إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء
أُنشئت دار الإفتاء المصرية عام 1895م في وقتٍ شهدت فيه مصر عملية مأسسة سياسية عامة، وذلك في إطار توجُّه الدولة إلى السيطرة على جوانب الحياة كافَّة، ومن بينها الإسلام، فقد رأت الدولة أنها يجب أن تتحكَّم فيه ليس لأغراض التحكُّم فحسب، وإنما لكون مسألة شرعية الحكم مسألةً مثارةً باستمرار في الإسلام. ومن ثَمَّ فقد حقَّقت مسألة ضمّ المفتي إلى جهاز الدولة ليصبح موظفًا فيه مكسبًا مهمًّا للدولة؛ إذ كون المفتي قد أصبح متحدثًا باسم الدولة قد أعطاه سلطةً من نوعٍ لم يكن موجودًا قبل القرن العشرين، فقد أصبحت فتواه ذات مكانة خاصة وتأثير مباشر؛ نظرًا لكونه مفتي الدولة المعتمد.
إن عملية المأسسة التي شنَّتها الدولة الحديثة في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين كانت مصحوبةً بحركة علمنة واسعة النطاق، ومن هنا تحدَّدت وظيفة دار الإفتاء في المجتمع الحديث، فهي واجهة الإسلام الرسمي المفضَّلة للتكييف بين الدولة والدين، التي تحدِّد حلولًا داخل إطار عمل قوانين الدولة السارية. وأخيرًا، يمكن القول إن منصب المفتي شهد مأسسة تاريخية، وبمرور الزمن أصبح العلماء جزءًا من بنية هرميَّة يترأسها شخصيات سياسية ذات نفوذ، يهمّهم صالح الدولة في المقام الأول.
أولًا: التطورات السياسية والدينية والتعليمية والقانونية في القرن التاسع عشر
استهلَّ الكاتب دراسته بعرضٍ موجزٍ لأبرز التطورات التي حدثت في مصر في القرن التاسع عشر، والتي بدأت بصعود محمد علي إلى سدَّة الحكم وإدخاله نظام التعليم الحديث لخدمة مسعاه في بناء جيشٍ قويّ، وبالرغم من بروز التعليم الابتدائي فقد ظلَّ التعليم الأزهري في بداية القرن التاسع عشر هو الأكثر شيوعًا، واستمرَّ العلماء "خريجو الأزهر" هم أصحاب الوظائف المتعلِّقة بفن الكتابة: خطاطين وكَتبة ومدرسين وقضاة. أخذ محمد علي في إحكام قبضته على المجتمع، فأحكم قبضته على أوقاف الأزهر، وقام بتنظيم الطرق الصوفية بما يسهل التحكُّم فيها وإخضاعها.
وفي تلك الحقبة الزمنية، ظهرت الطباعة التي كانت لها أثر بالغ في انتشار المعرفة والعلم وتقليص دور العلماء أو ما سمَّاه الكاتب "سلطة النص" التي كانت حِكرًا على العلماء لفترة طويلة، وصار بإمكان الجمهور الاطلاع على الكتب والمؤلفات الدينية من دون الجلوس على يد شيخ أو عالم. كما شهدت تلك الفترة تطورًا بالغ الأهمية في نظام المحاكم والقوانين في مصر، فقد دخلت مصر المحاكم المختلطة وتدنَّت رتبة المحاكم الشرعية إلى المرتبة الثالثة بعد المحاكم المختلطة والأهليَّة. إلَّا أن المحاكم ومؤسسات الدولة القانونية ظلَّت مرتبطةً بالمفتين؛ إذ كان يُعيَّن مُفتٍ لكل مؤسسة ومحكمة لتسترشد برأيه. وأخيرًا، ظهرت الصحافة السلفية في أواخر القرن التاسع عشر، وقد صاحبتها ثورة جديدة في الإفتاء، بما تيسَّر من نشر الفتاوى مكتوبة على نطاق واسع، وقد كانت مجلة المنار هي الرائدة في هذا الباب آنذاك.
باتت السلطات السياسية ترى أن من مهامها ضمان ألَّا يصدر أحد فتاوى دون مِران كافٍ وترخيص، وبهذا أضحت الفتاوى جزءًا من إجراء قانوني معياري، ولم يعُد بوسع القاضي أن يختار المفتي الذي يستفتيه، وصارت الفتوى أداةً قانونيةً معتمدةً لها حجيتها المتمشية مع تلك الوضعية. وبحلول عام 1880م، كانت الإدارة الحكومية تعيّن كلًّا من: المفتين الملحقين بمجالس الأقاليم والمديريات، ومفتي ديوان الأوقاف، ومفتي الشرطة، ومفتي الحقانية، ومفتي الإسكندرية، ومفتي القاهرة. وجرت العادة منذ عام 1881م على تسمية مفتي القاهرة: "مفتي الديار المصرية".
ثانيًا: تشكُّل دار الإفتاء (1895-1928م)
كان محمد عبده هو الممثل الأول للحركة السلفية والمصلح الإسلامي الأوسع نفوذًا في مصر في العصر الحديث.
في عام 1895م تأسَّست دار الإفتاء، ثم أُدخلت قوانين جديدة على عملية الإفتاء لتنظيمها، ففي الوقت الذي اكتسب فيه المفتي وضعيةً رسميةً بوصفه مفتي الدولة ومُنحت له سلطات كبيرة مقابل المفتين الأدنى منه، بدأت عملية تخفيف لوجود المفتين في المؤسسات القانونية للدولة. كان أول من تولَّى دار الإفتاء هو الشيخ محمد المهدي العباسي، وكان مفتيًا محافظًا متمسكًا بالمذهب الحنفي، واستمرَّ في المنصب مدَّة لا تقل عن تسعة وأربعين عامًا، وعلت في وقته مكانة المفتي، فاختاره إسماعيل باشا عضوًا في مجلسه الخصوصي، بل وعيَّنه شيخًا للأزهر عام 1871م على أمل أن يدخل بعض الإصلاحات في تنظيم الأزهر. ثم تولَّى الإفتاء الشيخ حسونة النواوي، وكان مؤيدًا للتوجُّه الإصلاحي للأزهر، كما أنه خالف الخديوي في مسألة تخصُّ المحاكم الشرعية، الأمر الذي دفع الخديوي إلى عزله من المنصب، وهو ما عاد عليه باحترامٍ كبيرٍ بين الناس، حتى بين خصومه، وفي زمنه أُنشئت مكتبة الأزهر. وأعقب النواوي في المنصب الشيخ محمد عبده، وكان محمد عبده هو الممثل الأول للحركة السلفية والمصلح الإسلامي الأوسع نفوذًا في مصر في العصر الحديث، وقد عُرف عبده بانخراطه في الشأن العام ونشاطه السياسي، وقد أبدى اجتهاداتٍ ملحوظة غير مسبوقة في الفتوى كما هو الحال في الفتوى الترنسفالية.
الشيخ محمد عبده
تولَّى بعد محمد عبده الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي كان من بين القوى الدافعة وراء ثورة 1919م التي أُقيل بسببها من منصبه عام 1920م، إلَّا أنه واصل لعب دور سياسي مهم، وانضمَّ إلى حزب الأحرار الدستوريين في بداية تأسيسه، كما أنه تولَّى الردَّ على أطروحة علي عبد الرازق الشهيرة حول الخلافة في ذلك الوقت. ومن بعد المطيعي يمكن القول إن الإفتاء قد شهد غيابًا للمفتي القوي، فقد تولَّت بعده شخصيات -مثل البرديسي والقراعي- لم يكن لها أثر كبير كسابقيها في المنصب، حتى تقدَّم الأخير بمقترح لإلغاء دار الإفتاء أصلًا.
ثالثًا: الأزهر وإنشاء أجهزة أخرى للفتوى (1928-1954م)
تعزَّزت مكانة شيخ الأزهر بموجب قانون تنظيم الأزهر الصادر عام 1911م، وأصبحت له سلطة أكبر نسبيًّا من سلطة المفتي. فأُنشئت بموجب القانون الجديد هيئة جديدة، هي هيئة كبار العلماء، التي أنشأها أصحاب التوجُّه الإصلاحي "السلفي" حتى تقوم بدورٍ اجتماعيٍّ داخل الدولة تُستعاد من خلاله مكانة الأزهر، بيد أنها لم تستطع القيام بذلك على الوجه الذي كان مرجوًّا منها. ثم أُنشئت لجنة الفتوى بالأزهر عام 1935م، التي أنشأها الشيخ المراغي، وكان سبب إنشائها هو الاستجابة لكثرة الأسئلة والاستفتاءات التي ترد إلى الأزهر من داخل مصر وخارجها. وبهذا أصبح هناك مؤسستان متناظرتان للفتوى: الأولى دار الإفتاء القائمة على شخص واحد ومذهب واحد (الحنفي)، والثانية هيئة جماعية تصدر فتاوى وَفْقَ مذهب المستفتي وتنشرها في مجلة الأزهر.
وفي تلك الفترة أيضًا، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت مُعبّرة عن نموِّ نفوذ المسلمين العاديين -من خارج الأزهر- وسلطتهم في الشؤون الدينية. وعلى النقيض من التوجُّه السلفي الذي نشأ مع محمد عبده، الذي تعامل مع المجتمع الاستعماري بشكل براغماتي، فإن السلفيين الجدد رفضوا أيَّ شرعية للمجتمع الاستعماري جملةً وتفصيلًا. بل إنهم نظروا إلى علماء الأزهر نظرةً احتقاريةً لعجزهم عن معارضة الدولة ومَن يحركها من الاستعماريين. وأخيرًا، تولَّى منصب الإفتاء في هذه الفترة شيخان كبيران كان لكلٍّ منهما دور بارز هما: الشيخ عبد المجيد سليم، وفي عهده نعِم الأزهر بقوانين جديدة وكليات ومجلة، فضلًا عن إنشاء لجنة الفتوى، وعاد في زمنه لدار الإفتاء قدر كبير من مكانتها الاجتماعية ودورها السياسي. ثم أعقبه في المنصب الشيخ حسنين مخلوف، الذي كان مناهضًا للتوجُّه الإصلاحي الذي مثَّله محمد عبده، وقد تولَّى المنصب مرتين، كانت الثانية بعد ثورة 1952م.
رابعًا: المفتون في طور الأفول (1954-1978م)
يمكن القول إن منصب المفتي قد شهد تراجعًا كبيرًا في الدور والمكانة الاجتماعية والسياسية بل والدينية عقب ثورة 1952م ونشأة دولة يوليو على يد الضباط الأحرار في مصر. فقد استُهلَّت تلك الفترة بعدَّة قوانين حجَّمت علماء الأزهر وقلَّصت وجودهم في الحياة العامَّة، أولها كان قانون إلغاء المحاكم الشرعية عام 1955م ونقل قضاة تلك المحاكم إلى المحاكم العلمانية، ثم قانون تأميم الأزهر عام 1961م، الذي مكَّن الدولة من بسطِ سيطرتها التامَّة على المجال الديني، وبه فَقَد الأزهر استقلاله تمامًا ودُمج في النظام التعليمي الرسمي.
دار الإفتاء المصرية
باتت دار الإفتاء معزولةً تمامًا في وزارة العدل، وتراجع دورها تراجعًا كبيرًا لصالح هيئة تابعة للأزهر مُكرَّسة بكاملها لصنع قراراتٍ بخصوص قضايا العصر، وهي: مجمع البحوث الإسلامية، الذي ورث هيئة كبار العلماء. إلَّا أن الدور الجديد والأهم للأزهر في دولة يوليو كان خدمة الدولة في المنافسة الدولية الجديدة في أوائل الستينيات، التي كانت بين الحكومات الثورية الجديدة والحكومات الملكية القديمة، والتي انخرطت فيها كلٌّ من مصر والسعودية، وذلك بإنشاء مؤسسات إسلامية الغاية منها خدمة المصالح السياسية لهذه الدول. فأنشأت السعودية رابطة العالم الإسلامي لتوازن دور المؤسسات المصرية الدينية في التأثير في الشأن الديني الإسلامي دوليًّا. وبذلك مثَّلت تلك المؤسسات الجديدة منافسًا جديدًا للمفتي المصري، بسبب درجة التقارب الكبيرة بين الموضوعات التي يعالجها كلٌّ منهما.
وأخيرًا، يمكن القول إن تلك الفترة قد شهدت ضمورًا وتراجعًا كبيرًا أشبه بالأفول للمفتي المصري ودار الإفتاء، فلم يكن أيٌّ من الذين تولوا المنصب في تلك الفترة ذا أثرٍ مهمٍّ في الحياة العامَّة في مصر، أو دور بارز في مجريات الأحداث. وقد ساعد على هذا البنيةُ الجديدة للسياسة المصرية، ففي حين كان المفتون سابقًا قادرين على المناورة بين الملك ومختلف الكتل البرلمانية، فإن كل السلطات الآن أصبحت مركزةً في يد الجيش والحزب الواحد، وأمسى المفتي مجرَّد موظف حكومي دون نفوذ سياسي، وصاحب دور عام محدود للغاية.
خامسًا: الإسلاميون في مواجهة الدولة
أجَّجت المحكمة الدستورية معركة سياسية وعرة، بما قرَّرته من أن التعديل الدستوري الذي جرى في عام 1980م والقائل بأن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع.
عقب إصدار دستور عام 1971م، شُغل الرأي العام في مصر بمسألة تطبيق الشريعة، خاصةً بعد أن نصَّت المادة الثانية في الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع. وشهدت أوائل السبعينيات إعداد العديد من مشروعات تقنين الشريعة أهمها: مشروع التقنين الذي أعدَّه مجمع البحوث الإسلامية عام 1972م، ومشروعات التقنين الإسلامي التي أعدَّتها لجنة برلمانية برئاسة رئيس البرلمان صوفي أبو طالب. إلَّا أن أيًّا من تلك المشاريع لم يُعتبر ولم يوضع موضع التطبيق فعليًّا. وأخيرًا، أجَّجت المحكمة الدستورية معركة سياسية وعرة، بما قرَّرته من أن التعديل الدستوري الذي جرى في عام 1980م والقائل بأن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، لا يعني أن الشريعة صارت هي القانون الوضعي في مصر، وأنه لا يعني إلَّا أن الشريعة هي مجرَّد مبدأ إرشادي للتشريعات المستقبلية.
تحوَّلت مسألة تطبيق الشريعة إلى مسألة سياسية، وخرجت من إطارها القانوني، ونشبت معركة حادَّة بين الحركة الإسلامية والعلمانيين، وحاول الإسلاميون جاهدين -وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين عن طريق البرلمان- تمرير مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال سنِّ قوانين مأخوذة من الشريعة الإسلامية. وتصدى للإسلاميين داخل البرلمان مجموعةٌ من العلمانيين، على رأسهم رئيس البرلمان رفعت المحجوب، الذي نجح في المصادرة على قضية تطبيق الشريعة، وواصل العمل على منع إثارتها مجددًا داخل البرلمان حتى عام 1990م. ويمكن القول إن إغلاق المنافذ السياسية أمام الحركات الإسلامية في تلك الفترة، بتزوير الانتخابات البرلمانية عدَّة مرات ومنع إقامة الأحزاب السياسية، قد دفع بعض الإسلاميين إلى تبنِّي العنف بوصفه سبيلًا لمواجهة الدولة التي حاربت الشريعة في رأيهم، ومن ثَمَّ خُطف وزير الأوقاف السابق محمد الذهبي وقُتل على يد جماعة "التكفير والهجرة" عام 1977م، وقُتل أيضًا رفعت المحجوب في عام 1990م، وشهدت مصر أحداثًا أخرى كثيرة في تلك الفترة على يد تلك الجماعات.
وأمام هذه الموجة أتى دور علماء الدولة ومفتي الديار المصرية، الذين لا يمكن أن ينتقدوا الدولة وسياستها ككل أو يصرحوا بأنها تعادي الشريعة الإسلامية أو تمنع إقامتها، فهم جزء من جهازها البيروقراطي، وهم مُكلَّفون بمهمَّة الدفاع عنه، وبذلك أصبحوا هدفًا لهجوم الإسلاميين، ولم يعُد يمكنهم ادعاء تمثيل الإسلام أو التحدُّث بوصفهم ممثلي الإسلام الوحيدين في مصر، وبهذا انحصر العلماء الرسميون -وعلى رأسهم المفتي- في التحدُّث والتعبير عن "دين الدولة" فقط.
سادسًا: المفتي في ثوبٍ جديد: الدولة قبل الدين
حينما تولَّى الشيخ سيد طنطاوي المنصب رسَّخ ما بدأه الشيخ جاد الحق. كان طنطاوي موظفًا رسميًّا بحقٍّ، وقد أحال الفتوى إلى عملية شرعنة دينية لكل ما تصدره الدولة من سياسات.
شهدت دار الإفتاء ما يمكن تسميته بعمليه الإحياء عقب تولي الشيخ جاد الحق منصب المفتي، فقد مثَّل الشيخ درعًا جديدًا للدولة أمام خصومها الإسلاميين، وأعطى لدار الإفتاء دورًا جديدًا فاعلًا وأخرجها من طور الأفول، بما لعبه من دورٍ مهمٍّ في الدفاع عن الدولة وسياساتها ومهاجمته للإسلاميين "المتطرفين" والتصدي لهم ولأفكارهم. لم يفتِ جاد الحق طوال فترة توليه المنصب بما يخالف سياسات الدولة أو يعارضها أو حتى ينتقدها نقدا لاذعًا، بل إنه أفتى فتويين متعارضتين كما حدث في قضية عمل المرأة وقانون الأحوال الشخصية (قانون جيهان) . وحين سُئل جاد الحق عن قضية تطبيق الشريعة التي كانت مثارةً بقوة في تلك الفترة، أجاب بأنها يجب أن تُطبَّق بالتدريج وعلى مهلٍ، وهو الموقف الذي غيَّره بعد أن تولَّى مشيخة الأزهر.
وحينما تولَّى الشيخ سيد طنطاوي المنصب رسَّخ ما بدأه الشيخ جاد الحق. كان طنطاوي موظفًا رسميًّا بحقٍّ، وقد أحال الفتوى إلى عملية شرعنة دينية لكل ما تصدره الدولة من سياسات. وبدوره لم يفتِ طنطاوي تقريبًا بفتوى مخالفة للدولة، ومن ثَمَّ اكتسب طنطاوي عداء الإسلاميين سريعًا، ولاقى انتقادات واسعة وكثيرة طوال فترة توليه المنصب، كما أثارت عدَّة فتاوى له هياجًا في الرأي العام، وخاصةً فتوى شهادات الاستثمار وفتوى التحول الجنسي. كما أن مواقفه أثارت موجاتٍ من الحنق والكره والانتقاد ضده، خاصةً موقفه من كامب ديفيد، ومن الاستعانة بقوات أجنبية في حادثة الحرم عام 1979م. وقد أعاد طنطاوي منصب المفتي إلى الحياة العامَّة من خلال التلفزيون والصحف، وكثرت لقاءاته وتصريحاته، كما أنه كان يدافع عن فتاواه ضد مخالفيه باستمرار.
يمكن القول إن دار الإفتاء قد شهدت نهوضًا بعد أفول في عهد الرجلين المذكورين (تنتهي الدراسة التي بين أيدينا في عام 1996م، أي فترة وجود طنطاوي في المنصب)، غير أنه نهوضٌ في حضن الدولة، لتؤدي دورًا جديدًا في شرعنة سياسات الدولة وتحديد دين الإسلام المناسب للمجتمع.
خاتمة
يمكن تقسيم الدور العام لدار الإفتاء إلى ثلاث مراحل: شهدت الأولى (1895-1952م) نشأة المؤسسة، واتَّسم أغلب المفتين فيها بنزعة إصلاحية ورغبة حقيقية في نشر الوعي الإسلامي في المجتمع، وقد ظهرت هيئات منافسة عديدة لدار الإفتاء في تلك الفترة، كجماعة الإخوان المسلمين وهيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى بالأزهر، ولكن كان أكثرها تهديدًا لسلطة المفتي هي جماعة الإخوان المسلمين. وكانت الثانية (1952-1978م) فترة الأفول بالنسبة إلى دار الإفتاء، فلم يكن للمفتي في تلك الفترة دور عام حقيقي إلَّا في إطار الدعاية الحكومية المفيدة للنظام الحاكم. وشهدت الثالثة (1978-1993م) عملية إحياء لدار الإفتاء على يد الشيخ جاد الحق الذي أعاد تنظيمها وشرع في نشر فتاواها، وشارك في الصراع الأيديولوجي ضد الجماعات الإسلامية، ودافع عن شرعية النظام الحاكم في مصر.