نظرية الحق: دراسة في أسس فلسفة القانون والحق الإسلامية

نظرية الحق دراسة في أسس فلسفة القانون والحق الإسلامية

يمثِّل هذا الكتاب حلقةً جديدةً في سلسة الجدال الناتج عن حضور العلوم الدينية الإسلامية داخل كلية الآداب بجامعة القاهرة[1]؛ بسبب الموقف النقدي – غير المعتاد – في دراسة هذه العلوم. صدر الكتاب عام 2016، للمؤلف كريم الصياد، المدرس بقسم الفلسفة، بكلية الآداب، جامعة القاهرة[2]. وجاء الكتاب في قطع متوسط، في 363 صفحةً، وصدرت الطبعة الأولى عن مركز الكتاب للنشر في القاهرة، بمقدمةٍ من أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة حسن حنفي.

كريم الصياد

كريم الصياد

يتلخَّص همُّ الكتاب المعرفي في استكشاف مدى وجود نظرية للحقوق الإنسانية الطبيعية في أصول الفقه الإسلامي، الذي يرى فيه الباحث مكافئًا نسبيًّا لفلسفة القانون، بجانب ارتباطه بالتشريع الإسلامي، مما يعني ارتباطه بالواقع. نبع اهتمام المؤلِّف بهذه القضية من انشغاله بقضايا الإصلاح والتغيير في العالم العربي-الإسلامي. ويؤمن المؤلِّف بأن إصلاح حال العالم الإسلامي لن يتمَّ باستبعاد العلوم الدينية مثلما يفعل كثيرٌ من المفكِّرين العلمانيين، أو الدرس التقليدي لهذه العلوم، والذي لا يضيف جديدًا، ولا يبحث عن حلٍّ لمشكلات الواقع، ولا يضيف للعلم سوى مزيدٍ من التكرار. وتأتي أهمية الكتاب من موضوعه، وارتباطه بواقع العالم الإسلامي.

اتبع الكتاب تقسيم الرسائل الأكاديمية، فتكوَّن من المقدمات[3]، وعرض الموضوع وأهميته، ثم نقد دراسات حقوق الإنسان الحديثة في الإسلام. وبعد ذلك، تحدَّث الكاتب عن غياب مفهوم الحق الطبيعي في علم أصول الفقه، والسؤال عن ذلك هو عماد الأطروحة. من الملاحظ اتخاذ الباحث موقفًا أوليًّا بالإقرار بغياب الحقوق الطبيعية للإنسان في علم أصول الفقه، وهذا الموقف ليس انسياقًا وراء موقفٍ أيديولوجيٍّ – فالباحث يتبرَّأ من خلط الأيديولوجيا بالمنهج – بل هو استقراء أوليٌّ للعلم[4].

انتقل الباحث بعد ذلك إلى عرض أسئلة البحث وفروضه، ثم المنهج المستخدم. ثم عقد بابين كبيرين:

الأول بعنوان: "تطوُّر نظرية الحق"، وفيه يستقصي علامات ظهور نظرية الحق ودلائلها عبر تاريخ أصول الفقه، منذ نشأته حتى الوقت الراهن، وكيف ظهرت؟ وارتباط ذلك بمبدأ الحق الطبيعي. ويستخدم لذلك المنهج التاريخي.

وفي الباب الثاني بعنوان: "بنية نظرية الحق"، يقوم الباحث بتشريح النتائج التي توصل إليها وتحليلها للكشف عن البنى الثابتة في النظرية، وتشريح ذلك باستخدام المنهج البنيوي. ثم يبحث علاقة مبحث الحق في أصول الفقه بنظيره في فلسفة القانون، من خلال استعمال المنهج المقارن.

ثم يصل بعد ذلك إلى الختام، ويعرض أهمَّ النتائج والأسباب التي عاقت التوصُّل إلى نظرية طبيعية في الحقوق الإنسانية، ويتحدَّث عن إشكالية حقوق الإنسان في الفكر التشريعي الإسلامي، ويقدِّم رؤيته للخروج من الأزمة. وقبل أن ينتهي يقدِّم الباحث نقدًا ذاتيًّا لدراسته، وردوده على ذلك. ثم يختتم بقائمة المصادر والمراجع.

التتبُّع التاريخي لنظرية الحق

إن نفي الباحث لوجود تنظيرٍ عن الحقوق الطبيعية للإنسان في أصول الفقه لا يعني عدم وجود نظريةٍ للحق، فالنظرية موجودةٌ لكنها لم تتأسَّس على الحق الطبيعي الذي يضمن استقلال الحقوق الإنسانية، ويسمح بالبناء عليها، وتطويرها لتأصيل الحق الطبيعي.

خصَّص الكاتب البابَ الأول لتقصي وجود نظرية الحق وغيابها في أصول الفقه، منذ العمل التأسيسي الأول للشافعي، في كتابيه "الرسالة" و"الأم"، حتى عدد من المعاصرين. وقد اتبع الصياد منهجًا في التتبع التاريخي يقوم على مستويين من الرصد: الأول استقصاء الظهور المباشر للنظرية، والثاني استقصاء الموضوعات ذات الصلة؛ وهي كما يرى الباحث: "إمَّا عوامل لنشأتها أو تطويرها من النواحي المنهجية أو النظرية، أو تطبيقات لها حين تستقر النظرية"[5].

وهذه الموضوعات هي:

1- التعليل ومباحث العلَّة: وهي قضية تعليل الأحكام الشرعية، ويتفرع عنها موقفان: الأول إيجابيٌّ، يؤمن بقدرة العقل على الوصول إلى علل التشريع الإلهي البعيدة؛ ويعني ذلك ارتباط التشريع بالحياة الإنسانية، مما يسمح بتأسيس الأصول على الحقوق الإنسانية، التي قد تكون علةً عُليا. والثاني سلبيٌّ، يرفض مبدأ العلَّة بالكلية، أو يربط التعليل بعللٍ أخروية، يكون الأساس فيها هو النص أو الأمر الإلهي، بما لا يسمح بوجود استقلالٍ للحقوق الإنسانية عن الشارع.

2- التحسين والتقبيح العقليان: ويبحث مسألة قدرة العقل البشري على استنباط الحكم الشرعي قبل الشرع وقبل الحكم، وذلك بناءً على قيمٍ أخلاقية وقانونية مستنبطة من الواقع والعقل البشري. ويشي الموقف الإيجابي بوجود نظرية الحق، من خلال الاعتراف بالشخصية القانونية للإنسان، ويعبِّر الموقف السلبي عن الغياب.

3- تعريف الحق: هناك ثلاثة استعمالات لمفهوم الحق في أصول الفقه وهي: الحق كاسمٍ دالٍّ على الوجود أو الله (الأنطولوجي)، والحق كتعبيرٍ عن الصدق المعرفي (المعرفي/النظري)، والحق كتعبيرٍ عن النصيب أو الملكيَّة (القيمي).

 فإذا كان تعريف الحق في أحد المصنفات جامعًا للمعاني الثلاثة، دلَّ هذا على وضوح المفهوم نظريًّا، وحضور نظرية الحق، والعكس بالعكس. فقد يغلب الحق الأنطولوجي على النظرية، وتصير الحقوق الإنسانية مؤسسةً عليه؛ مما يعني غياب نظرية طبيعية للحق. أما إذا استقلَّت الحقوق الإنسانية عن الحق الإلهي، فيدلُّ ذلك على حضورٍ أكبر للنظرية.

4- مسألة جواز إسقاط الحق بين الله والإنسان: في بعض المصنفات الأصولية طُرحت مسألة جواز إسقاط الحق الإلهي مقابل الحق الإنساني، ويدلُّ هذا على حضور التصوُّر النظري عن الحق، ويفتح الباب أمام إمكانية الاستقلال الجزئي لحقوق الإنسان، وغياب ذلك يعني غياب تصوُّر مستقلٍّ عنها.

5- مبحث الحظر والإباحة وتعريف المباح: وفيه نقطتان: الأولى هي الموقف من اعتبار الإباحة أصلًا والتحريم استثناءً، فمن وافق ذلك كان أقربَ لتصوُّر نظريٍّ عن الحق، وأصالته المؤسَّسة على حقٍّ طبيعيٍّ للإنسان قبل وجود الشرع. والنقطة الثانية هي تعريف الإباحة: فقد يكون طبيعيًّا في حال اعتبار الأفعال غير ذات الضرر حقًّا طبيعيًّا، وقد يكون وضعيًّا أي إن المباح مأذونٌ فيه من قِبل الشارع دون ثوابٍ أو عقابٍ. فالإباحة الطبيعية تخطو بالنظرية نحو استقلال حقوق الإنسان، وشخصيته القانونية.

6- نظرية الأهليَّة: هي وجه تطبيقيٌّ لنظرية الحق، ويدلُّ على ذلك ظهورها للمرة الأولى مع ظهور نظرية الحق للمرة الأولى أيضًا عند الدبوسي. وهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة عليه، وهو مبحث مرتبط بشخص الإنسان، ومناقشة الحقوق من جهته.

7- نظرية المقاصد: هي التطبيق الأهمُّ لنظرية التعليل. وقد دخلت في صيغة مشتركة مع نظرية الحق، وترتَّب على ذلك اعتبار الحقوق غاية الشريعة. وهناك أشكال متعدِّدة لحضور المقاصد في الأصول، منها أنها أحد مناهج تقييم المصالح المرسلة، أو أحد مناهج الترجيح بين المعقولات المتعارضة، فإن وجدت كذلك دلَّ هذا على حصر دورها النظري، وغياب نظرية الحق. وإذا اعتبرت عللًا قصوى للشرع، فإن دورها يتسع لإعادة تأسيس أصول الفقه على أغراض الشارع الأساسية، ودلَّ ذلك على حضور النظرية. وهنا موقفان بالنسبة إلى علاقة الحقوق بالمقاصد: الأول تأسيس الحقوق على المقاصد، وهو الحاضر في الأصول. والثاني تأسيس المقاصد على الحقوق، وهو الغائب حتى اليوم عنها.

وبناءً على هذه المعايير، استقصى الباحث نظرية الحق عبر تاريخ علم أصول الفقه، في 111 مصدرًا أصوليًّا، و81 عالمًا من علماء الأصول. ويقول الصياد عن منهجه في قراءة التطوُّر: إن "التطوُّر محايد، يعبِّر فقط عن التغيُّر في الموضوع على محور التاريخ". أما الحكم على هذا التطوُّر، فيكون عن طريق التقدُّم أو النكوص، وفقًا لمعايير معينة. يعني التقدُّم التوجُّه نحو استقلال حقوق الإنسان الأصلية، وشخصيته القانونية عن الشارع، والتوجُّه نحو الحقوق الطبيعية للإنسان بما هو إنسان. والنكوص هو انقطاع السبيل نحو ذلك.

وصل الباحث في ختام الباب الأول من كتابه إلى رسم منحنى تاريخيٍّ عن التقدُّم أو النكوص للنظرية، ثم قام بدراسة معنى هذا التطوُّر، وقسَّم تاريخ علم أصول الفقه إلى عدَّة مراحل بالنسبة إلى ظهور نظرية الحق، وهي:

المرحلة الأولى: إرهاصات نظرية (القرون الثاني والثالث والرابع، وأوائل الخامس الهجري)

وفيها ظهرت إرهاصاتٌ قوية عند الحكيم الترمذي الصوفي (ت: 320هـ)، والجصاص الحنفي (ت: 370هـ)، وابن فورك الأشعري الشافعي (ت: 406هـ)، والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت: 415هـ). وضعفت تلك الإرهاصات أو اختفت عند بقية أعلام المرحلة، ومن هؤلاء الشافعي (ت: 204هـ)، والباقلاني الأشعري الشافعي (ت: 402هـ).

المرحلة الثانية: ظهور نظرية الحق (الثلث الأول من القرن الخامس الهجري)

حدث الظهور الأول للنظرية عند الدبوسي الحنفي (ت: 430هـ)، وكذلك أول ظهور لأهم تطبيقات التعليل أي: نظرية المقاصد.

وجاءت صياغة الدبوسي على هذا الوجه: منازل المشروعات حقًّا لله تعالي أربعةٌ، وحقوق الله على الإنسان أربعة، ومباحات العقول للحياة الدنيا أربعة، وموجبات العقول دينًا أربعة، ومحرمات العقل قطعًا للدنيا أربعة، ومحرمات العقل قطعًا للدين أربعة، ومباحات العقول الجائزة للدنيا أربعة[6]. فقد ظهرت لديه حقوق الله وحقوق الإنسان متجاورتين، وأكَّد على التعليل، وقال بالحسن والتقبيح العقليين، وظهرت نظرية الأهليَّة لديه. ومن بعده تظهر إرهاصاتٌ قوية عند أبي الحسين البصري المعتزلي (ت: 436هـ)، الذي قدَّم تعريفًا طبيعيًّا للمباح.

المرحلة الثالثة: النكوص الأول لنظرية الحق (الربع الثالث من القرن الخامس الهجري)

حدث نكوصٌ كبير عن نظرية الحق، في فترة شهدت تراجعًا عن مبدأ تعليل الأحكام. ومن أعلام هذه الفترة: ابن حزم الظاهري (ت: 456هـ)، وأبو يعلى الفراء الحنبلي (ت: 458هـ)، وأبو جعفر الطوسي الإمامي (ت: 460هـ)، وأبو إسحاق الشيرازي الشافعي (ت: 476هـ)، وأبو المعالي الجويني الأشعري الشافعي (ت: 478هـ).

المرحلة الرابعة: صياغة نظرية الحق (الربع الأخير من القرن الخامس الهجري)

شهدت الصياغة التقليدية لنظرية الحق على يد البزدوي الحنفي (ت: 482هـ)، والسرخسي الحنفي (ت: 490هـ)، وقد اطلع البزدوي على "تقويم الأدلة" للدبوسي، وربما كذلك السرخسي. وانقسمت الحقوق عند البزدوي إلى أربعة: حقوق الله عز وجل خالصة، وحقوق العباد خالصة، وما اجتمع فيه الحقَّان وحقُّ الله تعالى غالب، وما اجتمعا وحقُّ العبد فيه غالب. ولديه موقف إيجابيٌّ من قضية التعليل، والقول باستقلال حقوق الإنسان عن حقوق الله، لكن دون تأسيسٍ على حقٍّ طبيعيٍّ.

المرحلة الخامسة: النكوص الثاني لنظرية الحق (من أواخر القرن الخامس حتى منتصف السابع الهجري).

تمثَّلت أهم العوامل النظرية للنكوص في إنكار مبدأ التعليل، أو عدم حسم الموقف إزاءه، وتحجيم دور المقاصد، والاستفادة الأداتية المحدودة منها لتقييم المصالح المرسلة. ومن أعلام هذه المرحلة: الغزالي الأشعري الشافعي (ت: 505هـ)، وابن عقيل الحنبلي (ت: 513هـ)، والسهروردي الصوفي (ت: 587هـ)، وابن رشد الفيلسوف (ت: 595هـ)، وابن عربي الصوفي (ت: 638هـ).

المرحلة السادسة: مرحلة الصياغة النظرية المشتركة بين نظريتي الحق والمقاصد (منتصف القرن السابع حتى أواخر الثامن الهجري)

تعتبر الصياغة المشتركة لنظرية الحق والمقاصد تقدمًا، فبقاء نظرية الحق منفصلةً عن المقاصد يجعلها مجرَّد بيانٍ لأنواع الحقوق دون أن تكون عللًا للشريعة. وجرى تأسيس الحقوق على المقاصد. وتشهد هذه المرحلة صعودًا وهبوطًا. إذ نشهد ثلاثَ ذُرًى وانخفاضًا يتبع كلًّا منها. والذرى الثلاث هي: الأولى مع العز بن عبد السلام الشافعي (ت: 660هـ) وفيها تأسَّس الشرع عمومًا على المقاصد. والثانية مع نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت: 716هـ) وفيها تأسَّس الشرع على المصلحة. والثالثة مع الشاطبي المالكي (ت: 790هـ) وهي تشهد التنظير الأهم لنظرية المقاصد التقليدية.

وأعلام الانخفاض منهم: آل تيمية الحنابلة (منهم أحمد بن عبد الحليم ت 728هـ) والزركشي الشافعي (ت: 794هـ)، وابن قيم الجوزية الحنبلي (ت: 751هـ)، والسبكي الأشعري الشافعي (ت: 771هـ).

المرحلة السابعة: النكوص الثالث لنظرية الحق (من أوائل القرن التاسع حتى أواخر القرن الرابع عشر الهجري)

امتدَّ هذا النكوص لستة قرون، وتزامن مع اضمحلال الحضارة الإسلامية. ومن أعلامه: السيوطي الشافعي (ت: 911هـ)، وشهيدتاني الإمامي (ت: 1011هـ)، والشوكاني الزيدي (ت: 1255هـ).

المرحلة الثامنة: استقلال حقوق الإنسان الطبيعية فرضًا (أواخر القرن الرابع عشر الهجري)

وفيها تمَّ الاعتراف المبدئي بمصدرٍ طبيعيٍّ لحقوق الإنسان، دون أن يتمَّ تفعيله أو الاعتبار الفعلي به. وتشتمل هذه المرحلة على أصوليٍّ واحدٍ هو الطاهر بن عاشور المالكي (ت: 1393هـ)، الذي اعترف بـ "الحق الأصلي المستحق بالتكوين وأصل الجبلة"، وهو الحق بالميلاد. إلا أنه أسَّس الحقوق على المقاصد، مما يعني تناقضًا؛ فالحق الطبيعي يجب ألَّا يتأسَّس على حقوق الشارع، بل يجب أن يكون مستقلًّا.

المرحلة التاسعة: النكوص الرابع لنظرية الحق (من أواخر القرن الرابع عشر الهجري حتى الآن)

أهم ما يميزها هو صعود دور الشيعة الإمامية، ومنهم: محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، وآية الله الخميني (ت: 1409هـ)،  ومحمد تقي المدرسي (؟)[7] .

منحنى تطوُّر نظرية الحق في علم أصول الفقه

تحليل منحنى التطوُّر

صاغ الصياد نتائج البحث التاريخي في شكلٍ بيانيٍّ، أطلق عليه: منحنى التطوُّر. وفي الفصل الثالث من الباب الأول، قدَّم تحليلًا لعوامل الصعود والنكوص في كل مرحلة، ومنها ما هو عوامل نظرية/ معرفية، وما هو عوامل تاريخية سياسية واجتماعية، ومنها العوامل المذهبية.

أما عن العوامل المذهبية، فقد شهدت النظرية تقدمًا عند المعتزلة الأحناف، وتراجعًا مع الأشعرية الشافعية.

تمثَّلت العوامل النظرية في الموضوعات المرتبطة بالنظرية، وسبق تناولها في النقاط السبع السابقة. وفي العوامل التاريخية كان الباحث حذرًا؛ فلديه موقف منهجيٌّ من الحفر التاريخي[8]. إلا أنه يهتدي بالاستقراء دون الانتقائية، ويرى أن مراحل التقدُّم قد شهدت اضطرابات في العالم الإسلامي، كان لها دورٌ في تحفيز الفكر للنظر في مسائل الحقوق. أما عن العوامل المذهبية، فقد شهدت النظرية تقدمًا عند المعتزلة الأحناف، وتراجعًا مع الأشعرية الشافعية (باستثناء العز بن عبد السلام)، والحنابلة (باستثناء الطوفي)، ونكوصًا مع صعود العلم الإمامي، وشهدت تقدمًا عند جزء معتبر من المالكية منهم الشاطبي وابن عاشور. وهناك استثناءات داخل كل مذهب.

بعد ذلك، كشف التحليل عن ظاهرةٍ في أصول الفقه متعلِّقة بنظرية الحق، وهي "ظاهرة التشكُّل الصوري الزائف" ويقصد بها: طرح المضامين في أُطر تفرغها من محتواها، وإهمال سؤال الماهية والتركيز على سؤال العلاقة. ومردُّ ذلك تقدُّم الأصول النقلية على العقلية والعملية، مما أدى إلى الحرص على الثبات لمحدودية النص، والابتعاد عن تغيير المفاهيم، واستبداله بتغيير العلاقة بينها. مثال ذلك في الأحكام في قضية الإباحة؛ هل الإباحة حكم شرعيٌّ أم لا؟ إذ يتمُّ الاجتهاد في السؤال عن علاقة الإباحة بالحكم، لا في مفهوم الإباحة نفسه.

وأهمُّ ظواهر ذلك في العلَّة، فلها معنيان: غاية الحكم، ويرتبط ذلك بتعليل الأحكام، ومبحث المقاصد والحق (معنى الغاية). والعلَّة بمعنى الحد الأوسط في القياس الفقهي، وهو ما يرتبط بمبحث الاستدلال (علاقة بين موضوع ومحمول). وتمَّ بحث الغاية بحثًا صوريًّا في أكثر الأحيان، وتسبَّب ذلك في قبول القياس مع إبطال التعليل، وفي إضعاف نظرية الحق، بسبب الالتفاف حول قضية التعليل.

في نهاية الفصل، ميَّز الباحث بين نسقين للأصول: الأول السائد ويعتمد على الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، والثاني هو المتنحي ويعتمد على أصولٍ متنازعة منها الاستحسان والاستصلاح والمقاصد ونظرية الحق، وهما متداخلان عند الكثيرين.

بنية نظرية الحق

يحتوي الباب الثاني على ثلاثة فصول: تمهيد، والتشريح العام لنظرية الحق، ونتائج تشريح البنية.

تعرض هذا الباب إلى الثابت في نظرية الحق، وهي أشكال البنية عبر التاريخ. وتتمثَّل الجوانب الثابتة في التشريح الخارجي لنظرية الحق في أصول الفقه في علاقتها بالنظرية في علومٍ أخرى، ونظرياتٍ أخرى في أصول الفقه، وهو التشريح الأول. والثاني هو التشريح الداخلي في مفاهيمها وعناصرها وعلاقاتها البينية الداخلية. والثالث هو التشريح الدقيق لقلب نظرية الحق، أي: مفهوم الحق. والرابع هو التشريح النسقي، أي أنساق النظرية. ومن عوامل الثبات النظري في البنية: العامل اللغوي، والعامل العقدي، والعامل المذهبي.

استعمل الباحث المنهج البنيوي لرصد البنية خارج التاريخ؛ ولذلك يتمُّ الكشف عن مفهوم الحق في أُسسه النظرية الثابتة، وعلاقاته ذات الاستقرار النسبي بمفاهيم أخرى من خلال الآتي:

1.رصد المعاني الأساسية للمفهوم في العلم.

2.تحليل كل معنى من المعاني.

3.إعادة بحث المصادر على أساس العناصر الأوليَّة.

4.استخراج النتائج الأساسية، واكتشاف دلالاتها.

بحث الصياد علاقة نظرية الحق في أصول الفقه بمثيلتها في فلسفة القانون، والفقه، والقانون. ثم علاقتها بنظرياتٍ أصولية أخرى، مثل المقاصد والأهليَّة والاستخلاف[9]. في التشريح الداخلي، اعتمد الباحث نظرية الحق في صيغتها التقليدية عند البزدوي (ت: 482هـ)، وتتكوَّن من طرفَيْن: الله والإنسان، وأربعة أنواعٍ من الحقوق. كما بحث مفهوم الحق بمعانيه الثلاثة، وعلاقة مفهوم الحق بغيره من المفاهيم الأصولية.

أما في التشريح الدقيق، فقد قام بوصف الوحدات الأوليَّة التي يتكوَّن منها كلُّ معنى من المعاني الثلاثة لنظرية الحق (الوجودي، والمعرفي، والقيمي). وفي التشريح النسقي، عُني بعرض وتمييز الأنساق التي ظهرت عقب عملية التشريح الدقيق لمفهوم الحق، وهي خمسة أنساق بحث الكاتب نموذجًا أصوليًّا يعبِّر عنها:

1- النسق النصي (نموذج الشافعي): يقدِّم نظرية الحق الاستخلافية، وينفي التعليل، أو إبطال التعليل بالمصالح الدنيوية والأخروية، أو إبطال الاستحسان، أو إبطال التحسين والتقبيح العقليين، أو إبطال الاجتهاد عمومًا، أو اعتماد المفهوم الوضعي للإباحة. ويجعل النصَّ هو المصدر الوحيد للتشريع.

2- النسق الباطني (نموذج الحكيم الترمذي): لا يعتمد على ظاهر النص، بل على آلية الاجتهاد التأويلي بافتراض أن الحكمة هي ما بطن من العلم. والتعليل يكون بالمصالح الأخروية، مما يعني أن الحقوق ممنوحة، ولا أصل طبيعيًّا لها.

3- النسق العقلي – الاجتماعي (نموذج الدبوسي): يميل إلى التعليل بالمصالح الدنيوية، ويعتمد على العقل والتجربة الاجتماعية والحاجات البشرية كمصدر للتشريع. ولهذا يقبل الحسن والقبح العقليين، ويقدِّم مفهومًا طبيعيًّا عن الإباحة.

4- النسق البنائي (نموذج الشاطبي): هو اتجاه يعيد بناء أصول الفقه على أساس التوازي بين العقل والنقل، وبالتالي وقع في التبريرية مثلما بنى المقاصد على مقصد الدين. وظلَّت الحقوق استخلافيةً لا طبيعية.

5- النسق المختلط (نموذج الجويني): هو اتجاه جمع بين عناصر نقلية مثل التعليل الصوري، أو درجة من درجات إبطال التعليل، مع عناصر عقلية اجتماعية مثل الاستحسان أو الاستصلاح.

ويرى الباحث أن بالإمكان إدراج جميع علماء الأصول في هذه الأنساق. وهناك ملاحظاتٌ حول هذه الأنساق، منها اختلاف المذاهب في النسق الواحد، وقلَّة أعلام النسق العقلي الاجتماعي، وكثرة أعلام النسق المختلط.

أقام الباحث مقارنةً بين طبيعة الحق بين أصول الفقه وفلسفة القانون، باستخدام المنهج المقارن، وكان من أهم المباحث إشكالية الوضع والطبيعة بينهما.

ثم ينتقل الباحث إلى عرض نتائج تشريح البنية وشرحها، ومنها علاقة المعرفة والقيمة في نظرية الحق، وقد نتج عنها بحث إشكالية الصورة والحقيقة كنموذجين معرفيين. وتعني الصورة أن المعرفة تعتمد على المنطق والمنهج، فتصير أقرب إلى الصورة، القابلة لمحتوياتٍ مختلفة، دون إقصاء. أما حينما تعتمد المعرفة على الحقيقة – أي محتوى محدَّد، مثل النص – فيصبح رفض المعرفة من سواه قائمًا. وأقام الباحث مقارنةً بين طبيعة الحق بين أصول الفقه وفلسفة القانون، باستخدام المنهج المقارن، وكان من أهم المباحث إشكالية الوضع والطبيعة بينهما.

ثم اختتم الباحث دراسته بعرضٍ لأهم النتائج ومنها: عدم استقلال حقوق الإنسان عن حقوق الله في علم أصول الفقه، وطبيعة الحق في أصول الفقه وضعيَّة أي إنه ممنوح، لا طبيعي أصلي. وجاءت مقاصد المكلَّف في نظرية المقاصد فرعًا من مقاصد الشارع، ومفهوم الحق مركَّب من ثلاثة معانٍ: الأنطولوجي، والمعرفي، والقيمي؛ وهي بالترتيب: الله، والصدق، والملكيَّة/القيمة. وتندمج حقوق الله وحقوق الإنسان في مركَّبٍ واحدٍ سمَّاه الباحث "مركَّب الحق الحلولي"[10]. والحق مفهوم مؤسَّس لا مؤسِّس؛ بمعنى تأسيسه على غيره من المفاهيم الأصولية مثل المقصد والعدل والواجب والمباح. ووجود ظاهرة التشكُّل الصوري، وسيادة النسق الأصولي النقلي على العقلي الاجتماعي.

ثم انتقل إلى بحث إشكالية حقوق الإنسان في السياق الإسلامي مقارنةً بالسياق العالمي. وقدَّم رؤيته للخروج من الأزمة، وختم بنقدٍ ذاتيٍّ للدراسة.

رؤية نقدية

بخلاف العديد من الدراسات الحديثة للتراث، فقد تميَّزت هذه الدراسة بوضوح الهدف والمنهج، ووجود فروضٍ قابلة للاختبار المنهجي. فما سبق يفتح الباب لحوار علميٍّ رصين مع الكتاب، دون الوقوع في هوَّة الجدال العقيم.

بدايةً، لقد حدَّد الكاتب موقفه الملتزم بحقوق الإنسان، وَفْقَ الإعلان العالمي لها؛ ما يعني أنه طرح سؤالًا على من يخالفه حول الموقف منها. ويُحسَب له أنه لم يطلق حكمًا أبديًّا بعدم صلاحية أصول الفقه للعصر، بل أكَّد على وجوب تطويره بالبناء على "النسق المتنحي"، والتقدُّم بالحقوق نحو بنائها على الحقوق الطبيعية، وبناء المقاصد عليها، لتكون غاية التشريع هي حماية الحقوق وحفظها.

إن الكتاب يسائل الفكر الديني السائد عن معنى الحقوق لديه، ويسأل: هل يمكن إعادة بناء علاقةٍ جديدةٍ قوامها الفرد والمجتمع والدولة بدلًا من علاقة الفرد والحاكم، التي حكمت ذهنية الأصوليين؟ وهي إشكالية نابعة من إيمانٍ بضرورة التغيير، فلم يعد مقبولًا إنكار وجود أزمة في واقع الحقوق في عالمنا العربي-الإسلامي، وجزء كبير من هذه الأزمة لرجال الدين دورٌ فيه. والمقابل لذلك هو إعادة طرح الإجابة الجاهزة عن أن سبب الأزمة هو البُعْد عن الفهم الصحيح للدين، ثم يتضح أن هذا الفهم هو مجرَّد تقليد وتبعيَّة لأشد الآراء الفقهية تشددًا.

كما طرح الكتاب مسألةً مهمَّة وهي محدودية النص، مؤكدًا أن ذلك لا ينفي المساحة الواسعة لقراءة النص. فما صَبغه بالمحدودية هو آليات التعامل، وهو ما يجب على الفكر الديني بحثه من أجل إتاحة مادةٍ واسعةٍ متجدِّدة للاجتهاد والتجديد. من الناحية المنهجية، فقد وفِّق الباحث في اختيار مناهجه؛ فاختار المناسب منها تبعًا للموضوع. وساهم وضوح الباحث المنهجي في تيسير قراءة الكتاب ونقده؛ فمن اليسير مراجعة التتبُّع التاريخي ونتائجه. لكن يتطلَّب ذلك القبول بالقبليات التي وضعها الباحث من اقتناعٍ بضرورة استقلال الحقوق الإنسانية، وأن تتأسَّس هذه الحقوق على الحق الطبيعي.

الخلاصة

هذه الدراسة نادرةٌ في بابها، تفتح المجالَ أمام النقاش العلمي المنهجي، الملتزم بقيم الحقوق الإنسانية. ونحن في حاجةٍ إلى تأسيس حقوقٍ طبيعية للإنسان في الإسلام كخطوةٍ أولى نحو تأسيسها في دولنا.

فمن دون ذلك التأسيس ستظلُّ الحقوق هبةً، يفسِّرها رجال الدين وَفْقَ رضا السلطة أو رضوخًا لها، وستظلُّ حقوق المواطنة غائبةً أيضًا، فالدولة تجد سندًا لها في رجال الدين في تغييب هذه الحقوق. ومن الناحية العملية، فالأصلح وجود حقوقٍ مستقلة للإنسان الفرد، وغياب ذلك يجعل الجميع عرضةً للظلم، فمن ترضى السلطة عنه اليوم قد تنبذه غدًا.

وبناءً على ذلك، نجد أن علم أصول الفقه في حاجةٍ إلى تبنِّي مفهوم المجتمع، الحاوي للاختلاف، وإعادة التفكير في المعنى القديم للرعيَّة والسلطان. فإن العالم يعيش اليومَ اختلاطًا واسعًا لأعراقٍ وأديانٍ وأفكار متعدِّدة، وبتنا في عصرٍ صارت فيه قيمُ المواطنة هي الضامن للعدل.

إن وجودَ حقوقٍ إنسانية لا يمثِّل افتراءً على الإسلام، بل يفتح المجالَ أمام تحوُّل الدين من نواهٍ وأوامر إلى تجارب فرديَّة خالصة بين الإنسان والله.


الهوامش

[1] من هذا الجدل قضية نصر حامد أبي زيد، وحسن حنفي، وعلي مبروك. ويرى الباحث أن بالإمكان إطلاق اسم "مدرسة القاهرة" على هؤلاء الثلاثة، كمجموعة اختطَّت منهجًا نقديًّا في دراسة التراث. ومن الممكن إضافة الباحث إلى هذه المدرسة، مع اختلافه منهجيًّا عنهم، من حيث تأكيده التام على المنهجية في قراءة التراث، ورفضه للقراءة الأيديولوجية (ثورية، أو تنويرية).

[2]  في الأصل كان الكتاب موضوعًا لرسالة الماجستير للمؤلف، وناقشها عام 2012، وتمت إجازتها بدرجة امتياز. بحضور أ.د حسن حنفي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة. وحصل الصياد على درجة الدكتوراه من جامعة كولونيا في ألمانيا، عام 2018، وعنوانها: "علم وجود تفسير القرآن: مقاربة فينومينولوجية لمناهج التفسير الإسلامية".

[3] صدر الكتاب بتقديم أ.د حسن حنفي.

[4] للباحث دراسة عن القراءة الأيديولوجية للتراث عنوانها: "منهج الحفر الأيديولوجي عند نصر حامد أبي زيد".  "ويقوم الحفر الأيديولوجي بشكلٍ أساسيٍّ بافتراض أيديولوجيا معينة لدى موضوع البحث المختار من التراث العربي-الإسلامي، ثم يقوم بإعادة بناء هذا الموضوع من خلال معلوماتٍ تاريخية منتقاة، ومنقوصة غالبًا، لرسم صورة أيديولوجية محدَّدة لمذاهب القدماء وشخوصهم. والهدف من هذه المنهجية لدى أغلب المفكِّرين العرب المعاصرين هو إسقاط الخصوم الأيديولوجيين المعاصرين الذين هم امتداد للقدماء كالأشاعرة، وبيان نسبية المطلقات النظرية". نسخة منشورة من الرسالة في (موقع مؤمنون بلا حدود، 2017).

[5] كريم الصياد، "نظرية الحق: دراسة في أسس فلسفة القانون والحق الإسلامية"، ص40.

[6] أبو زيد عبيد الله بن عمرو بن عيسى الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، قدَّم له وحقَّقه الشيخ خليل محيي الدين الميس (دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2001م)

[7] الشكر الجزيل للمؤلف د. كريم الصياد على إمدادي بنسخة خاصَّة من المنحنى، وهو يمتلك حقوق ملكيتها كليةً، وقد وافق على نشرها.

[8] نشر دراسة "منهج الحفر الأيديولوجي عند نصر حامد أبي زيد" في نقد القراءات التاريخية المؤدلجة.

[9] أي إن الإنسان مُسْتَخلَفٌ في الأرض، وتنبع حقوقه من الله الذي استخلفه؛ ولذلك لا حقوق طبيعية له، فلا اعتراف بالإنسان خارج العلاقة مع الله.

[10] يعني أن الحق القيمي تابعٌ للحق الوجودي المشخص وصادرٌ عنه. وهو ما يعني أن الحق الوجودي في تجليه في الحق النظري السائد (النص) هو مصدر القيم الرئيس، ومصدر تقرير الحقوق وتشريعها.