لا أخلاقية عقوبة السجن في الفكر الإسلامي مقاربة بين المفكر الباكستاني جواد غامدي والحقوقية الأمريكية أنجيلا ديفيس
مقدمة
كتب نيلسون مانديلا، في فبراير 1969م، خطابًا من داخل سجنه لاثنين من أطفاله: زيندزي وزيناني، مشيرًا إلى مراسلة سابقة من طفلته زيندزي، التي وصفت قلبَها بأنَّه يعتصرُ ألمًا لغياب أبيها، ثم سألت عن موعد رجوعه إلى بيته. أجاب مانديلا في رسالته بعدم علمه بموعد رجوعه إلى المنزل، وطمأنَ أطفالَه الصغار بأنَّه يمتلأُ قوةً وأملًا، ويتوقُ بشدَّة لأنْ يكونَ معهم[1]. أمَّا في يوليو 1969م، فقد واجه مانديلا تذكيرًا مؤلمًا بقطيعة السجن وغربته، حينما رفضت إدارةُ السجن أنْ تأذنَ له بحضور جنازة ابنه الأكبر ثيمبي، الذي مات على إثر حادث سيارة مفجع[2]. وبعد مرور سنة، في أغسطس 1970م، عندما علم مانديلا بالمضايقات التي تقوم بها السلطةُ تجاه أسرته، وصفَ معاناته بأنَّها "غارقةٌ في المرارة، كلُّ جزء في جسدي: لحمي، دمي، عظامي، روحي؛ ولذا أشعرُ بالمرارة لعجزي التام عن تقديم العون في المحن القاسية والعنيفة التي تمرون بها"[3].
تُصوّر هذه المقتطفات من مراسلات مانديلا في سجنه تجاربَ مشتركة بين المسجونين، بصرف النظر عن مكانتهم المجتمعية. فأنْ تكونَ سجينًا لمدة طويلة هو أمرٌ ينطوي على سمات ثابته ومتلازمة، منها القطيعة مع الأهل، فهي سمةٌ ملازمةٌ لمنظومة السجن أينما كان[4]. إنَّ الصدمةَ النفسيةَ والعاطفية والجسدية المقترنة بالسجن مُسلَّمٌ ضمنًا -أو صراحة- بأنها مضنيةٌ وشاقةٌ، لكنها جزاءٌ حتميٌّ ولزوميٌّ لكل جريمة معاقب عليها بالسجن[5]. أضحت السجونُ الحديثة -في القرون التالية لتأسيسها- رائجةَ الانتشار في كل مكان ومقرونةً بالجزاء الجنائي، ويُروَّجُ لها -ليس فقط على أساس أنها بديلٌ أكثر إنسانية من العقوبات البدنية- بل على أنها البديلُ الوحيد. ويُعَدُّ المقصدُ الأساسي للسجن -المستقِي جذوره من جماعة الكويكرز- باعتباره مؤسسة إصلاحية، هدفًا عفا عليه الزمنُ في وقتنا الحالي، وهو المقصدُ الذي يُراد به تأهيلُ السجين ليعود مرةً أخرى إلى المجتمع، وهو هدفٌ متوقع الحدوث -على الرغم من السجن- وليس نتيجته[6]. ومنذ نشأتها، تعرضت السجونُ الحديثة لانتقادات واسعة، بما فيها تسجيل الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز نفوره وبغضه للسجن، بعد زيارته عام 1842م لما عُرف لاحقًا بسجن الولاية الشرقية في فيلادلفيا، واصفًا "الحبس الانفرادي الصارم والمشدَّد بالقسوة والخطأ"[7]. في الآونة الأخيرة -على إثر الوعي المتزايد بمشاكل العدالة الاجتماعية الأمريكية- بدت اهتمامات متجدِّدة حول العقوبة الجنائية كرؤية مستقبلية لعالم بلا سجون[8].
واليوم، يميلُ غالبية النقد الموجَّه لمنظومة السجون إلى أن يكون متمركزًا على الولايات المتحدة؛ حيث تبدو السجون كحالة استمرارية لتاريخ الولايات المتحدة الاستثنائي مع العنف العرقي. وتُعَدُّ العواملُ المنهجيةُ المرتبطةُ بأزمة السجون الأمريكية هي الباعث الأساسي وراء الحجج التي تُساق ضد منظومة السجون، ويندرُ أنْ يُحتجَّ بهذا الباعث في الانتقادات الواردة من مناطق أخرى حول العالم[9]. وتُشير الافتراضاتُ العامة إلى أنَّ الولايات المتحدة وأوروبا هما ميلادُ الأفكار المناهضة لمنظومة السجون، وأنَّ الشعوبَ الأخرى أقلُّ نقدًا، أو مجرد متصالحة مع حتمية منظومة السجون[10]. وفي الحقيقة، فإنَّ دولَ الجنوب تمتلكُ خطابًا خاصًّا بها، ومستقلًّا كليةً عن التأثير الأنجلو-أوروبي، ومقدمًا لأفكار أكثر عمقًا وقيمةً في الفكر النقدي لمنظومة السجن عمومًا. ويرتكز هذا الخطاب على الاعتقاد بأنَّ عقوبةَ السجن طويلةَ الأمد هي أمرٌ غير أخلاقي، وأنَّ منظومةَ السجون هي مؤسساتٌ غير أخلاقية، ولا يكترثُ هذا الخطاب كثيرًا بمسألة القصور العامة لأي نظام عدالة جنائية بعينه[11]. ومن بين أبرز الأصوات انتقادًا لمنظومة السجون في دول الجنوب هم علماءُ الشريعة الإسلامية، ودائمًا ما ترتكز حججُهم المنتقدةُ للسجن طويل الأمد إمَّا على النص الديني مباشرةً، أو على قيم مستقاة من هذا النص. ويُعَدُّ هذا النقدُ أخلاقيًّا وقانونيًّا معًا؛ بسبب الارتباط الوثيق بين الفضاء الأخلاقي/الديني والفضاء القانوني في الشريعة الإسلامية، فالقانونُ الإسلامي مستنبطٌ من نصوص دينية، بواسطة فقهاء متبحرين في علوم الشريعة. وباختصار، يصعب أنْ تجتمعَ اللأخلاقيةُ والقانونيةُ في نظام يُعاقب على الجريمة كما يعاقب على الخطيئة[12].
وبالوصف السابق والشرح اللاحق، وعلى الرغم من ندرة دراسة هذين النقدين الأخلاقيَّيْن جنبًا إلى جنب، فإنَّهما يشتملان -نظريًّا واستنتاجيًّا- على حجج راسخة تبيِّن مدى إشكالية منظومة السجن كعقوبة جنائية. ويتتبع هذا المقال الآراءَ المناهضةَ لمنظومة السجن عند المفكر الإسلامي المعاصر جواد أحمد غامدي، ثم مناقشتها في ضوء الحجج والنقاشات المطروحة في السياق الأمريكي، وبالأخص عند الناشطة والباحثة الأمريكية أنجيلا ديفيس[13]. وعلى عكس ديفيس، فلا تُعد قضية إلغاء السجون محورًا رئيسًا عند غامدي، فهي عبارة عن هوامش نادرة وجانبية ضمن كتاباته الأساسية التي تتناولُ العناوينَ التقليديةَ في الشريعة الإسلامية. وفي الحقيقة، فإنَّ دافعَهُ للكتابة في هذا الموضوع يعكسُ الأهميةَ القانونيةَ التي يعلقها على القصور الأخلاقي في استخدام السجن طويل الأمد كعقوبة جنائية.
وقبل النظر في موضوع النقد الأخلاقي للسجن، من الأهمية أن نقدم مدخلًا وجيزًا عن تاريخ السجن. فكما أشرنا سابقًا، بدت منظومةُ السجن الحديثة كبديل أكثر حضاريًّا -ولو نظريًّا- عن النظام العقابي البدني الموجود في أوروبا آنذاك. وكانت صرامةُ العقوبات البدنية وشدتُها ضربًا من التعذيب، وفي الفترة ما بين عامي 1780-1820م، طورت أوروبا والعالمُ الحديثُ مؤسسات إصلاحية تقوم على فكرة الانضباط الصارم لتأهيل المذنبين وإصلاحهم[14]. وعُرف السجنُ كمؤسسة للعقوبة والإصلاح، ولأول مرة يظهر هذا الطرحُ الجديدُ لمنظومة السجن في الولايات المتحدة في وقت قريب من الثورة الأمريكية[15]. فقبل هذه الفترة، كانت السجون بصفة أساسية عبارةً عن أماكن مخصَّصة للأفراد الذين هم في انتظار أنْ تُطبَّقَ عليهم العقوبةُ البدنية؛ فالسجون لم تكن عقوبةً في حد ذاتها[16]. وبحلول القرن الثامن عشر في أوروبا والقرن التاسع عشر في أمريكا، تغيَّر مفهومُ السجن ليصبحَ النموذجَ الأساسي للجزاء والمعاقبة[17]. وفي الولايات المتحدة، أدَّت عقوبةُ السجن طويلة الأمد إلى تفاقم عدد المسجونين داخل المؤسسات العقابية، وهي الظاهر المعروفة حاليًّا بظاهرة ارتفاع عدد السجناء (Mass Incarceration)[18].
وفي أماكن أخرى كإفريقيا وآسيا، أقحمَ الحكمُ الكولونيالي نظامَ العدالة الجنائية المقترنَ بمنظومة السجون وسيلةً للجزاء والمعاقبة[19]. فقبل ذلك، كان للسجون دورٌ أقلُّ نطاقًا، ولم تُعرف كنموذج للعقوبة. وفي السياق الما قبل الحداثي للفقه الإسلامي، كان الحبسُ محدودًا جدًّا، ولم يسمح به فقهاءُ الشريعة إلَّا كوسيلة للحجز المؤقت[20]. وبشكل عام، يقرِّر الفقه الإسلامي جزاءات جنائية وغير جنائية على الجرائم. فترتكز الجزاءات الجنائية بشكل عام على العقوبات البدنية، وهي ثلاثةُ أقسام: الحدود (وهي العقوباتُ المنصوصُ عليها في المصادر الإسلامية الرئيسة)، والقصاصُ، والتعزيراتُ. وأمّا الجزاءاتُ غير الجنائية فمنها الدية، وهي التعويضُ المالي الذي يُدفَعُ إلى المجني عليه أو أوليائه[21]. وتاريخيًّا، تكشفُ نصوصُ الفقه الإسلامي التراثي مدى عزوف الفقهاء عن فكرة استخدام السجن وسيلةً للعقاب بأي شكل من الأشكال[22]. وعلى عكس السياق الأمريكي، لم يكن نقدُ الفقه الإسلامي لعقوبة السجن طويلة الأمد نتيجةً لظروف اجتماعية معينة تؤثر بشكل مجحف في فئات محدَّدة. ولمَّا كان السجنُ غيرَ مألوف، فلم يكن موضوعًا مهمًّا بدرجة كافية لينال الكثير من العناية والدراسة في أدبيات الشريعة الإسلامية التقليدية. ودائمًا ما كان النقاشُ حول السجون محلَّ نقد، مع التمييز بين الاحتجاز المؤقت المباح من جهة، والسجن طويل الأمد محل النقد من جهة أخرى.
النقد الأخلاقي النظري: جواد أحمد غامدي
انطلاقًا من المدخل السابق، يمكننا أن نقسِّم موقفَ فقهاء الشريعة الإسلامية حولَ موضوع السجن طويل الأمد إلى ثلاثة آراء. فالرأي الأول يقولُ بجواز عقوبة السجن طويل الأمد كعقوبة تعزيرية، وعلى الرغم من أنَّ أصحابَ هذا الرأي يُسلِّمون بعدم وجود نصٍّ يجيز عقوبةَ السجن طويل الأمد، فإنهم يقدمون طرحًا فقهيًّا لتخويل النظام السياسي سلطةً تقديريةً لتقنين السجن كعقوبة جزائية[23]. أمَّا الرأي الثاني فيرى حرمةَ عقوبة السجن لتعارضها مع الشريعة الإسلامية؛ باعتبار أنَّها بديلٌ للعقوبات البدنية المنصوص عليها في مصادر الشريعة الإسلامية، وهذا الرأي لا ينتقدُ السجنَ لذاته؛ بل يقومُ على مقاربة أنَّ السجونَ طويلةَ الأمد هي نوعٌ من المجاوزة والتعدي على الشريعة التي نصَّت على عقوبات محددة[24]. أمَّا الرأي الثالث فيعترضُ كليةً على منظومة السجون طويلة الأمد كوسيلة للعقاب، لتنافيها كليةً مع المنظومة الأخلاقية. إذن، فلا أخلاقية السجون هي السبب الرئيس للتحريم عند أصحاب الرأي الأخير. وفي الواقع، هذا هو الرأيُ المعتبرُ من عقوبة السجن في الخطاب الفقهي الإسلامي، وأهم من يمثِّل هذا الموقف في الوقت المعاصر هو العالم الديني والمفكر الباكستاني البارز جواد أحمد غامدي.
وُلِدَ غامدي لأسرة ريفية في منطقة بنجاب، شرق باكستان، وتلقَّى العلومَ الإسلاميةَ التقليديةَ بجانب دراسته النظامية؛ فدرس العربيةَ والفارسيةَ، ومناهجَ الدرس النظامي الإسلامي (1959-1966م)[25]، ثم درسَ الفلسفةَ والأدبَ الإنجليزي والدراسات الإسلامية في الجامعة الحكومية بلاهور (1968-1973م). وفي تلك الفترة، بدأت علاقةُ غامدي برجل الدين المعروف والمنظر السياسي أبي الأعلى المودودي (ت1979م)، وبعدها بفترة وجيزة التحقَ بالجماعة الإسلامية. وفي الفترة ما بين 1973-1983م، تتلمذ على أستاذه -الأكثر تأثيرًا فيه- أمين إحسان إصلاحي (ت1997م)[26]. ألَّف غامدي العديدَ من الكتب، ومن بينها كتاب الميزان -تأليفه الأهم- وكتب في العقيدة والشريعة والأصول والأخلاق والفقه[27]. وتقع أفكارُه الرئيسةُ الناقدةُ لمنظومة السجن في مقال صغير باللغة الأردية، بعنوان "السجن كعقوبة جنائية"، ونُشر في يوليو 1989م[28]. كذلك، يمكنُ مطالعةُ المزيد حول نقده لمنظومة السجن من خلال ورقة بحثية أخرى نشرها عام 1993م بعنوان "الحدود والتعزيرات: نقاط موجزة مهمة"[29].
ولتحديد موقف غامدي في مقالته الأولى "السجن كعقوبة جنائية"، من المهم أن نعي سياقَ كتابة هذه المقالة. ففيما يبدو سياقُ أعمال الكاتبة الأمريكية ديفيس ناتجًا عن ممارسات العنف العنصرية والتمييزية، فإنَّ مقالةَ غامدي تبدو كأنَّها تستفيدُ من لحظة معينة في تاريخ باكستان القانوني؛ لطرح نقد نظري لمنظومة السجن. فعندما كتبَ غامدي مقالتَه، كانت باكستان تعاني سجالًا -دامَ عقدًا من الزمن- حولَ الإصلاح الإسلامي في البلاد بما فيه إصلاح نظامها القانوني[30]. ولم يكن السجنُ الموضوعَ الوحيدَ المرتبط بالعملية الإصلاحية التي طرحها غامدي في مقالته، ولكن يبدو أنَّه الموضوع الأكثر إثارة للجدل؛ فقد لقيت الأفكارُ المناهضةُ لمنظومة السجون قبولًا عند أصحاب الرؤية التقليدية للعقوبة في الفقه الإسلامية[31].
وتبدو مسألةُ اللاأخلاقية أمرًا جوهريًّا في حجاج غامدي المناهض تمامًا لعقوبة السجن. وبينما يكتبُ غامدي في سياق دولة لا تزال تتصارع مع إرث الاستعمار، فإنَّ تسبيبَهُ لمناهضة عقوبة السجن يركِّز على السجن بصورة تجريدية، وليس مجرَّد نتاج لذلك التاريخ الإمبريالي. وبمعنى آخر، لا يقوم حجاجُ غامدي ضد السجون على أساس لا أخلاقية الظروف التي تُنتج السجون، ولكنَّه يهاجمُ المبدأَ الأساسي للسجن في حد ذاته. وبخلاف ديفيس، فنقدُ غامدي يمكن وصفُه بأنَّه نقدٌ أخلاقيٌّ فكريٌّ. فكانت خطوته الأولى -على الفور- أن يستدعي مسألةَ الأخلاقية من خلال فكِّ الترابط ما بين السجن والمقدَّس، ليحاججَ بأنَّ منظومةَ السجن صناعةٌ بشريةٌ، ولا دخل لتدبير المقدَّس فيها. ونظرًا لأنَّ منظومةَ السجن ليست تشريعًا سماويًّا، فلا يمكن التذرعُ بحرمة السجن أو قدسيته، ويصبح نقدُ العقوبة -بالدعوة لإلغائها- أمرًا غير منافٍ للشعائر الدينية. واستطاعَ غامدي -بتنحية السجن خارج دائرة المقدَّس- أن يقدِّم نقدًا لاذعًا للسجن، واعتباره أحد الأهوال والشرور التي أنتجها الإنسانُ لتمثِّل أبشعَ أنواع الظلم[32]. بل ويذهبُ أبعدَ من ذلك، ليضعَ السجنَ ضمن أبشع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية[33]. ومع تسليمه للوجود التاريخي للسجن عبر القرون الماضية، فإنَّ غامدي يميّز ما بين الطبيعة المؤقتة للحبس في الماضي مقارنةً بما هي عليه في الحاضر[34]. ويعتقدُ أنَّ عقوبةَ السجن طويلة الأمد هي إرثُ العالم الغربي النابعُ من سطوته على بقية العالم[35]. ويُعَدُّ هذا بمثابة الحلقة الأخيرة في تأطيره؛ فوضعُ غامدي لمنظومة السجون خارج إطار المقدَّس يؤكِّد على أنَّ العقوبةَ دخيلةٌ على سياقه وبيئته. وسمحت هذه الخطوةُ -بالغةُ الأهمية- بجعلِ النقد الأخلاقي للسجون محلَّ ترحيب بالغ، باعتبار أنَّه نقدٌ لا يمثِّل تهديدًا للدين أو للهوية الوطنية.
وبالانطلاق من هذا الإطار المعرفي، شيَّد غامدي قضيةَ لا أخلاقية السجون على ثلاث أفكار رئيسة: أنَّ السجنَ مفسدةٌ للفرد، وتدميرٌ للمجتمع، وأنَّ الإصلاحَ المنشودَ من وراء السجون مقصدٌ موهومٌ.
ويتساءلُ غامدي كيف يمكن لمجتمع أن ينتظرَ -على نحو معقول- من طفل أن يمتلكَ شخصيةً متزنةً غيرَ أسيرة للمشاعر القاسية التي تُحدثها هذه الصدمة -صدمة القطيعة بسبب السجن- المستمرة[44]. وكذلك يتساءلُ غامدي متعجبًا عمَّا يمكن أن تقدِّمه النظرية الأخلاقيةُ الكلاسيكية -كتبرير مُقنِع- يشرحُ لهؤلاء الأطفال سببَ معاقبتهم بهذه القطيعة؟
أولًا: السجنُ مفسدةٌ للفرد
بدأ غامدي نقدَهُ محاججًا بأنَّ السجنَ سببٌ للأذى النفسي والعاطفي للفرد، ويتعيَّن أن يتسمَ باللاأخلاقية لأسباب عدَّة، أهمها الضرر الدائم المقترن بالعقوبة. وببساطة، فإنَّ فكرةَ الضرر الدائم تعود إلى أنَّ السجنَ يمتدُّ إلى فترة طويلة من الزمن، وأنَّ أذاها يتجدَّد يومًا بعد يوم[36]. وكما ينوّه غامدي، فإنَّ العذابَ المستمرَّ يتسلطُ على مكنون النفس[37]، وتصبحُ طبيعةُ السجن ذاتها مصدرًا لهذا العذاب، لا سيما أنَّ الفردَ يفقدُ سيطرتَهُ على جسده، ويخضعُ كليةً لرحمة الآخرين. ويأسفُ غامدي من حقيقة أنَّ أكلَ الفرد وشرابَه وقيامَه وجلوسَه ونومَه ويقظتَه وحتى قضاءَ حاجته هي أمورٌ خارجةٌ عن سيطرته. ويعتقدُ غامدي أنَّ هذه الحالةَ الوجودية تؤدي إلى فقدان الكرامة أو عزة النَّفْس، التي تليها حاجة ماسة للفرد لإيجاد طريقة لتحرير نفسه واستعادة ذاته[38].
وبالإضافة إلى الأثر النفسي للسجن، يؤكِّد غامدي أنَّ السجنَ يُوقع أذًى عاطفيًّا بالغًا بالمسجونين من خلال تجريدهم من أي وسيلة للتواصل مع ذويهم. وهذا استشهاد آخر على أنَّ السجنَ يتركُ الفردَ خاويًا، ويجرِّده من منابع المودَّة والمحبَّة، ويعتبره منزوعَ المشاعر خاليًا من العواطف. وباستحضار مقتطفات مانديلا في مراسلاته من داخل سجنه، يرى غامدي أنَّ السجنَ يجبرُ الفردَ على قمع رغبته الفطرية من أنْ يتواصلَ عاطفيًّا مع ذويه، وهي مشقةٌ لم يرضها اللهُ أبدًا من عباده[39]. والمعنى الضمني واضحٌ تمامًا بأنَّ منظومةَ السجن التي أنتجها الإنسانُ ليست معدومةَ الإنسانية فقط، بل هي منظومةٌ فاجرةٌ ومناهضةٌ للدين. ويصفُ غامدي الأذى الذي يُحدثه السجنُ بالفرد من خلال الاستشهاد بالآية القرآنية التي تصورُ حياةَ أهل النار: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فيهَا وَلَا يَحْيا}[40]. ويبدو أنَّ غامدي يحاولُ القولَ بأنَّ أذى السجن النفسي ينفي الذاتَ الفردية، وأنَّ الأذى العاطفي ينفي النفسَ الترابطية.
ثانيًا: السجنُ مفسدةٌ للمجتمع
أمَّا عن السبب الثاني وراء لا أخلاقية السجون، فلكون العقوبة مفسدةً وأذًى لسائر المجتمع، فالضررُ الحاصلُ على المجتمع بمثابة عقوبة أخرى تبعيَّة للسجن[41]. فالسجنُ -كما أشار غامدي- ليس عقوبة للجاني فقط، بل هو عقوبةٌ لدوائره القريبة التي لم تقترف أيَّ خطيئة أو ذنب. ويقعُ هذا الأذى بشكل مدمر على عائلة السجين، وبالأخص شريكه، الذي يعاني نفسيًّا وعاطفيًّا وماليًّا وأخلاقيًّا في ظل الغياب الطويل للشريك الآخر داخل السجن[42]. والأمر ذاته ينطبقُ على الأطفال الذين يعانون هذا الأذى، إمَّا بالقطيعة -التي يُحدثُها السجنُ- مع آبائهم، أو بالأزمة النفسية التي تصيبُهم عند زيارتهم أحد الوالدين في محبسه. يستنكرُ غامدي كلا الأمرين: القطيعة والزيارة؛ ليؤكِّد فكرتَهُ عن الأذى الدائم الذي يصيبُ الأطفالَ جرَّاء تجدُّد الأزمة النفسية مع كل زيارة، الأمر الذي يترتب عليه تدمير كامل لشخصية الطفل[43]. ويتساءلُ غامدي كيف يمكن لمجتمع أن ينتظرَ -على نحو معقول- من طفل أن يمتلكَ شخصيةً متزنةً غيرَ أسيرة للمشاعر القاسية التي تُحدثها هذه الصدمة المستمرة[44]. وكذلك يتساءلُ غامدي متعجبًا عمَّا يمكن أن تقدِّمه النظرية الأخلاقيةُ الكلاسيكية -كتبرير مُقنِع- يشرحُ لهؤلاء الأطفال سببَ معاقبتهم بهذه القطيعة؟ ويبدو أنَّ غامدي يطرح نقدًا فلسفيًّا أكثر عمقًا -حولَ تطبيق نظرياتنا العقابية الحديثة- بعيدًا عن الفرد وأقرب للمجتمع. وعلى هذا النحو، يضع غامدي السجينَ في منظومة بيئية أكبر من الروابط البشرية، متحديًا فكرة أنَّ السجنَ طويل الأمد محدودُ التأثير. وقد أعربت ديفيس عن الشعور نفسِه بعباراتها الشخصية، وهي تحكي عن انشغالها بالتفكير من داخل سجنها في أبيها وأُمها، وأملها أن يجتازا هذه المعاناة[45].
ثالثًا: السجن: إصلاح موهوم
بدأ غامدي نقدَهُ الأول لمنظومة السجون بتشكيكه في الأهداف النفعية التي تنشد هذه العقوبةُ تحقيقَها. وغالبًا ما يشار إلى الردع والعزل عن المجتمع كهدفين منشودين لعقوبة السجن. ورغم تراجعه قليلًا في الآونة الأخيرة، يظل هدفُ تأهيل السجين وإصلاحه المقصدَ الأساسي للعقوبة[46]. فمنذ أنْ كانت السجون مشروعًا للخلاص الفردي عند الكويكرز، من خلال عملية التأمل الذاتي، ووصولًا إلى دورها في مسألة العفو الشَّرطي عن السجين؛ فدائمًا ما استُخدم التأهيلُ أداةً لتسويغ عقوبة السجن[47]. ويسهلُ أن نحتجَّ بأنَّ غيابَ مقصد التأهيل عن مؤسسة السجن ينزعُ عنها أيَّ وصف إنساني، حتى لو اتَّسم هذا الغرض بالظنية وعدم المنطقية. ومن جانبه، يرى غامدي أنَّ الهدفَ الإصلاحي للسجين هو أمر طبيعي لأي مجتمع أخلاقي وراشد. فكما يوضِّح غامدي، فإنَّه بجانب هدفي الضبط/التأديب والردع، فإنَّه يتحتم على أي مجتمع راشد أن ينشدَ الإصلاح والتأهيل للجناة والمذنبين. وإذا كان إصلاحُ المذنبين هو الهدف الذي ينبغي أن يسعى إليه أي مجتمع، فإنَّ الاعتمادَ على السجن كوسيلة لإصلاح الجناة هو محض سخف بسبب طبيعة السجن ذاته[48].
ويذهب غامدي إلى أنَّ أي إصلاح وتأهيل فعَّال للمذنب يخضعُ لتأثير بالغ من الصحبة المحيطة به. ولذا فهو يرتابُ من هذه المؤسسة العقابية التي تنشدُ إصلاحَ الجناة من خلال عزلهم أو بإحداث القطيعة بينهم وبين منابع التغيير الإيجابي والإصلاحي لهم، كعائلاتهم أو مجتمعاتهم أو ذويهم[49]. ويتساءلُ -مشككًا- عن طبيعة الإصلاح والتأهيل الذي ننشُدُه من الفرد جرَّاء سجنه في صحبة جناة آخرين؟ ويؤكِّد غامدي على أنَّ الفطرةَ السليمةَ تحتمُ على أي مجتمع صادق في سعيه نحو تغيير الجناة أن يوجدَ إمكانيات وفرصًا أكثر ثباتًا واستمرارًا من أجل أفراد أكثر نفعًا وإنتاجًا للمجتمع[50]. إذن، فهي دعوة من غامدي إلى تبنّي مسؤولية أخلاقية أكبر لمواجهة العوامل المجتمعية المنتجة للسلوك الإجرامي.
أختم كلامي عن موقف غامدي من إلغاء عقوبة السجن، بعرض موجز لبعض أفكاره الرئيسة. أولًا: تمثِّل هذه الأفكارُ نموذجًا استثنائيًّا لفقيه مسلم يحاججُ خارج الإطار الديني، ويقدِّم نقدًا أخلاقيًّا بصفته مفكرًا عامًّا[51]. كما يركِّز غامدي على قضية التزييف الأخلاقي المبرر لمنظومة السجون، وقصورها الفلسفي، وعدم اتساق أهدافها مع الواقع والحقيقة. ولا يعني هذا أنَّ غامدي تجنبَ الموقفَ الديني؛ فدائمًا ما كان الإسلامُ مرجعيتَه، كمصدر رئيس، يرتكزُ عليه نقدُه الأخلاقي. وعلى الرغم من أنَّه يصدرُ حكمًا على السجون بألفاظ دينية أو عبارات فقهية مثل التحريم والتجريم، فإنه يشير إلى ذلك -ضمنًا- بعبارات صريحة لا لبس فيها مثل: "لا يوجد أصلٌ في مصادر التشريع الإسلامي يبرِّر وضعَ الناس في السجون لسنوات متتالية"[52]. ويُفهَم من هذا أنَّه لا يجدر بحكومة تصفُ نظامَها بالإسلامي أنْ تتخذَ السجون وسيلةً للعقاب والجزاء.
ثانيًا: على النقيض من الآخرين الذين يحاولون تقبُّل منظومة السجن، أو الدفع بأنَّ ثمةَ طرقًا ومقاربات إصلاحية يمكنها تأهيل منظومة السجون إلى رتبة أخلاقية، فإنَّ غامدي يرى أنَّ المؤسسةَ السجنية غيرُ قابلة للإصلاح. وبرأيه، فإنَّ السجونَ تُوقع أذًى مفرطًا لا يتكافأُ وأي فعل إجرامي، ويستحيل أن تُحدث إصلاحًا أو تنتجَ تأهيلًا. ينبغي أن نشير إلى أنَّ غامدي لا يعارضُ المعاقبةَ على الفعل المجرم، وإنَّما يعادي هذا النوع من العقوبة[53]. وأخيرًا: فإنَّ غامدي سجَّل موقفَهُ هذا من السجون في وقتٍ كان فيه الشعارُ الأمريكي "الحرب على الجريمة" قد بلغَ ذروتَه، إلى أن تُوّجَ في نهاية المطاف بقانون سيئ السُّمعة، وهو ما يُعرف بقانون جرائم العنف وإنفاذ القانون لسنة 1994م. ولا غرابة أنَّ غامدي لم يُشر في مقالته إلى هذا الأمر أو غيره من الخطابات الغربية آنذاك. وذكرَ تحديات مشابهة في نطاق بيئته، لكنَّه ساقَ دفوعات أخلاقية ذات تطبيقات عالمية. وهذا تأكيدٌ لحقيقة أنَّ لدول الجنوب خطابًا خاصًّا بها، ضمن مجالات ذات اهتمام مشترك، كما أنَّها تمتلك رؤيةً فريدةً يمكنُ أن تعودَ بالنفع خارج إطار حدودها.
النقد الأخلاقي التطبيقي: أنجيلا ديفيس
بعد الانتهاء من تحليل أفكار غامدي، ننتقلُ الآن لمقاربتها مع رؤية أنجيلا ديفيس، التي تُعَدُّ إحدى أبرز المفكرين في حقل إلغاء عقوبة السجن في النطاق الأنجلو-أمريكي[54]. دائمًا ما كانَ السجنُ نقطةً محوريةً في كتابات ديفيس، مستهديةً بكلٍّ من: تجربتها الخاصة كسجينة، وبتخصُّصها المعرفي كباحثة بارزة. ووفقًا لتقديراتها، فإنَّ خطورةَ نمو عدد السجناء في الولايات المتحدة تبدو أكثرَ وضوحًا إذا علمنا أنَّ عددَ سكان الولايات المتحدة أقل من 5% من عدد سكان العالم، لكن تمثِّل نسبةُ السجناء فيها بأكثر من 20% من عدد السجناء حول العالم[55]. ويعتقد بعضُ منتقدي نظام العدالة الجنائية الأمريكي أنَّ ظاهرةَ تفاقم عدد المسجونين مردُّها إلى حالة التجريم المفرط، وتزايد القوانين الجنائية الجديدة من قِبَل سياسيين وصنَّاع قرار لا يهمهم سوى تلميع أوراق اعتمادهم لدى جمهور الناخبين بسياسة فرض الأمن والنظام[56]. وتذهبُ ديفيس -بطبيعة تخصُّصها المعرفي- إلى القول بأنَّ كلًّا من العنصرية التاريخية ومجمع السجن الصناعي هما السببان الخفيان وراء ظاهرة التفاقم الهائل لعدد المساجين في الولايات المتحدة. وهي تسلِّم أيضًا لما سبق من مواقف مُدينة ومُتَّهِمة لنظام العدالة الجنائي الأمريكي، وبراهين دالَّة على لا أخلاقية منظومة السجن. وهذه الأسباب الكامنة وراء ظاهرة نمو عدد السجناء هي ما أعنيه بالنقد الأخلاقي التطبيقي لمنظومة السجون عند ديفيس[57].
وتعتقد ديفيس أنَّ حركةَ تحرير العبيد نقلت الأمريكيين السود من حالة وجود السيد كوسيطٍ بينهم وبين الدولة، إلى حالة انعدام هذا الوسيط، فانتقلوا من دائرة العبيد إلى دائرة الجناة والمذنبين[61].
أولًا: العنصرية التاريخية
تذهب ديفيس إلى أنَّ ثمةَ ارتباطًا واضحًا بين التجربة التاريخية للعنصرية في أمريكا، والأزمة الحالية في السجون الأمريكية. فتشير الإحصائياتُ إلى أنَّه بحلول عام 2011م، كان معدلُ السجناء الذكور من الأفارقة الأمريكيين 6.3 أضعاف الذكور البيض[58]. وهذا الارتباطُ ليس بالظاهرة الحديثة؛ حيث ترى ديفيس أنَّ ثمةَ تلازمًا أو تواليًا ما بين تجريم العبودية، وتقنينها لكي تكونَ وسيلةً للعقاب الجنائي. أدَّت حركةُ تحرير العبيد، وتقنين عقوبة السجن مع الأشغال الشاقَّة إلى وجود عدد هائل من السجناء السود في مراكز الاعتقال بجنوب الولايات المتحدة، وتحوَّل السجنُ بشكل رئيس ليكون مقرًّا لإدارة العبيد السابقين[59]. وتحقيقًا لذلك، تشير ديفيس إلى تطور "قوانين الرقّ" "والقوانين الخاصة بالسود" اللتين أُريد بهما مراقبة السكان السود وضبطهم بشأن تصرفات بسيطة نسبيًّا كالتشرد، والإخلال بعقود العمل، والتغيُّب عن العمل، وحيازة أسلحة نارية، والسبّ بالألفاظ والإشارات المهينة[60]. وتعتقد ديفيس أنَّ حركةَ تحرير العبيد نقلت الأمريكيين السود من حالة وجود السيد كوسيطٍ بينهم وبين الدولة، إلى حالة انعدام هذا الوسيط، فانتقلوا من دائرة العبيد إلى دائرة الجناة والمذنبين[61]. ولذا فمبعثُ اهتمامها -على وجه التحديد- هو الطريقةُ التي انتهجتها السجون الأمريكية والمدعومة بأشكال تاريخية من الممارسات العنصرية، مع استمرار تلك السجون في أداء دور بالغ في ترسيخ عنصرية العقوبة[62]. وبهذا المعنى، ترى ديفيس أنَّ السجونَ حلَّت مكان ممارسات العبودية والإعدامات الميدانية، فهي نظامٌ عنصريٌّ يسهل على الكثير منَّا -إن لم يكن معظمنا- أن يتنبأ بزواله[63]. تقولُ ديفيس: "فإذا كنَّا مقتنعين -حقيقةً- بألَّا مكان للعنصرية في بناء مستقبل عالمنا، وطالما يمكن أن نؤكِّد بالحجج الدامغة على عنصرية منظومة السجون؛ فهذا حتمًا يقودُنا إلى ضرورة أن نتعامل بجدية مع فكرة إلغاء السجون"[64].
وعليه، فلا أخلاقية السجون -عند ديفيس- مقترنةٌ بلا أخلاقية العنصرية. فالسجنُ مؤسسةٌ غارقةٌ في العنصرية، من أول نشأتها حتى الطريقة التي تُدار بها وتقومُ عليها في وقتنا الحاضر؛ ومن ثَمَّ فهي مؤسسة لا أخلاقية.
ثانيًا: مجمع السجن الصناعي
تُعَدُّ مساءلةُ ديفيس لعقوبة السجن كمنتج لمجمع السجن الصناعي المكونَ الثاني في نقدها الأخلاقي لهذه المؤسسة العقابية. وهنا، تنتقل ديفيس من مسألة العنصرية إلى الطبقية؛ لتطرحَ تحليلًا ماركسيًّا مميزًا عن العلاقة ما بين السجون ودوافع الشركات لصناعة مزيدٍ من الأرباح. فتشير ديفيس إلى أنَّ الحاجةَ إلى تشييد مزيد من السجون، وتعبئتها بالمساجين بدأت في ثمانينيات القرن الماضي تحت الشعار السياسي الشهير بـ"الحرب على الجريمة". تعمل السجون على عزل العناصر الأكثر إجرامية بعيدًا، من أجل مجتمعات أكثر أمانًا، لكن ديفيس تؤكِّد على أنَّ ممارسات تعبئة السجون بالكثير من السجناء أثناء هذه الفترة كان لها تأثيرٌ بسيطٌ جدًّا أو منعدمٌ في المعدل الرسمي للجريمة، ولم تكن العاقبة مجتمعات آمنة، بل سجونًا حاشدة بالنزلاء[65].
ومن ثَمَّ أصبح السجناءُ -وأغلبيتهم من ذوي البشرة السوداء- مصدرًا لمزيد من الربح، يلتهمُ الخزانةَ العامة، التي كان من الممكن أن توجَّه إلى برامج التأهيل الاجتماعي[66]. وكما تبيِّن ديفيس، فإنَّ ظاهرةَ التربُّح من السجناء ليست بالأمر الجديد؛ فسبقَ لمجمع السجن الصناعي أن أخضع السجناء لأبحاث طبية لصالح شركات القطاع الخاص[67]. وذكرت على سبيل المثال كاريير ألبيرت كليجمان، الطبيبَ المتخصِّص في الأمراض الجلدية بجامعة بنسلفانيا، الذي أجرى المئات من التجارب الطبية على السجناء، فيما عُرف مؤخرًا بأنَّها طرقُ بحث غير أخلاقية[68]. ولعلَّ صعودَ ظاهرة خصخصة السجون مؤشرٌ على النمو المتزايد لشركات القطاع الخاص، فيما يُعرف باقتصاد السجون[69].
وترى ديفيس أنَّ إعطاءَ أولوية للربح على الإنسان هو مؤشرٌ على الإفلاس الأخلاقي للرأسمالية العالمية. إنَّ المعالجةَ الرأسماليةَ التي تغذي مجمعَ السجن الصناعي، هي مصدرٌ لخراب المجتمعات المفرزة للجناة والمذنبين. ودائمًا ما تجولُ الشركاتُ حول العالم بحثًا عن عمالة رخيصة، وعادةً ما يؤدي رحيل هذه الشركات إلى إضعاف الأساس الاقتصادي للمجتمعات، مما يؤثر في البرامج والخدمات الاجتماعية الأخرى، وتتضرر المجتمعات فتصبح مفرزةً للكثير من السجناء[70]. وتشير ديفيس إلى أنَّ ظاهرةَ ارتفاع عدد السجناء تدرُّ ربحًا كبيرًا، وتلتهم الثروةَ الاجتماعية، وتوفر الظروف نفسَها التي تنتجُ المذنبين والجناة، ومن ثَمَّ إلى السجن مرة أخرى[71]. وبهذا الشكل، ينكشفُ جانب آخر من لا أخلاقية السجن.
أمَّا خارج السياق الغربي، وفي عالم لم يُثقَل بعدُ بظاهرة تضخُّم السجون بأعداد نزلائها، فغالبًا ما يكون نقد منظومة السجون مرتكزًا على البُعْد الأخلاقي بصورة مطلقة.
خاتمة
يقدِّم لنا الطرحُ السابقُ فرصةً لتوسيع أفكارنا حول قضية إلغاء السجون، من خلال التفاعل مع خطابات ورؤى معرفية خارج السياق الأنجلو-أمريكي. أصبحت الأفكارُ الداعيةُ إلى إلغاء السجون ضمنَ الأفكار الأكثر انتشارًا، بسبب الصعود الهائل لأعداد السجناء في الولايات المتحدة، وبالأخص في وقتنا الحالي، الذي يشهد ظاهرةَ ارتفاع عدد السجناء (Mass Incarceration). وفي الوقت نفسِه، فإنَّ الحججَ والأفكارَ المناهضةَ لمنظومة السجون تخضعُ لتأثير شديد من قِبَل الحالة التي يعيشُها مجتمعنا ونظام عدالته الجنائية. ورغم أهميته الثانوية، فإنَّ النقدَ الأخلاقي دائمُ الوجود وباقٍ في الظل. أمَّا خارج السياق الغربي، وفي عالم لم يُثقَل بعدُ بظاهرة تضخُّم السجون بأعداد نزلائها، فغالبًا ما يكون نقد منظومة السجون مرتكزًا على البُعْد الأخلاقي بصورة مطلقة. وينطبقُ هذا -بشكل خاص- على التراث الديني للفقه الإسلامي المتأثر بطبيعته بالنزعة الأخلاقية. إنَّ وضعَ الحجج والرؤى الإسلامية المناهضة لمنظومة السجون جنبًا إلى جنب الأفكار الأمريكية، يتيح الفرصةَ لبحث وتحرّي نقاط التوافق وسُبل التعلُّم من الاختلافات. ولا شكَّ أنَّ رؤيةَ كلٍّ من ديفيس وغامدي تؤدي هذا الغرضَ؛ فمقاربتهما عن لا أخلاقية السجون مختلفةٌ ومتميزةٌ، فبينما تصيغُ ديفيس موقفَها من تجربة شخصية مع السجن، وصداه الأليم لمظالم تاريخية جسيمة، فإنَّ غامدي يرى أنَّ منظومةَ السجن معيبةٌ بشكل جوهري وبصرف النظر عن أي سياق. إنَّ هذين النقدين الأخلاقيَّيْن بشقيهما النظري والتطبيقي لا يبرهنان فقط على لا أخلاقية منظومة السجون، وإنَّما يؤكِّدان أيضًا على الشعور العام المشترك بين التقاليد المتنوعة والنطاقات الجغرافية المختلفة.
الهوامش
[1] "الأملُ سلاحٌ فعَّال"، خطابات غير منشورة لمانديلا من محبسه، صحيفة النيويورك تايمز، 6 يوليو 2018م.
[2] توفيت والدة مانديلا في سبتمبر عام 1968م، ورفضت سلطةُ السجن أنْ تمنحَه تصريحًا لحضور الجنازة.
Peter Hain, Mandela: His Essential Life 91–92 (2018).
[3] مراسلات نيلسون مانديلا تكشف الغطاء عن معاناة السجن في جنوب إفريقيا، أخبار البي بي سي، 10 أكتوبر 2010م.
[4] يشير أحدُ الباحثين إلى أنَّ هذا ضربٌ من العنف تُحدثُه عزلةُ السجن، مؤكدًا على أنَّ السجينَ مسلوبٌ من أهله. تيري جونس، ماذا فقدَ نيلسوم مانديلا، صحيفة النيويورك تايمز، 6 يوليو 2018م. وفي أولى سنوات سجنه، لم يُسمح لمانديلا إلَّا بزائر واحد، ومراسلة واحدة لا تتجاوز 600 كلمة كل ستة أشهر.
Peter Limb, Nelson Mandela: A Biography, 86, (2008).
[5] تشير إحصائياتُ وزارة العدل الأمريكية عن تقرير صدر عام 2007م إلى أنَّ واحدًا من بين عشرين سجينًا يشكو من تحرش جنسي، أو اعتداء بالاغتصاب، أي أكثر من 70 ألف سجين في العام.
Allen J. Beck and Paige M. Harrison, Sexual Victimization in State and Federal Prisons Reported by Inmates, 2007, Bureau of Justice Statistics Special Report (Apr. 9, 2008), available at: http://bjs.ojp.gov/content/pub/pdf/svsfpri07.pdf.
[6] قد يحاججُ البعضُ بأنَّ التبريرَ الجزائي للسجن طويل الأمد معيب أيضًا؛ لأنَّ النتائجَ التبعيةَ للسجن تقوضُ مسألةَ الجزاء المعنوي. بالتأكيد، لا يُعَدُّ هذا موقفًا لجميع مفكري النزعة الجزائية، الذين يحاججُ بعضُهم بأنَّ هناك العديد من "الأسباب القائمة على الجزاء لحجب المسؤولية وتخفيف العقوبة". راجع:
Doug Husak, Retributivism and Over-Punishment, 41 L. & Phil. 169–73 (2022).
[7] Charles Dickens, American Notes for General Circulation 1:238 (reissue ed. 2009).
وصفَ ديكينز عقوبةَ السجن -باعتبارها عذابًا وألمًا ومعاناةً- قائلًا بأنَّ الألمَ الناتجَ جراء العبث اليومي بكوامن العقل والفكر أشدُّ فتكًا بالفرد من أي ألمٍ آخر في الجسد. (المرجع السابق، ص239).
[8] يوجدُ ما يقرب من 2.2 مليون مواطن أمريكي في السجون -ناهيك عن الأمريكيين في سجون غير أمريكية- وهذا يعني زيادة أعداد نزلاء السجون بنسبة 943% على مدار نصف القرن الماضي. معدل ارتفاع عدد المسجونين أعلى من خمسة إلى عشرة أضعاف مقارنةً بالدول المناظرة، بمعنى أنَّ سجناءَ الولايات المتحدة يمثلون 25% من نسبة المسجونين حول العالم. راجع:
Elizabeth Hinton, From the War on Poverty to the War on Crime: The Making of Mass Incarceration in America 5 (2016).
[9] أثَّرت الانتقاداتُ الأوسعُ نطاقًا لمنظومة السجن -كالتي قدَّمها ميشيل فوكو- في الفكر الداعي لإلغاء العقوبة، ولكنَّها مستمدَّة بشكل أساسي من السياق الأنجلو-أوروبي. طالع:
Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison (trans. Alan Sheridan, 1977).
وعلى سبيل المثال ، ذكرت أنجيلا ديفيس في الكثير من أعمالها العديدَ من المفكرين المناهضين لعقوبة السجن، مثل: فوكو، وتوماس ماتيسون، وويليم دي هان، وهيرمان بيانكي، ونيلز كريستي، وغيرهم، مع غياب تام لأي طرح أو رؤية من دول الجنوب. راجع:
Angela Y. Davis, The Angela Y. Davis Reader, 102, (1998).
[10] من الجيد أن ندركَ أنَّ مفهومَ التصالح مع حتمية السجن له علاقة بالغة بحقيقة أنَّ السجن له سجيتان: الأولى باعتباره وسيلة لعقاب المذنبين في العصر الحديث، والثانية باعتباره بقية من بقايا الكولونيالية التي رسمت طرقَ الحكم وأنظمتَهُ في دول الجنوب. راجع:
Frank Dikötter and Ian Brown, eds., Cultures of Confinement: A History of Prison in Africa, Asia and Latin America (2007); Babacar Bâ, La Prison Coloniale au Sénégal, 1790–1960: Carcéral de Conquête et Défiances Locales, 8 French Colonial Hist. 81 (2007).
[11] يعكس هذا الأمر -أحيانًا- تمييزًا مقاربًا في الغرب الحديث، وبالأخص في الولايات المتحدة وأوروبا بشأن "فكرتين متناقضتين حول كيفية بناء نظام راشد للعدالة الجنائية".
James Q. Whitman, Presumption of Innocence or Presumption of Mercy? Weighing Two Western Modes of Justice,” 94 Tex. L. Rev. 933 (2016).
يذهب ويتمان إلى أنَّ كلا النهجين ينشدان نظام عدالة جنائية أكثر إنسانية، مع اختلاف في مراحل التطبيق، فيرتكز النهج الأمريكي على "الخوف التحرري" الذي يعتبر الجهات الحكومية بمثابة التهديد الأساسي للعدالة، حيث "يستهدفُ رجالُ الدولة الفاسدون الكثيرَ من الأبرياء" (المصدر السابق، ص981). ولذا، فالنظام الأمريكي ينصُّ على ضمانات إجرائية قوية تصلُ حدَّ تبرئة المذنبين، مع ضمانات قوية للحيلولة دون معاقبة الأبرياء، وهو نهجٌ لا يكترث بالألم الذي يصيبُ المرءَ لمجرد إدانته. أمَّا النهج الأوروبي فهو أكثر إذعانًا للسلطة، مع إصرار على تطبيق العقوبة في إطار حضاري لائق (المصدر السابق). ويتمثَّل التوجهُ الأوروبي في المناداة بعقوبة شديدة صارمة من أجل الإدانة العامة: "تصريح بالعقوبة بصورة صارمة"، كنوع من الإدانة الرسمية، يعقبها مساحة يمكن أن ينشدَ خلالها المذنبُ تنفيذًا أكثر رأفة. (المصدر السابق، ص980).
[12] ظهرت دعواتُ لا أخلاقية السجون في الفكر الغربي، ولكنَّها ركزت على الظروف التي تؤدي إلى سجن الأفراد، فالدوافعُ غيرُ الأخلاقية وراء بزوغ منظومة السجون جنبًا إلى جنب البيئة المردية داخل السجون؛ هي التي تجعلُ من السجن مؤسسةً غير أخلاقية في عين المفكر الغربي المنادي بإلغاء تلك العقوبة. أمَّا بالنسبة إلى المفكر المسلم، فإنَّ السجنَ طويل الأمد أمرٌ غير أخلاقي في جوهره بغض النظر عن أي عامل آخر.
[13] بعد قضائها فترة من حياتها داخل السجون بسبب نشاطها السياسي، قدَّمت ديفيس من خلال أبحاثها وكتاباتها عدةَ دراسات متعدِّدة الجوانب لمنظومة السجون لتحاجج فيها بضرورة إلغاء هذه العقوبة، وانظر على سبيل المثال كتابها (Are Prisons Obsolete?) الذي يقدم دراسةً استثنائيةً مهمةً حول حجتها بضرورة إلغاء السجون. لمعرفة المزيد حول فترة اعتقالها، طالع:
Angela Y. Davis, Angela Davis: An Autobiography 15–30 (1988).
[14] Roger-Pol Droit, Michel Foucault, on the Role of Prisons, N.Y. Times, Aug. 5, 1975, http://archive.nytimes.com/www.nytimes.com/books/00/12/17/specials/
[15] ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص26.
[16] المرجع السابق، ص26. ترى ماري جيبسون أنَّ "النموذج"، الذي طوَّره في الأصل فوكو وآخرون، تولَّد عنه اعتقادٌ بأنَّ نشأةَ السجون حدثت "بين عامي 1760- 1840م، بعدما ألغت الطبقةُ الوسطى الصاعدة الطقوسَ العلانية للعقاب البدني باعتبارها غير متوافقة مع تطلعاتها الجديدة لبناء مجتمع صناعي ليبرالي حديث".
Mary Gibson, Review Essay: Global Perspectives on the Birth of Prison, 116 no. 4 Am. Hist. Rev. 1040 (2011).
[17] ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص42. جرى تطوير نموذجين للسجن في هذه الفترة المبكرة: نظام أوبورن وبنسلفانيا، ولم يكن الفرقُ بينهما كبيرًا؛ لأنَّ كليهما ينبعان من فلسفة واحدة، فسجنُ الولاية الشرقية -المذكورُ أعلاه- مثالٌ على نموذج بنسلفانيا، الذي اتَّسمَ "بالعزلة الكاملة والصمت والوحدة" (المرجع السابق، ص47). وكان هذا امتدادًا لأول سجن في تاريخ الوليات المتحدة، سجن شارع وولنات ((Jen Manion, Liberty’s Prisoners: Carceral Culture in Early America 34 (2015)))، واتَّسمَ هذا السجنُ بالعزلة التامَّة للسجناء في زنازين فردية، حيث كانوا يعيشون ويأكلون ويعملون ويصلون ويتأملون ويتعبدون (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص47). اتَّسم نموذجُ سجن أوبورن بالعزلة والوحدة نفسيهما، لكن أُضيف إليه العمل كجزء أساسي في نظامه الداخلي (المرجع السابق).
[18] أفاد المكتبُ الفيدرالي للسجون في عام 2019م، عن إجمالي 2068800 سجين، بمعدل 629 سجينًا لكل مئة ألف نسمة، وعن 4455 سجنًا في جميع أنحاء البلاد بمعدل إشغال 95.6٪. وبالمقارنة، فقد بلغ عدد السجناء في عام 1940م حوالي 264834 سجينًا، وعام 1970م حوالي 328020 سجينًا، وتضاعف في عام 1985م إلى 744208 سجينًا. ثم تضاعف العدد مرةً أخرى في العقد التالي، بحيث أصبح عدد السجناء عام 1995م حوالي 1585586، ووصل العدد في عام 2000م إلى أكثر من 2 مليون سجين.
United States of America, World Prison Brief, (last visited Feb. 12, 2022). http://www.prisonstudies.org/country/
على مدار ثلاثين عامًا، ارتفع عددُ نزلاء السجون في الولايات المتحدة بمقدار مذهل ليبلغ 1.7 مليون. التفسير السطحي لهذا الارتفاع في عدد نزلاء السجون يُرجع الأمرَ إلى ارتفاع معدل الجريمة خلال هذه الفترة. ولكن تشير الإحصاءاتُ إلى خلاف ذلك، فوفقًا لبيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي، انخفضت جرائمُ العنف بنسبة 50٪ تقريبًا، وجرائمُ الممتلكات بنسبة 55٪ ما بين عامي 1993-2019م، بينما سجَّل مكتبُ إحصاءات العدل انخفاضًا إجماليًّا بنسبة 74٪ في جرائم العنف وجرائم الممتلكات في الفترة نفسِها.
John Gramlich, What the Data Says (And Doesn’t Say) about Crime in the United States, Pew Research Centre (Nov. 20, 2020), http://www.pewresearch.org/facttank/2020/11/20/factsabout-crime-in-the-u-s/
[19] بدأت المجتمعاتُ غير الغربية تجربتها مع السجون متأخرة عن أوروبا والولايات المتحدة بحوالي مئة عام، وليس هذا بالغريب، فالسجنُ مشروعٌ كولونياليٌّ، صدَّره الغربُ في أواخر القرن التاسع عشر، ليستخدمه الحكَّام المحليون -فيما بعد- لخدمة مصالحهم (جيبسون، مرجع سابق، هامش 16، ص1057). وعلى سبيل المثال، عرفت الهندُ نظامَ السجون الإنجليزية في أواخر القرن الثامن عشر في كلٍّ من كلكتا ومدراس (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص42).
[20] راجع على سبيل المثال:
Irene Schneider, “Imprisonment in Pre-Classical and Classical Islamic Law,” 2 Isl. L. & Soc. no. 2 (1995) at 157.
وحول السجون في عصر سلاجقة العراق وفارس في القرنين الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي والسادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، طالع:
Christian Lange, Justice, Punishment, and the Medieval Muslim Imagination 89–94 (2008).
[21] للمزيد حول هذه العقوبات، طالع:
Intisar A. Rabb, Doubt in Islamic Law: A History of Legal Maxims, Interpretation, and Islamic Criminal Law 30–37 (2014). See also: Rudolph Peters, Crime and Punishment in Islamic Law: Theory and Practice from the Sixteenth to the Twenty-first Century 30–38, 53–68 (2005).
[22] ولا يعني هذا أنَّ الفقهاءَ لم تكن لديهم فكرة مطلقًا حول السجون طويلة الأمد. ففي واقع الأمر، أجازَ بعضُهم -تعزيرًا- حبسَ الجاني حتى وفاته. طالع: عز الدين بن عبد السلام، القواعد الكبرى، الجزء الأول، ص161، (2000م). ورغم القول بإباحة هذا النوع من السجن طويل الأمد، فإنَّ العز بن عبد السلام أعربَ عن تحفُّظه الشخصي حيال هذه العقوبة (المصدر السابق، ص160). خالص امتناني لمريم شيباني لدعمي بهذا المصدر.
[23] طالع مثلًا: حسن عبد الغني أبو غدة، أحكام السجن ومعاملة السجناء، ص34-35، (1986م). شاهد أيضًا: عبد الحي يوسف، حكم السجن في الإسلام، مكتبة فتاوى الشيخ عبد الحي يوسف، فيديو على اليوتيوب، بتاريخ 15 يونيو 2020م، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=miRj3Hn5T
[24] شاهد مثلًا: أحمد النقيب، هل عقوبة السجن لها أصل في الدين الإسلامي؟ قناة البصيرة نت، فيديو على اليوتيوب، بتاريخ 3 نوفمبر 2010م، على الرابط:
[25] Muhammad Khalid Masud, Rethinking Sharīʿa: Jāvēd Aḥmad Ghāmidī, 47 Die Welt des Islams 357–60 (2007).
[26] تأثرت أفكارُ غامدي كثيرًا بشيخه أمين إحسان إصلاحي (1904-1997م)، صاحب تفسير القرآن، المسمى بتدبر القرآن، والمطبوع في تسع مجلدات، 2004م. راجع:
Mustansir Mir, Coherence in the Qurʾān (1986).
[27] جاويد أحمد غامدي، الميزان، (الطبعة الحادية عشر، 2018م). ونُشرت الطبعةُ الأولى من الكتاب عام 1985م. وله أيضًا تفسير في خمس مجلدات، يُعرفُ باسم البيان (2018م). ونَشَر كذلك العديدَ من القصائد الشعرية، ومجموعة مقالات، ويكتبُ بصفة منتظمة في دورية إشراق الشهرية الناطقة باللغة الأوردية.
[28] جاويد أحمد غامدي، السجن كعقوبة جنائية، دورية إشراق، العدد 11، ص37-42، (يوليو 1989م).
[29] جاويد أحمد غامدي، الحدودُ والتعزيرات؛ نقاطٌ موجزةٌ هامةٌ، البرهان، 143-46 (الإصدار السابع، 2009).
[30] صدر مرسوم بجرائم الحدود عام 1979م، ثم مرسوم آخر بجرائم القصاص والديات عام 1990م. لمدخل تاريخي موجز، طالع:
Moeen H. Cheema, Beyond Beliefs: Deconstructing the Dominant Narratives of the Islamization of Pakistan’s Law, 60 Am. J. Comp. L. 875, 878–900 (2012).
وكان لهذه العملية الإصلاحية صدى حول العالم، للمزيد طالع مثلًا:
Rudolph Peters, The Islamization of Criminal Law: A Comparative Analysis, 34 Die Welts des Islams no. 2 (1994).
[31] حوار تليفوني مع غامدي، 9 سبتمبر 2020م. وينعكس هذا في مقالة غامدي، باعتبارها موجهةً للنخبة العلمانية الباكستانية، التي اعتبرت السجنَ علامةً مهمةً على كونها تسير في ركب الحداثة.
[32] غامدي، السجن، مرجع سابق، هامش 28، ص37.
[33] المرجع السابق، ص38.
[34] المرجع السابق، ص37. فالناس إمَّا محبوسون على ذمَّة محاكمة، وإمَّا في انتظار تنفيذ العقوبة.
[35] المرجع السابق.
[36] المرجع السابق، ص38. يقاربُ بهذا مع العقوبة البدينة التي يصفُها بأنَّها لحظيةٌ، وليس لها آثارٌ مؤذية، كالعقوبات المستمرة.
[37] المرجع السابق، ص38.
[38] المرجع السابق، ص38. وبينما يقدِّم غامدي نقدًا لاذعًا حتى للضوابط الطبيعية على جسد السجين، فإنَّ ديفيس تتناولُ الضررَ الجسيمَ الناجمَ عن الاعتداء البدني، وخاصةً الاعتداء الجنسي، الذي يقع على السجين. تقولُ ديفيس: "السجنُ مكانٌ يخضع فيه النزيل للتهديد بالاعتداء الجنسي، الذي يلوحُ في الأفق في باقي المجتمع، باعتباره نمطًا روتينيًّا لتنفيذ العقوبة داخل السجون" (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص77-78). وتشير ديفيس إلى الدراسات التي تظهر كيف أنَّ الاعتداءَ الجنسي في سجون النساء هو "لازم... كشكل من أشكال العقاب"، وتضيفُ أنَّ "الأفكار والممارسات المنبوذة في بقية المجتمع تحتفظُ بكل حيويتها الشنيعة خلف جدران السجن" (المرجع السابق، ص80). تسرد ديفيس صورةً أخرى مؤلمةً عن سلب السجن لكرامة نزلائه، عن السجينة الحامل التي ترقدُ على عربة مستشفى، وعلى وشك الولادة، وأُهملت -دون رعاية ومتابعة- في إحدى زوايا الغرفة (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص21-22).
[39] وينوّه بشهر رمضان خاصَّة، كنموذج على أنَّ اللهَ فرضَ على عباده أن يحكموا رغباتهم عن الأكل والشرب والجماع، لكن لم يكلفهم الحكم نفسه بالنسبة إلى الجوانب العاطفية (غامدي، مرجع سابق، هامش 28، ص38).
[40] المرجع السابق.
[41] يمكن الإشارةُ إلى هذا على أنَّهم "ضحايا غائبون" في النقاش القانوني الجنائي الأمريكي، وهم أفرادٌ من عائلات المسجونين، وقلَّما يعتبرهم النظام. طالع:
Eric Martin, Hidden Consequences: The Impact of Incarceration on Dependent Children, Nat’l Inst. Just. J. no. 278 (May 2017), available at: http://nij.ojp.gov/topics/articles/hidden-consequences-impact-incarceration-dependent-children.
[42] غامدي، السجن، مرجع سابق، هامش 28، ص38.
[43] المرجع السابق.
[44] المرجع السابق. تُشير الدراساتُ إلى أنَّ التأثيرَ يكون بالغًا على أبناء السجناء؛ حيث يبدو على الكثير منهم "عدم الثقة بالنفس، والاكتئاب، والتغيُّر العاطفي مع الأصدقاء والعائلة، والسلوك التخريبي في المنزل والمدرسة". ما يقرب من نصف السجناء في أمريكا آباء، فهناك حوالي 1.7 مليون من الأطفال القصر لديهم آباء مسجونون.
Lois M. Davis et al., Understanding the Public Health Implications of Prisoner Reentry in California: State-of-the-State Report, RAND Corp. 117–18 (2011).
[45] ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص23. في دراسة أخرى، تصفُ السجنَ بأنَّه مكانٌ شنيعٌ "مُصمَّمٌ لفصل السجناء عن مجتمعاتهم وعائلاتهم" (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص10).
[46] Michael M. O’Hear, Beyond Rehabilitation: A New Theory of Indeterminate Sentencing, 47 Am. Crim. L. Rev. 1247, 1249–50 (2011).
وتلاحظ أوهير أنَّ ثمة عودة لموضوع الإفراج الشرطي، فمنذ عام 2000م، قنَّنت 36 دولة تقريبًا فرصَ الإفراج الشرطي عن نزلاء السجون (المرجع السابق، ص1248).
[47] Ashley T. Rubin, The Deviant Prison: Philadelphia’s Eastern State Penitentiary and the Origins of America’s Modern Penal System 1829–1913, 180, 353 (2021).
[48] غامدي، السجن، مرجع سابق، هامش28، ص39.
[49] المرجع السابق. طبيعي أنْ يُعترضَ على مدى إيجابية هؤلاء، لكن يؤكِّد غامدي على دورهم البنَّاء في معظم الأحيان.
[50] المرجع السابق. ترى ديفيس أنَّ العكسَ هو الأقربُ إلى الصحَّة؛ حيث تفتقر السجونُ -بشكل متزايد- إلى الفرص التعليمية التي كانت موجودة سابقًا، وهذا مؤشرٌ على "التجاهل الرسمي لخطط الإصلاح"، خاصةً تلك التي تشجِّع على "استقلالية العقل وحرية الفكر" (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص57). وتعتقدُ ديفيس أنَّ دخولَ الشركات إلى قطاع السجون جعل من إعاقة وتعجيز السجين عن الإصلاح مقصدًا رئيسًا لمنظومة السجن (المرجع السابق، ص73).
[51] يقدِّم بعضُ العلماء -أحيانًا- نقدًا أخلاقيًّا بمرجعية دينية، لكنَّهم -على عكس غامدي- لا يدعون إلى إلغاء السجن على أساس هذا النقد، فهم إمَّا يشيرون إلى عيوب عقوبة السجن، أو يقدمون رؤية إصلاحية. شاهد مثلًا: عبد العزيز الطريفي، لا توجد عقوبة السجن في الإسلام، قناة كلمة حق، فيديو على اليوتيوب، بتاريخ 28 ديسمبر 2017م، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=gK1dCoBLkMI. انظر مثال الدعوة لإصلاح السجن: زاهد الراشدي، الحاجة إلى إصلاح منظومة السجون، ترجمان الإسلام، 12 نوفمبر 1976م، على الرابط:http://zahidrashdi.org/1267
[52] غامدي، السجن، مرجع سابق، هامش 28، ص39.
[53] يختلفُ هذا أحيانًا عمَّا تراه ديفيس، فيجب القيام بذلك لدعم فكرة الإلغاء، وتقولُ بأنَّ "التحدي النظري والعملي الرئيس لإلغاء عقوبة السجن يكمنُ في فصل الجريمة عن العقاب" (ديفيس، مرجع سابق، هامش 9، ص103).
[54] وُلدت ديفيس في مدينة برمنغهام، بولاية ألاباما الأمريكية، وحصلت على شهادة في الأدب الفرنسي من جامعة برانديز، وواصلت الدراسةَ في جامعة كاليفورنيا سان دييغو، وحصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هومبولت في ألمانيا. ولها أدوارٌ قياديةٌ في الحزب الشيوعي، ولجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية (SNCC)، والمقاومة النقدية، وعملت أستاذة جامعية في UCLA، وجامعة ولاية سان فرانسيسكو، وجامعة كاليفورنيا سانتا كروز (Sharon Lynette Jones, ed., Conversations with Angela Davis (2021) at ix). في أوائل السبعينيات، اكتسبت ديفيس شهرةً بالغةً عندما اتُّهمت بارتكاب ثلاث جرائم يُعاقَب عليها بالإعدام: جريمة شروع في تهريب نزيل من سجن سوليداد، ووضعت ضمن قائمة الهاربين المطلوبين في مكتب التحقيقات الفيدرالي (نيلسون جورج، أنجلا ديفيس، النيويورك تايمز، 19 أكتوبر 2020م: http://www.nytimes.com/interactive/2020/10/19/t-magazine/angela-davis.html). بعد إلقاء القبض عليها، أمضت ثمانية عشر شهرًا في السجن قبل أن تحصل على البراءة في عام 1972م، وتعودُ تهمُ ديفيس إلى أنَّ أحدَ أشقاء النزيل، جوناثان جاكسون، استخدمَ أسلحةً ناريةً مسجلةً لديفيس في الهجوم على محكمة مقاطعة مارين، ممَّا أدَّى إلى وفاة أربعة أشخاص. قبل محاكمتها كانت "عالمةً بارزةً" ثم أصبحت "رمزًا دوليًّا للمقاومة"، وصورتها الأيقونية تزين الملصقات الثورية في جميع أنحاء العالم (المرجع السابق).
[55] ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص11.
[56] See generally Anthony B. Bradley, Ending Overcriminalization and Mass Incarceration: Hope from Civil Society (2018); see also Charles G. Koch and Mark V. Holden, The Danger of Putting So Many People in Prison, Chi. Trib., Jan. 28, 2015, http://www.chicagotribune.com/opinion/commentary/ct-overcriminalization-koch-congress-laws-perspec-01286-20150127-story.html
[57] تقول ديفيس صراحةً بأنَّها أصبحت ناشطةً مناهضةً لمنظومة السجن في أواخر الستينيات؛ ممَّا يعني أنَّ أفكارَها المتعلقة بإلغاء السجن كانت نتاجًا ثانويًّا لهذا النشاط. وليس من المستغرب أن تكونَ رؤيتها ضد السجون متجذرةً بقوة في العواقب الفعلية لمنظومة السجن، والظروف البالغة المحيطة بكل من يمرُّ بهذه التجربة (ديفيس، مرجع سابق، هامش 13، ص11).
[58] Joshua Dressler and Stephen Garvey, Criminal Law: Cases and Materials 32 (7th ed., 2016).
[59] ديفيس، مرجع سابق، هامش 9، ص99.
[60] المرجع السابق، ص100. لمعرفة أكثر حول قوانين العبودية، راجع:
Sally E. Hadden, Slave Patrols: Law and Violence in Virginia and the Carolinas (2003).
[61] ديفيس، مرجع سابق، هامش 9، ص100.
[62] المرجع السابق، ص105.
[63] المرجع السابق، ص24.
[64] المرجع السابق، ص25.
[65] المرجع السابق، ص11.
[66] المرجع السابق، ص88.
[67] المرجع السابق، ص89.
[68] المرجع السابق.
[69] المرجع السابق، ص92-93.
[70] المرجع السابق، ص16.
[71] المرجع السابق، ص17.