تقومُ على تصور خيالي أصاب التأريخ وبقية مجالات الحياة، وإني أُسمِّي الإيمان بالتقدم بـ«لاهوت التقدم» لأن هذا الاعتقاد دُغمائي ومتعصب على غرار أي أيديولوجية شوفينية، ولا يعني كونه مفهومًا علمانيًّا أنه أقل تعصبًا وتسلطًا من غيره. تُشكِّلُ عقيدة التقدم ولاهوته قواعد الخطاب الخادم لمصلحة موقف واحد لا أكثر -أي لصالح ذاتيته ولصالح خط واحد محدّد سلفًا للحركة التاريخية- هذا يعني أن الحضورَ القوي جدًّا لهذه العقيدة يمنع أخذ أي آراء أو مفاهيم أخرى للتاريخ بعين الاعتبار ليُتَعامل معها بشكل جاد، خاصة وجهات النظر التي تُقدِّم تصورات منافسة، إن مجرَّد حقيقة وجود ضرورة لتقديم شرح مفصَّل لموقفي تجاه هذه الادعاءات (وقد قدّمتهُ في مناسبات عديدة) دليل على مدى استبداد هذا المفهوم.
وبهذا التقييد المستبد للتاريخ تبرِّرُ هذه العقيدة اللَّاهوتية ممارسات الحاضر وتُسوّغه، متدثرة بسلطتها الاستعلائية لإدانة أي شيء وكل شيء تراهُ خارج حدودها، هكذا يُرفَضُ مثلًا أي استدعاء لقاعدة أخلاقية في تراث تاريخي معين من أجل إعادة تقويم انهماك المشروع الحداثي في تدمير الطبيعة وكأنّهُ استدعاء يتسمُ بالماضوية، اعتقادًا بأن أدوات الحداثة التقدُّمية الممثلة في تطورها التقني تملكُ قدرات المعالجة لتلك الآثار المدمرة، كما أن هذه العقيدة هي ما تسمح لأولئك المنتقدين بالقول بأنني أصوِّر الماضي بمثالية بحكم افتراضهم أن الحاضر يجبُ أن يكون أفضل دائمًا.
ومثلُ هذا الادعاء كمثل مديرٍ أو رئيسٍ جديدٍ لجمعية يُقلِّلُ من قدر سلفه حتى يُسوِّغ ممارساته الفاشلة، ويَظهر دائمًا بشكل أفضل من سلفه. إن عقيدة التقدُّم تُضحِّي بالماضي من أجل تبرير حاضرها المَرَضِي والإجرامي، فقد دمرنا كوكبنا باسم التقدم، وخلقنا أمراضًا تنهشُ العقل والبدنَ والهياكل الاجتماعية، إن عقيدة التقدُّم تُخفي جرائمنا وخطايانا، وهي متعجرفة بغيرِ حدٍّ.
عقيدة التقدم هي أصلُ المفهوم الحديث للتاريخ؛ إذ صار المعاصرون -سواء كانوا مؤرخين أو أناسًا عاديين- يستخدمون الحاضر على أنه معيار مطلق للحكم على الماضي، وينظرون إلى التاريخ كله على أنه حركة حتمية نحو التقدم، حركة تبلغُ ذروتها في صورة الحاضر، مما يعني أن أي لحظة في الماضي هي دائمًا أقل تقدمًا من «لحظتنا»، لقد وضعنا أنفسنا بوصفنا نموذجًا نهائيًّا، في الوقت الذي نحن فيه أكثر فسادًا في الأرض من أي عصر آخر في التجربة البشرية؛ لذلك فإن كتابة التاريخ وعرضه من منظور العقل الحديث هو أمر غير تاريخي أساسًا؛ لأنه لا يشمل فقط إخضاع الماضي للحاضر، ولكنه يشمل أيضًا ممارسة طغيان الحاضر على الماضي وضدّه، وفق هذا المنظور نحكم على السلف بأنهم بدائيون ومتخلفون دائمًا.
تأسَّست نظرية التقدم على افتراض أن الزمن له بنية غائية متجانسة وخَطِّية، وعلى أن هذا الهيكل حتمي، ومن ثَمَّ فإن المراحل الأولى من التاريخ كانت ممهِّدة للمراحل التي تليها، تلك المراحل التي كانت بدورها مجرد وسيلة للوصول إلى القمة المقصودة للتقدم البشري الحقيقي والمتمثِّلة في الحداثة الغربية؛ لذلك يُنْظَر دائمًا إلى التاريخ على أنه أقل تطورًا من الحاضر، ولذا نشعر دائمًا بتفوقٍ حينما نحكم عليه بالدونية وبذلك نؤكِّد سيادتنا. برأيي المتواضع، إن عقيدة التقدم هذه هي ما جعلتنا في الحداثة أكثر مخلوقات متغطرسة عرفها التاريخ.
لقد أسبغ عصرُ التنوير الأوروبي بهذه العقيدة بنيةً جديدة على التاريخ الذي أصبحَ يشمل كلَّ التجربة الإنسانية منذ بداية الزمن (أيًّا كانت هذه البداية)، وفي حين كانت بنية التاريخ في ثقافات كثيرة بنيةً أخروية توفِّرُ سردية للاختيارات الأخلاقية التي تهدفُ إلى التوجيه، فإن بنية التنوير تحدَّدت أساسًا بفرضية عالمية ليبرالية (أو ماركسية) مفادها أن تجارب المجتمعات الماضية التي لا حصر لها تُمثِّل ظاهرة جمعية (بل واحدية) مدفوعة بغرض أو روح (Geist بتعبير هيجل) محددة وموجهة نحو هدف معين متمثِّل في «الارتقاء التقدمي»، يتجلَّى هذا التقدم في الأمور المادية والمعرفة العلمية، والتطور التقني والسياسي وكذا زيادة الثروة، ويفترض بلوغ العقل البشري إلى الكمال مع تقدّم التاريخ. بهذا المعنى، فإن الحاضر دائمًا هو شيء نُنْتِجه؛ فلأننا نفترض أننا متفوقون على أسلافنا، فإننا من منظور عصرنا أفضل وأكثر تفوقًا -بشكل بديهي- على كل تمثُّلات التاريخ، سواء كان أوروبيًّا أو آسيويًّا أو إفريقيًّا، وبما أن التاريخ الإسلامي هو جزء من التاريخ، فمن البديهي أنهُ أقلُ مرتبة من التاريخ الحديث.
إن تاريخ رجال الدين أو العلماء في الإسلام مغاير تمامًا لتاريخ رجال الكنيسة في أوروبا التي عُرِف عنها أنها أساءت للناس وانخرطت في أكثر السلوكيات إجرامًا مما لا يمتُّ للأخلاق بصلة.
الخطأ الثاني الذي يقعُ فيه هؤلاء النقاد أنهم لا يفهمون أن التاريخ الإسلامي دُبِّج بأقلام أوروبية وليس من طرف المسلمين، مما يعني أن التاريخ الإسلامي مكتوب من منظور المستعمِر الكولونيالي، ومنذ أن تعرَّض المسلمون للكولونيالية الأوروبية أخذوا في تبنِّي هذه السردية التاريخية وكأنَّها منتجهم الخاص، لذلك كلَّما مر الوقت أضحى التاريخ الإسلامي مشابهًا بل ومطابقًا لتاريخ أوروبا من حيث الجهاز المفاهيمي. على سبيل المثال، إن تاريخ رجال الدين أو العلماء في الإسلام مغاير تمامًا لتاريخ رجال الكنيسة في أوروبا التي عُرِف عنها أنها أساءت للناس وانخرطت في أكثر السلوكيات إجرامًا مما لا يمتُّ للأخلاق بصلة، وقبل ثلاثين أو أربعين عامًا فقط لم يكن أي مثقف أو مفكر مسلم له شأن يتَّهم العلماء بأنهم ظلمة أو فاسدون، أما الآن فقد بات هذا شائعًا، بل إن بعض الإسلاميين أنفسهم انخرطوا في هذه الادعاءات الاستشراقية وجروا على إدانة علماء الإسلام، إن الطريقة التي كتب بها الغربُ تاريخنا جعلتنا نمقتُ ذواتنا بما في ذلك ماضينا.
الخطأ الثالث الذي يقع فيه هؤلاء المنتقدون هو تجاهلهم لما أقوله عن المعيار الأخلاقي، فأنا لم أدّعِ قط أن الحياة كانت مثالية في ظل الإسلام، بل لا توجد حياة مثالية في أي مكان على هذه الأرض، الحياة المثالية هي فكرة تنبعُ من خيال ورغبة لكنها لا تتحقق أبدًا، ولكن عدمُ تحققها لا يعني أننا نحن البشر يجب ألَّا نسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن منها، والمسلمون في تاريخهم لم يقوموا بذلك فقط، بل قاموا أيضًا بتضمين هذه المعايير الأخلاقية ضمن أنظمة حياتهم، لقد أنشأت الحضارة الإسلامية لنفسها معيارًا أخلاقيًّا، وهو أعلى بكثير من أي شيء نعرفهُ اليوم، وهو ما يُفسِّر حقيقة أن العديد من الحداثيين -بما في ذلك الذين انتقدوني- لم يتمكنوا من فهم واستيعاب فكرة المعيار الأخلاقي هذه، لقد ناقشت هذه الفكرة وتطبيقاتها باستفاضة في «قصور الاستشراق»، وأُحيل القارئ على مناقشاتي التفصيلية المبثوثة فيه.
٣-عثمان أمكور: هناك من ينتقدُ كتابك بقوله بأنك بقدر ما تنزِّهُ الإسلام والحضارة الإسلامية عن الأفعال «اللَّاأخلاقية» التي تعرفها الدولة الحديثة، فإنك بطريقة غير مباشرة تقودنا إلى خُلاصة مفادها أن هذه الحضارة الإسلامية «النقية»، لا يجب تلويثها بالتفاعل مع الحداثة ودولتها «اللَّاأخلاقية»، وهي خلاصة تجعلنا مضطرين في النهاية للتعامل مع الحداثة الغربية فقط بحكم أنها الخيار الوحيد في المشهد، فهل هذا صحيح؟
وائل حلاق: انطلاقًا من إجابتي عن السؤال السابق يمكن أن نستنتج أنني لم أعتبر الإسلام «نقيًّا»، فلتاريخ الإسلام حصّته من مشاكل الفساد وإساءة استعمال السلطة، غير أن هذه المساوئ ليست مماثلة لما كان يحدث في أوروبا قبل الحداثة. فقد تعاملت الحضارة الإسلامية مع الحياة ومشاكلهَا بجرأة وبلا تردُّد. في الواقع، لقد أقرَّ الإسلام بحدود الطبيعة البشرية وقدَّم حلولًا عملية فعَّالة للتعامل معها، وذلك على عكس المسيحية، حيثُ لم يُنكر الإسلام الطبيعة ومتطلباتها أبدًا، سواء تحدثنا عن الطبيعة البشرية أو النظام الطبيعي، لقد اعترف الإسلام بحتمية حاجاتنا البشرية وحاول إنشاء آليَّات صحية لتدبير هذه الحاجات، سواء كانت جشع الناس لجمع المال أو رغباتهم الجنسية أو غير ذلك.
وإذا قمنا بمقارنة التاريخ الإسلامي بالتاريخ الأوروبي، سواء في ظل المسيحية أو في ظل «العصر العلماني» الحالي، فيمكننا القول بأن الأشكال الأوروبية الحديثة للمعرفة هي التي أنكرت الواقع وعاشت في خوف من الطبيعة. لهذا السبب، فإننا تحت تأثير النظام المعرفي الحديث وهيمنته، صرنا نبذل قصارى جهدنا لتجنب الطبيعة وتغييرها وتحويلها وترويضها، إننا ننفق المليارات على الجراحات التجميلية والكريمات المضادة للشيخوخة ومزيلات العرق وأشياء أخرى كثيرة، من أجل تعديل الطبيعة بكل الطرق الممكنة، وهو ما يمتدُّ إلى حدائقنا ومتنزهاتنا الاصطناعية وإلى مساعي استنساخ الحيوانات وربما البشر.
أيًّا ما يكن الأمر، فإن النقطة المهمة هي أنني آخر من يزعم أن الإسلام لا يجب أن يتلوث بالواقع، فأنا أؤمنُ بأن الإسلام جاء لأجل عيش الحياة بشكل كامل، ولذا فإن ما أقوله هو: أن أنماط الحكم الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن الثامن عشر هي نماذج فكرية ومفاهيمية مفيدة يمكن أن تعلّمنا نقض (critique) (وليس فقط نقد (criticism) وانتقاد) أنظمتنا الخاصة بالحكم، ذلك أنني مقتنع بأن المسلمين يمتلكون نظامًا واقعيًّا لسيادة القانون يُمكنُنَا التعلم منه، سواء كنّا مسلمين أو غير مسلمين، وهذا أحد المشاريع العلمية التي أعمل عليها حاليًا، وأُخطِّط في المستقبل للعمل على القرآن بوصفه نصًّا معرفيًّا يمكننا من خلاله اشتقاق نقض ما بعد حداثي.
كل هذا لأقول بصوت عال -ولكي يُصغي إليّ الجميع- إنني لم أقل قط ولم أُلمِّح أبدًا بأن الإسلام يجب أن يُحاصر ويُحفظ على الرف وأن يُنحَّى، بل على العكس من ذلك، إنني أزعم أن التجربة الإسلامية -على غرار التجربة الهندية والصينية السابقتَيْن أيضًا- يمكنها أن تُعلمنا الكثير حول كيفية تجاوز الأمراض الحديثة والوصول إلى عصر أفضل، عصر ما بعد حداثي حقيقي على ما آمل، مما يعني أنني أدَّعي أن للتراث الإسلامي القدرة على تقديم حلول ما بعد حداثية جادة وواعدة حقيقة بالانخراط فيها.
لا يُريدُ الذين ينتقدونني الإقرار والاعتراف (أو لا يستطيعون) بأن هذا هو مقترحي وموقفي، وأنه وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك سيتعيَّن عليهم مواجهة حُجَجي بشكل مباشر، للرد عليها بطرق جادة وليس بالطرق السطحية التي يتفاعلون بها (خاصة المنتقدين الذين ينتمون للعالم الإسلامي)، إذا كنت أُتَّهم بأي شيء، فيجدرُ بأن أُتَّهم بأنني أُحمِّل المسلمين مهمة بالغة الخطورة، مفادها مساعدة أنفسهم والعالم على التغلب على أمراض الحداثة الحالية، إنها مهمة جدية ولكنّها أبعد ما تكون عن تجاهل الواقع، وأبعد ما تكون عن حماية الإسلام ثقافة وتُراثًا من التفاعل مع الحداثة وواقعها الكارثي، بل العكس هو الصحيح.
٤- عثمان أمكور: يعترضُ بعضُ نقادك على كتاب «الدولة المستحيلة» انطلاقًا من القول بأن الحضارة الإسلامية المبكرة واجهت تأثيرات استوعبتها وأسهمت في تشكُّلها بدرجات متفاوتة، مثل التأثيرات الساسانية على التفكير السياسي الإسلامي. وانطلاقًا من هذا المُعطى فهم يسائلونك لماذا تتقبل انفتاحَ المسلمين على الطرح الساساني في التراث الإسلامي في حين تستهجنُ انفتاحهم على الطرح الأوروبي الحديث المتمثِّل في الدولة الحديثة؟
وائل حلاق: من طبيعة المعرفة أننا عندما ننظر إلى الأشياء من بعيد فإن الأمور تبدو لنا متشابهة حد التطابق، فحين ننظر إلى السماء من الأرض، فإن جميع الكواكب والشموس تبدو متشابهة، بل وتبدو المجرَّات لنا شبيهة بالكواكب، ولكن واقع الأمر -كما صرنا نعرف- يؤكِّدُ تفرّدَ كل منها على حدة.
هناك ثلاث اعتبارات على الأقل في هذا السياق، أولًا: التأثيرات الساسانية هي في حقيقة الأمر اقتباسات مستوحاة من كلام ملوك فارس المشهورين، مثل كسرى أنوشروان وأردشير وبهرام بن سابور وأشباههم، وغالبًا ما يورد المؤلفون المسلمون هذه الاقتباسات بُغية تعزيز مبدأ أخلاقي موجود سلفًا أو ممارسة في الحكم أو التأكيد على حكمة سياسية، وقد طُبِّق الأمر نفسه مع الإسكندر الأكبر وأرسطو وغيرهما من علماء الإغريق، وليس الساسانيون فقط.
ثانيًا: احتوت مثل هذه الاقتباسات على محتوى أخلاقي وحكمة في ممارسة السياسة، وكانت متوافقة إلى حد كبير مع نظام الأخلاق الذي يتبناه العلماء المسلمون، ومرَدُّ هذا إلى وجود تقليد سياسي مشترك للشرق الأدنى وشرق البحر الأبيض المتوسط، وهو تقليد يجمع أفكارًا وممارسات تنتمي للجميع، كما ينبغي ألَّا ننسى أن عرب الشمال الشرقي كانوا جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الفارسية، ولذلك نقل سكانهم تلك الأفكار وتلك المعرفة إلى الإسلام، لذلك نما «النفوذ الفارسي» عضويًّا منذ البداية ومن الداخل، ولم يكن أجنبيًّا ولا مفروضًا بالقوة.
وثالثًا: استوعب المسلمون كل هذه التأثيرات الفارسية والهندية والإغريقية طواعية، أي استوعبوا الأمور التي أرادوا أخذها ورفضوا الأمور غير المستساغة بالنسبة إليهم، وهو الأمر الذي ينافي بشكل كبير ما حدث في آخر قرنَيْن، أي عندما دمَّرت الأفكار الأوروبية المفروضة خارجيًّا المؤسسات والبِنى الاجتماعية للإسلام واستعمرتها استعمارًا كولونياليًّا، متوسلة بأدوات القوة والعنف، فخلال هذه المرحلة الكولونيالية جلبت أوروبا الأفكار والمؤسسات الأجنبية إلى العالم الإسلامي، وقد ثبت -كما نرى- أن لها آثارًا ضارة على العالم الإسلامي، حيث أدت على الصعيد العالمي إلى الأزمات البيئية والاجتماعية والنفسية التي نمر بها، ولكن لا يبدو أن لدى النقاد -المسلمين والغربيين- رؤية واضحة للتاريخ، ويفتقرون إلى القدرة الدقيقة على التفكير في الاختلافات التاريخية، وهذا أمر محزن ومحبط.
لطالما كان الإسلام مرنًا في قبول الأفكار والممارسات القادمة من الخارج، انظر إلى تعامل المسلمين مع الفلسفة اليونانية في عهد العباسيين الأوائل، وهذا مثال ممتاز لفهم طبيعة السياق، حيث رفض المسلمون جميع النتائج الميتافيزيقية التي توصَّل إليها النظامان الأرسطي والأفلاطوني المحدث، لكنهم في المقابل قبلوا أشياء أخرى كثيرة إلى حد دمجها في العلوم الإسلامية، والمنطق وفلسفة الفيض مثالان يدعمان هذا الطرح، لكن خيار القبول أو الرفض كان راجعًا إليهم، ولم يفرض عليهم أحد أي شيء، ودائمًا ما أخذوا أجزاء من نظام معين ورفضوا أجزاء أخرى، وهي عملية اتسمت بالحرية التامة في مراحل القيام بها.
الوضع الآن مختلف تمامًا، فالمسلمون اليوم مُلزمون بقبول الكولونيالية الأوروبية وكامل نظام المعرفة والسياسة وكل شيء آخر دون خيار، ولا يمكن للمسلمين أن يأخذوا أجزاء من الدولة الحديثة وأن يتركوا أجزاء أخرى، فليس لديهم حرية الاختيار وقبول أجزاء ورفض أخرى، فُرضِت عليهم الدولة الحديثة (خاصة في القرن التاسع عشر)، وقبل أن تُفرض عليهم -أو أثناء ذلك- دُمِّرت أنظمتهم الأصلية، بما في ذلك الشريعة ومؤسساتها بشكل تام تقريبًا، ومن الواضح أن الدولة الحديثة لا تتناسب مع أنماط الحياة الإسلامية، والدليل على هذا هو وضع العالم العربي والإسلامي اليوم منذ نهاية القرن التاسع عشر.
٥- عثمان أمكور: هناك من انتقد «الدولة المستحيلة» ورأى أنك قمت بعملية استدعاء للفلسفة الهيجلية -حسب ادعائهم- وخاصة تلك الخلاصة التي ختم بها هيجل الفصل الذي خصَّصه للإسلام في فلسفة التاريخ، ويرى هذا الناقد أن التجربة التاريخية تُكذِّب مقاربة هيجل (ومقاربتك)؛ لأن الدولة الإسلامية هي جوهر الإسلام وقلبه، وهي التجسيد الأعلى لاستخلاف الإنسان في الأرض. ووفقًا لهذا الطرح، فإن المسلمين مطالبون بإنجاز هذه المهمة (إقامة الدولة) في جميع العصور والأزمنة بما فيها عصر الحداثة، ما ردكم على هذا الطرح؟
وائل حلاق: إنها حُجَّة رثَّة، وربما هي أكثر الحُجج تهافتًا من بين جميع الحجج التي قدَّمها المنتقدون الذين تفاعلوا مع كتابي. وبادئ ذي بدء، يهمني أن أنوّهَ بأني لا أوافق على أي من فرضيات هيجل المقدمة عن الإسلام، فكتاباتُ هيجل عن الإسلام والمسيحية هي -في الواقع- عكس ما أطرحه تمامًا، فهو يعتقد بأن المسيحية هي الأكثر كمالًا، وأنها قد وصلت إلى مستوى من الكمال لم يبلغهُ أي دين آخر. في المقابل، فإن تصوري للمسيحية الأوروبية قبل مرحلة العلمنة أنها كانت كارثة على كل من أوروبا نفسها وعلى تاريخ العالم، وأُصنِّفها على أنها أسوأ تجربة دينية عرفها التاريخ البشري. (وهنا يجب أن أُصرِّح -لمن لا يعرفون- بأنني أنتمي إلى المعتقد المسيحي بحكم أني من عائلة مسيحية من كلا والديّ).
ثانيًا: اعتقد هيجل أن الإسلام دين متعصب، في حين أن الإسلام قدَّم أكثر الحضارات انفتاحًا في تاريخ البشرية، وهي حضارة شهدت ألوانًا من التعدد وفضاءات رحبة من الاختلاف، أعتقد أن المسيحية الأوروبية كانت عكس ما تخيله هيجل تمامًا، حيث جسَّدت المسيحية بالضبط ما اتُّهم به الإسلام من التعصب.
ثالثًا: اعتقد هيجل أن الشريعة لا تراعي الحياة البشرية، وأنها تحط من قدر الإنسان، يهمني أن أقول -مجدَّدًا- بأن هيجل لم يكن مخطئًا بشكل تام بشأن الشريعة فحسب (التي لم يكن يعرف عنها شيئًا تقريبًا)، ولكن أعتقد كذلك بأن المسيحية وتمثُّلاتها الحديثة المعلمنة هي التي أدت إلى تدهور الحياة البشرية والإنسانية، وهو ما أوضحته بالتفصيل في كتابي «قصور الاستشراق». نحن لا نحتاج إلى تذكير القارئ بأفعال أوروبا الكولونيالية والدمار الذي أحدثته في جميع أنحاء العالم، كما أننا لا نحتاج إلى أن نُذكِّر بالدمار الذي أحدثته الدول الصناعية لبيئاتنا الطبيعية، وكل ذلك باسم العلم الحديث والابتكارات المبهرة، هذا فضلًا عن التذكير بآثار هذا «التقدم» على هياكلنا المجتمعية وأُسَرِنا ونفسيات شبابنا إلى غير ذلك.
الناقد الذي قدَّم هذا النقد «الهيجلي» المُتخيَّل لديه رؤية محدودة للواقع بشكل مذهل، مع الأسف إنهُ يمتلكُ فهمًا محدودًا لماهية الحداثة، والأهم من ذلك أنه لا يفهم آثار الأفكار والمؤسسات الحديثة على الذوات الإنسانية وعلى نظامها النفسي، كما أن لديه فهمًا محدودًا لما تُمثِّله الدولة الحديثة وكيفية عملها، وما هي الآثار السلبية التي خلّفتها في المجتمع والفرد، لقد انحدرت معاييره إلى درجة متدنية إلى حد اعتقاده بأنه لا يوجد نظام في العالم يخلو من «حمولة أخلاقية». إن معاييره الأخلاقية على وجه الخصوص متدنية لأبعد درجة، وهذا التدني يجعله يقول بأنه حتى «النظام المافيوي» لديه شيء من الأخلاق.
جادل هذا الناقد أيضًا بشكل صحيح -دون أن يُدرك أن مضامين حجَّته تتعارض مع موقفه- بأن الدولة «لا يمكن أن تكون خالية تمامًا من الأخلاق، سواء في الفعل أو على الأقل الخطابات/التصريحات. عندما يكون هناك تعارض بين أخلاقيات ومصالح [الدولة] فإن أولويات الدولة هي التي تسمو على الأخلاق، بينما تسمو الأخلاق على الدولة في الخطابات/التصريحات فقط، وذلك بهدف تمرير الأفعال المرادة. بالطبع إن المعايير الأخلاقية لهذه المنظومة ولهذا النمط من التفكير هي أدنى ما تكون، وهي متوافقة مع الفلسفة السياسية المعروفة بـ«الأيدي القذرة»، إن هذا الناقد لا يدرك أنه يُكرِّر حجة كارل شميت بأن أي خطاب أخلاقي في المجال السياسي ليس سوى لغة سياسية خالية من الاهتمام الجوهري بالأخلاق، فبحسب شميت لا مكان للأخلاق في السياسة إلا بوصفها وسيلة وذريعة خطابية.
لست بحاجة إلى قول الكثير لإظهار مدى تدنِّي المعايير والقواعد الأخلاقية لهذا الناقد الذي يرتكب خطأَيْن على الأقل في الوقت نفسه، الخطأ الأول: هو وقوعه في مغالطة التعميم فيما يتعلق بالدول، حيث يرى أنها متساوية في سلوكها الأخلاقي، وهذا ليس مفاجئًا لأن هذا الناقد لا يعرف شيئًا سوى ما يُسمِّيه «الفلسفة»، ولكن هذه الفلسفة ليست إلا سجنه الفكري، خاصة نوع الفلسفة التي يعرفها.
الخطأ الثاني: الذي يقع فيه هذا الناقد هو عدم فهمه لاقتران تاريخ صعود الحداثة بصعود الدولة الحديثة المتشابكتَيْن والمتواشجتَيْن بطرق لا حصر لها، إن الدولة الحديثة والحداثة منخرطتان معًا في علاقة جدلية، إحداهما تدعم الأخرى وتقويها، فقد ساعدت الدولة في خلق الحداثة وساعدت الحداثة في إنشاء الدولة وتطويرها، هذا يعني أن الدولة في صيغتها الحديثة تُعَدُّ ظاهرة جديدة في تاريخ العالم، لا يعي هذا الناقد أن هناك عملية تاريخية خاصة ومتفردة أدت إلى هذا التطور، وهذه العملية تطلَّبت الفصل بين الحقيقة والقيمة، حيث وُضعت الأخلاق في رف الأحافير القديمة! لا يمكن لأي فيلسوف ولا سيما الفيلسوف الأخلاقي أن يتجاهل ما أُطلِقُ عليه المشكلة الأكثر مركزية في الفلسفة الأخلاقية، والمتمثلة في الفصل بين الكائن (Is) وما الذي يجبُ أن يكون (Ought).
الدولة الحديثة والحاثة دمرا بيئتنا الطبيعية، وهياكلنا المجتمعية والعائلية، وأنتجوا وعزَّزوا جشعَ الشركات ونهمها، و خلقا أشكالًا جديدة من العنف لم تكن معروفة للإنسانية من قبل.
وأخيرًا تجدرُ الإشارة إلى أن هذا الناقد مفتون جدًّا بالحداثة وبريقها الظاهر الذي أعماهُ تمامًا عن رؤية عللها وآثارها المدمرة لدولتها الحديثة، وبحكم أن الدولة الحديثة والحداثة بمثابة منتجَيْن محوريَّيْن لتقنيات الحكم governmentality (التي وصفها فوكو بامتياز)، فإنهما دمرا -كما أقول دائمًا- بيئتنا الطبيعية، وهياكلنا المجتمعية والعائلية، وأنتجوا وعزَّزوا جشعَ الشركات ونهمها، و خلقا أشكالًا جديدة من العنف لم تكن معروفة للإنسانية من قبل. بعبارة أخرى، وقع هذا الناقد باسم الفلسفة أو بالأحرى باسم التفلسف غير الناضج في توصيفات خاطئة وجسيمة.
٦- عثمان أمكور: جادل بعض النقاد بأنك تخلط النظرية بالممارسة من حيث إنك تحكم على القيمة الأخلاقية للممارسة وتتجاهل الفلسفة التي تُشكِّل أساسها، فقد يتسم الجانب النظري بالأخلاق وبواعث النية حسنة، أما الممارسة فإنها دائمًا تتسمُ بالفوضوية والتعقيد، ومن ثَمَّ لا يمكن تقييم الممارسة بالمعايير الأخلاقية نفسها التي نُقيِّم بها النظريات الأكثر إحكامًا وانضباطًا. كيف ترد على الادعاء؟
وائل حلاق: أولًا: يسعدني أن أقول إن هذا الناقد على الأقل لا يُنكر أن ممارسات الحداثة وانعكاساتها العملية كانت سيئة ومُدمرة. وهو ما يعني أن لدينا أرضية مشتركة نتفقُ عليها على الأقل، لكني ما زلت أعتقد أن مثل هؤلاء النقاد يخطئون المقصد، إنني أرفض الموقف الذي يُميِّز بين النظرية والتطبيق، لقد كان المسلمون قبل القرن التاسع عشر يتفاعلون مع هذا الطرح من خلال علاقة العلم بالعمل، المشكلة الأولى هنا هي أن النظام الذي لا ترتبط معرفته النظرية بنوعية ممارساته الأخلاقية هو نظام يعيش في حالة من التشظِّي والثنائية، مما يتسبب في عدم الترابط والتفكك في نهاية المطاف؛ لأنه لا يقوم على أُسس عقلانية. لذلك لم أعرّف الدولة بوصفها نظرية، ومن ثَمَّ لا يمكن القول بأنني حكمت عليها على أنها ممارسة؛ كان وصفي للدولة بأنها توليفة واحدة، وذلك لأنني أردت تحديدًا تجنب الوقوع في فخ انتقاد أحد الجانبَيْن والفشل في انتقاد الجانب الآخر.
تَميلُ جميع الأنظمة «نظريًّا» إلى أن تُوصَف بطرق جذَّابة ومُرضية، وواقعُ ممارسة هذه الأنظمة يتسمُ في الغالب بالفوضوية والتعقيد. لقد قمتُ بتحليل الدولة على أنها تتكون من خمس سمات توليفية:
الأولى: هي أن الدولة الحديثة أوروبية في النشأة والتطور، وهذه حقيقة تحمل آثارًا سياسية وثقافية عميقة.
والثانية: تتمحورُ حول تمتُّع الدولة بسيادة غير محدودة، فالدولة الحديثة ليست خاضعة لأي سلطة مقيِّدَة، فهي تُسيطر على كل شيء (ما لم تختر عدم القيام بذلك، كما هو الحال عندما تُقرِّر عدم تقييد انتهاكات الشركات، وفي هذه الحالة تكون قد قرَّرت عدم ممارسة سلطتها).
الثالثة: فتتمثَّلُ في احتكار الدولة للتشريع كاحتكارها للعنف تمامًا، ومردُّ ذلك جزئيًّا يعود إلى كونها صاحبة السيادة.
الرابعة: فتتمثَّلُ في بيروقراطية الدولة ما يعني أنها ليست شخصًا ولا تهتم بالشخص بوصفه فردًا، بل تعاملُ الأفراد بوصفهم أتباعًا لها على قدم المساواة؛ لذلك يقف الفقراء والأغنياء أمام القانون على قدم المساواة، بينما هم في الواقع ليسوا متساوين، فتجد الغنيّ والفقير متساويَيْن أمام القانون، في حين أنهم في واقع الحال غير متساوين.
الخامسة: فتتمثَّلُ في كون الدولة مهيمنة وتُسيطر على كل جوانب النظام الاجتماعي، إنها تصنع وتُعيدُ تشكيل الفرد والمجتمع والاقتصاد والثقافة كما تشاء.
من المهم التأكيد قبل المُضي قدمًا أن هذه السمات والصفات محلَّ اتفاق، ولا يُنازع في ذلك صاحب فكر سليم. من المهم أيضًا التأكيد على أن هذه السمات الخمس تنطبق على معظم جوانب الدولة وتستغرق وصف جلّ مكوناتها، إن لم يكن كلها.
إن ما ذكرتهُ الآن لا يُمثِّل نظرية للدولة بل وصفًا تحليليًّا لها، لذا فإنني أدرس كيف يتجلَّى هذا الوصف التحليلي في نطاقه الواقعي الذي يُميِّزه، وليس بالمقارنة مع النظرية بوصفها «نظرية» أو ممارسة بوصفها «ممارسة»، بل داخل منظومة التحليل نفسها، كما أنني أرى بأن محاولة تجميل الوصف بالتعاطي معه بوصفه واقعة استطراديّة discursive (بالمعنى الأنثروبولوجي) هو أمر معيب أخلاقيًّا. إن ما أقترحه هو نظامُ تصديق مزدوج إذا جاز التعبير؛ لأن الوصف التحليلي هو في آن واحد مزيج بين الواقع والممارسة، والأوصاف التحليلية الخمسة للدولة التي قدمتها في «الدولة المستحيلة» لا تنتهك هذه القاعدة.
قد يُجِيب الناقد بأن نظرية الدولة على الأقل جيدة وأخلاقية، لأن الدولة تسعى في أن تكون عادلة، كما أنها تعتني بمواطنيها، وتَحدّ من فترة تولِّي المسؤولين للمناصب الحكومية، كما تمنحُ حيزًا لمعارضة الحزب الحاكم، وتحمي الحقوق الدينية في المجال الخاص، فضلًا عن توفيرها امتيازات طبية واجتماعية لمواطنيها، وفصلها بين سلطات الدولة، وغير ذلك من الأمور. وهذا طرحٌ صحيحٌ ليس فقط من الناحية النظرية ولكن من ناحية الممارسة العملية أيضًا.
إن ما تفعله الدولة لمعظم مواطنيها هو إطعامهم وإيوائهم، حتى يظلوا عمَّالًا مثابرين في خدمة أغنياء المجتمع والطبقات العليا، ما تريدهُ الدولة منَّا هو أن نصير مواطنين مطيعين صالحين لخدمتها ومستعدين للذود عنها والموت من أجلها، وفي مشاريع حروبها.
تبذل الحكومة في الديمقراطيات الليبرالية قصارى جهدها لحماية حقوق مواطنيها كما تُقدِّم بعض الحماية لهم، لكن هذا جميعه هو الحدّ الأقصى والأعلى لما تقوم به الحكومات: تقديمُ بعض الحقوق وبعض الحماية وبعض الامتيازات، خاصة بالنسبة للطبقات الدُّنيا من مواطنيها. لكن يجب على المرء أن يتساءل عن الدوافع التي تقف وراء هذا الخير، فلو درسنا تاريخ الدولة الحديثة، خاصة في أعقاب الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، فإننا سنرى نمطًا واضحًا: تمنح الدولة مواطنيها الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمواطنيها من أجل السماح لها باستخدام، وإساءة استخدام الطبقات الدنيا الذين يحتاج إليهم الأثرياء والأقوياء حاجة ماسّة ليكونوا في خدمتهم، ولاستغلالهم لزيادة ثروتهم وقوتهم. إن المنطق الناظم لهذه العلاقة هو منطق الصيانة maintenance وليس العدالة أو الأخلاق، عليك أن تُطعِم ثورك وتحافظ عليه لتجعله يحرث حقلك، فإذا لم تُطعمه فإنه سيموت أو سيصبح عديم الفائدة. إن ما تفعله الدولة لمعظم مواطنيها هو إطعامهم وإيوائهم، حتى يظلوا عمَّالًا مثابرين في خدمة أغنياء المجتمع والطبقات العليا، ما تريدهُ الدولة منَّا هو أن نصير مواطنين مطيعين صالحين لخدمتها ومستعدين للذود عنها والموت من أجلها، وفي مشاريع حروبها.
يجب أن أذكر في هذا السياق أيضًا أن هناك مشكلة معرفية عميقة مع كل أولئك الذين يدافعون عن الدولة بوصفها كيانًا أخلاقيًّا، وكيانًا يعمل بصدق من أجل تحسين حياة الإنسان وكرامته، إنّها مشكلة معرفية، ومن ثَمَّ هي أيضًا مشكلة منهجية، تتصل اتصالًا وثيقًا بدراسة الدولة ذاتها. لا يُدرك هؤلاء النقاد أنهم رعايا للدولة، وسذاجتهم الفكرية تمنعهم من رؤية المشاكل الخطيرة التي تطوقهم بوصفهم مفكرين في الدولة وكمفكري دولة. لقد أصبحت الذات الفردية صورة مرآتية للدولة الحديثة وجزءًا لا يتجزأ من الدولة ومكونًا لها، لدرجة أنه يمكن وصف هذه الذات بأنها صورة مصغرة للدولة نفسها، أو أن الدولة صورة مكَّبرة لهذه الذات.
لا شك أن الدولة تُفكِّر من خلال الذات، لأن الدولة/المواطن الدولة/خادم، هو من يصنع الدولة ويتحدَّث من خلالها، وهؤلاء النقاد هم بالتحديد جزء لا يتجزأ من تلك العصبة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه من خلال الذات يتم التفكير والتصور والتمثيل للدولة. هذا هو الدافع الرئيس لملاحظة فيبر وبورديو التي ترى أننا لا نستطيع تحمل الفشل «للتفكير في دولة ما تزال تُفكِّر في نفسها من خلال أولئك الذين يحاولون التفكير بها (كما هو الحال مع هيجل أو دوركهايم)، يجب على المرء أن يسعى إلى التشكيك في جميع الافتراضات والبنى المسبقة المنقوشة في الواقع، وكذا أفكار المُحَلِّل ليحللها». ومن ثَمَّ، فإن هؤلاء النقاد يتجاهلون الواقع، ويتجاهلون خاصة ذواتهم المؤدلجة.
هناك من يرى بأنك لا تُعرِّف الدولة الإسلامية بناءً على أي رؤية معيارية تستمد مرجعيتها من الوحي الإسلامي أو حتى التنظير السياسي الإسلامي، بل تكتفي بالبحث عنها في «الظواهر النظرية: الفلسفية والاجتماعية والأنثروبولوجية والقانونية والسياسية والاقتصادية، التي ظهرت في التاريخ الإسلامي»، فهل هذا صحيح؟ ولماذا اخترت هذه المقاربة؟
أولئك الذين يقدِّمون هذه الاعتراضات يخلصون إلى الأحكام دون معرفة كاملة بما كتبته، فهم أولًا: لم يطَّلعوا على كتاباتي المختلفة عن التاريخ الدستوري الإسلامي، وثانيًا: قد جانبهم الصواب في قراءاتهم لكتبي التي اطلعوا عليها. نشرت مقالتَيْن مسهبتَيْن منذ أكثر من عقد من الزمان واحدة في مجلة «الشريعة الإسلامية والمجتمع» والثانية في مجلة «الدراسات الإسلامية المقارنة»؛ قدمت فيهما تحليلًا شاملًا للقرآن الكريم بوصفه أساسًا لما تبنَّاه الإسلام عن الحكم السياسي، وبيَّنتُ لماذا لا يُسمَحُ للحاكم بأن يُشرِّع أو يَسُن القانون، بل كان هذا الدور منوطًا بالفقهاء الذين يتوزعون في بلاد الإسلام من الأندلس إلى غرب الصين، فالفقهاء أشبه بخبراء المجال التشريعي الذين يبيِّنون ما هو الحلال وما الحرام وما المندوب... إلخ. هذه الحقيقة البارزة تكتسي وحدها أهمية كبيرة وعميقة في نظام الحكم السياسي الإسلامي طوال قرون مديدة، ذلك أن منع القرآن أيّ فرد أو وكيل سياسي من القيام بالدور التشريعي، قد خلق فصلًا قويًّا ومحكمًا بين الجانب التشريعي والجانب التنفيذي للحكم السياسي. كان هذا الفصل حاسمًا في تشكيل الطرق الإسلامية لصياغة أنظمة الحكم التي حافظت على مبادئها حتى القرن التاسع عشر، إلى أن جاء الاستعمار الأوروبي ودمَّر المؤسسات الإسلامية التشريعية والسياسية والهياكل الاجتماعية والاقتصادية.
تُشكِّل هاتان الدراستان الأُسس التحليلية لكتاب «الدولة المستحيلة»، وكذا كتابي «الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات» (نشرته مطبعة جامعة كامبريدج في عام ٢٠٠٩م). من المهم أن نلاحظ أن الغالبية العظمى من التعليقات التي صدرت حول «الدولة المستحيلة» لم تُعِر هاتَيْن الدراستَيْن الكثير من الاهتمام، وكيف وضعتُ ظاهرة الحكم الإسلامي التي ناقشتها في «الدولة المستحيلة» في سياق كتابي عن «الشريعة»، فكما أوردتُ في مقدمة «الدولة المستحيلة» فإن فهم الكتاب يعتمدُ على فهم صحيح لتلك الدراسات السابقة، والمقصد هنا أنِّي قمت بالفعل بتحليل الأسس والجذور القرآنية للحكم.
في مشروعي القادم (وهو قيدُ الإنجاز حاليًّا) سأتعامل مع التنظير السياسي الوارد في طرح الماوردي والجويني والغزالي وابن تيمية، وغيرهم الكثير. وصحيح أنه لم يكن لدي مساحة كافية في «الدولة المستحيلة» لمناقشة هذا الموضوع مناقشة مستفيضة، وذلك على الرغم من أنني قد كتبت عن هذه الأعمال من قبل وقمتُ بمدارستها منذ أيام دراستي الجامعية.
ورغم هذا، يجبُ أن أؤكد أن هدفي لم يكن تقديم الحكم الإسلامي في صورته المثالية، مثل مرحلة حكم النبي ﷺ في المدينة المنورة، أو حتى حكم الخلفاء الراشدين. ومهما كانت هاتان التجربتان عادلتَيْن ومنصفتَيْن فإنهما لا تعكسان التجربة الإسلامية عبر التاريخ. كنت أرغب في تقديم وتحليل بنية الحكم الإسلامي ومبادئه وقواعد عمله؛ ولكي تظهر مثل هذه الصورة يجب علينا دراسة نماذج الممارسة السياسية والفلسفة الدستورية عبر القرون، هذا لا يعني أنني يجب أن أُغطي كل فترة تاريخية وأن أدرس كل التفاصيل، فهو أمر لا يُدرَكُ منتهاه، إن اهتمامي ينصبُّ على الجانب البنيوي. ماذا يعني مقاربة مثل هذه المسألة بنيويًّا؟
يجادل العديد من النقاد بأن ما عرضته كان صورة مثالية للحكم الإسلامي، في حين أن العديد من الخلفاء والسلاطين كانوا مستبدين وظلمة، وحقيقة أن العديد من السلاطين كانوا مستبدين وجائرين حقيقة صحيحة بالتأكيد، فالحكام السيئون موجودون في كل مكان وزمان وما زالت السياسة الحديثة مُبْتلاة بأمثالهم أيضًا، لكن هذا لا يؤثر بأي شكل من الأشكال في تحليلي. عندما ندرس النظام السياسي والدستوري الأمريكي على سبيل المثال، فلا يمكننا الحكم على تاريخ الولايات المتحدة بأكمله من خلال ما فعله أندرو جونسون وريتشارد نيكسون ودونالد ترامب وأمثالهم.
فعلى الرغم من أن نيكسون وترامب وأمثالهم قد أساؤوا استخدام السلطة بطرق ملحوظة (وذلك على الرغم من أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة ملطخة دومًا بانتهاكاتها لمبادئ الديمقراطية في جميع أنحاء العالم)، فإننا نواصل بشكل عام اعتبار النظام السياسي الأمريكي نظامًا ديمقراطيًّا، لأن بنية الحوكمة الأمريكية صمدت ولم تتغير بفعل هذه النماذج السيئة. وهذا عينه ينطبقُ على الحكم الإسلامي كذلك، الذي استمر طويلًا من خلال هياكله وبناه السياسية، كما تنصّ عليها الشريعة وأوامرها، وعلى من يرى نقيضَ ذلك إثبات صحة دعواه.
يمكن للمرء أن يقول بثقة أنه ما دامت الشريعة هي قانون دار الإسلام، وما دامت الشريعة هي المرجع الذي يقرُّ به الجميع (وهذا ما كان واقعًا في التاريخ)، فإن تلك الهياكل والبنى السياسية صمدت بقوة وتحملت اختبار القرون. بعبارة أخرى، وعلى عكس ما دعا إليه الاستشراق بخصوص المسلمين والعرب، فأنا مهتم بالبنى وليس بالفصول العابرة من النماذج السيئة التي عمل المستشرقون على تعميمها لجعل قصة الإسلام تبدو قصة استبدادية، ثمّ أطلقوا عليها لقب «الاستبداد الشرقي» وهي سردية أرفضها تمامًا.
عثمان أمكور: شكرًا لكم أستاذ حلاق على رحابة صدركم.
وائل حلاق: شكرًا لك يا عثمان! أنا سعيد لإجراء الحوار معك.