اعتقالُ ابنِ تيميةَ وَدَلَالَتُهُ في التاريخِ والتأريخِ

اعتقال ابن تيمية

بين يدي الترجمة

في ضوء هاتين السمتين – وهما الاستقلال الفقهي، والنزعة الإصلاحية المتوقدة – يسعنا تفسيرُ ما حظي به ابنُ تيمية من حضورٍ طاغٍ في الخطاب الإسلامي المعاصر؛ فلا نكاد نعرف مَنْ يدانيه من علماء العصر الوسيط تأثيرًا في الحركات الإحيائية خلال العصر الحديث، من الدعوة الوهابية إلى جماعة الإخوان المسلمين، مرورًا بالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها.

ما نحتاج إليه إذن هو أن نقرأ ابن تيمية في سياقه التاريخي، وأن نزن أفكاره بميزان العصر الذي تكوَّنت فيه، وأن نحدِّد ملامحَ صورتِهِ من خلال النصوص التاريخية التي تناولت سيرتَهُ وعرضت لتجربته الإصلاحية، وبسطت القول في علائقه بأنصاره وخصومه، غير غافلين عما شاب هذه النصوصَ من ألوان التحيز له أو ضده. وأحسب أن هذه الدراسة التي كتبها دونالد ب. ليتل (Donald Presgrave Little) (1932- 2017م) قبل أربعة عقودٍ ونيِّف من الدراسات القليلة التي تسهم في تلبية هذه الحاجة؛ لالتزامها – في رأيي – بالشرائط الموضوعية اللازمة لقراءة سيرة ابن تيمية، وتمحيص تجربته في التاريخ الوسيط، وما ارتبط بها من محنٍ وأزمات.

ومن الحقِّ أن هذه الدراسةَ تمثِّل إحدى صور التَّلَقِّي الاستشراقي لابن تيمية، وهو التلقي الذي تبلورت ملامحُهُ الأولى مع المستشرق الفرنسي هنري لاؤوست (1905- 1983م) الذي أرسى بعمله الرائد المشار إليه آنفًا أساسًا مكينًا لدراسة ابن تيمية، ثم تطور – أي: هذا التلقي – تطورًا ملحوظًا مع جورج مقدسي (1920- 2002م) الذي وقف حياته على دراسة المذهب الحنبلي ونشر تراثه والتعريف بأعلامه المبرِّزين، قبل أن يتخذ مساراتٍ جديدةً خلال العقدين الأخيرين بفضل جهود نفرٍ من أمثال: جون هوفر، ويوسف رابوبورت، وغيرهما ممن أضافوا إلى الدراسات التيمية مزيدًا من العمق والثراء.