قراءة في كتاب «تطبيق ابن خلدون»

قراءات - كتاب تطبيق ابن خلدون

يمتاز الإرث الفكري لابن خلدون[1] بالفرادة من بين المؤرخين المسلمين، ومع ذلك لا يحظى بالتقدير الكبير في الشرق. فكثير من الباحثين المسلمين -بمن فيهم محمد عبد الله عنان ومحسن مهدي ومحمود داوودي- قد كتبوا عن الرجل بالإنجليزية؛ وكان تناولهم له إما تناولًا تاريخيًّا وإما تناولًا من منظور مقارن، غير أن أحدًا منهم لم يعرض نظريته بوصفها إطارًا صالحًا للتحليل السوسيولوجي اليوم كما فعل فريد العطاس في كتابه «تطبيق ابن خلدون».

وكتاب العطاس محاولة لإحياء أهمية ابن خلدون بوصفه مفكرًا اجتماعيًّا يقف على قدم المساواة مع أي عالِم اجتماع من العصر الحديث

وعبد الرحمن ابن خلدون (732-808هـ/1332-1406م) هو مؤرخ من العصور الوسطي، نشأ في شمال إفريقيا، ويُعَدُّ مؤسس علم الاجتماع. فقبل أن يطرح العلماء الأوروبيون في العصر الحديث -مثل آدم سميث (Adam Smith) وإميل دوركهايم (Émile Durkheim)- نظرياتهم التي صارت أساس علم الاجتماع، كان ابن خلدون رائدًا في طرح أفكار العصبية والتكافل وتقسيم العمل. ومع ذلك، ليس هناك إقرارٌ بإسهامه، وربما من أسباب ذلك نزعة المركزية الأوروبية والتحيز لها في النظام التعليمي الغربي السائد.

آدم سميث (Adam Smith) وإميل دوركهايم (Émile Durkheim)

ويرثي العطاس لتجاهل الدراسات السوسيولوجية ابنَ خلدون، مشيرًا إلى أن أشخاصًا مثل هاري بارنز (Harry Barnes)، في كتابه "علم الاجتماع قبل كونت" (Sociology before Comte)، المنشور عام 1917م، وهوارد بيكر (Howard Becker)، في كتابه "الفلسفة الاجتماعية في العصور القديمة والوسطى" (Ancient and Medieval Social Philosophy)، المنشور عام 1948م، قد اعتبرا -بسبب نظرتهما القائمة على المركزية الأوروبية- أن ابن خلدون يفتقر إلى العقلية التجريبية؛ لأنهما رأيا أنه ينسج عناصر خرافية في كتاباته. لكن العطاس يرى أن استشهاد ابن خلدون بالقرآن والسُّنة ليس إلا شيئًا ثانويًّا في نظريته حول التغيير الاجتماعي. وكتاب العطاس محاولة لإحياء أهمية ابن خلدون بوصفه مفكرًا اجتماعيًّا يقف على قدم المساواة مع أي عالِم اجتماع من العصر الحديث. يقول العطاس:

"إن أهميته -بوصفه مفكّرًا اجتماعيًّا- لا تكمُن في معالجته الشاملة لمجموعة واسعة من المواد، بل في معاملته الخاصة لهذه المادة؛ وبهذا الاعتبار، كان شديد الشَّبه بدوركهايم وڤيبر وغيرهما، فكان عقلَ إنسانٍ يسعى إلى أن يفهم لا أن يصنِّف العوامل الاجتماعية المعينة في حياة الإنسان وأفعاله" (ص96 من الترجمة العربية).

ومجددًا، سنرى أن كثيرًا من الباحثين والعلماء قد كتبوا عن ابن خلدون، ولكن أكثرهم يتعاملون معه بوصفه شخصية تاريخية أو يقدِّمونه بوصفه مجرَّد واحد من أسلاف المفكّرين الاجتماعيين في العصر الحديث. أما العطاس فيرى أن ابن خلدون ليس مجرد ظاهرة تاريخية، وإنما يقدِّم نظرية اجتماعية لا تزال قابلة للتطبيق اليوم. ويقول العطاس إن عددًا قليلًا من الدراسات قد "تجاوز… مجرَّد الوقوف عند مقارنة بعض الأفكار والتصورات عند ابن خلدون بالأفكار والتصورات عن المفكرين في الغرب الحديث، لتتجه نحو استكمال نظريته لتصبح إطارًا يستخدم بعض أدوات العلوم الاجتماعية الحديثة" (ص97).

وقد فشلت المحاولات المعاصرة لأسلمة العلوم الاجتماعية؛ لأن تركيزها على مدى العقود الأربعة الأخيرة انحصر في التوفيق بين الإسلام وبين فروع العلوم الاجتماعية، وكان التوجُّه العام عادةً هو إظهار أن القرآن قد اشتمل على حقائق علمية أو اجتماعية، أو أن تلك الحقائق قد أشار إليها بعض المفكرين والعلماء المسلمين الأوائل. ربما كان هذا النمط من المقارنات ذا أهمية للمؤرخين، ولكنه ينبع من إحساس بالدونية؛ لأن علماء من طبقة ابن خلدون ما زالوا يُعاملون على أنهم مادة للدراسة وليس بوصفهم علماء لهم نظرياتهم المستقلة التي لا بدَّ أن تؤخذ في الاعتبار. وقد تكون مقارنات من هذا النمط أيضًا مضلِّلة. فعلى سبيل المثال، يمكن لمحاولات إظهار أن نظرية ابن خلدون حول تقسيم العمل قد سبقت كلام آدم سميث عن المسألة أن تؤدي إلى إساءة فهم ابن خلدون وتصويره على أنه من المؤيدين الأوائل للنظام الرأسمالي. إلا أن الحقيقة تقول إنه كان يحلِّل المجتمع القَبَلي في شمال إفريقيا، لا اقتصاد السوق في أوروبا الحديثة.

وقد أعاد العطاس صياغة ابن خلدون ليكون نموذجًا في التحليل السوسيولوجي، لا لعصره وحده وإنما لعصرنا أيضًا.

فقد عاش ابن خلدون في مجتمعٍ قَبَليٍّ اتَّسم بالعصبية، وهي مسألة أساسية في فهم ما طرحه من "علم العمران" كما جاء في «المقدمة»، التي تُعَدُّ توصيفًا علميًّا للحياة الاقتصادية والاجتماعية في زمنه. وقد كانت لنظريته حول العصبية أصداؤها لدى العلماء العثمانيين الذين أشاروا إلى أوجه التشابه بين صعود الدول وسقوطها في شمال إفريقيا وبين صعود الدولة العثمانية وسقوطها. وهذه نقلة تتجاوز النظرة الكلاسيكية للمتصوفة، ومنهم الغزالي الذي يميل إلى تبنّي رؤية تجريدية حول السعادة الأخروية، وذلك على حساب الحقائق التجريبية القائمة في هذا العالم.

وليس كتاب «تطبيق ابن خلدون» الكتاب الوحيد لفريد العطاس؛ فقد كتب من قبل كتابًا بعنوان «ابن خلدون»، وهو أشبه بمقدمة حول الرجل ومنجزه العلمي. أما كتابه «تطبيق ابن خلدون» فيمثِّل إسهامًا أكثر جدةً من الناحية العلمية والأكاديمية، ويقدِّم عرضًا منهجيًّا للنظرية الاجتماعية لدى ابن خلدون، استنادًا إلى المصادر العربية الأولية، ومن بينها «المقدمة» باللغة العربية وترجمتها الإنجليزية التي أصدرها فرانز روزنثال (Franz Rosenthal). وقد أعاد العطاس صياغة ابن خلدون ليكون نموذجًا في التحليل السوسيولوجي، لا لعصره وحده وإنما لعصرنا أيضًا. ويُثبت في هذا الكتاب إمكانية تطبيق نظرية ابن خلدون على التاريخ العثماني والصفوي (في الفصلين السادس والسابع)، ويطبِّق هذه النظرية أيضًا لشرح صعود المملكة العربية السعودية في العصر الحديث.

غير أن العطاس لا يقول إن علينا اتباع ابن خلدون على غير هُدى وبشكل أعمى، وإنما يرى أننا بحاجة إلى التمييز بين المبادئ العامَّة لأفكاره وبين السياق القَبَلي الذي عاش فيه. فعلى سبيل المثال، كان للحِرف دورها المهم في تعضيد العصبية القبيلة وفي تشكيل الدول -التي أشرنا إليها آنفًا- وتراجُعها. ومع أن المؤلف لم يُقرّ بهذا على نحو واضح، فهناك نظام اقتصادي يكمُن في نظرية ابن خلدون يقوم على تطوير الحِرف والصنائع. وهذه الحِرف -التي تُنتج بعض السلع الكمالية- تعزز نمطَ حياةٍ يتَّسم بالبذخ، وهو ما يؤدي إلى إضعاف رابطة العصبية وانحطاط الدولة (الفصل الثاني).

وفيما يتصل بتطبيق [نظريات] ابن خلدون في العصور القديمة، قدَّم المؤلف مثالَ بيري زاده محمد صاحب أفندي (1085-1162هـ/1674-1749م)، الذي وظَّف نظرية ابن خلدون لتبرير دعوى العثمانيين أحقيتهم في الخلافة. ورأى أن الحديث النبوي الذي يقول إن الخلافة في قريش لم يعُد صالحًا [في زمانه]. وقد كان منظور ابن خلدون منظورًا سوسيولوجيًّا، يشرح تراجع دور قريش من جهة فقدانها للعصبية.

وربما كان الفصل التاسع هو الفصل الأساسي في الكتاب، وفيه يدعو العطاس إلى علم اجتماع خلدوني للدولة، ويوضِّح الحاجة إلى إدراج ابن خلدون في مقررات علم الاجتماع، ليس فقط بوصفه شخصية تاريخية، وإنما أيضًا بوصفه منظرًا وثيق الصلة بالتحليل السوسيولوجي المعاصر. وبحسب العطاس، يقرّ بيكر وبارنز بالفعل بأن ابن خلدون هو "أول مَن طبَّق أفكارًا تشبه الأفكار الحديثة في علم الاجتماع التاريخي" (ص278). ولا يقول المؤلف إن ابن خلدون ينبغي أن يحلَّ محلَّ النظريات الاجتماعية الغربية، وإنما ينبغي أن يكون له موضع بجوار المفكرين الاجتماعيين الآخرين بمناهج علم الاجتماع في الجامعات الحديثة. وعلاوةً على ذلك، ينبغي إدراج مفاهيمه في علم الاجتماع الحديث وأن تُطبَّق في السياقات الحديثة.

وبعكس الكتب الأخرى حول ابن خلدون، يتجاوز العطاس مرحلة المقارنة؛ فيحاول صياغة علم اجتماع خلدوني حديث وتطبيقه في تحليل الدول في مرحلة ما قبل الحداثة (مثل الدولة العثمانية) والدول الحديثة (مثل سوريا والمملكة العربية السعودية). ومفهوم العصبية مفهوم سوسيولوجي حتمًا؛ لأنه يتعلَّق بالتماسك الاجتماعي القائم على معرفة صلات النَّسَب المشترك. لكن المؤلف يرى أن نظرية ابن خلدون "تفتقر إلى فكرة النظام الاقتصادي". ولذا فإن المؤلف يحاول "وضع أساس اقتصادي لنظرية ابن خلدون عن تكوين الدولة، عن طريق إدخال إطار أنماط الإنتاج في نظريته" (ص279).

الدولة العثمانية

وهذا الإدماج لابن خلدون في علم الاجتماع الحديث ليس مجرَّد تطبيق عملي في المسوح التاريخية، وإنما يمثل أيضًا محاولة لإدماجه على المستوى النظري: "يمكن القول بأنَّ عمل ابن خلدون كان دراسةً لنمط التاريخ وإيقاعه، في حين أن إطار أنماط الإنتاج كان يركِّز على أنماط الإنتاج لدراسة القوى الدافعة للتاريخ" (ص282). ويسعى العطاس إلى تقديم قراءة لنظرية ابن خلدون حول تكوين الدول، لا بوصفها مادةً للدراسة فحسب وإنما بوصفها مادة نظرية؛ وليس مقصوده بهذا أن تحلَّ محلَّ أية نظرية أخرى، وإنما الإضافة إلى التنوع النظري القائم:

"ليس الهدف من هذا المشروع إحلال المقولات والمفاهيم العربية والإسلامية محلَّ الأوروبية، وإنما الهدف إثراء العلوم الاجتماعية، بإتاحة مجموعة واسعة من الأفكار والرؤى" (ص288).

هذه نقطة مهمة في ضوء الدعوات الأخيرة لتفكيك الرؤى الاستعمارية وتحرير النظام التعليمي في جنوب إفريقيا منها، حيث تميل بعض العناصر ضمن الحركة الداعية لهذا الأمر إلى الرجعية، فنجد لديها محاولات استبدال نظام تعليمي يتمركز حول الهوية الإفريقية بالنظام التعليمي ذي النزعة المركزية الأوروبية. ولا يتفق العطاس مع هذا النمط من التفاعل مع المركزية الأوروبية، إضافةً إلى أنه لا يرى من الكافي مجرَّد إضافة ابن خلدون إلى مناهج العلوم الاجتماعية؛ وإنما يريد منا الانفتاح على النظريات المعرفية لدى الجنوب العالمي، وتقويم الاعوجاج والظلم المعرفي والفشل في إدراك أن هناك طرقًا مختلفة في تحصيل المعرفة:

"ليست المشكلة في إغفال ذِكر ابن خلدون، بل المشكلة أنه لا تُنظَر إليه نظرة غير متأثرة بنزعة المركزية الأوروبية، أي من حيثُ كونه ذاتًا عالمةً وواضعًا لمفاهيمَ ومقولاتٍ للعلوم الاجتماعية. وتظلُّ تلك النزعة -إلى حدٍّ كبيرٍ- هي التوجُّه المهيمن، بسبب طبيعة مناهج علم الاجتماع الدراسية" (ص289).

وهكذا، يفتح العطاس آفاقًا جديدة للتعدُّدية المعرفية، ويطرح مقاربةً متعدِّدة الثقافات في تدريس علم الاجتماع، وهي مقاربة تسمح بالتنوع بدلًا من الاقتصار على تلك المقاربة السائدة التي تنزع إلى المركزية الأوروبية. وإذا كان هناك مثل هذا التنوع وعُقدت المقارنات مع النظريات الغربية، يمكن للطلاب تبنّي مقاربة أكثر نقديةً نحو النظريات الأوروبية التي طرحها أمثال ماركس وڤيبر ودوركهايم، لا أن ينساقوا وراءها على غير هدى (ص290). ومن الواضح أن الدراسات السوسيولوجية ينبغي أن تعمل على تنمية مَلَكة التفكير النقدي لدى الطلاب، ولكن هذا لا يتحقَّق إلا إذا تعرَّضوا لطائفة واسعة من النظريات. ومن العقبات البارزة أمام التعدُّدية الثقافية في إفريقيا وآسيا ذلك التحيز في العلوم الاجتماعية، الناجم عن المركزية الأوروبية، ومن سُبل التغلُّب على تلك العقبة تنمية الإحساس بالتعدُّدية الثقافية لدى الطلاب (ص292).

إن كثيرًا من المفكّرين الذين يتبنَّون فكرة تفكيك الرؤية الاستعمارية يعملون أساسًا في الأكاديميا الأوروبية والأمريكية، ولكن العطاس أحد الباحثين القلائل القادمين من الشرق الأقصى، ويعمل على تسليط الضوء على عالم اجتماع من شمال إفريقيا عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وهكذا، فإن كتاب «تطبيق ابن خلدون» إسهام مهم في مجال علم الاجتماع، ويناسب أي مساقٍ من مساقات العلوم الاجتماعية يسعى إلى تبنّي مقاربة متعدِّدة الثقافات.

 

الهامش

[1] منشورة بالعدد الثاني من المجلد 36 من المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية (The American Journal of Islamic Social Sciences).

 

الكلمات الدلالية