ابن خلدون بين رجال الدولة والعلماء العثمانيين

ابن خلدون بين رجال الدولة والعلماء العثمانيين

يجب الانتباه إلى المفارقة بين الاهتمام الفعَّال لرجال الدولة العثمانية وعلمائها بابن خلدون، وغياب ذلك الاهتمام إلى حدٍّ كبيرٍ بين العرب والإيرانيين وغيرهم من المسلمين في تلك الحقبة. وقد كان اهتمام العثمانيين بابن خلدون اهتمامًا عمليًّا.

ابن خلدون

رسم تخيلي لابن خلدون

كان أوَّل عالم عثماني يستخدم ابن خلدون على نحوٍ منهجيٍّ هو حاجي خليفة (ت: 1657م)، وهو مؤلِّف غزير الإنتاج، حيث ألَّف نحو واحد وعشرين عملًا في التاريخ والتراجم والجغرافيا[1].وقد أورد حاجي خليفة مقدمة ابن خلدون في كتابه الببليوغرافي "كشف الظنون"، كما ناقش أسباب العجز المالي للدولة وطرق علاجه في رسالته عن الإصلاح[2]، حيث نظر إلى التاريخ العثماني من رؤية ابن خلدون النظرية الدورية لصعود الدول وسقوطها[3].

ثم جاء بعد حاجي خليفة المؤرخ العثماني مصطفى نعيمة (ت: 1716م)، الذي تأثَّر كثيرًا بابن خلدون وبحاجي خليفة. وفي كتابه التاريخي المسمَّى "تاريخ نعيمة"، أشار مصطفى نعيمة إلى نظرية ابن خلدون الدورية عن صعود الدول وسقوطها، والتقابل بين المجتمعات البدوية والحضرية[4]. وقد تبنَّى مصطفى نعيمة فكرة دائرة العدالة[5]، أي المبادئ المترابطة للحكم الصالح. وهذه هي دائرة العدالة التي ذكرها نعيمة:

1- لا مُلك ولا دولة إلَّا بجيش ورجال.

2- ولا جيش ولا رجال إلَّا بالمال.

3- ولا مال إلَّا من الرعيَّة.

4- ولا يمكن أن تزدهر الرعيَّة إلَّا بالعدل.

5- ولا عدل إلَّا بالمُلك والدولة.

وبعبارة أخرى، فإنَّ إغلاق هذه الدائرة يقتضي أنَّه لا عدل إلَّا بالجيش والرجال. وكما يلاحظ لويس توماس، فقد عملت تلك الدائرة على تسويغ ضرورة الإصلاحات الداخلية للوزير العثماني حسين كوبريللي، من أجل حماية الدولة من أعدائها الأوروبيين[6]. وقد أخذ مصطفى نعيمة فكرة دائرة العدالة من كتاب قنالو زاده علي جلبي الشهير "أخلاق علائي"، الذي أخذها عن ابن خلدون كما قال نعيمة[7]. لكنَّ فلايشر يذكر أنه لا دليل على أن قنالو زاده قد قرأ ابن خلدون، وأنَّ فكرة دائرة العدالة كانت معروفةً في الأعمال الأخرى المتوفرة لقنالو زاده. وفي رأيي، فليس من المهم معرفة المصدر الذي أخذ منه قنالو زاده دائرة العدالة، وإنما المهم هو فهم السياقات النظرية المختلفة، التي فهم فيها ابن خلدون والعلماء العثمانيون تلك الدائرة.

تمثال أرسطو

تمثال أرسطو

ويشير ابن خلدون نفسُه إلى ثماني جملٍ للحكمة السياسية، مرتَّبة حول محيط دائرة، ونَسَبها إلى "كتاب السياسة" المنسوب إلى أرسطو[8]. وهذه الأصول الثمانية هي:

1- المُلك نظامٌ يَعْضُده الجند.

2- والجند أعوانٌ يكفَلُهم المال.

3- والمال رزقٌ تجمعُه الرعيَّة.

4- والرعيَّة عبيدٌ يَكْنُفُهم العدلُ.

5- والعدل مألوفٌ وبه قِوامُ العالَم.

6- والعالم بستانٌ سِياجُه الدولةُ.

7- والدولة سلطانٌ تَحْيَا به السُّنة.

8- والسُّنة سياسةٌ يَسوسُها المُلك[9].

لكنَّ ابن خلدون يذكر بعد ذلك أنَّ "كتاب السياسة" غير مُسْتَوْفٍ، ولا معطًى حقّه من البراهين[10].

ويقول ابن خلدون:

«وأنت إذا تأمَّلتَ كلامَنا في فصل المُلك والدول، وأعطيته حقّه من التصفُّح والتفهُّم، عثرتَ في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفًى مُبيَّنًا بأوعب بيان، وأوضح دليلٍ وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة المُوبَذان»[11].

ولا شكَّ أنَّ مقدمة كتاب العِبر لابن خلدون دراسةٌ تفصيليةٌ لصعود الدول وسقوطها، تقوم على عمل ثلاثة أنواعٍ رئيسة من السلطة: الخلافة والمُلك الطبيعي والمُلك السياسي، وتفاعلها مع نوعي المجتمعات والطرق الرئيسة لكسبِ المعاش في تلك المجتمعات. وهذا يختلف عن أعمال قنالو زاده ومصطفى نعيمة، التي كانت وصفيةً إرشاديةً أكثر من كونها متعلِّقةً بالنظريات والمفاهيم.

قامت أطروحة ابن خلدون على أنَّ المجموعات ذات العصبية الأقوى تتمكَّن من إقامة الحكم السياسي وفرضه على المجموعات ذات العصبية الأضعف.

وبمجيء القرن الثامن عشر، أصبح فكر ابن خلدون مقبولًا معترفًا به في الدوائر العثمانية؛ لأنه قدَّم إطارًا يفسِّر انهيار الدولة العثمانية، فكان يقال إن الإمبراطورية العثمانية كانت في مرحلة «الركود والانحطاط» عند ابن خلدون. وكما رأينا في الفصل الثاني، فقد كان الشاغل الرئيس في مقدمة ابن خلدون هو صعود الدول الإسلامية المختلفة وسقوطها، ولا سيما دول شمال أفريقيا. وقد ركَّز ابن خلدون على ما رأى أنه اختلافاتٌ جوهريَّة في التكوين الاجتماعي بين العمرانِ البدوي والعمرانِ الحضري. وبعد وضعِه لنظريته عن الاختلافات في التنظيم الاجتماعي بين هذين النوعَيْن من المجتمعات، ميَّز بين أنواع السلطة، وطبيعة القوة التي قد تكون موجودةً في المجتمعات الحضرية. وقد تتعايش المجتمعات البدوية والحضرية جنبًا إلى جنب، لكنَّ ابن خلدون رأى أن المجتمعات البدوية تتطوَّر تطورًا طبيعيًّا لتصبح حضريةً، وهذا لا يعني أن أحدهما يفسح المجالَ للآخر، بل يعني أنَّ هدف الحياة البدوية هو تحقيقُ المجتمع الحضري وكل ما يترتَّب على ذلك، مثل ثقافته ونمط حياته المترف[12]. ومن الأمور المركزية في فهم تلك الاختلافات مفهومُ العصبية. فقد قامت أطروحة ابن خلدون على أنَّ المجموعات ذات العصبية الأقوى تتمكَّن من إقامة الحكم السياسي وفرضه على المجموعات ذات العصبية الأضعف[13]. وكان ابن خلدون يشير بالقطع إلى المجموعات القَبَليَّة التي للعصبية فيها معنًى محدَّد، وهو الشعور بالتلاحم والتضامن بين أفراد المجموعة، المستمدّ من علمهم بأنهم يشتركون في نَسَبٍ واحدٍ. وكان يُعتقد أن عصبية البدو أقوى من غيرهم، فمكَّنهم ذلك من هزيمة أهل الحضر المقيمين في المناطق الحضرية وما حولها عسكريًّا ومعنويًّا، وإقامة دولتهم بدلًا منهم.

ولتفوُّق عصبية البدو على غيرهم، تمكَّنوا من هزيمة أهل الحضر في المناطق الحضرية وإقامة دولتهم وحكمهم. ثمَّ استقروا بعد ذلك وانغمسوا في أساليب الحياة الحضرية، فشهدوا تراجعًا وضعفًا كبيرًا في عصبيتهم. وبذلك ذهبت قوتُهم العسكرية وقدرتُهم على الحكم، فجعلهم هذا عرضةً لهجوم الغازين الجُدد من المجتمعات البدوية غير الحضرية، الذين كانت عصبيتهم أقوى من العصبية التي ضعفت بعد تحضُّرها. لكنَّ العلاقة هنا ليست علاقة سيطرة القبائل على المدن، بل هي علاقة هيمنة في الاتجاه الآخر، ولها جانبان مهمَّان: الأول هو أنَّ طبيعة حياة رجال القبائل تجعلهم معتمدين على المدن في ضروريات الحياة[14]، والثاني هو أنَّ القبائل تعتمد على زعيمٍ دينيٍّ أو وليٍّ صالحٍ يفسِّر الدين لها، وهذا الولي نفسه يكون مدفوعًا بالعصيان والفسوق الذي نشأ في المناطق الحضرية نتيجةً لحياة الترف والتجاوزات السياسية التي يقع فيها سكَّان المدينة.

وبذلك تعيد الدورة نفسها، فتنتصر إحدى القبائل على الدولة، وتؤسِّس دولةً جديدةً وتحكمها، حتى يطيح بها زعيم دينيٌّ ذو عقلية إصلاحية يحظى بدعم القبائل التوَّاقة إلى الاستفادة من المدينة، ثم تكون حياة الترف في المدينة هي السبب الرئيس لظهور الانحطاط والمعاصي وضعف العصبية[15]، وهنا تظهر أهمية الزعيم الديني الذي يستطيع توحيد القبائل البدوية غير الحضرية.

يُعَدُّ أخذ العثمانيين بأفكار ابن خلدون أمرًا مثيرًا للاهتمام؛ لأنَّه يقدِّم لنا مثالًا لقراءة نادرة لابن خلدون، ليس لأنها قراءة لا تحمل نزعة المركزية الأوروبية فقط، بل لأنها قراءة سابقة على تلك النزعة.

كان العلماء العثمانيون -مثل حاجي خليفة ومصطفى نعيمة- يعتقدون أنَّ الدولة العثمانية دخلت في مرحلة الركود وتتوجَّه نحو السقوط والانحطاط، فكانوا مهتمِّين بالإصلاحات المؤسسية والإدارية، التي قد تُوقف التدهورَ أو تقلب اتجاهَه[16]. ويُعَدُّ أخذ العثمانيين بأفكار ابن خلدون أمرًا مثيرًا للاهتمام؛ لأنَّه يقدِّم لنا مثالًا لقراءة نادرة لابن خلدون، ليس لأنها قراءة لا تحمل نزعة المركزية الأوروبية فقط، بل لأنها قراءة سابقة على تلك النزعة. ولكن من الصحيح أيضًا أن قراءتهم لابن خلدون كانت معياريةً وأيديولوجيةً بوجهٍ عام، فقد استشهدوا بما يُسمَّى بدائرة العدالة لتسويغ الإصلاحات الموضوعة لتقوية السلطة الملكيَّة، ومن الآليات المستخدمة في ذلك: "القانون" (Ḳānūn)، الذي سمح بتعليق العمل بالقوانين المستمدَّة من الشريعة. وقد استخدم السلاطين العثمانيون هذه الآلية حصرًا للحكم والقيام بالإصلاحات التي ربما كانت الشريعة تعيقها في غياب ذلك القانون، فكانوا ينظرون إليه على أنَّه طريقة لتنفيذ القوانين اللازمة للإصلاح دون مخالفةٍ للشريعة[17].

 السلطان عبد الحميد الثاني

 السلطان عبد الحميد الثاني

واستخدم العثمانيون ابن خلدون أيضًا في تسويغ ادعائهم للخلافة، ففي عهد السلطان عبد الحميد الثاني (الذي حكم بين عامي 1876 و1909م)، ظهرت بعض المعارضة للخلافة العثمانية بين البريطانيين والعرب[18]. فكانت دعوى الخلافة التي ادعاها عبد الحميد تستند إلى ثلاثة مبادئ: الإرادة الإلهية، وحق الوراثة، والقوة السياسية والعسكرية. وهذه هي المبادئ التقليدية التي يعترف بها الغالبية العظمى من المسلمين، ومن بينهم فقهاء وعلماء بارزون، مثل ابن خلدون وجلال الدين الدواني[19]. ولكن من الاعتراضات التي وُجِّهت إليه اعتراضٌ يستند إلى الحديث النبوي المُختلَف فيه، الذي ينصُّ على أن تظلَّ الخلافة في قبيلة النبي ﷺ، أي قريش، والذي رواه البخاري عن الزهري:

«كان محمَّد بن جُبير بن مُطْعِم يحدِّث أنه بلغ معاويةَ -وهو عنده في وفدٍ من قريش- أنَّ عبد الله بن عمرو يحدِّث أنه سيكون مَلِكٌ من قحطان، فغضب، فقام فأثَنَى على الله بما هو أَهْلُه، ثم قال: أمَّا بعد، فإنه بلغني أنَّ رجالًا منكم يحدِّثون أحاديثَ ليست في كتاب الله، ولا تُؤثَر عن رسول الله ﷺ، وأولئك جُهَّالُكُم، فإيَّاكم والأَمَانيَّ التي تُضِلُّ أهلَها، فإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "إنَّ هذا الأمر في قريشٍ لا يعاديهم أحدٌ إلَّا كَبَّهُ الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدِّينَ"»[20].

وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العلماء ورجال الدولة من العرب والبريطانيين يذكرون ما ادعوا أنه يثبت عدم شرعية خلافة العثمانيين، وهي الدعوى التي أقاموها على الحديث السابق[21]. وبسبب انتشار ذلك الرأي -أنَّ الخلافة يجب أن تكون في يد العرب وفي قريشٍ قبيلة النبي ﷺ خاصةً- بدأت محاولات العثمانيين لتبرير موقفهم من الخلافة. وحتى قبل ظهور ذلك التحدي أمام عبد الحميد، سعى بيري زاده محمد صاحب (1674-1749م) -الذي شرع في ترجمة مقدمة ابن خلدون إلى اللغة التركية العثمانية وتأثَّر بأفكار ابن خلدون كثيرًا- إلى تصحيح دعوى العثمانيين للخلافة، عن طريق القول بأنَّ اشتراط القرشية في الخلافة لم يعُد صالحًا في زمانهم. فقد كان هذا الشرط صالحًا في حقبة الخلفاء الراشدين فقط، أمَّا الحكَّام المسلمون اللاحقون فيمكنهم التلقُّب بالخلافة، ما داموا يقومون بوظائف هذا المنصب[22]. فقد أخذ بهذه الوظيفة في الواقع غير القرشيين، ويجب اعتقاد شرعية حكمهم. وقد قال ابن خلدون عن قريش نفسِها:

«لـمَّا ضَعُف أمرُ قريش وتلاشَتْ عصبيتُهم بما نالهم من التَّرف والنعيم، وبما أنفَقَتْهم الدولةُ في سائر أقطار الأرض، عجزوا لذلك عن حمل الخلافة، وتغلَّبت عليهم الأعاجمُ، وصار الحلُّ والعقد لهم؛ فاشتبه ذلك على كثيرٍ من المحققين، حتى ذهبوا إلى نَفْيِ اشتراط القُرشيَّة»[23].

وخلافًا لهذه الحقيقة التاريخية، بقي جمهور العلماء على القول باشتراط القرشية وصحَّة الإمامة للقرشي ولو كان عاجزًا عن القيام بأمور المسلمين[24]. وقد كانت حجَّة ابن خلدون حجَّةً اجتماعيةً وأكثر عقلانيةً ممَّن سبقوه، فقد سعى إلى التمييز بين السياقات الاجتماعية التي يكون اشتراط القرشية فيها أمرًا معقولًا من السياقات الأخرى التي ليست كذلك:

«وإذا ثبت أنَّ اشتراط القُرشيَّة إنما هو لرفعِ التنازع بما كان لهم من العصبيَّة والغَلَب، وعَلِمْنا أنَّ الشارع لا يخصُّ الأحكام بجيلٍ ولا عصرٍ ولا أُمَّة؛ عَلِمْنا أنَّ ذلك إنما هو من الكفاية، فرَدَدْناه إليها وطَرَدنا العِلَّةَ المشتملةَ على المقصود من القُرشيَّة، وهو وجود العصبيَّة. فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قومٍ أُولي عصبيةٍ قويةٍ غالبةٍ على مَنْ معها لعَصْرِها، لِيَستَتبعوا مَنْ سواهم، وتجتمع الكلمةُ على حُسْنِ الحماية. ولا يعمُّ ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية؛ إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامَّةً، وعصبيةُ العرب كان وافيةً بها، فغلبوا سائرَ الأُمم. وإنما نَخُصُّ لهذا العهد كلَّ قُطْرٍ بمن تكون له فيه العصبية الغالِبة»[25].

لقد كانت حجَّة ابن خلدون حجةً اجتماعيةً في الواقع؛ إذ ذكر أن شرط القرشية يدخل في باب الكفاءة أو الكفاية، فإذا قيل بأنَّه من الشروط الضرورية للخليفة أن يكون من قومٍ لهم عصبية غالبة، كي تتبعهم المجموعات الأخرى، فقد لا تفي قريش بهذا الشرط دائمًا[26]. ثمَّ أخذ بهذه الحجَّة لاحقًا علماءُ القرن التاسع عشر، ومن بينهم جودت باشا، الذي أكمل الترجمة التركية العثمانية لمقدمة ابن خلدون، التي شرع فيها بيري زاده محمد صاحب[27].

التزم العثمانيون أيضًا بالفتوى التي تصرِّح بأنَّ نصب الخليفتَيْن لا يجوز إلَّا إذا كان يفصل بينهما حاجزٌ جغرافيٌّ كبيرٌ.

ومن القضايا الأخرى التي أحاطت بالخلافة: مسألة جواز نصب خليفتَيْن. ففي عام 1726م، أرسل الأفغان وفدًا إلى إسطنبول، لمطالبة السلطان العثماني بقبول وجود خليفتَيْن، فاعترض العثمانيون على ذلك استدلالًا بالحديث الذي فيه عدم جواز تعيين خليفتَيْن[28]، والتزم العثمانيون أيضًا بالفتوى التي تصرِّح بأنَّ نصب الخليفتَيْن لا يجوز إلَّا إذا كان يفصل بينهما حاجزٌ جغرافيٌّ كبيرٌ -مثل المحيط الهندي- يجعل من التداخل بينهما في الشؤون الداخلية أمرًا صعبًا[29]. وقد استفاد بيري زاده هنا أيضًا من موقف ابن خلدون المُعارِض لفكرة وجود خليفتَيْن.

لكن ما كان ينقص الخطاب العثماني الذي أخذ بأفكار ابن خلدون هو التطبيق المنهجي لنظرية ابن خلدون على طريقة علم الاجتماع الوضعية، لتفسير صعود الدول وسقوطها، مع الإشارة إلى الحقائق التاريخية للحالة العثمانية. فكان تطبيق نظرية ابن خلدون سيؤدي إلى البحث عن المظاهر الملموسة للاتحاد الذي جمع بين عصبيات القبائل التركية التي شكَّلت القوة العسكرية لصعود العثمانيين، وكذلك لتلاشي العصبية بسبب التغيُّرات التي طرأت على أنظمة حيازة الأراضي. فعلى سبيل المثال، يمكن القول إنَّ إقطاع الأراضي في نظام التيمار العثماني لزعماء القبائل كان له أثرٌ في خلقِ فجوة اقتصادية وأخلاقية بين الزعماء ورجال قبائلهم، وهذا أثَّر بدوره في عصبيتهم. وبعبارة أخرى، يمكن مناقشة مراحل النمو والانحلال التي تمرُّ بها الدولة في نظرية ابن خلدون في سياق انتقال رجال القبائل الفاتحين من نمط الإنتاج البدوي الرعوي إلى نمطٍ يقوم على إقطاع المنفعة.


الهوامش

[1] Gökyay, “Kâtib Celebi”.

[2] حاجي خليفة، "دستور العمل لإصلاح الخلل".

[3] Fleischer, “Royal Authority, Dynastic Cyclism, and ‘Ibn Khaldunism’”, 199.

[4] Fleischer, “Royal Authority, Dynastic Cyclism, and ‘Ibn Khaldunism’”, 200.

[5] وتُسمَّى أيضًا دائرة السياسة، وهي منسوبة إلى أرسطو. (المترجم)

[6] Thomas, ₍A Study of Naima₎, 78.

[7] Thomas, ₍A Study of Naima₎, 78.

[8] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص58-59.

[9] قنالو زاده، أخلاق علائي، نقلًا عن:

Fleischer, “Royal Authority, Dynastic Cyclism, and ‘Ibn Khaldunism’”, 201.

[10] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص58.

[11] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص59.

[12] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الثاني، ص226.

[13] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص226، 259.

[14] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص253-254.

[15] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص226-227، 290-293.

[16] Fleischer, “Royal Authority, Dynastic Cyclism, and ‘Ibn Khaldunism’”, 200.

[17] Fleischer, “Royal Authority, Dynastic Cyclism, and ‘Ibn Khaldunism’”, 202.

[18] Buzpınar, “Opposition to the Ottoman Caliphate”.

[19] Buzpınar, “Opposition to the Ottoman Caliphate”, 59-61, 63.

[20] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب: الأمراء من قريش.

[21] Buzpınar, “Opposition to the Ottoman Caliphate”, 56-66, 69-72.

[22] Buzpınar, “The Question of Caliphate”, 29.

[23] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص334.

[24] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص335.

[25] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص336-337.

[26] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص336-337.

[27] Buzpınar, “The Question of Caliphate”, 29.

[28] ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، ص332؛

Buzpınar, “Osmanlı Hilâfet”, 4.

وأودُّ أن أشكر طوفان بوزبنار لقيامه بترجمة الفقرات المطلوبة من مقاله عند لقائنا في إسطنبول في 22 فبراير عام 2006م.

[29] Buzpınar, “Osmanlı Hilâfet”, 4.