مقدمات العلوم: همُّ الاستقلال ومقصد التكامل
الملخّص
ارتبطت مسألة التصنيف في العلوم ومقدماتها بمسألتين متقابلتين: أولاهما مسألة وحدة المعارف وتكامل العلوم، وذلك على مستويات عدَّة أولها: تكامل جهود العلماء من تخصصات مختلفة، والثاني: تكامل جهود العلماء جيلًا بعد جيل، والثالث: تكامل العلوم وتداخلها. وثانية المسألتين اللتين ارتبطتا بالتأليف في مقدمات العلوم ومبادئها، هي محاولة وضع الحدود بين العلوم وتأكيد استقلالية كل علم من هذه العلوم وترتيبها في الأهمية، على اختلافٍ بين المصنفين في ذلك باختلاف المراحل التي مرَّ بها العلم كالتالي: مرحلة قبل استقرار العلوم واكتشاف العلم، ثم مرحلة الاجتهاد في حصر أبوابه واكتماله، ثم مرحلة التدليل على كل مسألة من مسائله، ثم مرحلة إعادة الصياغة الدقيقة. وأيضًا باختلاف درجة موسوعيتهم وتبحُّرهم في شتَّى العلوم.
فإذا كان التأليف في المقدمات يتجاذبه مطلبان: مطلب استقلال العلم ووضع حدوده وبروز هويته، ومطلب تكامله مع العلوم الأخرى، فإن الإشكال اليوم يتمثَّل في تدريس العلوم على أنها جزر متنافرة، يغيب فيها التكامل، وتقتصر محاولات إيجاد التكامل في تدريس تخصصاتٍ متنوِّعة للطالب، وترك مهمة التركيب وإيجاد التكامل بينها إلى قدرته العلمية والمنهجية.
وهذا في نظري يُعَدُّ خللًا في مناهج التعليم؛ إذ يجب أن تنكبَّ الجهود لإيجاد التكامل المنشود، خاصةً وأن المعرفة في المنهج الإسلامي تُعَدُّ مشروعًا مفتوحًا وجهدًا متواصلًا وسعيًا مستمرًّا من أجل الكشف عن الحقائق. على أن المعرفة في نموٍّ مستمرٍّ وهي قد فاضت خارج أسوار الجامعات وعجزت الجامعات عن مواكبتها. وأضحت العلوم الإسلامية -وخاصةً الشرعية- متجاوزةً في عقول الناشئة التي تجد أنها تخطَّت التراث، أو أنها تدرُسه على أنه ظواهر قد اندثرت. فالمهمة الكبرى اليوم هي أن نقوم بإعادة التجسير وإيجاد التكامل بين العلوم وإعادة التفاعل المستمر والعميق بين جميع التخصصات المعاصرة.
ونعتقد أن إعادة دراسة مقدمات العلوم الإسلامية من هذه الرؤية التكاملية الاستشرافية سوف تمكِّن من إيجاد سبل التكامل المنشود، واستئناف العمل الذي شيَّده السلف في التصنيف والترتيب ووضع المبادئ، من أجل رسم خارطة جديدة للعلوم تناسب العصر وتستجيب لحاجيات الطلبة العلمية والعملية المستجدة.
وقد انطلق البحث في هذه الرؤية من الأسئلة التالية: إلى أي حدٍّ استحضرت المقدمات مقصد التكامل؟ هل المبادئ العشرة التي وضعها العلماء للعلوم هي على سبيل الحصر أم على سبيل التوجيه؟ ألا يمكن أن نضيف مبادئ أخرى تجيب عن التساؤلات المعاصرة وتلبِّي حاجيات التكامل؟
وقد تمت معالجة إشكالية البحث في المحاور الآتية؛ أولها: منهجية المقدمات وهمُّ استقلال العلوم، والثاني: في منهجية المقدمات ومقصد التكامل المعرفي، والثالث بعنوان: نحو خريطة تكاملية للعلوم الإسلامية.